كلمة عن كلمة‏

الصين‏

أبو الصين‏

من أعماله‏

من أقواله‏

كلمة عن كلمة‏

الصين‏

أبو الصين‏

من أعماله‏

من أقواله‏

سن ياتسن أبو الصين

سن ياتسن أبو الصين

تأليف

عباس محمود العقاد

سنن ياتسن (أبو الصين).

كلمة عن كلمة

يسمى سن ياتسن بأبي الصين.

ويحق لأبناء الصين الحديثة أن يلقبوه بهذا اللقب؛ لأنه في الحق قد ولد الصين ولادة جديدة، فهو أب لها بكل معاني الأبوة الروحية.

ومن فضول القول أن نقول: إن الولادة الروحية هي ولادة فكرة، ولعلها فكرة واحدة تنطوي فيها جميع الأفكار.

وفكرة سن ياتسن التي ولد بها الأمة الصينية مولدا جديدا هي هذه الكلمة التي جعلناها عنوان الكتاب.

هي: ما أسهل العمل، وما أصعب الفهم.

أو هي في صيغة أخرى من صيغها إن العمل سهل، وأما الصعب فهو فهم ما تعمل.

كانت الصين كلها تقول غير هذا قبل قيام هذا الزعيم بدعوته.

كانت تقول نقيض هذا من طرف إلى طرف، فالصعب عندها هو العمل، والسهل عندها هو الفهم، وما يتبعه من شروح.

وكانت حكمتها الخالدة: ما أسهل الفهم وما أصعب العمل، أو ما أسهل الكلمات وما أصعب الأعمال.

ومن الكلمات ما يلخص حضارة كاملة.

وأصدق ما يكون ذلك على الحضارة الصينية: تلك الحضارة التي قامت على تقديس الأسلاف وتوارث الحكم من أفواههم أحقابا أحقابا، وأعقابا بعد أعقاب.

وقد تلخصت حضارة الصين كلها في طلب المعرفة.

وتلخصت المعرفة كلها عندهم في طلب الدعة، فلا شيء أدل على الحكمة وعلى المعرفة من إعفاء النفس من الجهد الذي لا يجدي، وأي جهد يجدي في عالم لا يتغير ولم يتغير منذ ألوف السنين: حرب بعد حرب، وعرش يسقط وعرش يقوم، وحال تتداولها الأيام على وتيرة واحدة، وشرور معروفة تذهب وتعود، وعمل معروف النتيجة آخر المطاف، ونتيجة الأمس هي نتيجة اليوم ونتيجة الغد، ووراءك الماضي مكشوف للنظر إن كان المستقبل أمامك غير مكشوف.

ولقي أبو الصين العنت الأكبر من تلك الحكمة الموروثة، حكمة الإيمان بصعوبة العمل وقلة جدواه؛ فكلهم يقول إذا لقيهم شارحا لهم مصائب وطنهم: نحن نفهم ما تفهم يا صاح، نحن نود أن نعمل لو تيسر العمل، ولو كان بالعمل جدوى، ولو كان كل ما هنالك أننا نفهم مصائب هذا الوطن المسكين.

إليك عنا يا صاح: ما أسهل الكلمات وما أصعب الأعمال.

فلما جاهد الرجل جهاده كانت علامة نجاحه الأولي، بل علامة نجاحه الكبرى، أنه وجد من الأعوان أناسا يؤمنون بسهولة العمل متى فهموا ما ينبغي أن يعملوا، ثم عمل شيئا ولا شك، وإن لم يعمل كل شيء، ولكن الذي عمله لم يكن إليه سبيل لو ظل الناس يرددون حكمتهم القديمة في الفهم اليسير والعمل العسير.

وأسهب الرجل غاية الإسهاب في الفهم، أسهب غاية الإسهاب، وفصل غاية التفصيل، ووهم من يسمعه أو يقرؤه أنه لا يحسن إلا أن يفهم ويعين التفهيم، وأنه غارق في الأحلام، غارق في بحار من الكلام، وهكذا وصفه الذين عاهدوا أنفسهم ليصغرن كل كبير من بعض نواحيه، فعابوه بأنه «حالم» ... ولو أنهم بحثوا عن عظمة له أعظم من أحلامه لما وجدوها، بل لو أرادوا أن يتخيلوا عملا له بغير الحلم لما استطاعوا أن يتخيلوه.

إن سن ياتسن قد بدأ عمله بالدعوة إلى إسقاط أبناء السماء.

فلو لم يكن حالما كيف كان يخطر له هذا العمل على بال؟

إن أبناء السماء كانوا يحكمون أربعمائة مليون من النفوس الآدمية، وكان لهم أعوان من الدول الكبرى يأبون أن يسقطوهم؛ لأنهم عاهدوهم على تسليم الغنائم والمزايا، وعلموا أن سقوطهم ضياع لكل غنيمة وكل مزية، فمن كان ينهض لإسقاط هؤلاء فهو يحلم، ولو لم يكن قادرا على هذا الحلم لما كان قادرا بعد ذلك على عمل.

وهذه هي عظمة الرجل!

وبهذا يعاب عند الذين يجهلون كيف يعيبون، ولكنهم مع هذا يعيبون؛ لأن العيب سهل، أما العسير حقا فهو التعظيم والتقدير!

وسقطت أسرة أبناء السماء في حياة الرجل، فمن شاء أن يقول إنه عامل جد عامل فقد صدق، ولكن العمل والحلم سواء عند القادرين على هذه الأعمال، وعلى هذه الأحلام.

وما استطاع الرجل أن يعمل هذا العمل إلا لأنه استطاع أن يوقع في الأذهان أن العمل سهل متى فهموا ما ينبغي أن يعملوه.

ولعلهم لم يفهموا كل ما أراد، ولم يعملوا كل ما كان ينبغي أن يعملوه، فصح بذلك دعاؤه الأول والأخير. إن الفهم عسير جد عسير.

لقد كان سن ياتسن حالما حقا، ولو لم يكن حالما حقا لما كان له عمل في قومه، وفي هذه الصفحات تفسير حلم عظيم؛ لأنه حلم رجل عظيم، استطاع أن يحلم لأمة كاملة حيث لم تستطع قبله أن تحلم لنفسها، وقلما استطاع أحد أن يحلم لأمة كاملة إلا كان له في تاريخها عمل خالد وأثر مقيم.

الصين

لمحة تاريخية

وهذه اللمحة التاريخية التي نقدم بها سيرة زعيم الصين إنما هي إشارة اتجاه من العصور القديمة إلى العصر الذي عاش فيه الزعيم، نرسمها سريعا بمقدار ما تلزم لتوضيح عمله وإبراز دواعيه، ولا نقصد بها أن نحيط بالتاريخ كله مفصلا أو مجملا؛ لأن الإحاطة بتاريخ الصين - ولو بمجرد سرد العناوين الكبيرة - عمل يستغرق المجلدات الطوال.

وأهم إشارة من إشارات الاتجاه أن الصين وحدة وطنية لا نظير لها في العالم، خلافا لما روجته سياسة الاستعمار في القرن التاسع عشر لتسويغ قسمتها بين الدول الطامعة فيها، فقد كان الساسة المستعمرون يقولون كلما احتجت حكومة من حكومات الصين على اقتطاع جزء منها أن سيادة الأمة الصينية لا وجود لها؛ لأن البلاد التي يطلق عليها اسم الصين إنما هي اصطلاح جغرافي لا يشتمل على سيادة وطنية واحدة.

ولا يصدق هذا القول على الصين الصميمة حتى من الوجهة الجغرافية؛ لأنها في الواقع بلاد ذات وحدة جغرافية بينة وحدود أرضية فاصلة، يكفي أن يخترقها المهاجر ليقال: إنه دخل من بلاد إلى أخرى وإنه يقتحم أرضا لا تستباح بغير اقتحام.

فمنذ أقدم العصور وجدت الصين الصميمة التي تحيط بها الجبال والسهوب والأنهار، ووجدت فيها الأرض التي تصلح للزراعة والأرض التي تجاورها غير صالحة للزراعة، ولكنها صالحة للمرعى والصيد، يسكنها أهل البداوة الذين يعتمدون على أهل الحضارة ويلازمونهم ملازمة الجوار، وإن كان جوارا يجور فيه أحد الفريقين على الآخر حينا بعد حين، حسب تقلب الأحوال بين الخصب والجدب والرواج والكساد.

وأقوى من الوحدة الجغرافية في تكوين الوحدة الوطنية وحدة السلالة القومية، وأقوى من الوحدتين جميعا وحدة التاريخ المتصل والثقافة المتشابهة، ولم تجتمع هاتان الوحدتان لأمة من الأمم كما اجتمعت لأمة الصين.

فإذا صرفنا النظر عن قبائل الأصلاء الذين يتفرقون هنا وهناك فالصينيون جميعا من سلالة واحدة هي السلالة المغولية، ومقامهم بتلك البقاع يرجع إلى العصر الحجري الأول، بل يرجع إلى عهد إنسان بكين

Sinanthropus

الذي عثر عليه الحفريون بجوار بكين، وزعم بعضهم أنه هو الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، وقدروا أنه عاش في تلك البقاع قبل مئات الألوف من السنين، فإنهم يقولون إن في السلالة المغولية مشابه من إنسان بكين في خصائص الجمجمة والأسنان لا توجد عامة شائعة بين جميع السلالات البشرية، وإن الجنس المغولي قريب إليه؛ لأنه تطور منه مباشرة في مدى التاريخ المجهول.

وقد أسلفنا أن وحدة التاريخ والثقافة أقوى من وحدة السكن والسلالة؛ لأن اختلاف التاريخ والثقافة قد جعل من السلالة المغولية الواحدة شعوبا متفرقة يعادي بعضها بعضا ويتعالى بعضها على بعض تارة بصفات الحضارة وتارة بصفات الفطرة والفروسية.

فالجنس المغولي، الذي أقام في البلاد المخصبة بين غرب الصين وجنوبها، قد شملته ثقافة واحدة منعزلة بين ثقافات الأمم الإنسانية؛ حيث كانت من أمم الشرق والغرب أو أمم الشمال والجنوب، فلا توجد لغة كاللغة الصينية ولا كتابة مثل كتابتها، ولا تشبه هذه اللغة فروعا من اللغة المغولية الأخرى كاللغة التركية أو لغة القبائل في آسيا الشمالية. فهذه الفروع تتولد فيها الكلمات باللصق والإلحاق، ولكن اللغة الصينية يتوقف فيها معنى الكلمة على ترتيبها في الجملة وعلى اختلاف نغمتها الصوتية، وكتابتها كذلك كتابة رمزية صوتية وليست كغيرها من الكتابات التصويرية أو المقطعية الحرفية.

هذه الوحدة الثقافية تساندها الوحدة التاريخية في عصور بالغة في القدم، فإن تاريخ الصين الصميمة واحد منذ تلك العصور التي يتداخل فيها الزمن المجهول والزمن المعلوم، بل هو واحد قبل أن تصبح أقطار الصين دولة متحدة، فإن وحدة الدولة ووحدة التاريخ شيئان مختلفان، فإذا شمل التاريخ عشرة أقطار ينازع بعضها بعضا فذلك تاريخ واحد، وإذا توحدت الدولة وتعاقبت عليها ثقافات متعددة فتلك عدة تواريخ.

وقد مضى تاريخ الصين القديمة على وتيرة واحدة بثقافة واحدة، حتى في الطوارئ العارضة على حكومتها حقبة بعد حقبة، فإنها يشبه أن تكون دورة واحدة تتكرر على نسق واحد، فلا يشعر الناس بالغرابة عند قيام دولة وسقوط أخرى؛ لأنها تجري على النحو الذي تعودوه وانتظروه وتوارثوا رواية أخباره حتى كاد أن يتساوى فيها العلماء والجهلاء.

تقوم الدولة حتى ينهكها الترف وسوء الحال في الرعية، فتسقطها ثورة من تلك الرعية أو غارة من أهل البداوة المحيطين بها على تربص الطامع الذي ينتهز الغرة، وهكذا تتعاقب الحكومات الوطنية وغير الوطنية، فما قام به ثائر من الرعية فهو حكم وطني، وما قام به مقتحم من الشمال أو الغرب الجنوبي حيث تحوم القبائل المتربصة فهو حكم أجنبي، وتكررت علامات السقوط حتى أصبحت من العلامات التي يسهل التنبؤ عنها قبل وقوعها، فما استقرت قط حكومة حاربها الأساتذة والفلاحون، وما سقطت قط حكومة أيدها هؤلاء وهؤلاء؛ لأن الأساتذة هم ملاك الدواوين والإدارة في تلك الأقطار الشاسعة، والفلاحين هم الطاعمون المطعمون، فإذا تعطلت الدواوين وتعطلت موارد العيش فلا بقاء لدولة قائمة، وإذا انتظمت الدواوين وطعم الفلاح وأعطى الشعب طعامه، فلا ضير على الدولة القائمة وإن عدا عليها المغير من خارجها، فإنها تدفعه فلا يشق عليها دفعه عن أرض لا عون له فيها.

قام على حكم الصين على هذه الوتيرة نحو عشرين أسرة، من عهد السادة الخمسة إلى عهد أسرة المانشو التي سقطت في سنة 1912، وقامت على آثارها الجمهورية.

ولكن الصين لم تحكمها دولة واحدة إلا في عهد الأسرة الرابعة وهي أسرة شو، التي تولت الحكم من سنة 1122 إلى سنة 225 قبل الميلاد، ولم تتمكن من توحيدها إلا قبيل سقوطها بزمن وجيز، ومن نقائض التاريخ أن هذا التوحيد قد مهد لسقوط الأسرة من حيث لا تحسب؛ لأنها وزعت نبلاءها على الأطراف ليحكموها ويصدوا غارة المغير عنها، ونجح هذا التوزيع في أيام قوة الدولة وقوة العاهل الأكبر؛ لأنه كان يدعو إليه الولاة كل سنة ليحاسبهم على أعمالهم في ولاياتهم، وكان يخرج للطواف كل خمس سنوات على جميع الولايات، فانتظمت الدولة وكانت هيبتها في نفوس الكبار والصغار زاجرا للولاة ومهيمنا على سيرتهم الظاهرة والباطنة في أقصى الأطراف.

فلما ضعفت الحكومة المركزية زادت في ضعفها جرأة الولاة عليها، فوثبت على العرش أسرة جديدة هي أسرة شين، وافتتحت عهدها بالقضاء على نظام الإقطاع، وخطر لعاهلها القوي «شين شيه هوانج تي» أن يستعيض من قوة الولاة في الأطراف بقوة الحجر والقرميد، فبنى حائط الصين المشهور لصد الغارات عنها من الثغرات المفتوحة، وبالغت هذه الأسرة في تعقب البقايا المتخلفة من الماضي حتى أمرت بإحراق الكتب وتحريم النظر فيها، وقيل في وصف سياستها العجيبة أنها أقامت سورا بين الماضي والمستقبل كما أقامت سورا على مواقع الأرض بين الصين وجيرانها.

ثم تعاقبت الأسر على هذه الوتيرة، تارة على اتصال وتارة على انفصال تتخلله الثورات وتنقطع فيه علاقة الولايات بالحكومة المركزية، وقد تبقى الأسرة المغلوبة مسيطرة على بعض الولايات والأسرة الجديدة قائمة بالحكم في العاصمة الكبيرة، حتى كانت أسرة «منج» ختام الأسر الوطنية في بكين (1403-1644) وكانت أسرة المانشو فيها ختام الأسر الأجنبية (1644-1912). •••

هاتان الأسرتان هما الأسرتان الحديثتان اللتان أدركتا العصر الحديث من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وفي عهديهما اتصل الغرب بالصين ونشأت العلاقات بينها وبين الحضارة الأوروبية، سواء من جانب السياسة أو من جانب الثقافة.

ولكنها على حداثتها تعتبر كل منها نموذجا لأمثالها من أقدم العصور، قيامها كقيام غيرها من الدول الوطنية أو الدول الغربية التي طرأت على البلاد من الشمال أو من الغرب الجنوبي، منذ ألوف السنين، ومحاسنها كمحاسن تلك الأسر الخالية ومساوئها كمساوئ تلك الأسر، بلا اختلاف بين السابق واللاحق كأنما وقف الزمن عن التقدم والتغير من الأسرة الأولى إلى الأسرة الأخيرة قبل الجمهورية.

وكل ما سجله التاريخ من الوقائع أو الأساطير فقد تكرر في كلتا الأسرتين على قرب العهد بنشأة الثانية منهما أو الأولى، بالقياس إلى الدول التي تقادمت عهودها قبل الميلاد أو بعده ببضعة قرون.

كانت أسرة يوان التي سبقت أسرة منج مغولية من أرض الشمال، فنبتت بذور الثورة عليها في الجنوب، وانتشرت الدعوة المعادية لها على يد جماعة البشنين الأبيض، وهي جماعة سرية تنتحل الصبغة الدينية لمداراة أغراضها السياسية، وكان زعيمها يدعي أن بوذا نفسه عائد إلى الدنيا لاقتلاع جذور الأجنبي الغاصب، وأنه تلقى الوعد بعودته وحيا من السماء.

ثم جاء الانقلاب على يد «شويوان شانج» ابن الفلاح الذي جعلته الروايات التاريخية بطلا من أبطال الأمة، وكادت روايات القصص الشعبي أن تجعله شخصا من شخوص الخرافات، ومن القصص التي يتداولها الشعب عنه أنه كان ملحوظا بالعناية الإلهية منذ صباه، وأنه كان مدخرا للملك وهو يرعى الماشية لرجل من أصحاب الضياع والكراع، ومن رعاية الآلهة له أنه أولم لأصحابه وليمة وذبح فيها ثورا من قطعان مولاه، ثم غرس ذنبه في الأرض وقال لمولاه حين سأله عنه: إنه غاص في الأرض وأراه موضع الذنب المغروس، فلما راح الرجل يجذبه ليظهر بهتان الراعي المختلس ثبت الذنب في موضعه وسمع من باطن الأرض خوار كخوار الثيران.

ويروى عن «شويوان شانج» هذا أنه تنسك وتعلم علوم النساك والحكماء، واطلع من ثم على أسرار جماعة البشنين الأبيض، فقاد ثورتهم وأقام نفسه ملكا على إقليم «وو» حيث كان يقيم، فزاحمه على الملك ابن صياد وحشد مراكب الصيد لقتاله، ولكن الآلهة لم تخذله فقهر مزاحمه وأحرق مراكبه في موقعة كبيرة على بحيرة «پويانج» إلى جنوب النهر العظيم، ثم انهار ملك العاهل المغولي في بكين بعد حملة «شويوان شانج» عليه.

وليس في تاريخ هذا البطل الوطني من غرابة في خبر من أخباره غير القصص الخرافية.

أما ارتقاء راع ابن فلاح إلى سرير الملك فلم يكن غريبا قط في مأثورات الصين القديمة والحديثة؛ إذ كانت الثورات على الإجمال من قبل الفلاحين والأساتذة، فإذا اجتمع لابن فلاح علم النساك والحكماء فترشيحه للملك يجري مجرى العادة عندهم في معظم الثورات، ومن حكمة الصين أن الملك تفويض من السماء، فمن ملك فهو مختار السماء وابن السماء ولا يعبده قومه كما يتوهم المتوهم من هذه التسمية، ولكنه ينسب إلى السماء؛ لأنه مختارها لحكم البشر، ولا يزال قائما بالأمر ما دام مختارا من السماء، فإذا سقط فتلك آية السماء على نبذه وإبطال اختياره، ولم يكن نادرا في الصين أن يرتفع العواهل من حضيض الأرض إلى عروش أبناء السماء.

وجرى على هذه الأسرة ما كان يجري على الأسر الوطنية أو الأجنبية من قبلها، فازدهرت أيامها على عهود الملوك الفرسيين كلها من ذوي الأيد والحكمة، ثم آل الأمر فيها إلى الخصيان والجواري وسماسرة الشهوات، فاستبد بالأمر الخصي «وان شن» في عهد ملكها السادس الذي يناديه بالأستاذ؛ لأنه رباه من طفولته، وكان يأمر الرؤساء والعظماء إذا خاطبوه أن ينادوه باسم الأب الجليل، فطاشت سياسة القصر ووغرت صدور الرعية من الخاصة والعامة، وعاد المغول إلى الطمع في العرش، ومكنهم منه تقلص الدولة وضياع الأقاليم منها واحدا بعد واحد، واضطرار ملوكها إلى مضاعفة الضرائب لتعويض الخسارة والإنفاق على جيوش الدفاع، فاتفق الفلاحون والأساتذة كرة أخرى على خذلان الدولة القائمة، ولإثبات الدولة في الصين يتفق عليها هؤلاء وهؤلاء.

وطالت المناوشات بين الدولة المدبرة والدولة المقبلة حتى انتهت آخر الأمر بقيام الدولة المانشوية، واستقر لها الحكم شيئا فشيئا مع استمرار المقاومة في الجنوب، حيث تشتد المقاومة الوطنية دائما؛ لأنه موطن الصين الصميم، ولأنه معقل الحضارة على الدوام لما ورثه من الأسلاف وما يستفيده من معاملة الأمم الأخرى التي لا تني ترسل إليه بالسفن والمتجرين يتزودون من موانئه ويحملون السلع من بلادهم إليه.

واتخذت دولة المانشو خطتين مختلفتين في سياسة الجنوب على الخصوص: سياسة من جهة الثقافة وسياسة من جهة العادات والأخلاق، فاجتهدت في اقتباس الثقافة الجنوبية؛ لأنها لم تستطع أن تنكر مزية الجنوب فيها، وأمرت باستنساخ جميع الكتب النادرة فملأت بها خزائن القصور، وقربت إليها العلماء والمتعلمين للإشراف عليها ومدارستها، وفتحت لهم أبواب الدواوين يرتقون إلى مناصبها بالامتحان جريا على ألسنة الموروثة من زمن بعيد.

أما من جهة العادات والأخلاق فقد كانت تنظر إلى الشعب الصيني نظرة المترفع المحتقر؛ لأنها اعتقدت فيه النعومة والتأنث وضعف المراس، فحرمت على أبناء الشمال أن يتزوجوا من بنات الشعب أو يزوجوا بناتهم لأبنائه، وفرضت على الصينيين أن يرسلوا ضفائرهم كما يفعل المغوليون، ودارت الأيام دورتها وعاد الخصيان إلى صولتهم وتحكمت جارية بعد جارية في العواهل القاصرين، وتيقظت النخوة الوطنية بعد حين فرجعت جماعة البشنين الأبيض إلى نشاطها الأول، وقادها في هذه المرة زعيم يتستر وراء الدين ليخفي مقاصده السياسية التي لم تكن واضحة كل الوضوح، وكانت المسيحية قد دخلت الصين فادعى «هونج» قائد الجماعة أنه أخو السيد المسيح، وحرم الأفيون والخمر وقضى في عقوبة الزنى بالموت، وعرفت دعوته باسم دعوة «التايبنج تيان كو» أي مملكة السلام السماوية، فعامله الغربيون المسيحيون معاملة الدجالين؛ لأنهم لم يقبلوا هذا المذهب من المسيحية، وعامله الصينيون المحافظون معاملة مارق؛ لأنه يعيب عقائدهم الوطنية، وجاء المغامر الأمريكي وارد

Ward

والمغامر الإنجليزي جوردن

Gordon

في طلب الفتوح المجهولة، فدخلا في خدمة الأسرة المالكة ودربا لها الجنود المنظمة للقضاء على الثورة، وتم القضاء عليها بتأييد السياسة الاستعمارية؛ لأنها خشيت مغبة انتصار الثورة على بلاط بكين، ومعه كانوا يعقدون العقود لاستغلال الأسواق والموارد وتثبيت مزايا المعاهدات. •••

كان إخفاق الدعوة إلى مملكة السلام السماوية نكبة على الصين في ظاهر الأمر؛ لأنها أطالت أجل الأسرة المالكة التي أفسدت البلاد ووقفت وقفة المستيئس العنيد لتحول دون إصلاحها وتبديل أي نظام فيها من النظم العتيقة التي جمدت عليها.

ولكن هذا الإخفاق إنما كان نكبة في الظاهر، نعمة في الواقع؛ لأن الصين إنما كانت في حاجة إلى ثورة يعرف دعاتها ما يعوز البلاد وما يكفل لها السلامة والتقدم، ولم تكن الدعوة إلى مملكة السلام السماوية أهلا لهذه المهمة الضخمة، بل لعلها كانت نكبة أخرى تخلف النكبة التي ابتليت بها من الأسرة المالكة ، وتستدعي بعد ذلك علاجا أقوى من علاج الجمهور على القديم.

وكأنما ادخر القدر لهذه المهمة ثورة أخرى تدرك الصين ضرورتها بعد يقظة قاسية من فعل الحوادث؛ تفتح عيونها وتلمسها بأيديها مواضع العجز والقصور منها، وتلك هي ثورة «سن ياتسن» الذي لقب حقا بأبي الصين الحديثة.

إن تاريخ هذه الأمة الكبيرة الحافل بالعبر التي تكاد تغني عن عبر التاريخ كله، وأولها عبرة الثقافة المستقلة.

فالثقافة المستقلة قوة ومفخرة، والثقافة المستقلة ضعف ومهانة، وفي التاريخ أمثلة كثيرة على هاتين الحقيقتين، ولكن ليس منها مثال أجسم ولا أجلى من مثاليهما في تاريخ الصين الحديث.

كانت أمة مستقلة الثقافة، وكانت تفخر بهذا الاستقلال، ويحق لها أن تفخر به على من حولها؛ لأنها لم تكن ترى حولها غير الهمجية والبربرية والجلافة والجهالة، وكانت هي قد كشفت الإبرة المغناطيسية والورق والمطبعة والبارود وصناعة الحرير والأنسجة والعملة الورقية، وملأت خزائن الكتب بتصانيف الحكمة والمعرفة وآداب السلوك، وكان كل من يغشاها من الخارج يعزز رأيها ويزيدها احتقارا لغيرها واغترارا بمناقبها وفضائلها، ومن جاءها زائرا من أهل الاطلاع والاستطلاع لم يجد فيها علما أرفع من علم بلاده وعاد وهو يعجب بها كما تعجب بنفسها.

وظلت على هذه الثقة بارتقائها، فظلت هذه الثقة قوة لها وحقا صحيحا من حقوقها.

