وشهدت بعد ذلك معارك لم تغن فيها الشجاعة ولا العدد أمام هذا السلاح.
وكان قليل من هذا كله كافيا لإقناعها بضرر اكتفائها وقناعتها بما عندها، وإيقاظها للخطر المحدق بها من أقرب الجهات وأبعدها.
ولكن نوم الغرور كما قلنا أثقل من كل نوم، وبخاصة غرور ذوي السلطان الذين لا يقال لهم إلا ما يحبون أن يسمعوه.
فبلغت الحضارة الغربية أوجها وهم غافلون عنها.
ولبث عاهل بكين يؤمن في قرارة نفسه بأنه عاهل العالم كله، وأن ملوك العالم كله أتباع له وعيال عليه، لا يثنيه عن إخضاعهم عنوة إلا أن الأمر مفهوم بالبداهة لا يستحق المشقة ولا يرجى من ورائه غنم جديد.
وإلى نهاية القرن الثامن عشر كان عاهل بكين «شيان لونج» يعتقد ويقول: إن بلاده في غنى عن العالم كله، وإن العالم كله مفتقر إلى بلاده، وكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا حين خاطبه في تبادل العلاقة التجارية «إن مملكتنا السماوية تحتوي كل شيء في وفر وغزارة ولا تحتاج داخل حدودها إلى مطلب من خارجها، فنحن في غنى عن جلب المصنوعات من البلاد البربرية بديلا من مصنوعاتنا، ولكن الشاي والفخار من مملكتنا السماوية مطلب لازم للأمم الأور,بية ولكم ...»
وكتب إليه جوابا على خطاب آخر: «إن مملكة جلالتكم في مكان سحيق وراء البحار، ولكنها تدرك واجباتها وتعمل بالقوانين، ولما كنتم من ذلك المكان السحيق تبصرون مجد دولتنا وتعجبون في احترام وتوقير بكمال حكومتنا، فقد أنفذتم إلينا بالكتب والرسائل للنظر فيها، ونحن نرى أنها مملاة بما ينبغي من روح الإعظام والإكرام، ونرغب من أجل هذا في قبول ملتمسكم وإجابة أمانيكم، ونقبل كل ما أرسلتموه من هداياكم، أما رعاياكم الذين تعودوا منذ سنوات أن يتجروا مع مملكتنا فنود أن نقول لكم: إن مملكتنا السماوية تشمل بالإحسان والعطف جميع الأفراد والأمم وتلاحظ رعاياكم بعين السماحة والرأفة، فلا محل إذن لما تطلبه لهم حكومة جلالتكم ...»
ولما أراد السفير الإنجليزي اللورد مكارثتي أن يرفع أوراقه بنفسه إلى عاهل بكين في عاصمته، قيل له استكبارا لوقوف أمثاله في حضرة ابن السماء: إن تسليم الأوراق للوزراء فيه الكفاية، فلما ألح وعاود الإلحاح قيل له: إنه لا يؤذن لمثله بالوصول إلى العاهل إلا إذا سجد أمامه ولمس الأرض بجبهته تحت قدميه، وطالت المفاوضة واستخدمت الرشوة والترضية حتى سعى رجال البلاط في إتمام المقابلة والاكتفاء من السفير بالركوع أمام ابن السماء كما يركع أمام مولاه، وقيد السفير في موكب رفعت عليه الأعلام ونقشت عليها عبارة معناها أنه سفير من ملك أجنبي وفد على ابن السماء لتقديم الجزية ورفع فروض الطاعة إلى سدته السماوية.
وانقضى قرن على هذه المراسلة، وبلاط ابن السماء مصر على عقيدة «الاكتفاء» مؤمن بأن الصين في غنى عن العالم كله بما تحتويه بين حدودها، فلا يفيدها العالم بثقافة ولا حضارة، ولا تجمل بها غير سياسة واحدة وهي سياسة العزلة والمقاطعة، وبلغ من التشدد في اتباع هذه السياسة أن الذي يعلم أجنبيا لغة الصين أو كتابتها كان يعاقب بالموت، وأن الذي يوجد لديه شيء مستورد من الخارج يتعرض لعقاب الخائن المتهم بالمروق.
كان هذا هو الوهم الذي جمدت عليه أمة الصين، ولبث البلاط جامدا على هذا الوهم بعد أن زالت غشاوته عن أعين المصلحين المخلصين.
Halaman tidak diketahui