فلما جمدت ثقافتها لاستقلالها بنفسها، وتقدمت ثقافات الأمم الأخرى لتجاوبها وتنازعها وأخذ المتأخرين من المتقدمين فيها، صارت الحال بها إلى نقيضها، وأصابها من تلك الثقة كل سوء تخشاه، وهي لا تعلم مبعثه ومأتاه.

ترفعت عن التعلم من غيرها، وجاءها الرحالون الغربيون من طلاب الغنائم والفرص، فشهدت من أخلاقهم ما لا يشجعها على محاكاتهم والاقتداء بهم: غش وإسفاف وعربدة وتهالك على المنفعة، ورضى بالدنس طمعا في الغنيمة، وغلظة تبدو للصيني المهذب على الخصوص؛ لأنه عاش على آداب السلوك وجعلها قوام الأدب كله وشرط الحضارة الأول في كل إنسان على نصيب من الكرامة.

وإلى هنا كانت على حق في اغترارها بثقافتها واستقلالها بعلومها ومعارفها.

ولكنها شهدت إلى جوار ذلك ما يوقظ نائم الكهف لولا أن نوم الغرور أثقل من نوم الكهوف.

شهدت على مقربة منها في الهند شركة تجارية تدك عروش الدول العريقة بسلاح البارود الذي هي كشفته وهي أولى باستخدامه.

وشهدت فئة من سياح البرتغال في أرضها تستخدم المدفع فتهزم به الجموع الكثيفة المتألبة عليها.

وشهدت بعد ذلك معارك لم تغن فيها الشجاعة ولا العدد أمام هذا السلاح.

وكان قليل من هذا كله كافيا لإقناعها بضرر اكتفائها وقناعتها بما عندها، وإيقاظها للخطر المحدق بها من أقرب الجهات وأبعدها.

ولكن نوم الغرور كما قلنا أثقل من كل نوم، وبخاصة غرور ذوي السلطان الذين لا يقال لهم إلا ما يحبون أن يسمعوه.

فبلغت الحضارة الغربية أوجها وهم غافلون عنها.

ولبث عاهل بكين يؤمن في قرارة نفسه بأنه عاهل العالم كله، وأن ملوك العالم كله أتباع له وعيال عليه، لا يثنيه عن إخضاعهم عنوة إلا أن الأمر مفهوم بالبداهة لا يستحق المشقة ولا يرجى من ورائه غنم جديد.

وإلى نهاية القرن الثامن عشر كان عاهل بكين «شيان لونج» يعتقد ويقول: إن بلاده في غنى عن العالم كله، وإن العالم كله مفتقر إلى بلاده، وكتب إلى جورج الثالث ملك إنجلترا حين خاطبه في تبادل العلاقة التجارية «إن مملكتنا السماوية تحتوي كل شيء في وفر وغزارة ولا تحتاج داخل حدودها إلى مطلب من خارجها، فنحن في غنى عن جلب المصنوعات من البلاد البربرية بديلا من مصنوعاتنا، ولكن الشاي والفخار من مملكتنا السماوية مطلب لازم للأمم الأور,بية ولكم ...»

وكتب إليه جوابا على خطاب آخر: «إن مملكة جلالتكم في مكان سحيق وراء البحار، ولكنها تدرك واجباتها وتعمل بالقوانين، ولما كنتم من ذلك المكان السحيق تبصرون مجد دولتنا وتعجبون في احترام وتوقير بكمال حكومتنا، فقد أنفذتم إلينا بالكتب والرسائل للنظر فيها، ونحن نرى أنها مملاة بما ينبغي من روح الإعظام والإكرام، ونرغب من أجل هذا في قبول ملتمسكم وإجابة أمانيكم، ونقبل كل ما أرسلتموه من هداياكم، أما رعاياكم الذين تعودوا منذ سنوات أن يتجروا مع مملكتنا فنود أن نقول لكم: إن مملكتنا السماوية تشمل بالإحسان والعطف جميع الأفراد والأمم وتلاحظ رعاياكم بعين السماحة والرأفة، فلا محل إذن لما تطلبه لهم حكومة جلالتكم ...»

ولما أراد السفير الإنجليزي اللورد مكارثتي أن يرفع أوراقه بنفسه إلى عاهل بكين في عاصمته، قيل له استكبارا لوقوف أمثاله في حضرة ابن السماء: إن تسليم الأوراق للوزراء فيه الكفاية، فلما ألح وعاود الإلحاح قيل له: إنه لا يؤذن لمثله بالوصول إلى العاهل إلا إذا سجد أمامه ولمس الأرض بجبهته تحت قدميه، وطالت المفاوضة واستخدمت الرشوة والترضية حتى سعى رجال البلاط في إتمام المقابلة والاكتفاء من السفير بالركوع أمام ابن السماء كما يركع أمام مولاه، وقيد السفير في موكب رفعت عليه الأعلام ونقشت عليها عبارة معناها أنه سفير من ملك أجنبي وفد على ابن السماء لتقديم الجزية ورفع فروض الطاعة إلى سدته السماوية.

وانقضى قرن على هذه المراسلة، وبلاط ابن السماء مصر على عقيدة «الاكتفاء» مؤمن بأن الصين في غنى عن العالم كله بما تحتويه بين حدودها، فلا يفيدها العالم بثقافة ولا حضارة، ولا تجمل بها غير سياسة واحدة وهي سياسة العزلة والمقاطعة، وبلغ من التشدد في اتباع هذه السياسة أن الذي يعلم أجنبيا لغة الصين أو كتابتها كان يعاقب بالموت، وأن الذي يوجد لديه شيء مستورد من الخارج يتعرض لعقاب الخائن المتهم بالمروق.

كان هذا هو الوهم الذي جمدت عليه أمة الصين، ولبث البلاط جامدا على هذا الوهم بعد أن زالت غشاوته عن أعين المصلحين المخلصين.

كانت الصين في حاجة إلى شعور يناقض هذا الشعور، كانت في حاجة إلى من يعلم أنها محتاجة إلى غيرها في كثير، وأن آفتها من جمودها على حالها واكتفائها بما عندها، وكانت الثورة باسم مملكة السلام السماوية صرخة مريض ولم تكن وصفة طبيب، فلما سكنت خيل إلى الكثيرين أن المريض ميت بعلته، ولكنه في الواقع كان ينتظر ثورة أخرى تجمع بين صرخة المريض ووصفة الطبيب، وتلك هي ثورة سن ياتسن باسم السيادة القومية، وجاءت هذه الثورة ترياقا صادقا؛ لأنها لمست الآفة في مكانها، آفة الاكتفاء يداويها العلم بالحاجة إلى كل شيء من الحضارة الحديثة.

الصدمة

كانت الصين كما تقدم مستريحة إلى كفايتها وعزلتها.

وكانت على خطأ مزدوج في هذه الراحة الموبقة، فلا هي مكتفية ولا هي قادرة على العزلة، ولو أنها شاءت أن تعتزل العالم لم يشأ العالم أن يعتزلها، فهي طالبة مطلوبة من حيث تجهل ما تطلبه وتجهل ما يطلب منها.

وكل صدمة كانت قمينة بإيقاظها من تلك الغيبوبة السادرة فهي خير وبركة، أيا كانت عواقبها، وأيا كان الثمن الذي تشتري به تلك اليقظة.

فلم تكن هناك عاقبة أشأم من بقائها على غفلتها والعالم يتقدم من حولها ويتحفز لابتلاعها.

نعم، لم تكن مطامع الدول المستعمرة نفسها أشأم من راحتها ومن غفلتها.

فقد شاء حسن الحظ لهذه الأمة الكبيرة أن المطامع فيها كثيرة متعددة، ولولا ذلك لضاعت في جوف دولة أو دولتين، وتأخرت يقظتها زمنا بعد القرن التاسع عشر، وربما مضى القرن العشرون وهي ضائعة عاجزة عن الاستقلال بسيادتها.

كانت مطمع الدول القريبة والبعيدة، فعلى مقربة منها اليابان والولايات المتحدة وروسيا القيصرية، وبعيد منها إنجلترا أو فرنسا وسائر الدول التي في غرب القارة الأوروبية، ولكنها كانت قريبة منها بمستعمراتها في آسيا الجنوبية وما جاورها.

وكل هؤلاء كانوا يطمعون فيها.

وهذا الذي أنقذها وجعل الصدمة أنفع لها من الراحة الموبقة والغيبوبة السادرة.

فهي أكبر من أن تلتهمها دولة واحدة، والطامعون فيها أكثر من أن يتفقوا على تقسيمها، وأنفع لهم أن يتفقوا على سلامتها ويقنعوا باستغلال مواردها ما استطاعوا، وهو ما سموه بعد ذلك بالباب المفتوح، وقدروا يومئذ أنه باب مفتوح للدخول وحسب، ولم يقدروا أنه كذلك مفتوح للخروج.

كان من الواجب للصين أن تصطدم بالواقع وقد اصطدمت بالواقع صدمة كبيرة، ولكنها لم تكن أكبر منها ولم يكن شرها أكبر من شرور الكفاية التي كانت مخدوعة بها، أو شرور الراحة التي كانت سادرة فيها.

لم يكن ساسة الصين يجهلون العالم الخارجي أو يجهلون وجود القارات الأخرى، وكثيرا ما فرق السياح على قصر ابن السماء وحدثوا القوم عن بلادهم وأقوامهم حديثا يشوق ويعجب، ولكنه لا يهم ولا يزعج، وغاية ما يثيره في النفس أنه كان كالقصص التي يسمعها الأطفال عن الأمم النائية ما كان منها موجودا حقا أو كان من صنع الخيال وأكاذيب الرواة.

وكان أبناء السماء ينهزمون أحيانا، ولكنهم كانوا ينهزمون أمام أبناء سماء آخرين.

وربما انهزم جيش من جيوشهم في وقعة مع الدول القريبة، فلا ينتهي خبر الهزيمة إلى أقصى البلاد، ولا يقع من نفوس السامعين له إلا كموقع الهزيمة التي يمنى بها الشرطة في كفاح عصابات المجرمين، ثم تنهزم العصابة أو تنجلي هاربة إلى مأمنها، وتجري الأمور بعد ذلك في مجراها القديم.

ويظل ابن السماء ملكا على كل ما تحت السماء.

ويظل الصينيون أقوى الأمم وأرفعها وأوحدها بوصف الحضارة بين البرابرة والمستوحشين.

ولم تنقطع سفن التجار عن موانئ الصين الجنوبية والشرقية منذ عرف الناس فن الملاحة، فلما وفد على تلك الموانئ تجار الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده لم يكن هنالك ما يستغربه القوم: أناس يطرقون الأبواب في طلب القليل من الفتات، فليأخذوا ما طاب لهم صدقة وإحسانا من سيد العالم، وملك القريب والبعيد من البلاد.

إلى أن كانت حرب الأفيون.

فإذا بالواردين على الأبواب يطلبون بل يأمرون، وإذا بهم يتكلمون بأسماء ملوكهم ويناصون برءوس ملوكهم هؤلاء رأس ابن السماء.

ومن سخرية القدر أن تكون يقظة الصين من حرب الأفيون، وقد كان وشيكا أن يدخلها في خدر أعمق من خدر الراحة والغرور.

ولم يكن الأفيون في نشأته آفة صينية كما شاع بين الناس إلى الزمن الأخير.

فما كان الصينيون يزرعون شجرته ولا كانوا يستخدمون ثمرتها في غير العلاج.

ولكن التجارة الأوروبية هي التي جلبته إلى بلادهم من البلاد الآسيوية الأخرى، ولم تفطن حكومة الصين لضرره أول الأمر فسمحت ببيعه وحصلت عليه في موانئها ضريبة الدخول إلى ما قبل نهاية القرن الثامن عشر (1796)، فتهافت عليه الأغنياء وسرت عدواه إلى الفقراء فأقبلوا عليه وبذلوا فيه ثمن القوت وفضلوه على ضرورات المعيشة، فتنبهت الحكومة بعد فوات الأوان وأمرت بتحريمه ومصادرة المضبوط منه في موانئها أو في داخل بلادها، فعمد التجار إلى تهريبه وضاعفوا ثمنه على تجار البلاد الداخلية وضاعف هؤلاء ثمنه على طلابه، وقيل: إن تجار الموانئ تسلموا من المهربين في سنة واحدة (1838) ما قيمته أكثر من أربعة ملايين من الجنيهات، وباعوها بأضعاف هذه القيمة إلى تجار الريف ومدخنيه، وهي ثروة ضخمة إذا لوحظ على الخصوص أن المهربين كانوا يتقاضون الثمن فضة خالصة قبل تسليمه في عرض البحر حيث كانت تجري صفقات البيع والشراء.

وعهدت الحكومة الصينية إلى رئيس من رؤسائها، مشهور بحماسته في حرب هذه الآفة، أن يشرف على شواطئ كانتون ليمنع الوارد منه قبل تهريبه إلى داخل البلاد، وكان الرجل الأمين، واسمه «لين تسي هسو» واليا قبل ذلك على بعض الأقاليم، فاشتد في تعقب المهربين والمدخنين، وعرف له ربات البيوت اللائي فجعن في أزواجهن وأبنائهن هذا الفضل، فكن يحطن به ليلثمن أهداب ردائه حيث وجدنه، فتابع هذه الشدة في رقابته على الموانئ، ولم يقنع بهذا بل أطلق جواسيسه على مخابئ هذه التجارة الخبيثة حتى جمع منها ذات مرة ما يساوي مليون جنيه، فأتلفه علانية على مشهد من الأجانب والوطنيين.

ونشط «لين» في بناء المعاقل والمخافر على الشواطئ والتلال، وأرسل إلى القنصل الإنجليزي يطلب منه أن يسلمه خلال ثلاثة أيام كل ما في المستودعات الإنجليزية من الأفيون المخزون، وأن يستكتب التجار وثيقة يتعهدون فيها بالامتناع عن توريد هذه البضاعة؛ وإلا ضرب الحصار على كانتون وأجلى منها كل تاجر لم يوقع على تلك الوثيقة. فلم يقبل القنصل طلبه، وأجاب على هذا الحصار بمظاهرة بحرية على ثغرة النهر الغربي لإغلاقها في وجه السفن التجارية، ثم أعلنت إنجلترا الحرب على الصين والمفاوضات جارية بين الطرفين، فلم تقو الجنود الوطنية على مقاومة الأسطول، وأرسل البلاط يطلب الهدنة ويذعن لشروط الصلح بين الطرفين، فانعقدت بينهما معاهدة نانكين (1842) التي استولت إنجلترا بموجبها على هونج كونج، وأرغمت الحكومة الصينية على فتح جميع موانئ كانتون للتجارة وتحويل القناصل حق النظر في قضايا رعاياهم بغير استثناء للمهربين وبغير إشارة إلى تحريم تجارة الأفيون، وجوزي الموظف الأمين بعزله وانتداب خلف له ممن يرضى عنهم القناصل والتجار.

ولم تنته مشكلات الأفيون بهذه الحرب الباغية وهذه المعاهدة الجائرة، فقد أعقبتها حرب الأفيون الثانية (سنة 1857) ونشبت هذه الحرب الثانية؛ لأن المراقبين الصينيين حجزوا زورقا يسمى بالسهم

Arrow

ورفضوا إعادته إلى القنصل البريطاني حين احتج على حجزه، وطالب الحكومة الصينية بإعادته.

وحجة الحكومة الصينية أن الزورق وطني وأنه لم يكن يرفع الراية البريطانية ساعة تفتيشه وحجزه، فاشتركت إنجلترا وفرنسا في إنذار الصين وطالبتا بالمزيد من الحقوق والامتيازات، ومنها إقامة السفراء بالعاصمة واحتلال الأماكن التي تختارها الدولتان على الشاطئ، وهجم الأسطول البريطاني والأسطول الفرنسي معا على كانتون وتقدما بعد احتلال موانئها إلى تينتسن، وأملى القائدان على الحكومة الصينية شروط المعاهدة التي سميت باسم تينتسن، وذهب المندوبون المفوضون إلى بكين لتوقيعها وضموا إليهم مندوبين من روسيا والولايات المتحدة، فثارت ثائرة الشعب والموظفين عليهم في الطريق واعتقلوهم رهائن بالعاصمة، واشتعلت النار في بعض الأماكن الأجنبية خلال الصدام بين الجماهير المتظاهرة وجنود الدول، فأرسل القناصل في طلب المدد وتقدمت الجيوش الدولية بعد وصول المدد البحري والبري إلى بكين، فلاذت الأسرة المالكة بالفرار وأمر القواد بتدمير القصر الإمبراطوري المعروف بقصر الصيف.

وكانت فعلة وحشية ضاع من جرائها كثير من التحف والذخائر التي يعد ضياعها خسارة على الإنسانية، ولم يرجعوا حتى أرغموا الحكومة المنهزمة على توقيع معاهدة جديدة والتسليم بامتيازات دولية أخرى غير الامتيازات السابقة، ومنها الترخيص لمن شاء من الأجانب أن يتنقل داخل البلاد تحت حماية دولته، وتبادل السفراء، وفتح ثمانية موانئ لإنجلترا وستة لفرنسا، ونقص الرسوم الجمركية وتأجير شبه جزيرة كولون لإنجلترا، عدا الغرامات الثقيلة والتعويضات المجحفة التي أكرهت الحكومة الصينية على أدائها أقساطا مقدرة يشرف المندوبون الأجانب على طريقة سدادها.

وزاد الطين بلة أن الروس طالبوا لأنفسهم بحصة من الغنائم؛ لأنهم توسطوا في الصلح وتعديل شروط الاتفاق، فاستولوا على الأقاليم التي تقع إلى شمال نهر التنين الأسود وشرق نهر أسوري ، مقابلة للغنائم التجارية التي لم يسهموا فيها.

وأنشئت مصلحة الجمارك على تنظيم جديد فطالبت كل من إنجلترا وفرنسا بخمس الرسوم خالصا بغير كلفة، وتركتا ثلاثة أخماس الرسوم للحكومة الوطنية مع تكاليف الإدارة والحراسة.

واستمرت المطالبة بالامتيازات الجديدة على أثر كل احتكاك بين الأجانب والوطنيين، وما أكثر أسباب الاحتكاك في هذه الأحوال، بين أجانب متغطرسين يغالون في إذلال الوطنيين اعتمادا على حماية قناصلهم، وبين وطنيين يشعرون بالغربة والهوان في ديارهم، وقلما كانت تنقضي أيام دون حادث يسميه الأجانب حادث اعتداء وتعصب ويسميه الوطنيون حادث دفاع وكرامة، ثم تكاثرت هذه الحوادث بعد تغلغل المبشرين والمرسلين في الأقاليم الداخلية، ومنهم من يقضي الإنصاف بالاعتراف لهم بالفضل في محاربتهم الصادقة لآفة الأفيون، ومنهم من يقضي الإنصاف أيضا بملامتهم على حماية الأشرار وطرداء القانون ممن يتهمهم الوطنيون بالمروق وخدمة السياسة الأجنبية، فقد كان المجرم من هؤلاء يعرف مصيره إذا حوسب على جريمته أمام قضاء بلاده فيظهر التحول إلى المسيحية ويكسب بذلك حق اللياذ بالمعاهد الأجنبية، فلا تمتد إليه يد القضاء في ذلك الملاذ.

وتفاقمت أضرار المعاهدات الجائرة فلم تنحصر في الهوان وسلب السيادة، بل سرت هذه الأضرار إلى ضرورات المعيشة بين الأغنياء والفقراء على السواء؛ لأن الدولة احتاجت إلى مضاعفة الضرائب لسداد الغرامات والتعويضات مع قلة مواردها الجمركية بعد اقتطاع الخمسين منها لإنجلترا وفرنسا، ولأن البضائع الأجنبية تدفقت على أسواق الصين عند الشاطئ وفي الأقاليم القاصية، تباع فيها بالسعر الرخيص لقلة الرسوم التي تؤديها، وتفضل على المصنوعات الوطنية لجودتها وسهولة الحصول عليها، فبارت المصنوعات اليدوية وتعطلت المعامل التي اجتهد أصحابها في إنشائها لمجاراة المعامل الحديثة، وحل الوسيط الأجنبي محل الوسيط الوطني في معاملات التجارة الكبرى، وأطبقت هذه المصائب الاقتصادية على الأمة بعد مصائبها السياسية المتلاحقة فتراءت لها أشباح الخراب في كل مكان.

وتدرجت الدول من امتيازات الموانئ إلى امتيازات المواصلات، فتسابقت إنجلترا وروسيا وفرنسا وألمانيا على انتزاع الامتيازات بمد السكك الحديدية وتحصيل مواردها ضمانا للقروض اللازمة لمدها، وسهلت دعوى الحملات التأديبية وانتزاع البلاد عقوبة للحكومة الوطنية، فاستولت فرنسا على أقاليم من الجنوب، واستولت اليابان على أقاليم من الشمال واستولت أمريكا على الفيلبين، وصارت الدولة الصينية مقصورة على تلقي الضربات والتسليم بضياع حق بعد حق، واحتمال خسارة بعد خسارة.

ولقد كانت هذه الضربات المتعاقبة تحز في نفوس الأذكياء والعارفين من أهل الصين، ولكن ضربة منها لم تبلغ من الإيلام والإزعاج ما بلغته هزيمة الصين أمام اليابان سنة 1895.

فإن الصينيين عاشوا ألوف السنين وهم ينظرون إلى جيرانهم من الشرق نظرة الاحتقار والاستخفاف، فلما انهزمت دولتهم أمام أولئك «الأقزام» المحتقرين، وقيل لهم إنهم لم يتمكنوا من الظفر بجيوش ابن السماء إلا لأنهم تعلموا الصناعة الحديثة من الأساتذة الغربيين، أصبح احتقارهم المفرط للمنتصرين عليهم إعجابا مفرطا بالصناعة التي كانت سببا لهذا الانتصار. وهرعت جموع الطلبة إلى مدارس اليابان وأوروبة وأمريكا يتعلمون فيها سر هذه القوة التي يعنو لها جبين أكبر الأمم وأعرقها في الحضارة والحكمة والسلطان.

وتشعب أنصار النهضة الحديثة شعبتين: إحداهما تحاول الإصلاح بالأداة الحكومية وزعيمها «كانج يووي» وتلميذه «ليانج شي كاو» الذي قاد حركة الترجمة من الآداب الغربية.

والأخرى ثورية يائسة من صلاح الأداة الحكومية مع قيام أسرة المانشو على عرش الصين، وصاحب الرأي الأول والأسبق في هذه الدعوى الثورية هو سن ياتسن بطل هذه السيرة.

ولم تكن الدعوة الأولى - دعوة الإصلاح بالأداة الحكومية - خلوا من حجتها المعقولة؛ لأن الإمبراطور الفتي كان على رأي أبناء جيله في ضرورة الإصلاح، وكان يطلع على المصنفات المترجمة والصحف المجددة ويؤمن بصواب ما تدعو إليه، وكاشف أترابه من أمراء الدولة ورؤسائها بعزمه على إعلان الدستور وتجربة الحياة النيابية، وكانت الفترة مواتية للشروع في هذه النهضة؛ لأنها وافقت هدنة من عدوان الدول بعد أن تبين لها أن التنافس بينها سيقودها إلى الحرب لا محالة، فأسرعت الولايات المتحدة وبرزت في الميدان هذه المرة باسم السلام والمصلحة الدولية، ووجهت (سنة 1899) مذكرة إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا واليابان تقترح فيها تأمين الصين على سيادتها، والاتفاق على احترام هذه السيادة وتطبيق سياسة الباب المفتوح بروح العطف والإنصاف، ونزول الدول عن امتيازاتها الجمركية في مناطق نفوذها، ثم أعلن الوزير هاي سياسة الباب المفتوح على هذا الأساس في السادس من شهر سبتمبر (سنة 1899).

إلا أن الدعوة الثورية كذلك لم تكن خلوا من حجة معقولة بل حجج معقولة متعددة، لم تزل الوقائع تؤيدها وتدحض حجج المعارضين لها، وتثبت لطلاب الإصلاح جميعا أن باب الصين المفتوح للإصلاح باب واحد، وهو الباب الذي تخرج منه أسرة المانشو إلى غير رجعة. •••

من مألوفات التاريخ، إذا شاخت الأسر المالكة وحقت عليها كلمة الزوال، أن ينجم منها ملك أو عضو بارز من أعضائها يبطل الحيلة فيها ويدحض كل عذر يتعلل به أنصارها المتعللون للإبقاء عليها.

ويكاد الناظر في سير الملوك أو الأمراء أن يحسب لهم دورا مرسوما لا يحيدون عن أدائه؛ لتعجيل سقوط الأسرة وقطع الألسنة التي تماري في عيوبها واستحالة الخلاص منها.

وقد كان من الجائز أن يخلص الحكم للعاهل الشاب المغلوب على أمره (كوانج هسو) فيحاول تجربة الحياة النيابية، ويجتهد في محو عوامل الفساد والانحلال وتشجيع عوامل التقدم والإصلاح، ولكنه لو فعل ذلك لما بلغ منه شيئا غير تخدير حركة الثورة بضع سنوات، وغير تأخير البناء الذي لا بد أن يؤسس على أنقاض العهد القديم؛ لأن البناء لا يقبل التكملة من طراز يخالف كل المخالفة في التقسيم والتدعيم.

في وسع الأسرة المالكة - عند هذه المرحلة - أن تخرج منها من يقضي عليها، وليس في وسعها أن تخرج منها من يدعم بناءها ويطيل بقاءها.

وقد أخرجت أسرة المانشو معول الهدم على أقوى ما يكون في صورة شيطانية إنسية تقوم مقام الوصية على العاهل الشاب، فملكت أزمة الدولة كلها في إبان هذه الكوارث، وكانت هي نفسها كارثة الكوارث التي غطت عليها جميعا وحولت جهود المفكرين إلى غاية واحدة بدلا من التفرق بين شتى الغايات: تلك الغاية الواحدة هي إزالة الأسرة المالكة واختتام العهود الملكية جميعا في أقدم الدول الأسيوية عهدا بالعروش والتيجان.

كانت الوصية «تزوهسي» جارية ذات حظوة عند العاهل الراحل، وكانت قد أتقنت كل ما تتعلمه الجواري من فنون الرسم والموسيقى والمعارف التقليدية، وزعم الزاعمون أنها كانت تستظهر حكمة كنفشيوس وقصائد الشعراء المتقدمين، وأنها كانت تنظم شعر الغناء وشعر الأمثال وتساجل فيهما الأدباء والشعراء، فلم يكن لهذه الثقافة كلها من ثمرة غير تمكين غرورها وتشديد ما في نفسها من التعصب على الثقافة الحديثة، وبخاصة حين علمت أنها ثقافة تشل يدها على السطو والتبذير وتضطرها في سياسة القصر والأمة أن تقف عند حد محدود، يسمى بحد الديمقراطية والدستور.

فلم تكد تعلم بميول العاهل الفتى حتى أسرعت إلى حاشيته من حزب الإصلاح، فأبعدتها وأكرهته إكراها على إلغاء أوامره التي أعلن بها بعض الحقوق الدستورية، وجعلته يحس الخطر على حياته إذا سولت له نفسه أن يتمرد على سلطانها.

وجاوز الأمر عندها مقت الدستور إلى مقت كل مقترح يأتي من جانب حزب الإصلاح، فوضعت يدها على المال المجموع لإنشاء السفن الحربية التي ظهر من هزائم الصين المتوالية أنها في مسيس الحاجة إليها، فأنفقته كله على تشييد قصر في حديقة واسعة تقضي بها ليالي السمر واللهو ومن بعدها الطوفان!

لو كان لهذه الوصية على عرش الصين دور مرسوم، وكان دورها المرسوم أن تجهز عليه وتفض الأنصار من حوله، لما استطاعت أن تعمل للنجاح في هذا الدور غير ما كانت تعمله وهي تحسب أنها تدعم العرش وتقوي سلطانه وتشل أيدي المتآمرين عليه.

فلم يبق أحد من المفكرين يعتقد إمكان الإصلاح مع بقاء هذا النظام العتيق، وانقلب دعاة الإصلاح من طريق الحكومة القائمة إلى صفوف أعدائها الألداء، ولولا حماية السفارات لأولئك الدعاة حين لاذوا بها لمثلت بهم كما مثلت بغيرهم من أنصار الحياة النيابية وتجديد نظام الحكم ونشر التعليم الحديث.

واتفقت الآراء جميعا على حصر العلة كلها في الأسرة المتداعية، فلم يبق لها من نصير غير طائفة من غلاة المحافظين، تطوعوا للدفاع عنها سخطا على عدوان الأجانب لا جهلا بعيوبها وجرائمها، فكانت حركتهم المشئومة نكبة فوق النكبات المطبقة، وعجلت بسقوط الأسرة من حيث أرادوا لها التماسك والبقاء.

تطوعت بهذه الحركة جماعة «آي هو شوان» أي الملاكمين المستقيمين المتآلفين، هم الذين اشتهروا باسم «اليوكسرز» بين الأوروبيين.

وراحت هذه الطائفة تعرض ألعاب الملاكمة والمسابقة والطعن بالمدى والخناجر وتستهوي بها طلاب الفتوة من الشبان، ثم تتدرج في تلقينهم مقاصدها السرية وهي بعبارتها الدينية «طرد الشياطين المتطفلين»، ثم أخذت شيئا فشيئا تجهر بمقاصدها هذه وتهتف علانية بتأييد القصر ولعن الأجانب الشياطين. وادعى أحد زعمائهم أن إله الحرب «كوانج كونج» جاءه في الحلم وأنبأه بفناء الأجانب جميعا بعد أيام. وادعى زعيم آخر أن التنينات الخمسة الساهرة على مدخل نهر تاكو أنبأته أنه ما من أجنبية تجترئ على الدنو منه إلا غرقت بمن فيها.

وزينت السخافة للوصية الخرقاء أن هذه الحركة كفيلة بقطع دابر الأجانب وطرد بقيتهم من البلاد، ولم تخف ممالأتها لها، بل أرسلت (في العشرين من شهر يونيو سنة 1900) إلى السفارات تشهر الحرب على أجانب العالم أجمع، وتنذر السفراء وأتباعهم بمغادرة العاصمة خلال أربع وعشرين ساعة، وزحف الملاكمون بعمائمهم الحمر وسيوفهم المشهورة فاقتحموا معاهد الأجانب وقتلوا من فيها، وضربوا على السفارات حصارا دام نحو شهرين، ثم وصلت جيوش الدول - أمريكا واليابان وروسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا - فارتفع الحصار وانقلبت الحرب إلى مذبحة وحشية لا تذكر إلى جانبها وحشية العصابات من الملاكمين وغوغاء الطريق.

أما تلك الخرقاء التي أغرقت عاصمتها في بحر من الدم فقد حملت العاهل الناشئ معها وهربت إلى الغرب مستخفية، ولم تنس صغائرها الأنثوية في تلك المحنة الدامية فلم تبرح العاصمة حتى أغرقت الجارية الأثيرة عند العاهل الصغير؛ لأنها همت باللحاق به خوفا عليه.

ثم أمليت شروط الصلح فإذا هي تقضي بتسليم زعماء الثورة فسلموا، وبهدم جميع المعاقل على طريق العاصمة فهدمت، وبفرض غرامة تبلغ خمسة وستين مليون جنيه، فدفع منها ما حضر وبقيت أقساطها عبئا على كواهل الأمة أربعين سنة بعد ذلك التاريخ.

هذا مثال من الفارق بين حركات الشمال وحركات الجنوب في البلاد الصينية، فالغالب على حركات الشمال حيث يضعف أثر الحضارة أنها عصبية جامحة تندفع ولا تدري عاقبة اندفاعها، والغالب على حركات الجنوب حيث طالت آماد الحضارة وتتابعت الصلة بالعالم الخارجي أنها تمهد بالثورة لنظام معلوم.

وقد أنجزت الوصية الخرقاء دورها المرسوم، فقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبطل اللجاج بين طلاب الإنقاذ في بقاء الأسرة أو زوالها، وتمهدت السبل لدعوة الجنوب، فوجد سن ياتسن أسماعا صاغية لرسالته الكبرى، ولم تمض على هذه الحوادث عشر سنين حتى ذهب آخر عرش لأبناء السماء.

المعتقدات والعادات

على أثر الفتنة التي قام بها الملاكمون - خاصة - راجت في الغرب تهمة التعصب الديني وتذرع بها الساسة لتسويغ حملات التنكيل والانتقام التي كان أولئك الساسة يشفقون من سريان أخبارها بين الأمم الغربية، ويضطرون إلى إثارة الشعور لمداراة أهوالها وفظائعها، فقد كانت أخبار حرب الأفيون تقابل في الغرب بالنفور والاشمئزاز، وتصور النزاع بين الدول والصين في صورة نزاع بين أمة تحمي نفسها من آفة خبيثة وطائفة من التجار الجشعين يكرهونها على فتح أبوابها لتلك الآفة، ولا يبالون بالربح الحرام من أي مصادر تلقفوه، ثم يجدون من ورائهم جيوشا وأساطيل تخضع الأمة المغلوبة لمآرب أولئك التجار.

فلما تكررت الثورات والمنازعات ألفى المستعمرون أنفسهم في حرج شديد مع أقوامهم، وراحوا يبحثون في حجة تسترهم وتسوغ حملاتهم، فلم تسعفهم حجة في ذلك الوقت غير حجة التعصب الديني، وساعدهم على إشاعة هذه الحجة أن الملاكمين ينتحلون المصطلحات الدينية وأن المصابين من الأجانب كان معظمهم من المرسلين والمبشرين.

إلا أن العارفين بالصين كانوا يستغربون هذه الدعوى ولا يخفى عليهم ما وراءها من التضليل والافتراء؛ لأن التعصب الديني الذي يغري صاحبه باستباحة دماء المخالفين شنشنة لم تعرف عن أهل الصين، ولم يحدث قط في تاريخهم اضطهاد لأصحاب دين من الأديان إلا لباعث من بواعث السياسة؛ إذ كان القوم يدينون بعبادة الأسلاف، وليس من دأب الإنسان أن ينازع أحدا في أسلافه أو يجبر أحدا على مشاركته فيهم، وكل عقيدة غير عقيدتهم في أرواح الآباء والأجداد وفي أرواح الآلهة البيتية عامة، فهي من قبيل آداب السلوك التي يعاب من يهملها كما يعاب من يهمل التهذيب والمروءة في الأمم الأخرى، ولا يتعدى الأمر ذلك إلى القتل والاضطهاد.

ومن الدلائل البارزة على هذا الخلق في أهل الصين عامة أن زعيمهم الأكبر سن ياتسن كان يدين بالمسيحية، ومثله تلميذه الكبير شيان كاي شيك الذي خلفه زمنا على قيادة الأمة، وما كان لأهل الصين أن ينظروا إلى الزعيمين بغير نظرة الاحتقار الذي يتعرض له الصابئون المرتدون عن دين آبائهم لو كان التدين عند الصينيين على مثال التدين عند الأمم الأخرى، إنما الدين عند القوم آداب سلوك قبل كل شيء، وقوامه الأول توقير أرواح الأسلاف وأرواح الأرباب الموكلة بأمر البيت، فكل بيت فيه معبده، وكل قبيلة فيها هيكلها، ولكل أن يوقر أسلافه، ولا ضير في ذلك على غيره، فلا موضع بينهم للعداوة والشحناء من أجل العبادة والمعبودات.

ولا يفهم الصيني من إيمانه بالمسيحية أو البوذية أو الإسلام أنه مرق من دين آبائه وأجداده، فإنه ليحافظ على قداستهم بعد إيمانه بتلك الأديان، ولا مانع عنده من التردد على هياكلهم والصلاة أمام أضرحتهم في المواسم العامة أو الخاصة، ولهذا ذهب سن ياتسن إلى ضريح أسرة «منج» ليؤدي صلاة الشكر، ويؤكد عهد الولاء بين يديه، وهكذا كان يفعل الصينيون الذين دانوا بالمسيحية على أيدي المرسلين اليسوعيين في القرن الثامن عشر، فقد رخص لهم أولئك المرسلون في أداء فرائضهم البيتية وفي تسمية الله باسم السماء باللغة الصينية، ولبثوا على ذلك حتى نمى إلى كنيسة روما أن القساوسة يقبلون شعائر الوثنية، فحرمت عليهم قبولها في كنائسهم ومحافلهم، ولكن المسيحيين الصينيين لم يتحولوا عن دينهم ولم يزل منهم من يرتضي الدين الجديد على أنه طريق من طرق شتى إلى الصلاح والاستقامة، وشعارهم في هذا شعار البدوي الذي قال:

خذا بطن هرشي أو قفاها فإنما

كلا جانبي هرشي لهن طريق

كان هذا شأنهم في كل زمن، وكان هذا شأنهم يوم رحل ابن بطوطة إلى بلادهم وروى ما روى عن كاهن منهم أو ساحر «يذكر النبي

صلى الله عليه وسلم

ويقول: لو كنت معه لنصرته، ويذكر الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أحسن الذكر، ويجاري الشيعة في كلامهم عن معاوية ويزيد.»

وكان هذا شأنهم كما تحدث عنهم الرحالون الغربيون في أواسط القرن التاسع عشر (هوك جاليت من سنة 1844 إلى سنة 1846

Huc Galet ) فإنهم عرضوا المسيحية على أناس من كهان التيبت فاستحسنوها، وقالوا: إنهم لا يتحرجون من اعتقادها واعتقاد البوذية، وكل ما يوصينا بالخير فهو خير.

ويؤمن الصينيون بالإنسان الأول (بان كو) وأنه هو الذي فرق السماء والأرض أول مرة، وقدر للسماء أن تعلو كل يوم عشرة أقدام، وللأرض أن تكثف كل يوم عشرة أقدام، وأن تطول قامته هو كل يوم عشرة أقدام، فلما انقضت عليه ثمانية عشر ألف سنة، أصبحت السماء بهذا الارتفاع وأصبحت الأرض بهذه الكثافة، وسالت الدموع من عيني (بان كو) فجرى النهران الكبيران في الصين، وتنفس فانطلق الهواء، وتكلم فقصف الرعد، ولمح بعينه فومض البرق، ومات فاستحالت عظامه جبالا واستحالت عيناه شمسا وقمرا واستحال شعره نباتا، وسال شحمه فزخرت منه البحار وفاضت سائر الأنهار.

وإيمانهم بالسماء (تيين) هو في الواقع إيمان بإنسان عظيم، لعله عندهم سلف الأسلاف أجمعين، فهم يكتبون اسمها في صورة رجل يشير بيديه إلى الأعلى، ويذكرونها أحيانا باسم الإله الرفيع، ولم ينسبوا إليها خلق الدنيا في عقائدهم القديمة، بل تدرجوا في نسبة الخلق إليها حتى ثبتت هذه العقيدة بعد دخول الأديان الكتابية إلى الصين.

والقوم عمليون أرضيون في شعائرهم الدينية قلما يتعمقون بها أو يحلقون في الآفاق العلوية، فإله الأرض «شي» أولى عندهم بالقرابين؛ لأنها تعطي الثمرات وتنطوي فيها الأجساد بعد الممات، ولها في كل قرية أكمة من التراب ترمز إليها، ويتجه إليها الزراع بالقربان والدعاء، ورمزهم القومي التنين هو الوسيط بين الأرض والسماء لاستدرار المطر أيام القحط والجفاف.

أما السماء فصورتها في أخلادهم صورة «السلطة» الحاكمة التي تجري المقادير وتهدي الحاكمين إلى الصراط المستقيم، ولا يعلم مشيئتها أحد غير ذوي الدراية والنجامة، ومن وسائلهم قراءة الغيب المسطور على جلد السلحفاة أو تأمل الطوالع على السوق والأوراق في بعض الأعشاب.

وأقوى عباداتهم كما تقدم هي عبادة الأسلاف، وهذه الناحية مهمة جدا في فهم شعور الصيني نحو وطنه، فهو لا يحسب نفسه فردا في أمة عددها أربعمائة مليون يعيشون اليوم، بل هو فرد من ملايين لا تحصى منذ القدم، لها حق كحق الأحياء في حاضر الأمة، وتضاف إليها قداسة العبادة بعد الموت، فيمتزج الحاضر والغابر عمرا للأمة بأسرها، ولا يزال الحديث جزءا يضاف كل عصر إلى القديم، فلا يخطر على البال أن القديم متروك من أجل هذا، بل هو الذخيرة الباقية التي ترجع إليها خير الذخائر في الزمن الحديث.

ومن هنا يبلغ تقديس الآباء عندهم حدا لا يعرف له نظير في أمة أخرى، ومن دلائل البر بالآباء في ديانتهم أن يقذف الابن بنفسه من أعلى الأكمة المقدسة فدية لأبيه إذا مرض هذا وتعذر شفاؤه، كأن القدر يتقاضاهم روحا فيهب الابن روحه بدلا من روح أبيه.

وهم يرجعون بكل خير وكل حالة حميدة إلى الماضي البعيد، فالعصر الذهبي في عرفهم هو عصر الآباء الأولين، الذين كانوا يعمرون الدنيا في زمن يسوده الناموس الأعظم، فكل ما فيه عدل وحق مستقيم على سنته السواء بغير إفراط ولا تفريط، فمما ينسب إلى الحكيم الأكبر كنفشيوس في الكتاب المعروف باسم «لي يون»؛ أي أطوار الخير أنه قال: «لم أر قط عهد تطبيق الناموس فعلا أيام الأسر الثلاث، وإن حسبت أنني أفهم كيف كان، فيوم جرى الناموس مجراه كان كل شيء ملكا للجميع، وكان التقديم لذوي الكفاية والفضل والمقدرة، وكان صدق النية سجية وآداب الصداقة مرعية، ولم يكن أحد يخص بالمحبة آباءه دون غيرهم أو يخص بالحنان أبناءه دون سائر الأبناء، وكان الرزق مضمونا للشيوخ الفانين حتى الممات، والعمل مضمونا للقادر عليه وتكاليف التربية مضمونة للناشئين، وكان الأرامل واليتامى والشيوخ العقماء والعجزة المقعدون موضع العطف حيث كانوا فلا يعوزهم المأوى ولا المؤنة، وكانوا يأبون على أنفسهم أن يتركوا خيرات الطبيعة مهملة غير مثمرة، ولكنهم كانوا كذلك يكرهون تكديس المال وحبسه على أنفسهم، ولم يكن ثقيلا على طبائعهم أن يعملوا ويكدحوا، ولكنهم لا يعملون ولا يكدحون ليستأثروا وحدهم بخيراتهم، وبهذا يقضى على الكيد والدسيسة، ويمتنع ظهور اللصوص والمحتالين وذوي التمرد والخيانة، وتفتح الأبواب بغير حجاب.»

هذه صورة العصر الذهبي في عهد الناموس كما تصوره الحكيم الأكبر، وها هنا عبرة للباحثين في أطوار الشعوب ليستندوا إلى عاداتها وأمزجتها فيما تقبله وما ترفضه، وفيما يكون بينها وما لا يكون.

فمن هؤلاء الباحثين من كان يحسب أن الأمة التي تقدس القديم هذا التقديس، وتعظم شأن الأسرة هذا التعظيم، محصنة كل التحصين من دعوة المذاهب الاجتماعية المتطرفة ومن كل دعوة تهدم القديم وتنبذ المأثور ... فإذا بالأمة الصينية تهدم القديم باسم القديم، وتنكر ما هي فيه إيثارا للعصر الذهبي الذي تريد أن ترجع إليه كما وصفه الأسلاف، فمن الباب الذي ظنه الباحثون موصدا على دعوات التغيير والتبديل كان دخول هذه الدعوات باسم الناموس الخالد الذي لا يقبل التغيير والتبديل! وهكذا تحتال الحوادث حيلتها وتتلمس أطوار التاريخ مناهجها، فيأتي الطارق من جانب الحصن الحصين وهو آمن ما يكون عند الذين يقدرون للأمم مصائرها، فتضحك الأقدار.

وقد اخترنا هنا كلمة الناموس لكلمة «الطاو» الصينية التي يترجمها بعضهم باسم الطريق، وهي في الواقع كلمة لا تفي بمعناها المصطلح عليه كلمة الطريق ولا كلمة الناموس؛ إذ هي أعم من ذلك بكثير؛ لأنها تشمل معنى العناية ومعنى القدر ومعنى المعيار الذي يعطي كل شيء حقه ويرد كل شيء إلى نصابه طبعا وأصالة في أحوال الناس وأحوال الطبيعة وأحوال الغيب المجهول، فكلمة الناموس أقرب إلى هذا المعنى من كلمة الطريق.

والناموس هذا هو موئل كل عقيدة دينية وكل أدب من آداب السلوك، وهي كما قدمنا لباب الدين كله عند حكماء الصين، بحيث يصح أن يقال: إن السماء نفسها تلتزم آداب السلوك في تصريف المقادير.

والمثل الأعلى للحكيم المهذب أن يوفق بين أخلاقه وأفكاره وبين هذا الناموس الشامل الكامل، وآية هذا التوفيق المعيشة السواء بغير جماح ولا إحجام، أو المعيشة التي تتزن وتعتدل فلا إفراط فيها ولا تفريط، ويكاد حب الاتزان والاعتدال أن يفتنهم فتنة لا اعتدال فيها، ومن فتنته أنهم يسمون الصين كلها المملكة الوسطى (شن كو) ويزعمونها في موضع القسطاس من العالم تمنع جوانبه أن تميل!

ومن عباراتهم السائغة عبارة «المدارس» المائة التي يشيرون بها إلى اختلاف مذاهب الحكماء المقتدى بهم في العلم والأدب، ويريدون بها التحلل من قيود الحجر حيث يستنكر المستنكرون بعض المذاهب ليحصروا الفضل كله في سواه.

والواقع أن غايات هذه المذاهب غاية واحدة، وهي حكمة الاتزان.

وإنما الخلاف كله في التمهيد والتفصيل، فمنهم من يطلب الاتزان بالكف عن الطلب، ومنهم من يطلبه بالمعادلة بين المطالب، ومن حكمائهم المتشائم المعرض عن الدنيا ومساعيها، ومنهم المتفائل المقبل عليها، وقد كان كنفشيوس نفسه يغني ويحب الغناء ويعتبر الموسيقى من دروس الأخلاق النافعة للعلية والسواد.

ومن حكمائهم من يقول بتغليب الشر على طبيعة الإنسان، ومنهم من يقول بتغليب الخير عليها.

وبعضهم يقول: إن الإنسان يطلب الخير؛ لأنه محروم منه شاعر بما ينطوي عليه من الشرور، ويرد عليه معارضوه متسائلين: كيف يخطر طلب الخير في قلب شرير؟ فيجيب أنصار هذا المذهب بأن طالب الخير إنما يطلبه مضطرا غير مختار؛ لأن الشر حالة لا يستقر عليها القرار، ومن تصادم الشرور يشل بعضها بعضا فيأتي الخير بغير تدبير.

وما من عجب أن تتعدد المذاهب في أمة مضى على حكمائها ألوف السنين، وهم يتدارسون الأخلاق والآداب بين عهود تتعاقب وأحوال تتباين وأقاليم تتباعد المسافات بينها بآلاف الأميال، ولكن العجب حقا أن تصطبغ هذه المذاهب بصبغة واحدة لا تخفى على من يلمحها لأول نظرة، وصدق من قال: إن أفكار الصين كمصابيحها تختلف ما تختلف بالألوان والأشكال، ولكنها تحمل طابعا واحدا من وراء جميع الألوان والأشكال.

وقد دخلت الصين مذاهب من بلاد قريبة أو بعيدة، فلم تلبث أن اصطبغت بهذه الصبغة وخالفت ما كانت عليه في بلادها الأولى. دخلتها البوذية من الهند فنقلت إليها فكرة الروح الباقية، ولكنها فهمت هذه الروح كما كانت تفهم أرواح الأسلاف غير مقترنة بحالة النعيم أو حالة العذاب، واستباح البوذي الصيني أكل الحيوان ومتاع الحريم، ومن شذ عن هذه الإباحة كان بدعة في شذوذه مخالفا فيه لأشد المتنطسين من أصحاب المذهب الأصيل، فكان عميد أسرة ليانج في القرن السادس يجاوز تحريم ذبح الحيوان إلى تحريم تصويره على الحرير؛ لأنه يتعرض للقص والتقطيع ... ولم تحل هذه الغيرة على الحياة عند هذا البوذي العجيب دون قتل الألوف من جنده وجند أعدائه في حروب الفتح وغارات الانتقام ... وأعجب ما فيه أنه كان من القادة الأشداء الصلاب، ولم يكن حالما ولا قانعا كما يسبق إلى الخاطر من تورعه عن المساس بالحيوان حتى في الرسوم.

والذي حدث للبوذية من التطور في عقول الصينيين حدث للمسيحية في العهود الأربعة التي دخلت فيها إلى الصين، وقد دخلتها أربع مرات: مرة مع النسطوريين بين القرن السادس والقرن السابع، ومرة مع رهبان القديس فرنسيس (الفرنسيسكان) في القرن الثالث عشر، ومرة مع اليسوعيين في القرن السادس عشر، ومرة مع الإنجيليين في القرن التاسع عشر، ولهذا يقل عدد المسيحيين الإنجيليين من أهل الصين عن عدد الكاثوليك، فهم أقل من ربع المسيحيين، وعددهم اليوم جميعا يزيد على أربعة ملايين.

وقد حظي النسطوريون عند أبناء السماء وتقربوا إليهم بمعلوماتهم الرياضية والطبية، ونقشوا صورهم على جدران الكنائس، وظل الشعب يسمي هذه الكنائس بالمعابد الفارسية؛ لأن النسطوريين قدموا إلى الصين من بلاد فارس، ثم أصيبوا بجور السياسة في أيام الملوك الذين كانوا يتوجسون من الأجانب، ولكنهم عكفوا على معابدهم وحافظوا عليها إلى القرن الثالث عشر؛ إذ قدم الرحالة ماركو بولو إلى الصين فوجد لهم معابد على طول الطريق من بغداد إلى بكين.

ولم يكن لرهبان القديس فرنسيس مثل هذه الحظوة؛ لأنهم دخلوا الصين في إبان القلاقل على حدودها الغربية.

أما صاحب الأثر الأكبر في نشر المسيحية بين القوم فهو الأب اليسوعي مانيو ريتشي الذي سبر غورهم وتألفهم باتخاذ عاداتهم في ملابسهم ومآكلهم، وتسمى باسم صيني فعرف بعد ذلك باسم «لي هسي ثاي» ثم حذق اللغة الصينية وترجم إليها دروس الجغرافية والفلك والرياضة، ومهد الطريق لتلاميذه فندب بعضهم لوظيفة الفلكي الإمبراطوري، وخصص له مكان من قصر ابن السماء، وكان يتسمح مع القوم فيثني على حكمة كنفشيوس ويأذن لهم في تكريم أسلافهم، متدرجا بهم من عبادة أرواحهم إلى ذكرهم بالترحم والتحميد، وقبل منهم أن يطلقوا اسم السماء على الإله، ولم يدعهم قط إلى المسيحية على اعتبارها ديانة أشرف وأصدق من ديانتهم، ولكنه جمع بين الأيسر والأقوم من الديانتين، فلم ينفروا من الإصغاء إليه.

واتبعه أناس من تلاميذه على سنته ولكن بغير مقدرته وسماحته، حتى وقع الخلاف بين هؤلاء التلاميذ وبين الآباء البيض (الدومينيكان) على مسائل التوفيق بين الديانة الصينية والديانة المسيحية، ونمي الخبر إلى كنيسة رومية (سنة 1704)، فأنفذت أحد وكلائها - الأب تورنون - إلى بكين لتصحيح الموقف وأشفق هذا عند وصوله إلى العاصمة من مجابهة القوم برسالته فتردد في تبليغها ثلاث سنوات، ثم اضطر إلى إعلانها وإنذار من يخالفها بالحرمان إن لم يبرح البلاد الصينية وينفض يده من أعمال كنائسها.

وغضب ابن السماء من إعلان هذا الأمر في بلاده، واستكبر أن يسيطر أحد بالأمر والنهي على رعاياه، فاعتقل القائمين بمعارضة القساوسة الموفقين، وأصدر أمرا آخر ينذر فيه كل من يسمع إلى المعارضين بالنفي من البلاد.

ولما قدم المبشرون الإنجيليون لأول مرة في أوائل القرن التاسع عشر (1807) كان معظم مقامهم في الموانئ والمناطق التجارية المباحة، وأعقب مقدمهم ظهور طائفة مسيحية وطنية يدعي صاحبها أنه الأخ الأصغر للسيد المسيح، ويبشر بعقيدة وسطى بين عقائد أهل الصين وعقيدة الإنجيليين، وأوشك هذا الرجل - واسمه هونج - أن يسقط ابن السماء من عرشه؛ إذ كان قد استولى على نانكين ونادى بنفسه ملكا سماويا على الصين بأسرها، ولكنه أخفق بعد نجاحه عشر سنوات؛ لأنه خسر المسيحيين والوطنيين وأنصار الأسرة المالكة وأعداءها بخطته في التوفيق الذي ينكره كل فريق، ولم تمت ثورته مع هذا كل الموت، بل كانت بمثابة «المسودة» الأولى للثورة المنتظرة، فنشأ أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر وهم يتذاكرون حركته ويفكرون في أسباب نجاحه وأسباب إخفاقه، وفي طليعتهم سن ياتسن زعيم الثورة التالية التي كتب لها النجاح بعد هذه التجارب والتمهيدات.

واتسعت أعمال المرسلين الإنجيليين خلال هذه المرحلة، بعد السماح للأجانب بالتنقل في داخل البلاد، ثم صادف هذا التوسع إقبالا من الناشئة على العلم الحديث وثقة بفضل الثقافة العصرية فتسابقوا إلى مدارس المرسلين، ولم يتردد بعضهم في قبول الشعائر والعبادات التي فرضتها هذه المدارس على طلابها، ولا سيما المدارس العليا التي لم يكن لها في ذلك الوقت نظير من المعاهد الوطنية. •••

والإسلام هو أكثر الديانات أتباعا في الصين بعد الديانة الوطنية، ويترواح تقدير المسلمين بين عشرين مليونا وخمسة وخمسين مليونا، أو أكثر من ذلك في تقدير بعض الرحالة المسلمين، ومعظمهم من سكان الأقاليم الغربية، ويسميهم الصينيون هوي هوي، إما من كلمة هو بمعنى الغرب أو من كلمة هوي بمعنى الالتفات والاستدارة؛ لأنهم يستقبلون الغرب في الصلوات.

وقد اتصل خبر الفتوح الإسلامية بملوك أسرة تانج من جيرانهم أمراء الفرس الذين لاذوا بعرش ابن السماء يستنجدونه على جيوش العرب، ووجدت في سجلات الأسرة صحيفة تذكر بلاد العرب ونشأة الإسلام، وتقول عن الجزيرة العربية (تاه شيه) إنها كانت ولاية فارسية، وإن رجلا منها تلقى وعدا من السماء بملك العالم والانتصار على كل من يحاربه، ولم يستجب العاهل (تاي تسنج) رجاء الأمراء الفارسيين على كل حال، سواء لاتقائه الاشتباك في حرب مع الجنود الموعودين بالنصر أو لقلة الجدوى من تلك الحرب على أطراف الدولة النائية، ثم تقدم العرب في آسيا بقيادة قتيبة، ووصل رسل الخليفة الوليد إلى العاصمة الصينية، فرضي ابن السماء لأول مرة أن يعفي هؤلاء الرسل من قواعد (الكوتو) أو البروتوكول الصيني الذي يقضي بسجود كل داخل إلى ساحة العرش ثلاث مرات قبل الوقوف في حضرة ابن السماء؛ لأن أولئك الرسل هموا بالعودة من حيث أتوا وقالوا: إن دينهم ينهاهم أن يسجدوا لأحد غير الله، وبقيت للدولة الإسلامية هذه السمعة المرهوبة إلى الجيل التالي؛ فأرسل العاهل (شي تيه) يستعدي أبا جعفر المنصور على الثائر لوشان ثم سمح للجيش العربي الذي هزم ذلك الثائر الخطر بالمقام في الأرض الصينية، فمن ذرية هذا الجيش جلة المسلمين الصينيين، ثم لحق بهم طوائف من المسلمين رجعوا مع ملوك التتار بعد غارات جنكيز خان وأتباعه، فاستحبوا المقام وتزاوجوا وتناسلوا حيث أقاموا، ولم يزالوا محافظين على عاداتهم من تحريم الخمر ولحم الخنزير والمعاملة بالربا، واقتبسوا من العادات الوطنية غير قليل، ومنها المغالاة بتعظيم الأسلاف؛ لأن هذه العادة لم تكن غريبة عن طباع العرب أو أبناء القبائل البادية التي تألف منها جيش المسلمين في ذلك الحين.

فتاريخ الإسلام في الصين يخالف تاريخ البوذية وتاريخ المسيحية؛ لأنه تاريخ سلالة إسلامية انتقلت بعقيدتها من تخوم البلاد الخارجية، ولم يكن للتبشير عمل في نشر عقيدتهم، إلا ما كان من تحول الزوجات والجيران المقتدين بجيرانهم، ومما لاحظه المؤرخون على المسلمين الصينيين أنهم لم يحفلوا بنشر الدعوة الدينية حولهم، وأن شهرتهم العسكرية كفت عنهم عدوان القبائل التي تحيط بهم، وأنها في كثير من الأحيان كانت تغري أبناء السماء باستخدامهم في جيوشهم، فكان منهم قادة مشهورون إلى أيام أسرة منج الوطنية، وكان أشهر قادتها «شنج هو» يسمى بالحاج ويقود الحملات البحرية كما يقود الحملات البرية، واشتملت إحدى حملاته (سنة 1405) على نيف وستين سفينة عليها من المقاتلين نحو ثلاثين ألفا من أبناء الملل المختلفة.

وتعتبر الثورات الإسلامية نذير الخطر في تاريخ الصين الحديثة خلال القرن التاسع عشر على الخصوص، فقد تعددت ثورات المسلمين منذ أول ذلك القرن فكانت علامة على سوء الحال واليأس من صلاح الأمور، وبلغت ثورتهم الكبرى أشدها بأقاليم شنسي وكانصوه سنة 1847، فلم تمض ثلاث سنوات حتى أعقبتها الثورة المعروفة باسم التايبنج؛ أي دعوة السلام السماوية، واحتدمت نيران هذه الثورة أكثر من عشر سنين، ثم تلاحقت الثورات بعد ذلك من الشمال والجنوب، ولم تنحسم ثورة المسلمين الجنوبية بإقليم يونان إلا بعد إخماد ثورة التايبنج بسبع سنوات. •••

هذه لمحة عابرة إلى أحوال التدين في الأمة الصينية، مدارها على بيان الصبغة التي تصطبغ بها الملكات العامة في تلك الأمة العريقة، ونعني بالملكات العامة ما كان من قبيل الشعور الوطني أو الشعور العنصري أو الشعور الديني أو ضروب الشعور التي تشترك فيها الأمم والطوائف الكبيرة، ومن هذه اللمحة العابرة نرى أن الشعور الديني - على كونه في الصين قوة غير مهملة - لم يكن محور الأطوار الكبرى في سياستها وتقلب الدول فيها، ويندر في تاريخ الصين أن يضطهد قوم لعقيدتهم الدينية دون سبب آخر يجعل لهم صفة سياسية أو اجتماعية خاصة ولو في وقت من الأوقات. ومن هذا القبيل اضطهاد كهان «التيبت» لمخالفيهم حين جمعوا في أيديهم سلطة الكهانة وسلطة الحكم واحتكار تجارة الشاي، فكانت أغراضهم السياسية والتجارية سبب هذا الاضطهاد، ومن هذا القبيل أيضا أن بعض الأسر اضطهدت البوذيين؛ لأنها نظرت إليهم نظرها إلى الأجانب الممالئين للدول الأخرى، أو اضطهاد أتباع كنفشيوس؛ لأن دعوتهم الثقافية كانت تحبب إلى الشعب نوعا من الحكومة غير الحكومة القائمة.

ولما ثار المسلمون غير مرة كان السبب الغالب سوء الحال، وأنهم بطبيعتهم أقل خضوعا للحكومة الظالمة من عامة أهل الصين، وتأتي الأسباب الدينية عارضة مع هذا السبب الغالب، ولهذا كانت ثوراتهم تعقبها ثورات أخرى من أهل الصين الذين يدينون بغير الإسلام، ويسخطون على حكوماتهم لغير البواعث الدينية.

وليس جنكيز خان وأولاده مثلا صادقا للذهن المغولي كما ارتقت به الحضارة الصينية العريقة، ولكنهم مثل صادق لهذا الذهن في النظرة التي تنظر بها إلى الأديان المتعددة، فقد كانت شريعة جنكيز خان تفتتح بنص يسوي بين خدام الأديان جميعا ويعفيهم جميعا من الضرائب بغير تفرقة بين كهنة البوذيين وقساوسة المسيحيين وشيوخ المسلمين، وجرى حديث بين الراهب فرا ربروكيز

Rubruquis

ومانجو خان حفيد جنكيز خان، فقال مانجو: إن الله جعل في اليد خمس أصابع وجعل للإنسان مذاهب شتى، أعطاكم الكتاب وأنتم لا تعملون به، فهل في كتابكم أن يذم بعضكم بعضا ويقدح أحدكم في أخيه؟

قال الراهب: كلا، وقد ذكرت لسموكم آنفا أنني لم آت لأخاصم أحدا أو أدخل في مساجلة مع أحد.

قال الأمير: لست أعنيك، ولكنني أقول هذا وأقول أيضا: إن كتابكم ينهى الإنسان أن يحيد عن العدل طلبا للمنفعة.

قال الأب: إنني لا أطلب مالا، وقد أبيت أن آخذ شيئا مما أعطيت ... وشهد كاتب من كتاب الأمير كان حاضرا بأنني رددت قضيبا من الفضة وثوبا من الحرير.

فعاد الخان يقول: ليس كلامي عنك، ولكنني أتكلم عن أناس يتلون الكتاب ويخالفونه، ونحن أعطينا الكهان والسحرة ولا نخالف ما يوحى إليهم.

ومن طريف ما يروى أن هذا الراهب كان يتحدث إلى رجل من حاشية الخان فقال له: هذه إرادة السماء، فقال خادم الأمير: وهل صعدت إلى السماء؟ وكان يظن أن المتحدث عن السماء ينبغي أن يتصل بها كاتصال كهانهم وسحرتهم، ولا حجاب دون السماء. •••

أما عادات أهل الصين وأخلاقهم فيما عدا هذه العاطفة العامة - عاطفة الدين - فالتخصيص فيها يتطلب كثيرا من الأناة.

إذ يقال في بعض الأحوال عن خلق نادر أو شائع: إنه من أخلاق أهل الصين فإذا هو من الأخلاق الإنسانية التي تتماثل في جميع الأمم، ويجب أن نوطن النفس على تكرار جميع الأخلاق الإنسانية في أمة بلغت أول القرن العشرين أكثر من أربعمائة مليون، وبلغت في القرون الغابرة عشرات الملايين حين كانت أكبر الأمم لا تزيد على بضعة ملايين، فمن المتعذر جدا أن يوجد خلق إنساني لا يظهر في هذه الأمة ولا يتكرر فيها، وكل خلق يسبق إلى الذهن أنه خاص بها لا يلبث بعد البحث أن تظهر له مشابهات كثيرة في غيرها.

إنما تتخصص في هذه الأمة وأمثالها عادات الاجتماع دون عادات الطباع.

ففيها مثلا عادة حبس قدمي البنت منذ الطفولة الباكرة، وعادة الإزراء بالجندية على خلاف المعهود في الأمم القديمة، وعادة التخاطب بالعبارات المصطلح عليها مما يشبه القوالب المحفوظة.

وهذه وما شابهها جميعا ترجع إلى أحوال المجتمع الصيني التي يجوز أن يتخصص فيها بموافقات لا تعم سائر المجتمعات.

فالأمة التي تصبح فيها مسائل السلوك دينا مرعيا لا نعجب فيها من المغالاة بالأناقة ودلالات الترف والدلال، ومنها أناقة المرأة وتلطيف جوارحها وأعضائها، فإذا ثبت فيها المجتمع على ديدن المحافظة آلاف السنين؛ فيكفي فيها أن تظهر البدعة جيلا واحدا حتى تتوارثها منه الأجيال أعقابا بعد أعقاب.

أما عادة الإزراء بالجندية فلها جملة أسباب خاصة بالصين في تاريخها القديم: منها أن أهل الصين لم يشهدوا من الجندية إلا جانبها الذي يغري بالإزراء والجفاء؛ إذ كانت صناعة الجندية صناعة المرتزقة في الحروب الأهلية، يعمل فريق على قتل فريق من أبناء الوطن الواحد، وقلما عملوا في دفع الغارات الأجنبية التي من أجلها عظم الناس الجندي وهو يواجه الموت في الذود عن قومه ووطنه، ولهذا تواتر المثل القائل إن الحديد الجيد لا يصنع منه مسمار والإنسانية الجيدة لا يصنع منها جندي، ولا يقصدون بذلك إلا طائفة الجند الذين لا مرتزق لهم من صناعة ولا دراية إلا أن يبيعوا أنفسهم لكل من يعطيهم رزقا في سبيل أطماعه وأهوائه.

ومن أسباب هوان الجندية عندهم أن عهد الإقطاع كان قائما على القادة في كل إقليم، فلما قضي على هذا العهد جعلوا الولاية فنا يتولاه الأصلح بالامتحان، وساعدهم على ذلك تقديس الحكمة في صورة الأبوة، فأصبحت الطاعة للحكيم الخبير عادة غير مستغربة بعد الطاعة للآباء المجربين والأجداد المقدسين، وقد عانى زعماؤهم المعاصرون أشد العناء في تشجيع شبانهم على الأعمال العسكرية التي ساءت ظنونهم بها عشرات الأجيال، فلم يقبلوا عليها إلا بعد ضربات الهزيمة المتوالية، وبعد أن علمتهم هذه الضربات أن الهوان لاحق بهم بين شعوب العالم، ومنها الشعوب التي كانوا يحتقرونها ويترفعون عنها، ما لم يقوموا هذه القيم من جديد.

ولصقت بأهل الصين عادة التخاطب بالعبارات المصطلح عليها؛ لأن الكتابة عندهم هي في الواقع قوالب منقوشة تتكرر بدلا من الحروف في الكتابات الأخرى؛ ولأنهم أهل مراسم وأنظمة موروثة يحفظها أصحاب القصور، ويقتدي بهم الخاصة فمن دونهم إلى العامة ودهماء السوقة، والناس على دين ملوكهم، ولا سيما الملوك أبناء السماء.

ومن عاداتهم العقلية حب المقابلة والتناسق في التفكير، يملكهم النسق حتى يذهلهم عما وراءه من النقائض الخفية، ولم يفلح في مخاطبتهم من لم يفطن إلى هذه العادة العقلية فيهم، وبخاصة وعاظ الأديان.

قال الأب ليكونت (Le comte)

في كتابه ذكريات السياحة عشر سنين في الصين: «إنهم على الخصوص يؤخذون جدا بالمقارنات والحكايات ذات المغزى والمرويات التاريخية، وهم على كونهم لم يألفوا تلك السورة أو تلك الحمية التي نألفها في وعاظنا، تراهم تجيش نفوسهم حين يخاطبون بلهجة الجد والاكتراث.»

وهذا أيضا أثر من آثار الحكمة الطويلة التي تلخصها كلمة «الاتزان» وأثر من آثار الحوادث التي عودتهم أن يتريثوا ولا يندفعوا، وأثر من آثار الولع بالرسم والتنسيق في الكتابة والتصوير والنسيج والشعائر والمجاملات. •••

لوحظ في بيئات الحجاب والصيانة المفرطة أن الفتاة إذا زلت في هذه البيئات خرجت من كل عنان؛ لأن المنزلة الوسطى بين الحجاب الشديد وبين الجماح المطلق غير موجودة.

ويصح أن يلاحظ مثل هذا في ثورات الأمم التي ريضت على الاتزان والنسق المطرد، فإنها إذا ثارت ثارت بعد بطلان كل حيلة، فليس أصعب من إثارتها إلا أن تكبح ثورتها حين تخرج عن عقالها.

مذاهب السياسة

من الطبيعي أن تكثر مذاهب المفكرين في الحكم وآداب السياسة بين الأمة الصينية؛ لأنها قديمة العهد بالحكومة، قديمة العهد بالأساتذة والمفكرين، حتى أوشك هؤلاء أن يكونوا طبقة كبيرة تقابل طبقة الولاة الإقطاعيين في سائر الأمم.

وقد كثرت فعلا هذه المذاهب حتى اجتمع منها النقيضان في وقت واحد.

فكان من فلاسفتهم أتباع الطريق أو الناموس من ينكر ضرورة الحكم ويقول: إن القانون يخلق المجرم، وإن الخلاص من واضعي الشرائع أول واجب على الناس، فإذا لم تكن شريعة لم يكن مجرمون، ويتعلم الناس مع الزمن أن اقتناء الأموال مجلبة للنزاع والخصومة والإجرام فلا يقتني أحدهم ما ليس في حاجة إليه.

ويقابل هذا المذهب مذهب الفلاسفة المعروفين بالشرائعيين، وخلاصته أن الشريعة ضرورة لا غنى عنها، وإن صلح الحاكم وحسنت نيته؛ لأن لحاكم ينبغي أن يتقيد أمام الناس بقوانينه، وألا يحكم بشخصه بل بالأحكام الموضوعة للراعي والرعية.

وبين المدرستين مدرسة ثالثة لا تنكر التشريع أصلا ولا تستلزمه أصلا، بل تقول إن مهمة المجتمع الكبرى هي تربية أبنائه حتى يجيء الوازع من أنفسهم لا من الأوامر والزواجر، فإن هذه الأوامر والزواجر تعلم الناس كيف يحتالون عليها فيقع في الشرك من هو قليل الحيلة ويفلت منه من هو أقدر على الاحتيال وأحق بالعقاب.

وكان حكيم الصين الأكبر كنفشيوس على رأس القائلين بإسناد الحكم إلى الحكماء.

ولكنه على جلالة قدره وجد من الحكماء أنفسهم من يفند رأيه ويبطل حق الحكيم خاصة في ولاية الأمور، وعلى رأس هؤلاء شانج شن

Shangchun

الذي يقول: «إن الحاكم إذا اختار العقلاء وذوي الدراية لمناصب الدولة فمن دأب هؤلاء أن يستخدموا عقلهم ودرايتهم في موافقته طلبا لمرضاته وحذرا من سخطه، ويفضي الأمر إلى خلل الحكم وشيوع الفوضى.»

ويرد على هؤلاء من يرى أن توضع الشروط أولا للوظيفة والموظف، وأنه على فرض الخطأ في الشروط فإن الشروط التي تخطئ خير من إغفال الشروط كل الإغفال. ويضرب الحكيم كوانتزي

Kwantse

المثل على فضل القانون في جميع الأحوال فيقول: «إنه على الأقل يريح خواطر الرعية، ومثال ذلك أننا إذا قررنا تقسيم الحصص بالاقتراع بين المال والخيل لم تأت الأنصبة على سواء، ولكن الاقتراع يرضي أصحاب الأنصبة؛ لأنه يمنع المحاباة.»

وقد قيل في أصل الحكومة كل ما قاله فقهاء الغرب في القرون الأخيرة مع اختلاف الأساليب، فمن حكماء الصين من يجعل الحكومة ضرورة لانطباع الناس على النزاع والعدوان، ومنهم من يجعلها ضرورة؛ لأنها تتفرغ لعمل لا تتفرغ له الرعية كلها، ويكاد الحكماء أن يتفقوا على أن مصلحة الرعية هي أساس الحق في الحكم، وشعارهم جميعا قول كنفشيوس: إن السماء تقول ما الشعب قائل وتسمع ما الشعب سامع، وإن خلع الحاكم علامة على رجعة السماء في تفويضها.

ولا يشذ عن هذا الرأي من يقول: إن الأرض لابن السماء، فإنهم يحسبونها ملكا له باعتباره مسئولا عن مصالح الرعية، ويقولون: إن تحصيل الضريبة لا يحق للحاكم ما لم تكن جزاء على عمل نافع لمن يؤديها.

إلا أن هذه المذاهب على قدمها وكثرتها لا تعدو مباحث النظر ومساجلات المفكرين ودروس المعلمين، فلم يكن لها أثر في إقامة دولة وإسقاط دولة، وانحصرت فائدتها في تثقيف بعض الولاة والملوك، فمن كان منهم مطلعا على آراء الحكماء عمل بما يروقه من آرائهم، ومن وكل منهم الرأي إلى الوزراء من الأساتذة والمؤدبين، فالناس منتفعون بحكمة وزرائه كلما اقتدروا على العمل بحكمتهم، ولم يحدث قط أن الدولة قامت لتطبيق مبدأ أو سقطت لمعارضة مبدأ، وإنما تأتي الفائدة وفقا لما يستحسنه الملوك والوزراء.

وهناك تجارب سياسية أو إدارية تولدت في الصين من اجتماع ظروف فيها لم تجتمع على هذا المنوال في غيرها.

ومن هذه التجارب القضاء على أمراء الإقطاع بعد نظام الإقطاع الذي أسسه شو كنج ووضع فيه كل ما يمكن من الأقسام، ومنها إقطاع المدن الذي عرف باسم تيين وإقطاع الإمارات أو الدوقيات الذي عرف باسم هو، وإقطاع الحكومات القديمة التي حفظ لها حقها في بلادها إلى حين، وكانت تعرف باسم «وي» وإقطاع الحدود الذي كانت مهمته حراسة حدود الدولة وكان يعرف باسم هوانج.

وقد كان هذا التقسيم على غاية من النفع في بداءته وظل كذلك عدة قرون؛ إذ عملت كل ولاية على تمدين القبائل الهمجية فيها بنشر المعارف الزراعية والعادات التجارية بين أهلها، ثم ضعفت الحكومة المركزية فضعفت رقابتها على الأطراف القاصية، وجاءت الأسرة التالية فبطشت بأمراء الإقطاع كافة واستبدلت بهم حكاما توسمت فيهم الكفاية والأمانة، ثم وضعت نظام الولاية بالامتحان، ورشحت كل من أنس في نفسه القدرة على أداء الامتحان المطلوب، وساعدها على ذلك أن الصينيين يقدسون الأسلاف ويتوجسون من الجندية، ولو أنهم استطاعوا لقصروا الولاية على الآباء والشيوخ المحنكين، فإذا كان الآباء لا يؤخذون بالاختبار والامتحان، فالبديل منهم ذوو الحنكة والدراية الذين يثبتون خبرتهم بالاختبار، أو الامتحان.

هذه الضريبة قضت على الإقطاعيين باعتبارهم طبقة تجمعها جامعة واحدة وتنتقل سيادتها بالوراثة، فمن ارتفع بعد ذلك إلى مكان الولاية واستولى على ضيعة أو إقليم فإنما هو فرد لا تضمه إلى غيره طبقة متساندة، وقد يخلفه وال من عامة الشعب لا عصبية له ولا مزية له على العامة غير درايته واحترام الرعية لعلمه وفهمه.

واختفى مع الإقطاع، نظام آخر لازمه قديما في غير الصينية، وهو نظام الرق، واستعباد المغلوبين بالمئات والألوف، وأعان على اختفاء الرق أن الحاجة إليه غير لازمة مع وفرة الأيدي العاملة وتقسيم الأرض الزراعية بين أقرباء الدم والمصاهرة.

ومن ظروف الصين التي خصت بها على نطاق واسع، أنهم اختبروا الملكية المشتركة من أقدم العصور، ولبثت بقية منها متخلفة إلى زمن قريب.

فالأرض كانت ملك القبيلة على المشاع، ثم تكاثرت القبائل فأصبحت ملكا للدولة، وأصبحت للدولة حصة من المحصول تتسلمها عينا وتقدرها على حسب المسافة بين العاصمة والأرض المزروعة، فالأرض البعيدة، ترسل المحصول حبوبا، والمتوسطة ترسل الحبوب في السنابل، والقريبة ترسل الحصيد كله، ويتفاوت المقدار في كل حصة، للتسوية بين الضرائب في جميع الجهات، ومن هنا تكفلت دواوين الحكومة قديما بضروب من التجارة والتوزيع، لتصريف المحصولات التي تجبيها.

وحلت الأسرة محل القبيلة زمنا في الملكية الزراعية، ثم تقسمت الأنصبة فتاتا يصغر شيئا فشيئا، ويحتاج مالكه إلى استئجار الأرض من غير ملكه؛ أي من الوالي الذي ينوب عن الدولة في الإقليم.

وكانت في كل إقليم - خلال هذه العصور جميعا - أرض شائعة يتطوع الفلاحون لخدمتها، وهي الأرض الموقوفة على هيكل السلف الأكبر في ذلك الإقليم، فمن غلة هذه الأرض ينفقون على بناء الهيكل وترميمه وخدمته وإقامة محافله، ويعمل الفلاحون فيه بدعوة من الكاهن والوالي أو بالتفاهم على المناوبة، ولا يتقاضون أجرا من أحد. •••

وتنتهي بنا ظروف الصين الخاصة بها والمشتركة بينها وبين غيرها، إلى نتيجتين:

النتيجة الأولى:

أن تجاربها الماضية تجعلها بابا مفتوحا لكل تجربة محتملة، تدخلها غريبة وتصطبغ فيها بصبغتها الوطنية؛ إذ لم يكن من طبيعة الأنظمة الحكومية التي سبقت فيها أن تغلق الباب على نظام جديد يطرأ عليها.

والنتيجة الثانية:

أن أحداثها السياسة تحسب من قبيل التغييرات المتشابهة، ولا تحسب من قبيل التطورات المتجددة، فإن أسرتها الأخيرة نسخة من أسرها الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، ومحور التغيير فيها قوة الأسرة وضعفها، فإذا كانت الأسرة وطنية، تربصت بها القبائل الساطية غرة الضعف والغفلة فانقضت عليها واغتصبت منها عرشها، ثم تضعف هذه الأسرة الأجنبية وتعتريها الغفلة مع الزمن؛ فتسقطها أسرة وطنية أخرى أو غارة جديدة من القبائل الضاربة حول بلاد الحضارة، فليس في هذه التغييرات تطور لنظام الحكم على مبدأ جديد.

وكل ما أثر عن الحكماء من المذاهب والنصائح فإنما هو من الوصايا التي تساق إلى كل حاكم على كل نظام من أنظمة الحكم الملكي أو الجمهوري أو الفردي المستبد أو الشوري النيابي، أو ما شئت من الأنظمة العتيقة والمبتكرة. فما من حاكم إلا يجوز أن يقال له: إن العدل خير من الظلم، وإن الكفاية، أولى بالاختيار من الحظوة الشخصية، وإن القوانين عصمة الملك ورضى الرعية، وما لم يكن هنالك برنامج مفصل يصلح لنوع من الحكومات ولا يصلح لنوع آخر، فلا محل للانقلاب من جراء تلك المذاهب التي يسلمها من يسلمها، أو يناقشها من يخالفها مناقشة النظر والدراسة.

ومرجع النقص في عوامل التطور هنا إلى سببين على الأرجح: أولهما العزلة عن العالم، وأحداثه الفعالة بين الأمم القريبة والبعيدة، وثانيهما العزلة الداخلية، ونعني بها عزلة الحكومة المركزية عن الأطراف القاصية وعن مباشرة التفصيلات في أدنى الولايات وأقصاها على السواء.

فالبلاد التي تشرف فيها الحكومة على تفصيلات الحكم في كل إقليم من أقاليمها يتطور نظامها الحكومي عند كل تطور عظيم يطرأ على المجتمع؛ لأن الحكومة فيها هي كل شيء بالنسبة إلى الأعمال العامة، فلا مناص من تغيير نظامها كلما تغيرت مطالب المجتمعات التي تتولاها.

وهذه حالة غير حالة البلاد المترامية الأطراف، فإن العلاقة بين أقاليمها وحكومتها المركزية تتراخى فلا تشرف هذه الحكومة على تفصيلات الحكم في الأقاليم، ولا يتحتم انقلابها كلما طرأ على هذه التفصيلات طارئ جديد.

فإذا لم يكن ثمة طارئ جديد فالانقلاب من باب أولى ليس بالحتم المقضي لا محالة، وقد كانت بلاد الصين جميعا بمعزل عن العالم وأحداثه وتغييراته، وكانت مكتفية بنفسها فخورة باكتفائها، فلا تسقط فيها الحكومة المركزية إلا إذا عجزت عن حماية نفسها وتفاقمت مساوئها فخذلها من كان ينصرها.

ودام الحال على ذلك عشرات القرون ...

ثم مرت بالبلاد عشرون سنة بدلت كل شيء غاية التبديل، فلا عزلة عن العالم الخارجي، بل لجاجة في الاتصال واشتباك العلاقات، ولا استغناء عن الحكومة المركزية في كبير الأمور أو صغيرها، بل هي الحكومة التي لا بد من صلاحها أو تغييرها: تغييرها هذه المرة تغيير التطور في النظام وفي جملة السياسة وتفصيلاتها.

وهبت في البلاد ثورات، ولكنها كانت من ثورات التاريخ الماضي، وعلى سنته البالية، فلم تفلح ولم تغير شيئا؛ لأنها هي نفسها أحوج ما كان إلى التغيير.

وانتظرت البلاد ثورة من التاريخ الحديث.

فجاءتها الثورة من تاريخ العصر على يد الرجل الذي سمي بحق أبا الصين الحديثة، وسمي بحق نبي الوطنية في الصين.

أبو الصين

سن ياتسن

نعم، سمي سن ياتسن بحق أبا الصين ونبيها الوطني، وهي لم تعرف نبوة في غير الوطنية.

وكان أبا الصين ونبيها الوطني حقا؛ لأن الصين كانت فريسة لجراثيم اليأس والموت، فنفخ فيها روح الأمل ونقل إليها جراثيم الحياة.

ولم يكن بدعا بين الزعماء، فهناك أعمال عملت له قبل مولده، وهناك أعمال عملت له بعد مولده ولم يطلبها ولم يتعب في تدبيرها.

وهكذا جميع الزعماء في جميع الأمم في جميع العصور.

إلا أن نصيب هذا الرجل في فضل الزعامة كان أعظم من نصيب الزعماء في زمانه، فكتبت له وحده رسالة الزعامة التي لا غنى عنها ولا تجدي موافقات الحوادث شيئا بغيرها.

فمن الصعب أن نفهم كيف كان سن ياتسن يقدر على رسالته لو لم يولد حين ولد، فكانت ولادته قبل ذلك بعشرين سنة، أو بعشر سنين.

ومن الصعب أن نفهم كيف كان يقدر على رسالته لو لم تكن نشأته في الجنوب حيث نشأ، ولو لم يكن تعليمه كما تعلم، ولو لم يكن أخوه الأكبر الذي أشرف على تعليمه بعيدا عن أرض الصين يوم بلغ الصبي سن المدرسة.

ولكن الأصعب من هذا أن نفهم كيف كان رجل غير سن ياتسن مقتدرا على مهمته لو لم تكن له سليقته وعزيمته وبديهته، وخليقة اليقين في وجدانه، وبث اليقين في وجدان الآخرين.

ولد سن ياتسن في نوفمبر (سنة 1866) والناس يتحدثون بثورة التايبنج وأنصار هذه الثورة يلوذون بالجنوب، بعد القضاء على حركتهم واتفاق الدول الصينية والدول الأوروبية على مطاردتهم واستئصال بقاياهم.

وقضي على الحركة يومئذ ولم يقض على جماعاتها السرية التي تغلغلت بين قرى الشمال والجنوب من أقصى الأقاليم الصينية إلى أقصاها.

وكان من الطبيعي أن تلوذ بالجنوب؛ لأن العطف فيه على الحركات الثورية أعظم وأصدق، ولأن الأنصار المؤيدين فيه للأسرة المالكة أقل وأضعف.

ففتح سن وين

1

الصغير أذنيه على أخبار الثورة، وفتح عينيه خفية على تنظيماتها ولجانها، وقاده تطلع الطفولة قسرا إلى استبطان أسرارها واستقصاء أحوالها وتواريخها.

وليس أقدم من تواريخ الجماعات السرية في البلاد الصينية، ففي أيام أسرة هان قبل عشرين قرنا كانت جماعة «الحواجب الحمر» قوة مرهوبة في الحرب الأهلية، وسميت كذلك؛ لأن صبغ الحاجبين باللون الأحمر كان علامة بينهم حين يتعرف بعضهم إلى بعض في غير بلد غريب.

وأشهر هذه الجماعات في العصور الوسطى - جماعة الزنبقة البيضاء - نشأت على أيام الأسرة المغولية، وعادت إلى الظهور على أواخر أيام أسرة «منج» الوطنية فاجتاحت الأقاليم الجنوبية وخمدت ثورتها بعد أن قتل عشرون ألفا من أعضائها.

وفي القرن التاسع عشر تجددت هذه الجماعة ونشأت إلى جانبها جماعة الثالوث، إشارة إلى السماء والأرض والإنسان، وجماعة «كولاوهوي» أي: الإخوة الكبار، وكانت تعيث في جوانب الأرض انتقاما من الأسرة المالكة وإزعاجا لها، ولكنها لم تكن ذات برنامج سياسي أو خطة مرسومة لولاية الحكم بعد سقوط الأسرة الحاكمة، ومن لجانها طائفة كبيرة ناصرت الحركة الوطنية بعد إعلان الجمهورية.

ولم ينقطع تأليف هذه الجماعات بعد انهزام جماعة التايبنج، فنشأت جماعة الملاكمين، ونشأت بعدها جماعة الحواجب الحمر، ونشأت هنا وهناك جماعات إقليمية للدفاع أو للهجوم، ولكنها كررت أخطاء التايبنج ولم تعتبر بدروسها.

فنشأ سن ياتسن في صباه وهو يحلم بتأليف جماعة من هذه الجماعات ... ولو لم تكن هذه الجماعات وأمثالها حلم طفولة لقد كان الأحرى بإخفاقها أن يثنيه عن محاولاتها وجرائرها. •••

وكان مولده في قرية سيانجشان بإقليم كوانتنج، وقيل: إن أباه كان من أعضاء جماعة التايبنج المسيحيين الذين يؤمنون بمذهب زعيم الجماعة في المسيحية، ومنه ادعاؤه أنه أخ صغير للسيد المسيح، وقيل غير ذلك إنه كان من أعضاء الجماعة ولم يؤمن بنحلتها الدينية.

وكان مولد سن ياتسن في الجنوب ترشيحا آخر للمطالبة بالحرية؛ إذ كان الجنوب يعادي الأسرة المالكة التي كان فريق من أهل الشمال يتعصبون لها، لمجيئها من الشمال ومقام ذويها وأتباعها في عواصمه وقراه، وإذ كان الجنوب أقرب إلى الحرية والحضارة الحديثة وأكثر اختلاطا بأمم العالم واطلاعا على شئونها، إما بمعاملة الوافدين إلى الموانئ الجنوبية وإما بالرحلة إلى الديار الخارجية.

ونحن نستصغر اليوم أثر هذه النشأة في مستقبل طفل صغير؛ لأننا نتوهم حالة الصين يومئذ كأنها حالة عصرية يطلع فيها القارئ على أخبار الصحف والإذاعة حيث كان، ولكننا نصحح هذا الوهم في أخلادنا متى ذكرنا أن الصحافة لم يكن لها وجود بين الشماليين، وأن الاطلاع هناك على أخبار الخارج ممتنع بغير حاجة إلى مانع من الحكومة، وهذا هو الفارق البعيد بين اطلاع الناشئ في الجنوب على شئون العالم وبين اطلاع أبناء الشمال على تلك الشئون، وحسبنا أن نراجع تواريخ هون سيوتسوان زعيم التايبنج، وكانج يووي زعيم النهضة الأدبية، وليانج شيكاو زعيم المدرسة الدستورية الملكية، وأن نراجع تراجم تلاميذهم العاملين، لنذكر معنى النشأة الجنوبية في ذلك الجيل.

وقد لاحظ المؤرخ جرين صاحب كتاب «قصة ثورة الصين» أن التنافس بين الشمال والجنوب ظاهرة مألوفة بين أمم كثيرة شرقية أو غربية ... فهو مألوف بين أبناء الشمال والجنوب في الولايات المتحدة، ومألوف بينهم في إيطاليا، ومألوف بينهم في بروسيا وألمانيا الجنوبية، ويحدث هذا التنافس تارة لأسباب عنصرية وتارة لأسباب سياسية أو اقتصادية، كما يحدث أحيانا لمجرد الولع بالمفاخرة وميل الإنسان عادة إلى تفضيل مكانه وعشيرته وجيرته وكل منسوب إليه على حسب درجاته من القربى. •••

ومن تمام الموافقة في نشأة سن ياتسن، بعد مولده في الجنوب، وعلى أعقاب ثورة التايبنج، أن تعليمه المدرسي كان تعليما عصريا رشحه لقيادة الجيل المعاصر من نابتة المدرسة الحديثة من خريجي الغرب واليابان والمعاهد الصينية المترقية.

كان والده فلاحا وأخوه تاجرا من أصحاب المعاملات في الخارج، فدرج وهو يعرف متاعب الفلاح الصيني ومتاعب التجارة الصينية أمام المزاحمة الأجنبية مستغنيا بالمشاهدة عن التعليم، وأراد أبوه وأخوه أن يعداه لحياة غير حياة الزراعة والتجارة، وكان أخوه يتجر في هنولولو فطلب إلى أبيه أن يرسله إليه تخفيفا عن الأسرة وتمكينا للصبي الصغير من تعليم أصح وأوفى من التعليم الذي يتهيأ لمثله في بلاده، فوصل إلى هنولولو وهو يناهز الثالثة عشرة وانتظم بمدرسة حديثة يديرها الآباء الإنجيليون، وقضى ثلاث سنوات قيل: إنه اطلع خلالها على بعض الكتب المسيحية فمال إليها وأبلغ أخاه رغبته في التنصر، فبادر هذا وأعاده إلى بلده ولم يشأ أن يتسلمه من أبيه على دين أجداده وأن يعيده إليه وقد صبأ إلى دين آخر، إلا أن الصبي كان شديد المراس من صغره وكان أساتذته يشكون من عناده ويعاقبونه على مخالفاته، فلم يكن جنوحه إلى المسيحية بتلقينهم وتشجيعهم، بل بمحض مشيئته واعتقاده، فلما قفل إلى قريته أصر على عقيدته وتعمد الجهر بمخالفة العقيدة الموروثة عسى أن يقصيه أبوه عن القرية إلى مدينة يتمم فيها دروسه على المناهج العصرية.

فهجر القرية فعلا إلى كانتون ورآه هناك طبيب من أعضاء البعثة البروتستانتية الأمريكية فنصح له بدراسة الطب، وأرسله إلى هونج كونج ليتعلم الطب في مدرستها الكلية، فتخرج منها سنة 1892، وانتقل إلى مكاو وهي تابعة للحكومة البرتغالية، لمزاولة الصناعة فيها، فلم تمهله حكومتها أن أمرته بمغادرتها متذرعة بما اتصل بها عن نشاطه السياسي، وكارهة في الواقع أن تفتح على أطبائها باب المنافسة من طبيب صيني متخرج من مدرسة إنجيلية، ولم يلبث بعد أن عاد إلى كانتون أن ابتدأ دعوة الإصلاح بعريضة مفصلة اقترح فيها على حكومة بكين تعميم المدارس الزراعية على النمط الحديث، فطوت الحكومة هذه العريضة ولم يكسب منها الفتى المصلح إلا أنهم أضافوا اسمه إلى السجل الأسود، وفرضوا الرقابة على حركاته وعلاقاته. •••

هذه الموافقات المتجمعة من مولده ونشأته وتعليمه لم تكن من عمله ولا تحسب له من جهوده.

ولكنها موافقات يشاركه فيها مئات الناشئين في تلك الفترة، كلهم من أهل الجنوب، وكلهم من أبناء الشطر الأخير من القرن التاسع عشر، وكلهم متعلمون في المدارس الحديثة.

وقد سألنا في أول هذا الفصل: ترى ماذا كان في استطاعة سن ياتسن أن يصنعه لو أنه ولد قبل مولده بعشرين سنة، أو قضى شبابه في قرى الصين المنعزلة بين شمالها ومغربها، أو تعلم على الطريقة التقليدية التي لا تؤهله لقيادة دعوة يتصدى لها المثقفون وذوو الآراء المتجددة؟

ومن يسأل هذه الأسئلة خليق أن يسأل معها: ترى ماذا كان في وسع زعيم غير ياتسن أن يصنع في قيادة تلك الدعوة إن لم يكن له صفاته ومزاياه؟

لا شيء! ولو كان في وسع أحد غيره أن يغلبه على القيادة لغلبه عليها في مبدأ الأمر على الخصوص، قبل أن يضفي عليه النجاح سرابيل الهيبة والقداسة.

إن المزية الكبرى التي وهبها سن ياتسن ليست من المزايا التي توهب لكل إنسان.

وتلك المزية هي القدرة البالغة على التأثير والإقناع طواعية بغير كلفة أو هي بعبارة أوضح وأصدق أنه كان يملك الثقة ويعطيها، وهي خصلة واحدة تجتمع فيها خصال شتى، يصعب إحصاؤها، بل يصعب إدراكها بارزة على وجه الأمور.

كان في شبابه يراجع بعض الكتب بالمتحف البريطاني فالتقى بفئة من الثوار الروس - منهم ششرين - ولعل منهم لينين - وسألهم عن غاية رجائهم من جهادهم ... ثم قال لهم: إنه يرجو أن تحقق الثورة الصينية غايتها خلال ثلاثين سنة ... فتهافت الروس متعجبين: أفي ثلاثين سنة تحقق غايتك؟ لو تحققت غاية ثورتنا بعد مائة سنة لكان هذا قصارى ما نتمناه، وها نحن أولاء نجاهد من الآن!

قال جرين صاحب كتاب قصة ثورة الصين - وليس هو من الأسخياء بالثناء عليه: «إن شخصية سن ياتسن لا تجحد، وهو أطول من عامة أهل الصين، يوحي إليك منظره قوة الكيان ... ويلقي في روعك أنك أمام رجل لديه ذخيرة من القدرة غير التي تلمحها عليه لأول نظرة؛ أهي قدرة الخلق أو العزيمة أو المغناطيسية لا تدري، ولكنها ولا شك هي القدرة التي أتاحت له أن يلعب بالجماهير من أبناء وطنه كما يشاء.»

ومن الكتاب الذين لا يسخون بالثناء عليه كذلك لاتوريت

Latowrette

صاحب كتاب «الصينيين: تاريخهم وثقافتهم» وقد وصفه فقال: «إنه كان داعية ناجحا جد النجاح، وكان مثاليا على خلاف طلاب المغانم من زعماء عصره العسكريين، وكان مع اطلاعه الواسع على ثقافة الغرب والصين خبيرا بالمجتمع فيلسوفا في المسائل الاجتماعية، يحلم بالطوبى على المثال الأوفى، وآراؤه التي يقترحها لتجديد بلاده لا تخلو من الإغراب وما لا يصلح للتطبيق، ولكنها لا تخلو كذلك من نفحة العبقرية، وللرجل خاصة تجذب إليه الآخرين لم يوجد من يضارعه في سلطانه على خيال الناشئة من قومه، وله قدرة خارقة على الإيحاء وتنظيم الحركة الثورية، أما الإدارة الحكومية فقد كان فيها بين الإخفاق.»

ولا بد أن قدرته على التأثير والإقناع كانت تفوق المشهور حتى عن زملائه من أصحاب السلطان على أتباعهم ومريديهم، فلم يكن تأثيره وإقناعه مقصورين على الجموع الذين يتأثرون أحيانا بتنبيه غرائز الجماهير فيهم، بل بلغ من سلطانه على الآحاد ما يشبه التنويم والسحر المزعوم، واتفق غير مرة أنه استخفى من مطارديه وأن الحكومة جعلت على رأسه مكافأة مغرية لمن يأتي به حيا أو ميتا أو يدل عليه، وعرفه بعضهم أثناء استخفائه فاستطاع بحسن بيانه وقوة سلطانه أن يثنيهم عن تسليمه ويحولهم إلى تأييده والاجتهاد في إخفائه.

وكثيرا ما تسرب اليأس إلى خاصة أعوانه من الذين يعتمد عليهم في إحياء الآمال وانبعاث العزائم، وكان لهم العذر من يأسهم لتوالي الهزائم عليهم، وكثرة الضحايا من إخوانهم، وقلة المال في أيديهم، وتقاعد العامة والخاصة عن معونتهم أو ارتدادهم عليهم طمعا في مثوبة الحكومة وخوفا من عقابها ونشاط جواسيسها، فما هو إلا أن يسمع بطائفة من هؤلاء غلبهم اليأس وخانتهم العزيمة حتى يلقاهم ساعة أو بعض ساعة، فيخرجون من عنده إلى المخاطر التي ندبهم لها وقد نسوا ما كانوا يعتلون به قبل ذلك من علل اليأس والانصراف عن الحركة، ومنها ما هو حاضر أمام أعينهم لا تسهل المماراة فيه بأخاديع النفوس.

وأسعفته هذه الملكة الخارقة حين استدرجه عمال الأسرة المالكة في سفارة الصين بلندن، فأوقعوه في كمين نصبوه له باسم الوطنية وجلب الأعوان إلى الحركة، فلولا إقناعه لأحد الحراس بإبلاغ رسالة منه إلى أصدقائه لحملته السفارة إلى بكين حيث ينتظره العذاب والتنكيل.

هذه الملكة الخارقة قد اتفق عليها مؤرخوه وناقدوه، وإنما اختلفوا في ملكته الإدارية وذهبوا في اختلافهم إلى الطرفين المتقابلين: فريق يرفعه فيها إلى ذروتها ويحسبها من مزاياه التي يخصها بالتنويه، وفريق يجرده منها كل التجريد.

ولعل شهادة لينين هنا من الشهادات التي لا تهمل؛ لأنه خبير بالرجال، وليس من دأبه السخاء بالثناء على أي إنسان.

قال: «إن سن ياتسن تعم أفكاره روح ديمقراطية مناضلة ولا يبدو عليه أثر من العي السياسي وقلة الاكتراث للحرية ولا هو يقبل القول بأن الحكم المطلق كفؤ لإنجاز مطالب الإصلاح الاجتماعي في الصين ...»

ولا نظن أن النقاد الذين أنكروا عليه القدرة الإدارية سألوا أنفسهم عن المهمة التي فرضوا عليه النجاح فيها، أو عن الرجل الذي كان خليقا أن ينجح حيث أخفق، وأن يعمل شيئا أكبر من عمله وأبقى.

فقد كان المطلوب خلق إدارة جديدة على أنقاض الإدارة البالية، وكان عليه أن يعمل بالأيدي القديمة قبل تدريب من يخلفها، وأن يحسب حساب الخيانة والإحباط المتعمد، كما كان عليه أن يحسب حساب الجهل والمخالفة بين أقرب المقربين إليه، وقد اعترضته الحرب العالمية بعد قيام الجمهورية بنحو ثلاث سنوات، وسبقتها دسائس اليابان ومناوشاتها، وهي عوارض خليقة أن توقع الخلل والاضطراب في إدارة الحكومات التي طال عليها العهد بالاستقرار والطمأنينة، فكيف بالإدارة الحكومية بين قديم عاجز متهم، وجديد عاجز لا يطمأن إليه وإن سلم من الاتهام؟

إن العمل بعد إعلان الجمهورية كان أعسر جدا وأثقل جدا من العمل قبل إعلانها، وكلاهما عمل جبارين لا يقوى عليه غير أولي العزم والقوة.

وكفى دليلا على شيء منه، ولا نقول عليه كله، أن سن ياتسن كان يلام على الهوادة مع الشيوعية وعلى التشدد معها في وقت واحد.

ففي سنة 1922 - أي بعد إعلان الجمهورية بعشر سنوات - رميت دار الزعيم بالقذائف وقاد الثورة عليه رجل من الجمهوريين اعتقد أن الزعيم يمالئ الشيوعيين، وكان الزعيم يومئذ يقنع أدولف جوف مندوب الروس بكتابة البيان الذي يقرر فيه أن الشيوعية لا تصلح للصين في ذلك الحين، فنجا من داره بأعجوبة وعاش شهرين غاديا رائحا على متن زورق صغير.

وفي هذه الفترة يتهمه المتطرفون بالتخلف والرجعية ويطلبون منه أن يلغي مبادئ الوطنية والسيادة ليقبل بجملته على الشيوعية، وتتمادى الحملة عليه من المتطرفين حتى يواجهوه باتهام مكتوب يجيب عليه كتابة كأنه يؤدي الحساب أمام القضاء، فلا يأنف أن يجيبهم ويقول في جوابه: «إن دعوى القائلين بتخلف مبادئنا إنما يبعثها فرط التعصب أو التعبد للثورة الروسية من جانب الطلاب الناشئين.»

وقد مضت بين إعلان الجمهورية وإعلان الحرب العالمية سنوات لا تحسب من عمله؛ لأن رئيس الجمهورية يوان شي كاي بيت النية على قلب الجمهورية وإعادة الملكية وتنصيب نفسه على عرش الصين عاهلا جديدا باسم ابن السماء، وأوشك أن يبطش بسن ياتسن لولا يقظة هذا وإسراعه إلى مغادرة البلاد والإقامة باليابان مهددا فيها بالتسليم؛ لأن ابن السماء المنتظر كان يترضى اليابان ويتقبل مطالبها لتنصره على خصومه الجمهوريين.

ونحن حين نكتب سيرة رجل عظيم نذكر على الدوام أن أحوج الناس إلى الإنصاف هم العظماء المظلومون، فما من عظيم إلا وهو مظلوم على عمد وروية وعلى غير عمد وروية: يتعمد ظلمه أعداء موتورون ضيع عليهم نعم الرفعة والمجد والشهرة، ويتعمد ظلمه صغار محنقون يتعوضون من شعورهم بالنقص أنهم ينصبون الميزان للعظماء ويعيبون هذا أو يتكرمون بالثناء على ذلك، ويظلمهم على غير عمد جهلاء لا يفقهون ما تتطلبه الأعمال الكبار وما يعترض تلك الأعمال من العقبات والأخطار.

ولا نكتم القارئ أننا نكتب سير الأفذاذ العاملين لتعظم عظمتهم ونلتمس مواطن العذر لهم في تقصيرهم، وشعارنا أن معرفة المزايا أعسر من معرفة النقائص، وأن الإنسانية فيها الكثير من النكرات والصغار فلا حاجة بها إلى زيادة عليهم، وإنما حاجتها الكبرى أن تعطي العظمة حقها ... فما كانت العظمة لتضيع ويبقى بين الناس حق لإنسان.

وسيرة أبي الصين مثل من أمثلة عدة للفضائل التي تحتاج إلى تقدير وتقويم، والأعذار التي تحتاج إلى إيضاح وتذكير.

من سنة 1892 إلى سنة 1911

في كل مسألة من مسائل العالم الكبرى شيء لم يقع في التقدير.

ومن الصواب إذن أن نحسب للمجهول حسابه في كل مسألة من هذه المسائل الكبرى، فليس من اللعب بالألفاظ أن يقال: إن المجهول في هذه المسائل عامل ثابت لا يمكن تجاهله؛ لأن التاريخ لم يسطر لنا قط تدبيرا عظيما لم يعرض له طارئ مجهول. فهو عامل صحيح كالعامل الذي نقدره وندبره ونحسب حسابه قبل وقوعه، وإنما الفارق بينهما أن المجهول قد يأتي معجلا كما يأتي معوقا أو معطلا، وليس في طاقة الإنسان أن يثق من إحدى الحالتين قبل وقوعها، وإن كان في طاقته أن يحتملها ويرجحها ويدخلها في حسابه على هذا الاعتبار: أي على اعتبار التعجيل واعتبار التعويق والتعطيل.

وسنعنى في هذه السيرة بالإشارة إلى موقع هذه المجاهيل أو هذه المصادفات؛ لأن إهمالها يخل بكل حساب صحيح.

كان الثوار من الشبان الروس يقدرون لنجاح ثورتهم مائة سنة، وكانوا يحسبون زميلهم الصيني مبالغا في التفاؤل حين قال لهم: إنه يرجو أن يحقق غرض الثورة الصينية خلال ثلاثين سنة، وكان هو يقول - وإن لم يعلن ذلك قبل نجاح الثورة - إنه لم يقدر سقوط الأسرة المالكة في حياته، وإنه بقي إلى سنة 1905 يتحاشى ذكر الثورة في الجماعات التي يؤلفها، ويسمي هذه الجماعات باسم الرابطة المتحدة.

ثم دارت الأيام دورتها فلم تأت سنة 1917 حتى كانت القيصرية هاوية، وكانت الثورة قابضة على مقاليد السلطان في عاصمة القياصرة؛ أي قبل انقضاء عشرين سنة من المائة التي قدروها؛ لأن هزيمة روسيا في الحرب العالمية كانت هي «المجهول» الذي طرأ ولم يكن له حساب، فعجل بنهاية العهد القديم ودفع بطليعة العهد الجديد ثمانين سنة إلى الأمام.

أما سن ياتسن فقد ظهر أنه بالغ في إطالة السنين ولم يبالغ في تقصيرها، فلم تنقض عشرون سنة على ابتداء دعوته حتى ذهبت الأسرة المالكة إلى غير رجعة، وكان يحسب أنه إذا سمى الحركة ثورة في سنة 1905 صدم أسماع المدعوين إلى تأييدها، فلم تمض ست سنوات حتى كانت حكومة الثورة الصينية حقيقة يتسامع بها المشرقان والمغربان.

لقد كان يعتقد أن الأسباب مقنعة له ولأمثاله من ذوي البصر والعزيمة، وأن جماهير الشعب لاحقة به وبهم بعد زمن طويل، وأن غاية ما في وسعه أن يصنعه لتعجيل اليوم المنظور أن يثير النفوس بالهجمة بعد الهجمة والمجازفة بعد المجازفة، فتكفلت الحوادث بمعونته من حيث لا يحتسب، بل تكفلت أسرة المانشو نفسها بمعونته من حيث تحسب أنها تحمي عرشها وتوطد أركانها؛ قبلت الهزائم وهي تظن أن السلامة في التسليم، وأثارت ثورة الملاكمين فضربتها الثورة في صدرها، وذهبت تلم شعثها وتجمع المغارم المفروضة عليها، فثقل محملها على الكواهل، وسقطت حين ضعفت هذه الكواهل الهزيلة عن حملها؛ أسقطها الضعفاء يوم عجزوا عن القيام بها، ولولا ذلك لما قوي على إسقاطها العصبة الأشداء.

بدأ سن ياتسن دعوته بعد أن تخرج من الكلية الطبية وتفرغ للدعوة السياسية في السادسة والعشرين من عمره.

وقد بدأها في الواقع قبل ذلك بسبع سنوات على أثر الهزيمة التي منيت بها جيوش الدولة العتيقة أمام فرنسا سنة 1885.

إلا أن دعوته لم تجاوز يومئذ أصحابه وزملاءه، ولم تكن عدتهم أولا تزيد على أصابع اليد الواحدة، ثم ازدادوا سنة بعد سنة، وجاءته الزيادة من البلاد التي احتلها الأجانب أو البلاد التي وصل إليها الصينيون الذين ضاقوا بالعيشة في وطنهم فهجروه إلى البلاد الآسيوية.

نعمة من نقمة ... فقد كانت تلك الأقاليم المحتلة أصلح لإيواء الثائرين وتنظيم حركتهم من الأقاليم التي بقيت في ظل عرش ابن السماء.

وراح يجمع المال من الجاليات الصينية وينفقه على شراء السلاح، وتأتى له في حملة واحدة أن يدس إلى داخل البلاد خمسمائة مسدس لتسليح أنصاره وابتداء الثورة بالشغب والمناوشة، فتنبهت إليه جواسيس الحكومة وقبضت على طائفة من أصدقائه قتلتهم بعد محاكمة سريعة، وأعملت التنكيل والتشريد في بقيتهم آخذة بالشبهة حينا وبغير شبهة في كثير من الأحيان.

وكانت السنوات الخمس من هذه السنة 1895 إلى سنة 1900 كما سماها سنوات انهيار، ثم كان بناء الحركة من جديد بعد ثورة الملاكمين، وكان في هذه المرة ينظم جيشا مسلحا ولا يقنع بتأليف اللجان والجماعات، واستعان على تنظيم الجيش بضباط من اليابان وآحاد هنا وهناك من الأوروبيين المغامرين، واستعان على النفقة الكبيرة بجمع الأموال من الجاليات الصينية في البلاد الآسيوية والأمريكية والأوروبية، وأخذت الهبات من أهل الصين تتوالى عليه غير مقصورة على الجنوبيين أو المقيمين بالأقاليم المحتلة، فانتظم له سنة 1907 جيش في «بنلي» هزم جيش الدولة، وكان وشيكا أن يزحف إلى العاصمة منتصرا لو لم تخذله الحكومة اليابانية الجديدة وتمنع تزويده بالسلاح وتحرم على المتطوعين إمداده بالجند والمال.

وندع لسن ياتسن نفسه تفصيل رحلاته وحركاته فيما ترجمناه من كلامه في الفصل الأخير من هذا الكتاب، ونكتفي بالإشارة المجملة إلى المخاطر التي أفلت منها والمخاطر التي لاحقته إلى ديار الغربة من اليابان إلى أمريكا إلى إنجلترا إلى القارة الأوروبية، وجملتها في كلمات موجزة أن حكومة بكين رصدت ثلاثين ألف جنيه لمن يقتله حيث كان، وأن سفارات الصين لم يكن لها من عمل تتقرب به إلى العرش إلا أن تراقبه وتتعقبه وتنسج الشباك لاصطياده، وتبلغ أخباره وكلماته حرفا حرفا ويوما بعد يوم إلى حكومة بكين ...

إن الرقمين اللذين جعلناهما عنوانا لهذا الفصل يحدان وقت الدعوة العامة إلى الثورة في سيرة سن ياتسن، ولكنهما لا يحدان وقت المخاطرة والمجازفة في تلك السيرة التي اقترن فيها الحساب الدقيق والمصادفة العجيبة أيما اقتران.

فإن الرجل قد استهدف للخطر وهو يافع متهم في قريته بالاجتراء على شعائر قومه، فلم يأمن البقاء فيها وفارقها على عجل إلى كانتون، وقد استهدف للخطر مرات بعد إعلان الجمهورية بسنوات.

وفي جميع هذه المخاطر كان الفضل في نجاته يرجع يوما إلى يقظته، ويوما إلى حيلته، وربما رجع إلى خبرته بالملاكمة التي أغراه بالتدريب عليها شيوع الثورة المعروفة باسم ثورة الملاكمين، وربما رجع الفضل في نجاته إلى قوة تأثيره وقدرته على الإقناع.

غير أن المصادفة وحدها هي التي أنقذته من أكبر أخطاره، وهو خطر الاعتقال في السفارة الصينية بلندن في شهر أكتوبر سنة 1896.

كان يزور واشنطن فنمي إليه أن سفارتها الصينية ترصد الكمائن لاقتناصه، فبرحها إلى لندن باسم مستعار، ولم تمض أيام حتى علمت سفارة لندن بوجوده ونصبت شباكها حوله، وليس أيسر من نصب الشباك حول رجل يريد أن يلقى في العاصمة الإنجليزية كل صيني يتمكن من لقائه، ولا عمل له غير نشر الدعوة بين هؤلاء الصينيين.

وإنه ليسير ذات يوم في طريقه؛ إذ اقترب منه شابان صينيان وسأله أحدهما: أمن اليابان أنت أم من الصين؟ فلما قال له: إنه صيني من كانتون واستمع إلى لهجته الكانتونية أصغى إليه وطفق يسأله عن أحواله وأحوال إخوانه، وخطر له أنها فرصة ملائمة لتأليف لجنة من لجان الدعوة الثورية، فاسترسل مع الشابين حتى بلغا قصرا كبيرا فتح بابه فجأة واندفعت منه شرذمة من الخدم والسعاة جذبوه إلى داخل القصر، وحبسوه في حجرة من حجراته، وتركوه هناك لا يزوره غير خادم يحضر له الطعام وحارس يتفقده من ساعة إلى ساعة، ومضى عليه أحد عشر يوما وهو بهذه الحال يسمع كل يوم إن وقت الفرج قريب!

وأسعفته قدرته على التأثير فاستطاع أن يقنع أحد الحراس بتبليغ رسالة صغيرة إلى صاحب العنوان المكتوب عليها، وهو السير جيمس كانتلي

Cantlie

أستاذه القديم، فبر الحارس بوعده ورمى بالرسالة وراء الباب وطرقه طرقا عنيفا وتوارى في منعطفات الدروب.

ولم يتوان الأستاذ لحظة؛ لأنه يعرف حكومة الصين ويعرف عقابها للثوار ولا يجهل مصير تلميذه إذا ظفر به التنين: دق العظام ورض المفاصل وسمل العينين وصلم الأذنين، ثم الإجهاز على الفريسة إن بقيت فيها بقية للموت.

هرول السير جيمس إلى دار الشحنة

Scotland Yard

واستحثهم للنجدة فلم يزيدوا على إبداء الأسف والاعتذار بحصانة السفارات، وأن أيديهم مغلولة عن التعرض لها بغير طلب من السفارة أو وزارة الخارجية .

فهرول إلى وزارة الخارجية يعد اللحظات خوفا من فوات الوقت وخروج الأمر من يد الوزارة، ولم يلق اهتماما من الموظفين المسئولين لولا صديق له منتدب لبعض دواوينها، فبذل هذا الصديق جهده لإبلاغ المسألة إلى اللورد سالسبوري، وسئلت السفارة فأجابتهم بغير اكتراث: إن الرجل ينقل إلى بلده رحمة به واستجابة لتوسل أهله؛ لأنه مجنون يخشى عليه!

ونجاة سن ياتسن على هذه الصورة ترجع إلى أكثر من مصادفة واحدة أو مصادفتين.

فمن المصادفات أنه اعتقل ولم تكن بالميناء القريب سفينة صينية تأمنها السفارة على سرها، وتطمئن إلى إيداعه خفية بين ركابها، ولو قيضت للسفارة سفينة تتوافر لها شروطها لحملت أسيرها قبل أن يعلم باعتقاله أحد ينفع.

ومن المصادفات وجود السير جيمس بالعاصمة الإنجليزية، وأنه كان على معرفة بالزعيم المعتقل.

ومن المصادفات وجود الموظف الذي يعرفه السير جيمس بوزارة الخارجية، والواقع أن السير جيمس قد شك في نفع وساطته بعدما رأى من مراوغة الموظفين ورجال الشحنة، فنشر الخبر في صحيفة التيمس وتحدث به الصينيون كما تحدث به رجال السلك السياسي، فلم تقدر وزارة الخارجية على معالجة المسألة بالتسويف والمطاولة.

وأصبحت حجرة السفارة الروسية بعد هذا الحادث من الأماكن التاريخية، فهي في الدار الفخمة بميدان بورتلاند، مزار يحج إليه وتقام فيه الصلاة كل سنة يوم ذكرى وفاته، ولولا تلك المصادفات لما بقي لساكنها منذ ذلك اليوم ذكر في الحياة ولا بعد الممات، إلا أن يشهره التنكيل به علانية مع شهداء الثورة يوم يكتب لها النجاح.

ومن الكلمات التي تذكر بهذا السياق أن ما يعمل للحقيقة وما يعمل ضدها يخدمانها على السواء.

وهكذا يقال عن مناصرة القضايا الكبرى ومقاومتها، فإن حكومة بكين لم تكن لتقدم على نصب الشباك لقنيصتها لو علمت عواقبها وما استفاد الرجل منها، فقد سمع باسم سن ياتسن بعد هذا الحادث من لم يكن يسمع به، وتفتحت له مكاتب الصحف والأحزاب ودواوين الحكومات الأوروبية والأمريكية، وتنبه المهتمون بأمر الشرق الأقصى إلى البحث عن مكانته ومبلغ نفوذه، ولو أنه سعى لنفسه ولقضيته جاهدا لأعنته المسعى قبل أن يدرك شيئا مما ساقه إليه الأعداء بغير عناء. •••

وبهذه السمعة التي راحت تضخم يوما بعد يوم حق له أن يخاطب الدوائر السياسية والدوائر الاقتصادية باسم الصين المقبلة، ويحذر المصارف والشركات من معاملة الحكومة القائمة؛ لأنها شبح ميت يوشك أن يطويه الغد القريب. وكانت تحذيراته هذه إحدى العقبات التي أوصدت على حكومة بكين وجوه الحصول على القروض، وهي في أمس الحاجة إليها.

وإذا كان سن ياتسن قد سمى سنوات الفشل الأولى سنوات الانهيار، لقد كان الانهيار في الجانب الآخر أسرع وأخطر؛ إذ كان هدما ليس وراءه بناء، خلافا لهدم الثورة الذي كان وراءه من يقيمه على الأثر، فضلا عن فائدة الثورة من تداعي أركان الحكومة المختلفة، فكل ركن ينهدم من بناء الحكومة هو ركن يرتفع من بناء الثورة.

وأحاطت الحيرة بحكومة بكين من الجهات الأربع، فكل حيلة تحتالها للخلاص تنقلب عليها معولا من معاول الخراب، ويظهر أن هذه الأسر المتداعية سواء في تواريخ جميع الأمم، فهي لا تخشى الخطر إلا من خارجها ولا تتخيل أنها تسقط إلا بهجمة من عدو يواجهها وتستعد له بدفاع يصده، وأما أنها هي تعمل بيدها ما يسقطها فذلك غريب عن خيالها، وهل تعمل دولة على إسقاط نفسها؟ كيف هذا؟ إنه اللغو والمحال في المقال بله الفكر والخيال!

وفي التواريخ العالمية أمثلة شتى على هذه الأسر التي يسلطها عمى البصيرة على نفسها في أواخر أيامها، فتمضي في سباق مع أعدائها على تعجيل زوالها، ويبدو للناظر أنها كانت خليقة أن تبقى بغير حاجة إلى مجهود غير الكف عن مساوئها وحماقاتها، ولكن المشكلة الكبرى أنها لا تستطيع أن تكف عن تلك المساوئ، وآية عجزها هذه هي بعينها آية الفناء، أو هي آية استحقاقها للزوال.

ودارت الحلقة الوبيلة التي دخلت فيها أسرة المانشو ولم تزل تدور وتدور: حاجة إلى المال، فإرهاق للشعب المحروم، فسخط من الشعب، فإلحاح على طلب المال للحراسة ودفع الثورة والتمادي في السرف والترف ... كأنما السرف والترف على وداع.

ولم تكف الضرائب، فزين نصحاء السوء للحكومة المنهومة أن تبيع المرافق العامة عسى أن تتقرب بها إلى الدول، وأن تنفعها تلك الدول عند الحرج حرصا على مرافقها إن لم يكن وفاء للحكومة المهددة، فسلمت فرع سشوان من سكة حديد بكين-كانتون، ولما يفرغ أصحاب الأرض الوطنيون من تعويض تكاليفها وأثمان أسهمها، فهب سكان الإقليم يتناصرون ويتوعدون، وتألفت منهم جماعة باسم حماة السكك الحديدية، وانضم إلى هذه الجماعة ألوف.

وسرت العدوى إلى الإقليم المجاور - إقليم هوبي - فتنبه حاكمها وعثر في بعض المنازل التي فتشها بسجل الأسماء المشتركين في جماعة من أمثال تلك الجماعة، وحدث هذا مساء التاسع من شهر أكتوبر (سنة 1911) فلم يصبح الغد حتى فاجأه الثوار قبل أن يفاجئهم، وعلموا أنه هو الموت المحقق إذا انتظروا، وأنهم بين الموت والحياة إذا ابتدروه، فأقدموا ولم ينتظروه.

وحان أوان المصادفة الأخيرة قبل إعلان الجمهورية، إن كان للمصادفات أوان.

فإن جنود سن ياتسن لم يقدروا للثورة ذلك الموعد، ولم يكن سن ياتسن نفسه بينهم، بل كان في رحلة إلى الغرب لجمع المال والعتاد، ثم انفجرت قذيفة في إحدى الدور بالمنطقة الروسية، وكان انفجارها خطأ غير مقصود، فسرعان ما تسامع بها الناس ودهم الشرطة من الروس تلك الدار وجمعوا كل ما وجدوه من أوراقها، وفيها أسماء الألوف من جنود الزعيم المنبثين في كل مكان.

هي الثورة إذن بغير انتظار.

ومهما يكن من فعل المصادفات في هذه الحوادث الجسام، فقد ظهرت معها مزية التنظيم وحكمة الخطط المرسومة وضرورة الاستعداد للتوجيه والقبض على زمام الحركة حين تأتي الحوادث الجسام بمصادفتها أو بتقديراتها، فلو لم تسبق هذه الحوادث خطة مرسومة للحكم الجديد، تتولاها هيئة معروفة للثائرين، لضاعت الحوادث المتفرقة حادثة بعد حادثة ولم تجمعها وجهة واحدة.

وكم في الواقع من عجب يعيى بمثله الخيال.

لقد كان موليير يمزح بالطبيب على الرغم منه، ويحسبه كما يحسبه النظارة من افتتان الخيال.

فأعجب من طبيب على الرغم منه قائد ثورة على الرغم منه، وذلك هو القائد الصيني «لي يوان هنج» الذي انتزعه الثوار من فراشه ليقودهم، وتوعدوه بالقتل إن لم يذعن لمشيئتهم، فأذعن الرجل على كره منه وقاد الثورة مخلصا للفن العسكري وإن لم يكن مخلصا للثورة، فاستولى بتلك الشراذم على ووشانج وهانكو وهنيان، وهي قلب الصين، ووقفت العاصمة تتردد بين التسليم وبين الاستنجاد بقائدها القديم المغضوب عليه - يوان شي كاي - وليس أقدر منه على تطويع الجنود للدفاع في ذلك المجال.

وعبرة الموقف العظمى هي أن المصادفة عامل يحسب له حسابه في كل قضية خطيرة، ولكنها تضيع عبثا إن لم تجد من كان مستعدا للانتفاع بها وقيادتها قبل ذاك.

فتلك الشراذم من الدهماء قد ألهمت أن تطلب القيادة فانتصرت بها كرة بعد كرة، ولكنها بقيادتها وانتصاراتها كانت ضائعة ولا شك إن لم تسبقها خطة مرسومة يتولى القائد تطبيقها، ولم يكن قائدهم المغضوب عليه يعلم ما يصنع بعد الانتصار.

إنما كان علم هذا عند جماعة سن ياتسن، وباسم هذه الجماعة تنادى الثوار المتفرقون وترقبوا منها أن تتجه بهم إلى وجهتها، وتردد اسم سن ياتسن على كل لسان.

أما قصر ابن السماء فقد كانت له أيضا مصادفاته في هذا المأزق العصيب.

أيسلم للثوار أم يرتمي على أقدام قائده المغضوب عليه!

إن التسليم لثوار الجمهورية خسارة مائة في المائة، وليس في استدعاء يوان شي كاي خسارة أكبر من هذه الخسارة إذا انهزم، وقد ينتصر فيكفر انتصاره عن مذلة استدعائه، وفي الغد متسع لرد هذه المذلة إليه صاعا بصاعين.

وكان يوان شي كاي كما قال المثل: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا ...»

فلم يرفض الدعوة، ولم يقصر في الدفاع، وانتصر في معركة بعد معركة، وبقيت المعركة الأخيرة بينه وبين صاحب الدعوة إلى الجمهورية والصين كلها تتأهب لاستقباله بعد أيام.

أيقضي على الثورة فيسحقها ويسلم مقاد البلاد للوصية الماكرة تنتقم منه لمذلتها واضطرارها ساعة الحرج عليه؟

لم يكن سحق الثورة يسيرا، ولم يكن مأمونا، فلتبق الثورة حية تخيف القصر إلى أجل، وليبق له القول الفصل في النزاع أو المساومة بين الخصمين.

ووقف القائد الداهية على مفترق الطريق.

وأرسل يفاوض الزعيم المقبل، ويتوسط لحقن الدماء، وبدا للعالم بأسره يومئذ أنه واسطة خير وبشير سلام، وبدا للعالم بأسره بعد شهور أنه استبقى العرش لنفسه، وقبل الجمهورية على أن يكون رئيسها الأول، ثم يزيح الزعيم بعد الخلاص من العاهل والوصية، ويخلو له الجو كما يشاء حيث يشاء.

وجاء سن ياتسن فلم يشأ أن يتشبث برئاسة الجمهورية، ولم يشأ أن يضع في الأفواه كلمة الاتهام المعهودة، وما أسرعها وأيسرها على كل لسان في ذلك المقام.

إنه يخرب الوطن، إنه يمزق الوحدة، إنه سعى للرئاسة وعز عليه أن يفقدها، فلا كان ولا كان مسعاه.

وهكذا ولد العهد الجديد في البلد العريق.

وهكذا نجحت ثورة ذلك اليوم: ثورة عشرة عشرة إحدى عشر، كما تسمى إلى الآن؛ أي ثورة اليوم العاشر من الشهر العاشر من السنة الحادية عشرة في القرن العشرين.

ومهما يكن من المصادفات والدسائس والمناورات، فهي بحق ثورة تستحق جهودها وتكاليفها.

وعلامتها الأولى اسمها.

فلأول مرة تقبل الأمة عيدا لا يحسب تاريخه بشهورها العتيقة، وكانت شهورا لا هي بالقمرية ولا بالشمسية، يضاف النسيء إليها على هوى الكتبة والحسبة، أو هوى الخزانة والمحصلين، فتحسب السنة اثني عشر شهرا أو ثلاثة عشر أو أكثر من ذلك أو دون ذلك، ويعاب تبديلها غيرة على كرامة الأسلاف.

ورب عنوان يغني عن تفصيل.

وعنوان (عشرة عشرة إحدى عشر) بعض هذه العناوين.

ثقافته السياسية

كان اتجاه الشاب الصيني إلى تعلم الطب في أواخر القرن التاسع عشر كافيا وحده للدلالة على تحرر عقله من موروثات الدهور بين قومه.

فالقواعد الرياضية التي يعتمد عليها المهندس الصيني علم صحيح سواء عرفه بالخبرة أو اقترنت خبرته فيه بالقواعد النظرية، ولا يبعد أن يمتاز المهندس الصيني على زميله الأوروبي بالمهارة الفنية ولطافة الذوق وحسن استخدام الخشب وما إليه في موضع الحجر والملاط.

والاختلاف في أساليب الزراعة قد يكون اختلافا بين الآلات والأصناف، ويتساوى الفلاحون شرقا وغربا فيما يرجع من تلك الأساليب إلى العقائد والتقاليد.

وليس بدعا في الآداب أن تختلف آداب الأمم على تقاربها في الموقع والزمن وأصول اللغة.

أما الطب فالاختلاف بين حديثه وقديمه يشمل كل اختلاف بين العلم الصحيح وبين السحر والشعوذة.

ومن كان يؤمن بمزية الطب الحديث فقد تقدم شوطا بعيدا في التحرر من القديم والاستعداد للتصرف والتجديد.

وربما أضيفت إلى هذه الدلالة دلالة أخرى ذات شأن في التعريف بصاحب الترجمة، وهي حب الإصلاح والتجرد للخدمة العامة؛ لأن المصلحين الشرقيين قد شاع بينهم بعد منتصف القرن التاسع عشر أن رسالة الإصلاح القومي إن هي إلا رسالة طبية صحية قبل كل شيء؛ إذ كان وباء الهيضة (الكوليرا) يفشو بين الهند والصين واليابان من حقبة إلى حقبة، فلا تنقضي عشر سنوات متواليات دون أن تنكب به أمة من هذه الأمم، ثم يمعن فيها إصابة وفتكا ويذهب كما جاء مجهول الأسباب في الجيئة والذهاب.

وقد دخل سن ياتسن مدرسة الطب وهو يؤلف الجماعات لتجديد الصين وإصلاحها، ويجعل مهمته الكبرى تجديد الصين لا مجرد الاشتغال بالسياسة والحملة على الحكومة.

ولعله لم يتعمد أن يتعلم الطب ليستفيد منه التفكير على الأسس العلمية ... ولكنه - تعمد ذلك أو لم يتعمده - قد استفاد هذا التفكير فعلا وظهرت آثار النظرة العلمية في جميع مباحثه ودراساته، فقد يصيب فيها أو يخطئ، ولكنه لا يزن الأمور بغير الميزان السليم من الوجهة العلمية.

وقد اشتغل بالطب فترة قصيرة بعد تخرجه من المدرسة، ولكنه لم يستطع أن يجمع بين التخصص للطب وبين التنقل لنشر الدعوة وتأليف اللجان وجمع المال واجتناب المطاردين والمقبلين، وشغلته السياسة بدروسها ومطالعاتها كما شغلته بمساعيها وتنظيماتها، فلم يكن ينتقل من بلد إلى بلد إلا بصحبة كتاب أو عدة كتب من مراجع الدساتير وأنظمة الحكم وأخبار الثورات في الأمم المختلفة، حتى وعى من هذه المعلومات ما تضيق به صدور المتخصصين والمتفرغين.

ويدهشنا حقا أن يقال: إن الرجل من الحالمين الخياليين، فإن الحالم الضارب في تيه الخيال تأخذه الدعوة النظرية فلا يميز فيها بين فكرة وفكرة على حسب الواقع في تطبيقاتها وفي مواطنها المتعددة. وهذا هو العيب الذهني الذي لا تتبينه من دراسات الرجل وتعليقاته، فلا تشابه عنده بين نظام واحد في بلدين، ولا بين الكلمة الواحدة في موضعين، ولم يكن ينعى على ببغاوات السياسة في بلده أمرا كهذه الخلة المعيبة، فكانت نصيحته التي لا يمل تكرارها أن الاستقلال في الولايات المتحدة غير الاستقلال في الصين، وأن مبادئ الثورة الفرنسية معقولة في زمانها وبين قومها، ولكنها غير معقولة في زمان آخر ولا بين أقوام آخرين، وأن كارل ماركس لا يمل كل مشكلة ولا يعالج كل مرض، بل استخدم صناعته في التعبير المجازي فقال عنه: إنه طبيب توصيف وليس بطبيب علاج، وإن توصيفه على هذا لا يوافق كل بنية ولا يستغني عن التعقيب والتصحيح.

كان يقول: إن «الحرية والمساواة والإخاء» شعار له معناه عند الثوار الفرنسيين، ولكنه لغو بغير معنى حين يجري على ألسنة ثوار الصين.

فقد كان الفرنسيون يطلبون الديمقراطية في الواقع ويمهدون لها بطلب الحرية والمساواة والإخاء، أما الصين فلا حاجة بها إلى تحرير الفكر من سلطان الحكام؛ لأن الناس فيها يقرءون ما يشاءون ويكتبون ما يشاءون ويعتقدون ما يشاءون، ولا حاجة بها إلى تقرير مبدأ المساواة؛ لأنهم بعد شخص الإمبراطور سواء أمام القانون، وأعظم وزرائهم ورؤسائهم نبغوا من سواد الشعب فلم يكن مولدهم بين أبناء الطبقة الفقيرة حائلا دون ولاية المناصب والتصدي بقيادة الأفكار بالعظات والدروس، ولا حاجة بين الصينيين إلى تقرير مبدأ الإخاء؛ لأنهم آمنوا بوحدة وطنهم وجعلوا حدوده كجدران البيت الواحد تسكنه الأسرة الواحدة، ويقدسون الأسلاف حتى ترتفع إلى السلف الكبير في مجاهل التاريخ.

والفدرالية حسنة في الولايات المتحدة؛ لأن ولاياتها كانت متفرقة فالتمست توحيدها من طريق الفدرالية، فالوحدة الوطنية هي الغرض من هذا الاتحاد، وليس من الحكمة أن نفقد الوحدة في سبيل الفدرالية، بل المصلحة أن نجعل الفدرالية وسيلة إلى الغاية الأولى، وهي توثيق كيان الصين.

وكثيرا ما عاب على المتحذلقين لغطهم بما يسمونه حرب الطبقات وسألهم مرة بعد مرة: أين هي الطبقات؟ وأين هم النبلاء المتوارثون؟ وأين هي الكهانة ودرجاتها الكنسية والاجتماعية التي يسميها الغربيون بالهيرارشية؟

وكان يقول: إن حرب الطبقات عند كارل ماركس أصل من أصول التطور، ولكنها في الحقيقة عارض مرضي يظهر كلما استشرى البلاء وعز التعاون بين أصحاب المصلحة المشتركة، ولو كانت أصلا من أصول التطور لكان أحسن الناس من يعمل لخلقها والحض عليها، فكيف إذا كانت مرضا يمنع كما تمنع الأمراض؟

إن النداء بالديمقراطية أجدى على الصينيين من النداء بالحرية والإخاء والمساواة، فما طلب الغربيون الحرية والإخاء والمساواة إلا لأن الحجر على الأفكار وتفاوت الطبقات كان العقبة الكأداء بينهم وبين الديمقراطية.

ولما وضع مبادئه الثلاثة - وهي مبادئ القومية وسيادة الشعب وتيسير المعيشة - لم تكن بغيته كلمات تقال محاكاة للدعوات التي تهتف بكلماتها وترددها على أسماع جماهيرها، ولكنه توخى من كل كلمة هدفا يلائم الصين ويوافق حاضرها ومستقبلها.

فوضع مبدأ القومية لدفع خطر التقسيم باسم الفدرالية، واتقى به خطر المذاهب التي تسخر الجهلاء لتقويض أوطانهم وبث بذور العداوة بينهم وبين إخوانهم، وتصوير هذه العداوة لهم كأنها بلاء دائم لا تجدي فيه الحيلة ولا تصلحه نظم السياسية ولا الأخلاق.

ووضع مبدأ السيادة الشعبية لإلغاء المعاهدات الأجنبية الجائرة وتخويل الأمة أن تختار موظفيها وتعزلهم، وأن تنكر محل سلطان لا يستمده صاحب السلطان منها بمحض رضاها، وأن تكون السياسة والإدارة والتشريع قائمة كلها على هذا الأساس.

ووضع مبدأ المعيشة الميسرة للجميع؛ لأن اعتبره غاية المذاهب قاطبة في كل زمن، واعتبر الاشتراكية والشيوعية والديمقراطية وسائر مذاهب الاجتماع وسائل عارضة لتلك الغاية الثابتة، وما من مذهب منها يستحق أن يبقى بعد إنجاز مهمته وتحقيق غايته، فما وضعت الاشتراكية أو الشيوعية أو الديمقراطية لذاتها، ولا وضعت لتبقى في كل زمن وكل آونة، ولكنها وضعت لتدبير معيشة الرعية واتباع وسائل مستحدثة لتيسيرها كلما قصرت وسائلها الأولى.

ولو شاء سن ياتسن أن يتخصص لتدريس العلوم السياسية لأغناه ما اطلع عليه من أمهات الكتب الغربية والشرقية في هذه العلوم، وقد صادفت نشأته فترة حافلة بالمصنفات الحديثة والقديمة في نظم الحكم ومبادئه وفلسفة الاجتماع ومدارسه المتعددة وأصول الاقتصاد وعلائقه بالحكومات والهيئات الاجتماعية، وكان يتابع هذه الكتب ويطلع عليها كلما صدر كتاب منها، فادخر منها محصولا وافيا كأوفى ما يكون الاطلاع لو شاء أن يتخصص لتدريسها.

إلا أن برامجه تكشف عن غرضه من هذه المطالعات، فإنما كان يتتبعها ويستقصيها ليفهم منها ما يصلح للتطبيق وكيف يكون تطبيقه في بلاده. ولم تكن هذه المطالعات من أجل هذا مصدر ثقافته السياسية دون غيرها، بل جعل وكده أن يمتحن مدارس السياسة وهي تعمل وتضطلع بتبعاتها، فلم ينزل بلدا من بلاد الشرق والغرب إلا اغتنم فرص الفراغ من نشر الدعوة وتنظيم اللجان لدراسة نظامه الحكومي وأدواته العاملة وعلاقته بالمجتمع وسائر طبقاته وهيئاته، وقد شملت رحلاته بلادا متباعدة في الموقع الجغرافي وفي النظم السياسية، من اليابان إلى الولايات المتحدة إلى إنجلترا إلى فرنسا إلى المستعمرات والولايات الخاضعة للدول الأجنبية، ولقي في كل منها زعماء الحكم وزعماء المعارضة وسمع من هؤلاء وهؤلاء ما يقولونه نقدا أو موافقة للنظم المتبعة، فكانت مصادره من هذه الثقافة السياسية زادا وافيا إلى جانب زاده الواقي من المطالعة والمراجعة.

ويشهد له باستقلال الرأي أنك لا ترى انقيادا منه لمدرسة واحدة بين هذه المدارس أو نظام واحد بين هذه النظم، فهي في ذهنه كالمائدة المطهوة يدخلها كل صنف من الأصناف ممتزجا بما يصلحه ويعدل مذاقه كما يعدل مادة الغذاء فيه، ويخطئ من يقول عن الرجل: إنه تلميذ لهذا أو مريد لذاك، فكلهم أساتذته ومعلموه، وهو من أجل ذلك يختار الأستاذ والمعلم كما قال سعد زغلول عن الجامعة الأزهرية حين حضر على أساتذتها ومعلميها.

إلا أن برامجه وتعليقاته تشير إلى المصادر التي كان لها القسط الأوفر من مطالعاته ومراجعاته، ويمكن أن نحصرها في مصادر ثلاثة يؤثرها باهتمامه وتعقيبه وإن لم يذكرها بأسمائها.

فأولها فقه الدستور الإنجليزي، وقد بلغ من إعجابه بتطبيقاته أنه ود زمنا لو تتهيأ للصين حكومة ملكية دستورية على النمط البريطاني، وفي هذه الفكرة أيضا لم يستسلم للقدوة دون العمل، فقد عدل عنها بعد أن راقب أحوال الحاشية الصينية، وأيقن أن تطبيق الملكية المقيدة في بلاده أعسر من تطبيق النظام الجمهوري، وأنه إذا لم يكن بد من التجربة فلتكن تجربة النظام الجمهوري أولى وأحق بالابتداء والانتظار.

والمصدر الثاني الذي كان يبدو من برامج سن ياتسن أنه كان مدمن الاطلاع عليه هو فلسفة كارل ماركس، فقد شغل بها لتفنيدها وتوضيح الفارق بين الأحوال التي راقبها كارل ماركس والأحوال التي تقلبت عليها الصين منذ أقدم عصورها، وأنكر من الفلسفة الماركسية كل شيء إلا الاهتمام بالمسائل الاقتصادية وإعطائها حقها الكامل في تكوين المجتمع ومصاحبة أطواره، فهو لا يقل عن كارل ماركس اهتماما بهذه المسائل، وإنما الخلاف بينه وبين كارل ماركس أنه لا يحصر اهتمامه بها، ولا يغفل عن مثل هذا الاهتمام بغيرها، وأنه لا يعلق نبوءات المستقبل على شئون الاقتصاد دون سواها.

والمصدر الثالث أحق هذه المصادر بالالتفات إليه؛ لأنه أدل المصادر على سعة اطلاع الرجل وحسن استعداده للإفادة من الرأي الصواب حيث وجده، ولو لم يكن صينيا لقلنا: إن سنته الأولى أن يطلب العلم ولو في الصين.

هذا المصدر هو كتاب خامل ألفه بعد الحرب العالمية الكبرى طبيب أسنان روسي من الأسر التي هاجرت إلى أمريكا أيام القيصرية فرارا من مظالمها، ترك اسمه الروسي وتسمى باسم موريس وليام وانخرط في سلك الثوار، ثم في سلك الشيوعيين إلى أن ساوره الشك في التفسير المادي للتاريخ، فألف كتابا بسط فيه شكوكه وانتهى منه إلى تفسير التاريخ من الوجهة الاجتماعية النفسية، بعد أن شرح نقائض القول بحرب الطبقات وتصدع المجتمع الديمقراطي واستحالة الإصلاح بغير هدمه والبناء من جديد على أنقاضه. ولم يطلع على هذا الكتاب عند صدوره غير آحاد معدودين منهم زعيم الصين، وكان يومئذ قد فرغ من إقامة الجمهورية وشرع في تدوين البرامج المفصلة لتنظيم المجتمع الصيني وإصلاح شئونه وترتيب مرافق المعيشة فيه، فكان اعتداده بآراء المؤلف الخامل وهو في أوج شهرته العالمية آية على النزاهة وحب المعرفة حيث وجد السبيل إليها.

ومن النقائض التي أبرزها الطبيب الروسي أن عصر الإقطاع قد زال على رأي ماركس؛ لأن الطبقة الوسطى البرجوازية بلغت غاية الثراء، وأن هذه الطبقة الوسطى تزول على رأيه؛ لأن طبقة العمال ستبلغ غاية الحرمان ولا يبقى لديها ما تفقده غير سلاسلها، ولا يمكن أن يكون هذا تسلسلا لعامل واحد على سنة واحدة، فلم يحدث مثل هذا قط قبل الآن بين الطبقات السابقة والطبقات اللاحقة.

ومنها أن معيشة العمال تتحسن وأن العمل الفردي يزداد خلافا لنبوءة ماركس عن اطراد السوء في معيشة العمال واستحالة التوفيق بينهم وبين أصحاب الأموال.

وقد كان سن ياتسن يلاحظ هذا التناقض قبل صدور كتاب «التفسير الاجتماعي» لمؤلفه الروسي الطبيب؛ ولعله تنبه إليه لما بينهما من زمالة الصناعة وزمالة الاشتغال بالدراسات الاجتماعية والسياسية، فلم ينس ملاحظاته بعد ذلك على كونه لم يستفد منها غير شواهد العرض والتنسيق. •••

وإنه ليخلص من ثقافة العلم والعمل إلى عقيدة راسخة، الحكومة الجمهورية والنظام الدستوري على الأصول الديمقراطية، ويحسب الحساب لجدة هذا النظام في الشعب الأمي فيرجئ التوسع فيه ويرجو أن يؤتى ثمرته بعد فترة من الإرشاد وفترة من الإعداد، مع إعلان سيادة الشعب عند إعلان الجمهورية.

وقد كان سن ياتسن أبا كسائر الآباء، يتعجل الأمل حيث تبطئ به الحوادث ما ينتظر منها وما يأتي فجأة على غير انتظار، فظن أن الشعب يتعود النظام الجديد بعد سنوات، ثم يتوسع فيه كلما درج عليه مرحلة بعد مرحلة، فلما خاب أمله كانت مرارة الخيبة على قدر قوة الأمل، ولم يغالط نفسه ولا أخفى على غيره وقع هذه الصدمة، فقال في ألم شديد:

أرادت الصين منذ الثورة أن تقتدي بأوروبة وأمريكا في تطبيق الديمقراطية السياسية، ولما كانت الديمقراطية السياسية الغربية قد وصلت إلى النظام التمثيلي وجب تطبيق النظام التمثيلي أيضا في الصين! إلا أن الجوانب الحسنة من النظام التمثيلي لم تدركها الصين وأدركت مساوئه عشرة أضعاف بل مائة ضعف، ومسخ أعضاء المجلس خنازير ملوثين بالقذر والفساد على مثال لم يعهد من قبل، ويا لها من بدعة مذهلة في الحكم النيابي، فإن الصين لم تقصر في الاقتداء بالديمقراطية الغربية وحسب، بل جاءتها هذه الديمقراطية ممسوخة فأصابتها بالضرر وأفسدتها. •••

قال بعض مترجميه: «إنه مزيج من أنبياء المسيحية الأولى، ومن نابليون، ومن ثوار أمريكا الوسطى.»

وذلك وصف صادق للرجل ولا سيما يقين القداسة فيه، فما من صورة لسن ياتسن تكمل بغير ملامحها الدينية من جانب إيمانه بالقداسة أو جانب اعتماده على إيمان الآخرين بها.

كان نبيا للوطنية حيث لا أنبياء للدين، وكان يعلم تقديس أبناء قومه لأسلافهم فيحرص على هذا التقديس ويحاول أن يجريه في مجرى الإيمان بالوطنية والفخر بالتراث القومي، عسى أن يعتصم به القوم في مستقبلهم ولا يبددوه كله على الماضي وذكراه الخالية.

ومن نبوته الوطنية أنه كان عظيم الاعتداد بعهد الولاء، فإذا فرط أتباعه في أمانتهم آلمه هذا التفريط وراح يتقصى أسبابه فلا ينسى منها - بل في مقدمتها - أنهم لم يعطوا العهد ولم يقسموا يمين الولاء. وكان على يقين أن تفريط رجل لا تراجعه ذكرى يمين أقسمها سهو غير مستغرب. أما الذي توقظ له الذاكرة قسما راصدا في كل لحظة فالتفريط منه مقترن بشعور الإجرام، وقد يثنيه وخز الضمير عن الخيانة التي يشهد بها على نفسه كلما ذكر العهد وردد يمين الولاء، وأشفق من وصمة الإجرام والنزول بنفسه منزلة المجرمين.

لقد كان يعمل عمل الزعماء.

وكان يشعر شعور الآباء، ويحاسب الناس حساب القديسين الشهداء.

في الحياة البيتية

من الأقوال الشائعة: إن العظماء ليست لهم حياة خاصة.

وإذا كان هذا القول محل الخلاف فيما يتعلق بمعيشتهم وهم بقيد الحياة فلا محل للخلاف عليه فيما يتعلق بتواريخهم وتراجم حياتهم بعد الممات؛ لأن فهم الحوادث وتقدير الأعمال وتعليل العلاقات قد يتوقف على أخبار البيت والأسرة، وقد يكون ما يساعد العظيم في حياته العامة أو يكون منها ما يعوقه أو ما يصبغ علاقاته الخارجية بصبغة خاصة، فلا يتساوى في نظر المؤرخ عند ترجمة العظماء أن تكون لهم حياة بيتية أو لا تكون لهم زوجات وأبناء وأصهار وأقرباء.

ويصدق هذا القول على سن ياتسن كما يصدق على سائر العظماء، أو لعله أصدق عليه من كثيرين غيره؛ لأنه أخذ على عاتقه تجديد الصين. وجاء زواجه فنقل رسالة تجديد الصين إلى بيته وجعله من مسائله وهمومه؛ إذ كانت زوجته الأولى نموذج المرأة الصينية على التربية القديمة، وكانت زوجته الثانية نموذج المرأة الصينية على التربية العصرية، فليس أحدث من تربيتها في أوروبة أو أمريكا بله الصين وما شابهها من الأقطار الآسيوية.

زوجه أهله من قرينته الأولى (لو-زو) وهو يناهز العشرين، وكان غرضهم من هذا الزواج أن يغريه بالاستقرار ويربطه بالتبعات البيتية فلا يعرض حياته للمخاطر ثائرا على العرف وذوي السلطان، فكان زواجا مناقضا لوجهته كلها في الحياة، وإن كانت هذه الزوجة مثال ربة البيت بشهادة المترجمين للزعيم والعارفين بأسرته أجمعين.

واضطر سن ياتسن على كل حال أن يتنقل بين البلاد ويطيل الغيبة سنوات، ولا يغشى الأماكن التي تعرف له علاقة بها؛ لأنه كان طريد السلطان بعد زواجه فلم تتوثق بينه وبين هذه الزوجة أواصر الألفة والتفاهم على رسالته الكبرى التي تصغر عنده إلى جانبها كل رسالة.

من هذه الزوجة رزق ثلاثة أولاد أحدهم سن فو الذي اشتهر في سياسة الصين بزعامة الحزب اليساري المنادي بالوحدة القومية والمعارض للحرب الأهلية، والذي يجعل محاربة اليابان غرض السياسة الصينية، ويتقبل الائتلاف مع كل قوة تعادي اليابان وتتألب على إحباط سياستها الآسيوية، ومن الطريف أن امرأة أبيه الثانية وأخاها من أنصار هذه الهيئة، وإن كانت امرأة أبيه تناصرها بالتشجيع ولا تنتظم في عداد أعضائها؛ لأنها تجتنب العمل السياسي ولا تستريح إلى انقسام الأحزاب.

ولد «سن فو» سنة 1891 وأتم تعليمه الابتدائي بهواي - كأبيه - ثم تخرج من جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة، وعاد إلى الصين وهو في السادسة والعشرين (سنة 1917) وعمل كاتبا لأبيه ثم محافظا لكانتون فمديرا للسكك الحديدية فرئيسا للجمعية التشريعية، وعارض شيان كاي شيك معارضة شديدة بعد وفاة أبيه، وسافر إلى موسكو غير مرة يحاول التوفيق بين روسيا والصين، وسبق ذلك بمحاولة التوفيق بين الشمال والجنوب وبين حزب الكومنتانج؛ أي: الحزب الصيني الوطني والحزب الشيوعي، فعرض حياته للخطر من ناحية أنصار اليمين ومن ناحية اليابان في وقت واحد، ودبر الجواسيس اليابانيون تدبيرهم لقتله في إحدى الطائرات، فأسقطوها ولكنه كان قد تخلف عن ركوبها، فنجا من المكيدة اليابانية وأوشك أن يقع في مكيدة وطنية، فحالفه التوفيق ونجا منها.

ويقول الذين عرفوه: إنه نسخة من أبيه لولا أنه طموح لا يزهد في المنصب والمال زهد أبيه.

ومن التجوز أن يقال: إنه يؤثر في سياسة أبيه بالإيحاء والإقناع، وإنما الصحيح الذي لا شك فيه أن الزعيم كان يتخذه مثالا لأنداده من أبناء جيله، وكانت خطته في قيادة هذا الجيل مستمدة من مراقبته لعواطف ابنه وآرائه، فما كان طبيعيا من عواطف ابنه وآرائه حسبه طبيعيا من أنداده وزملائه وشمله بحنانه ورعايته كأنهم كلهم من أبنائه.

أما والدة سن فو فلم تشتغل بالسياسة قط، وقضت معظم أيامها بعيدة من الصين تارة في هواي وتارة في المستعمرة البرتغالية مكاو، وتنصرت كما تنصر زوجها وشغلت أوقاتها بتوزيع الكتب الدينية على سيدات البيوت.

وكانت زوجته الثانية وسطى بنات سونج الثلاث، وهن: آي لنج (أي رأفة وعمر طويل) وشنج لنج (أي سعادة وعمر طويل) وسي لنج (أي جمال وعمر طويل).

وبنات سونج هؤلاء أسرة فذة في تاريخ العالم، لم يعرف عن أخوات قط أنهن تزوجن في عصر واحد مثل زواجهن من ناحيته السياسية أو ناحيته الاجتماعية أو ناحيته الشخصية.

فالبنت الكبرى تزوجت من الدكتور كونج الذي تولى رئاسة الوزارة غير مرة، ويكاد أن يقام مقام التقديس في الصين؛ لأنه ينتمي إلى أسرة كنفشيوس ويحفظ أسماء نيف وسبعين جدا يصلون بينه وبين إمام الصين الكبير.

والبنت الوسطى تزوجت من الدكتور سن ياتسن أبي الصين ونبيها الوطني.

والبنت الصغرى تزوجت من القائد شيان كاي شيك الذي قاد الصين قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ولا يزال رئيسا للصين الوطنية.

وقد أهلتهن لهذا الزواج تربية عالية وانتساب إلى أب قوي النفوذ في دوائر المال والثقافة، وهو شارل سونج العصامي النابغ، الذي تعلم في أمريكا ليعود إلى الصين رئيسا وطنيا للمرسلين، فحولته أزمات السياسة والاقتصاد إلى عمل آخر لا مناسبة بينه وبين هذا العمل، وهو التوسط لبلاده عند ملوك المال لتفريج أزماتها، ثم الانقطاع للأعمال المالية مع الانتفاع بنشأته الدينية في حماية الدعوة الوطنية.

ويباهي الصينيون بزعامة هؤلاء الأخوات للمجتمع الصيني الحديث؛ إذ ليس في أميرات الأسر المالكة ولا في بنات رؤساء الأمم من تفوقهن ثقافة وكياسة وسمتا وخبرة بآداب المجتمعات، وكلهن يعرفن أكثر من لغة أجنبية ويقرأن المأثورات اللاتينية والإغريقية ويطلعن على الأدب الصيني القديم، ويحذقن الموسيقى الغربية والشرقية كأحسن ما يحذقها المتعلمات غير المحترفات، ويعتبرن طرازا رفيعا من الجمال والرشاقة بين الصينيات، ويضارعن أرقى الأسر في تقاليد التهذيب بين بنات الصين، ويضارعن أرقى الخريجات من جامعات أمريكا في التربية العصرية.

وقد أحبت وسطاهن الدكتور سن ياتسن وهو يناهز الخمسين، ووجد رواة الأخبار في هذا الزواج مادة صالحة لقصة غرامية في حياة المشاهير، فأذاعوا أن الدكتور شغف بالفتاة وغلب على أمره حبا فتزوجها مع ما بينهما من فارق السن، ونسجوا حول ذلك الزواج ما راقهم من نسج الخيال وزخارف التلفيق.

وليست القصص الغرامية بالشيء النادر في سير الزعماء والمشاهير، وليس في هذه القصة خاصة ما يوجب التفنيد أو التصحيح لو كان غاية ما في الأمر أن الزعيم أحب الفتاة، ولكن بيان الحقيقة في هذه القصة خاصة يكشف عن خصلة جوهرية من خصال الدكتور، ويرينا مثلا قويا من الاعتبارات التي يلحظها في أعماله، وهي اتقاء القيل والقال.

فالواقع أن سن ياتسن كان صديقا لشارل سونج والد الفتيات الثلاث وكان سونج من كبار الماليين الذين جندهم الزعيم لخدمة القضية الوطنية، وكان لا بد له من تجنيد طائفة من أصحاب المصارف والشركات الوطنية لتصنيع البلاد وتزويد الحركة بما تحتاج إليه والوساطة في الأزمات الاقتصادية بين الصين وبيوت المال الأجنبية.

وأخلص سونج لصديقه مجازفا بثروته وحياته، فافتتح دارا للنشر والطباعة تعنى بنشر الكتب الدينية ظاهرا وتطبع النشرات الثورية سرا وتبثها مع وكلائها في طول البلاد وعرضها بمأمن من رقابة الجواسيس على الجماعات السرية.

ولجأ سن ياتسن مرات إلى بيت سونج يختبئ به كلما تعقبته الشرطة واحتاج إلى مأوى بعيد من الشبهات ريثما يتمكن من مغادرة البلاد.

وأراد الزعيم أن يختار أمينة لسره تتوافر لها شروط الكفاءة وشروط الأمانة، ومن شروط الكفاءة معرفة اللغات وفهم دخائل القضية القومية، ومن شروط الأمانة الغيرة الشخصية على كتمان أسرارها، وهي شروط لا تتوافر لأحد كما تتوافر لبنات سونج؛ لأنهن على نصيب وافر من الثقافة وسر الزعيم هو سر أبيهن. فوقع اختياره على كبراهن أي لنج وظلت تعمل معه إلى أن تزوجت بالدكتور كونج هسيانج، وكان يومئذ رئيس جماعة الشبان المسيحيين، فاختار أختها الوسطى شنج لنج، ولم يطل عملها معه حتى جاءت أبويها ذات يوم تبلغهم أنها اعتزمت أن تخطب الدكتور لنفسها، فراعهم من الخبر أن تجترئ فتاة على خطبة رجل لنفسها، وراعهم فوق ذلك أن الرجل صاحب زوجة لم يطلقها، وإن كان معلوما لديهم ولدى الخاصة من أصدقاء الدكتور أنه لا يعيش معها.

قال بربردج الذي كتب موجز التاريخ للأسرة بإيحاء من شيان كاي شيك وقرينته: «إن احتجاج الأبوين ذهب سدى وأصرت شنج لنج على عزيمتها وخرجت من بيت أبويها لتلحق بالدكتور،

2

وتم الزواج ولما تنقض على خروجها من بيت أبويها بضعة أسابيع (25 أكتوبر سنة 1915).

وواضح من القصة أن الدكتور اختار الكبرى من البنات ثم الوسطى اختيار وظيفة لا اختيار حب وخطبة، وأنه كان في تلك الحالة بين خطط ثلاث لا معدى له عن واحدة منهن، فإما أن يقصي الفتاة عنه، وإما أن يبقيها على صلة به معرضة للقيل والقال، وإما الزواج.

وقد كان الزواج أكرم هذه الخطط، وكان كذلك أشبهها بعاداته وخلائقه، لإيثاره - كلما شجر الخلاف - أن يختار ما يحسم القال والقيل، وكادت هذه الخصلة أن تحسب من مواطن ضعفه في رأي المعجبين به ورأي ناقديه. فإن هذا الرجل الذي كان يواجه الموت ولا يبالي الضنك والعذاب؛ كان يجفل من سوء السمعة ويختار الحل الذي يعفيه منها، ويذكر له من الشواهد على ذلك أنه سلم للقائد يوان شي كاي أن يرأس الجمهورية بدلا منه، ونزل له عن الرئاسة دفعا لشبهات من يقول: إنه رفض هذا المقترح تشبثا منه بالمنصب، وجازف بسقوط الجمهورية وهي في مهدها لكيلا يسبقه أحد إلى رئاستها.

والخوف من القال والقيل موطن ضعف في الزعماء على الخصوص إذا كان الحرص على السمعة هو الباعث الوحيد عليه، ولكنهم إذا أشفقوا من سوء سمعتهم محافظة على القدوة الحسنة ووقاية للمصلحة العامة، فالخوف من القال والقيل شجاعة، والمجازفة بالتعرض له جناية. وقد كان إصرار سن ياتسن على رئاسة الجمهورية خليقا أن يلقي في روع أبناء الصين وهم ينهضون لخدمة أمتهم أن المناصب مقدمة على مصالح الأمة، وكان هذا الإصرار معطلا لنزول الأسرة المالكة عن العرش ولتسليم القائد يوان شي كاي بالنظام الجديد، ومثيرا لمعارك الشقاق في معسكر الجمهورية نفسه، فلم تكن سمعة الزعيم هي المصاب الوحيد من جرائر القال والقيل.

ولو أنه استخف بالقال والقيل في مسألة زواجه من أمينة سره لأساء إلى سمعتها قبل أن يسيء إلى سمعته، ونكبت أسرة صديقه بفاجعة بيتية لا تستحقها منه، وفعل ذلك بغير موجب يستحل من أجله هذه الجريرة؛ لأنه كان على نية الزواج بعد تطليق امرأته التي لم يكن في وسعها أن تصاحبه في حياة الزعيم المجدد والرائد المتقدم للنهضة العصرية.

وقد بنى بزوجته الثانية بعد التفاهم بينه وبين الزوجة الأولى على الانفصال في سلام، لتملك حريتها ولا تتقيد به وهو منفصل عنها، ونعم الزوج الكهل والزوجة الشابة بعيشة بيتية يضرب بها المثل في الوئام والمودة، وكانت شنج لنج على الرغم من اعتدادها باستقلالها وقدرتها على تحدي العرف ومشيئة الأسرة مثلا صالحا لزوجة الرجل السياسي المشتغل بالمسائل العامة، وقرينة الزعيم المهدد في مأمنه، فلم يدفعها الفضول مرة إلى استطلاع أمر لم يفاتحها فيه، ولم تحجم عن مواجهة الأهوال التي استهدف لها إبان الخلاف بينه وبين خصومه. وحدث بعد انتخابه للجمهورية للمرة الثانية أن العصاة قصدوا إلى منزله يحاصرونه ويطلقون المدافع على المنزل ومن فيه، وكان خبر الثورة قد نمى إليه قبل هجوم القائد الخائن ليلا بسويعات قليلة ، فأيقظ زوجته لتصحبه، ولم يبال فوات الوقت مع اقتراب الهجوم، ولبث يقنعها بالهرب وهي تقنعه بصعوبة خلاصهما معا ووجوب انطلاقه فردا وهو يتلمس مسالك النجاة. وكتبت هي بعد ذلك تصف تلك الليلة العصبية وصفا مسهبا نجتزئ منه بما يلي، وذلك إذ تقول:

حوالي الساعة الثانية من صباح اليوم السادس عشر من شهر يونيو - 1922 - أيقظني الدكتور من نومي وطلب مني أن أسرع باللبس والاستعداد؛ لأننا مهددون ولا بد لنا من الإسراع بالنجاة، وكان قد تلقى بالتلفون خبرا عن تأهب القائد شين للهجوم علينا، فأراد البدار إلى زورق مسلح نوجه منه رجالنا لمقاومة العصاة، ورأيت من التعويق له أن يرتبط بمصاحبة امرأة في مهربه، فألححت عليه أن يتركني إلى حين غير متوقعة عدوانا على شخصي وأنا على انفراد، وبدا له صوابي بعد برهة ولكنه لم يتركني مع هذا قبل أن يوكل بالبيت خمسين حارسا من أهل ثقته، ثم مضى منفردا ولم تمض نصف ساعة على انصرافه حتى سمعنا طلقات الرصاص، وصياح الصائحين، اقتلوا سن وين، اقتلوا سن وين ... ثم اقتربت الساعة الثامنة ونفدت ذخيرتنا أو كادت، فوقفنا إطلاق النار محتفظين بالبقية إلى اللحظة الأخيرة، ثم لاح لنا أن البقاء غير مجد، ونصح لي رئيس الفرقة بمغادرة المكان ووافقه الجنود على أن يبقوا حيث هم لصد كل مطاردة، وعلمنا أخيرا بمقتلهم جميعا. ... ومضت ساعات في الممر قبل أن نصل إلى حديقة ديوان الرئاسة، ولمحنا بعد نصف ساعة ومضة خاطفة وشطرا من القنطرة يتهدم وينقطع علينا من ثم سبيل العبور، واندفع العصاة نحو ديوان المالية ومكتب الرسوم الجمركية لينهبوهما، فانسللنا بين الزحام غير معروفين، وألفينا أنفسنا في زقاق بعيد من المشتغلين بالنهب والسلب، وكنت لا أقوى على السير من فرط الإعياء، فتوسلت إلى الجند الذين معي أن يطلقوا النار علي لأستريح، ولكنهم حملوني بين جثث القتلى ... ثم سدت طريقنا مرة أخرى، وتهامسنا إلا نجاة من هجمة الغوغاء المقبلين إلا بالرقاد على الأرض بين الجثث كأننا بعض الموتى، ثم تمكنت من الاستخفاء بملابس امرأة ريفية ، وعلمت بعد ذلك أن امرأتين مسكينتين قبض عليهما لأنهما تشبهاني، وبرحت كانتون عصر اليوم التالي، فلقيت الدكتور سن مساء ذلك اليوم على إحدى السفن بعد معركة حياة وموت وأسرعنا بالذهاب إلى هونج كونج مستخفين.

هذه حادثة من حوادث الزوجين في السنوات التسع التي ارتبطا فيها برباط الأسرة الوثيق، ولو تتبعنا أوقاتها من سنة 1915 إلى سنة 1924 التي ختمت بها أيام سن ياتسن لكانت أوقات الشدائد هي القاعدة الغالبة وأوقات الأمان هي الاستثناء النادر، وإن لم تكن كلها من قبيل هذه الشدائد الدامية.

فهما بين منفى واستخفاء وصراع ورحلة يلاحقهما الجواسيس والمتربصون وشغل من أشغال المنصب مرهق تنوء به الجبال.

والحياة الزوجية بين هذه المتاعب كل ثقيل أو معونة على الكلول والأثقال، ومن الحظ الحسن أنها كانت في حياة الزعيم المثقل بالأعباء معونة جاءت على حين الحاجة إليها، فكانت زوجته الفتاة المترفة الناشئة بين أحضان النعمة والدلال خير معوان له على مصابرة الحوادث، وعوضها حب الإعجاب والإكبار عن حب الغرام والفتنة، فهانت عليها المتاعب والأهوال رعاية للرجل الذي أعجبت به وأكبرته. ولعل الأزواج من أمثال سن ياتسن في عصره لم يرزق أحد منهم قرينة تضارع قرينته في ثقافتها واطلاعها على أسرار السياسة من حولها، فهي أحق زوجة أن تشارك زوجها في عمله وتقرن رأيها برأيه، ولكنها لم تسمح لنفسها أن تجاوز وظيفة الكاتب الأمين الذي يعمل ما يطلب منه عمله ويحضر ما يناط به تحضيره، ولزمت حدودها هذه طوال أيام حياته، ولم تخالف هذه الخطة إلا بعد وفاته بزمن طويل.

خالفتها كلما خطر لها أن أتباع الزعيم قد حادوا عن نهجه وانحرفوا عن سوائه، وسوغ مقامها ما لا يساغ من غيرها، فرفعت صوت المعارضة يوم خفت بين قومها كل صوت معارض، واستمعوه منها طوعا أو كرها، كأنه صوت الزعيم المقدس يرتفع بعد الممات.

من أعماله

في سنة 1912 ترددت البشائر بين أنحاء الكرة الأرضية بنجاح الثورة الصينية، وقيام الجمهورية مقام عرش ابن السماء.

وبعد ذلك بعشر سنين، حوصر زعيم الثورة وطوردت زوجته وتنادى العصاة بقتله، وتعالى الهتاف بموته حيث تعالى الهتاف له من قبل بالحياة والبقاء.

عشرون سنة مرت من فاتحة الجهاد في سنة 1892 إلى قيام الجمهورية في سنة 1912.

واثنتا عشرة سنة مرت من يوم نجاح الزعيم إلى يوم وفاته.

شطران غير متعادلين في حساب الأرقام ولا في حساب الحوادث، وأشقاهما الشطر الذي كان بعد النجاح.

وصح في سيرة هذا الزعيم، كما صح في سير الكثير من الزعماء، أن أعباء النجاح أثقل من أعباء الاضطهاد والكفاح!

بل كان هذا أصح ما كان في سيرة زعيم الصين.

لأن ثورته كانت سعيا متلاحقا إلى الأمام، ولكن عمله في الحكومة كان أشبه بساع يسعى وهو مشدود إلى الجهات الأربع، فكل تقدم من ناحية نكوص من أنحاء.

كان عليه في سياسته مع الدول أن يبطل سيادتها على بلاده، ويلغي «حقوقها» المغتصبة ويزيد الرسوم على تجارتها التي تتدفق على بلاده بغير رسوم، أو تؤخذ رسومها عوضا من الغرامات والديون.

وكان عليه في الوقت نفسه أن يقترض منها لتصنيع الصين وتعميرها وتجديد مرافقها على أحدث طراز، كي تدفع المزاحمة الملحة عليها من مصانع الدول الأجنبية.

وكان عليه أن ينقذ الصين من الخراب إذا بقيت «حقوق» الدول جاثمة على صدرها، وأن ينقذها من الخراب إذا أبت هذه الدول أن تسخو له بالمزيد من القروض.

كان عليه أن يهادن اليابان؛ لأنها تصد الدول عن بقاع القارة الآسيوية وتنادي «بآسيا للآسيويين».

وكان عليه أن يهاجم اليابان؛ لأنها تعني أن الصين لليابان دون سائر الدول الغربية، حين تذود تلك الدول عن القارة الآسيوية.

وفي سياسة وطنه كان عليه أن يسكن أو يتحرك إلى الجهات الأربع، وليس السكون أو الحركة إلى الجهات الأربع مما يطاق.

كان عليه أن يحمي الجمهورية وأن يسلمها لغيره!

وكان الشمال والجنوب في وطنه قد انقسما بعد الاتفاق على خلع الأسرة المكروهة العاجزة، فلما زالت الأسرة عاد الخلاف بعنوان جديد، بل عاد بجملة من العناوين.

ومن ذلك أنه كان يعهد بالوظائف إلى الموظفين الكفاة من أهل الجنوب؛ لأنهم المتعلمون على أصول التعليم الحديث، ولأنه يعرفهم معرفة الثقة والتجربة، فينسى الطامعون في وظائفهم أن «سن ياتسن» أبو الصين، ولا يذكرون إلا أنه جنوبي يحابي الجنوبيين!

ومرافق الصناعة والتجديد نعمة ونقمة في نفس واحد.

أيستغني بلد من البلدان في القرن العشرين عن سكة الحديد؟

كلا، ولا استثناء للصين، أو لعلها أحوج إليها من سائر بلاد العالم، لترامي أطرافها وكثرة سكانها.

ولكن هذه النعمة الكبرى جرت معها البلاء وراء كل قاطرة وكل مركبة؛ لأنها يسرت وصول البضاعة الأجنبية إلى أقصى الأطراف، فضربت صناعة الوطن وعطلت أيدي العاملين، وسهلت لهم الانتقال من بقعة إلى بقعة طلبا لعمل الزراعة أو عمل النقل أو طلبا للعمل كائنا ما كان، فلا هم واجدون عملا ولا هم مردودون إلى مواطنهم، ولا هم نازلون منازل الحفاوة والترحيب، وقد يخاف منهم العبث والفساد بغير عمل وبغير سكن وبغير قوت.

يجب أن يغلق الباب المفتوح.

يجب أن تفتح الأبواب للقروض.

يجب أن تبنى المصانع على عجل.

يجب أن تستورد من الخارج أدوات البناء.

يجب أن نتحرك إلى الجهات الأربع، ونحن مشدودون إلى الجهات الأربع.

وإذا همت الحكومة الجديدة بتحصيل الضريبة من الأمة المنزوفة، وجدت هذه الضريبة مستوفاة إلى سنوات على عهد الحكومة البائدة، واستحال تحصيلها على نظام جديد: نظام يحصي الأرض والسكان ويقرر الحدود بين الملاك والمستأجرين، ولا إحصاء ولا خرائط ولا يعرف لأموال الدولة حساب غير حساب الكيل الجزاف.

وأوشك كل عامل أو عاطل في الصين أن يزج بسن ياتسن إلى الجهات الأربع، وأن يشده إلى كل جهة من هذه الجهات.

ومن أعضل المعضلات تفصيل السياسة الصينية كما كانت تتبع في تلك الآونة، ولكن الإشارة إليها تكفي لتقدير المتاعب كما اضطلع بها الزعيم الظافر.

الزعيم المسكين؛ لأنه ظفر بمقصده، فانتقل من السير على طريق واحد إلى السير على الجهات الأربع.

وهذه إشارة عابرة إلى بعض هاتيك الجهات!

رئاسة الجمهورية

كان العلم الخماسي - علم الثورة - يرتفع على كل سارية في عواصم الصين، رمزا إلى الأمم التي تتألف منها القومية الصينية، وهم الصينيون والمنشوريون والمغول والمسلمون وأهل التيبت، ولم يبق بعد أيام أثر للعلم الإمبراطوري - علم التنين - في غير قصور بكين.

وسمع سن ياتسن بثورة أنصاره التي انفجرت قبل أوانها وهو يطوف المدن الأمريكية لجمع المال استعدادا للثورة التي تقرر موعدها بعد ذلك بسنة، وعلم من الصحف الأمريكية أنه رئيس الجمهورية المنتظر ... فلم ير التعجيل بالعودة إلى بلاده، واهتم قبل كل شيء بوقف صرف الأقساط المتفق عليها من القروض الدولية لحكومة بكين، والسعي عند الدول الكبرى للاعتراف بالحكومة الجديدة والاتفاق على السياسة المقبلة.

وسافر إلى لندن باسم مستعار، فوجد هناك برقية أرسلت إليه بعنوان المفوضية الصينية التي لم تزل تنوب عن ابن السماء، يعرضون عليه رئاسة الجمهورية بصفة رسمية ... وفي دار هذه المفوضية كان معتقلا قبل سنين لتسليمه إلى حكومة بكين!

ولقي المسئولين من رجال الحكومة الإنجليزية، وأعضاء مجلس الديون، ثم انتقل إلى فرنسا فتحدث مع بعض وزرائها ونوابها في شأن الحكومة الجديدة، وبرح أوروبة إلى بلاده وهو على شيء من الارتياح إلى موقف الدول من الوجهة الرسمية.

وقبل أن يصل إلى بلاده بستة أيام كان المندوبون في حكومة بكين والمندوبون عن اللجنة الثورية قد اتفقوا على اللقاء بشنغهاي للتفاهم والتقريب بين الطرفين، فظهر من سياق البحث بينهم أن الطرفين كانا على وعد من اليابان بالمؤازرة، ونمى إليهم أن اليابان همت بإنزال جنودها على الأرض الصينية والتقدم إلى العاصمة، فاستمهلتها إنجلترا صديقتها يومئذ وذكرتها بمخالفة العمل المنفرد للاتفاقات الدولية، وحقيقة الأمر على ما اعتقده الطرفان المتفاوضان أن إنجلترا خشيت أن يؤدي التدخل الياباني إلى بسط الحماية على عرش الصين بطلب من الأسرة المالكة، وهي نتيجة يأباها الثوار بطبيعة الحال، ويأباها القائد يوان شي كاي؛ لأنه يطوي النية على تنصيب نفسه ملكا بعد فترة الثورة الأولى، وتأباها إنجلترا أو الدول الكبرى؛ لأنها تقضي على نفوذهن جميعا، وتسلم الصين فريسة سائغة لدولة واحدة.

فأسرع الفريقان إلى التفاهم على وقف القتال قبل أن تنطلق الدسائس الأجنبية من عقالها.

ووصل سن ياتسن شنغهاي في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر (سنة 1911) ونودي به رئيسا للجمهورية في التاسع والعشرين منه، وافتتح مراسم العهد الجديد بزيارة ضريح العاهل الوطني عميد أسرة منج التي كانت تحكم الصين قبل الأسرة المانشوية، فبايع روح الأسلاف على إحياء الصين الخالدة وصد المغيرين على استقلالها، واختار للدولة علما مثلث الألوان من الأزرق والأبيض والأحمر، رمزا لمبادئ الثورة الثلاثية وهي الوطنية وسيادة الشعب والاشتراكية أو رخاء المعيشة، وفيه اثنا عشر شعاعا تنبعث من الشمس رمزا إلى أقسام الصين الأرضية.

ووجه اهتمامه الأكبر إلى تدعيم القواعد الدستورية، فأذاع الدستور المؤقت مشتملا على الحقوق الأساسية وأصول التشريع، واعترضته عقبة الهيئة النيابية في تلك المرحلة، فلم يكن من المتيسر انتخابها بغير معدات الانتخاب التي لم تعهدها الصين من قبل، ولم يكن من المتيسر الانتظار إلى ما بعد تحضير هذه المعدات، وأبى أن يحصر النيابة عن الأمة الصينية بين أعضاء حزبه ولجانه التي كانت تنبث في الحواضر والأقاليم لنشر الدعوة وتنظيم المقاومة، فاكتفى بما تيسر يومئذ وجمع المجلس الأول من المندوبين الذين اختارتهم دواوين الحكومة ولجان الجماعات الثورية، وذوي الرأي بالشهرة المستفيضة ومنهم من لم يصطحب معه توكيلا من الدواوين أو اللجان، وارتضى المسئولون جميعا تأليف المجلس على هذه الصورة على أن تخلفه بالانتخاب هيئة من مجلسين خلال عشرة شهور يناط بها وضع الدستور.

واختار الزعيم وزراءه من أكفأ رجالات الصين الحديثة، ومنهم من كانت له شهرة عالمية كالدكتور وانج شنجهوي الذي عين بعد نحو عشرين سنة (سنة 1930) قاضيا بمحكمة لاهاي الدولية، واتخذ نانكين عاصمة للدولة الجديدة: عاصمة بلا خزانة ولا سجلات ولا دواوين ولا موظفين، ثم شعر بقيود المنصب ومحرجاته وعن له أن يندب غيره للرئاسة ويفرغ للقيادة الشعبية، فوافق ذلك مقترحا من القائد يوان شي كاي يندبه هو للرئاسة أثناء فترة الانتقال بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، ورأى سن ياتسن أن يستفيد من هذا المقترح للدولة الناشئة فعلق قبوله على نجاح يوان في إقناع الأسرة المالكة بالنزول عن دعاواها وحقوقها بسلام، فانقضى شهر في المساومة والمناورة قبل الوصول إلى نتيجة يحسن إعلانها.

وفي الثاني عشر من شهر فبراير سنة 1912، أعلنت الوصية باسم الإمبراطور الصبي سوان تونج وثيقة النزول عن العرش، وفيها تقول: «إن الأمة اليوم جانحة كلها إلى حكومة ذات شكل جمهوري، وبدت هذه الرغبة واضحة في أول الأمر من الأقاليم الجنوبية والأقاليم الوسطى ثم وعد القادة العسكريون من الأقاليم الشمالية بتأييدهم لهذه الرغبة، ونحن برعاية ميول الشعب نعلم مشيئة السماء، وليس بالجميل منا أن نقاوم ميول الشعب حرصا على مجدنا، فنحن - والإمبراطور إلى جانبنا - نولي الشعب حقوق السيادة ونأمر بإنشاء حكومة دستورية على النظام الجمهوري، ولا يحدو بنا إلى هذا القرار حبنا لرضى شعبنا الذي طال حنينه إلى حسم الشقاق السياسي وكفى، بل تدعونا مع ذلك رغبتنا في اقتفاء وصايا الحكماء الأقدمين الذين علمونا أن السيادة ترجع آخر الأمر إلى مشيئة الأمة.»

واشتملت وثائق الاتفاق على شروط أخرى تضمن للعاهل الصبي أن يحتفظ بلقب الإمبراطور مدى حياته، وأن يتقاضى من الدولة معاشا سنويا يزيد على نصف مليون جنيه، وأن يترك له قصر الصين وحاشيته وحرسه، وأن تصان أضرحة الأسرة وتتكفل الدولة بإتمام الناقص منها.

ووعد يوان بتحويل العاصمة من بكين إلى نانكين في الجنوب، وأبرق بهذه الوثائق إلى سن ياتسن كأنه يتعجل إنجاز الوعد باختياره رئيسا للجمهورية، فاعترض سن ياتسن على الصيغة التي كتبت بها وثيقة النزول وقال: إنها تجعل الجمهورية بمثابة المنحة الملكية التي يجوز للإمبراطور أن يستردها متى شاء، مع احتفاظه بلقبه وقصره ومراسمه وحاشيته، فوافقه الكثيرون من النواب والساسة على تأويله، ولكنهم حسبوا أن مسألة الصيغة لا تساوي مشاكل الخلاف ومصائب الحرب الأهلية، وقبلوا نزوله عن رئاسة الجمهورية للقائد يوان، وأسرع هذا إلى إبرام الأمر الواقع، فعين سن ياتسن مديرا للسكك الحديدية.

ولا نعلم عن التحقيق أسرار المفاوضات التي دارت بين يوان والأميرة الشابة (لنج يو) الوصية على العاهل الصغير، إلا أنه قد هدم أعصابها بوسائل شتى ولم يقتصر على وسيلة واحدة، فمن وسائله أنه أوعز إلى ضباط الفرق، وكلهم ممن تعلموا على يديه وترقوا برعايته، أن يبرقوا إليه معلنين إخلاصهم للنظام الجمهوري وثقتهم بحكمته وحنكته واقتداره على حل المشكلة بما يرضي الأمة ويصون الوحدة القومية، وأنه أوقع في روع الوصية أنه لا يستطيع أن يعمل بغير مال يشتري به الثوار ويقسم به صفوفهم ويضمن مرتبات جنوده زمنا؛ مخافة أن ينفضوا عنه وينقلبوا عليه قبل انفراج الأزمة.

فسلمته الوصية خزانة الدولة، واكتتبت مع الأمراء والأميرات بالذهب والفضة بعد إفراغ الخزانة العامة، فلم يبق لديهم ما ينفقونه على المعارك والمساعي السياسية لو خطر لهم أن يخالفوه ويركنوا إلى مشورة أحد غيره، وربما زعم للوصية المتحطمة أن الحكومة الموقوفة ظل زائل، وأن الإمبراطور ربما بلغ سن الرشد وهي في خبر كان، وأنه باق على ولائه للبيت المالك عند الحاجة إليه.

ولا يدعو الموقف حينئذ إلى أكثر من مرسوم يصدره الإمبراطور بمشيئة الشعب الذي سيضجر مع الزمن من عجز العهد الجديد ولا يصعب على الوصية أن تقبل هذه التعلات فهي أحب إليها بأية حال من كفاح لا يعاونها عليه أحد، ولا تضمن من عواقبه ما ضمنته لها من وثائق الاتفاق، وقد رؤي هذا الباقعة في مؤتمر الأسرة المالكة الأخيرة يضرب الأرض بجبهته ويبكي ويأبى أن يرفع وجهه خجلا من النظر إليها وهي تستسلم لمصيرها، وسمعت الوصية تقول للعاهل الشاب: إذا كنت الآن لا تزال بقيد الحياة فالفضل في بقائك لهذا الصديق النصوح، وكان يوان قبيل ذلك بلحظات يقول لهم: إن لويس ملك فرنسا لو وجد حوله من يقنعه بالإصغاء إلى صوت العقل لما هلك وهلك معه ذووه!

ولقد عز على ناس من خلصاء الرئيس سن ياتسن أن تؤول الثورة إلى هذا الباقعة الذي لم يثبت قط على الولاء لأحد، ومن هؤلاء شيان كاي شيك خليفة سن ياتسن على قيادة الصين، فإنه اعتزل منصب العسكرية وعاد إلى اليابان يستكمل دروسه ويترقب من ثم تقلب الحوادث والأحوال. وأخل يوان بأول شرط من الشروط المطلوبة وهو تحويل العاصمة من بكين إلى نانكين، فتعلل ببوادر الفتنة - وهي من تدبيره - للبقاء بالعاصمة الشمالية وحراسة الأقاليم من ورائها، وأجل الانتقال إلى العاصمة الجنوبية إلى أجل غير محدود.

ثم سرت مساعي يوان شيئا فشيئا من طريق الدعوة السياسية، فلما نظم سن ياتسن حزبه باسم «الكومنتانج»؛ أي الحزب الوطني، نظم يوان حزبا يقابله باسم حزب التقدم (شنبتانج) ودس أعضاءه في دواوين الحكومة ومراكز النفوذ، وكلف عالما من علماء القصر الدستوري الأمريكيين وخبيرا من أساطين الصحافة الإنجليزية أن يدرسا الحالة العامة من الناحية الفقهية والتقليدية، ويكتبا بالرأي الذي يريانه تقريرا مفصلا معززا بالشواهد والأسانيد للاستئناس به عند تقرير النظام الدائم عما قريب!

هذان الخبيران الدستوريان هما الأستاذ فرانك جودناو

Goodnow

والدكتور موريسون

Morison

مراسل التيمس، وكلاهما معروف الرأي عند القائد يوان وإن لم يكن رأيهما مكتوبا بالتفصيل، فخلاصته كما عرفها القائد من أحاديثهما أن النظام الملكي أصلح الأنظمة للصين خاصة في أحوالها الداخلية وعلاقاتها الدولية؛ لأنه نظام ذو جذور متغلغلة في تكوين المجتمع وعادات أهل البلاد، وعلى تقرير هذين الخبيرين وغيره من الوثائق المستمدة من تقارير أعوانه وصنائعه بنى السند الدستوري الذي خوله - وهو لا يزال رئيسا للجمهورية - أن يطيل مدته ويوصي بالرئاسة بعده لمن يرتضيه.

أما سن ياتسن فقد تقبل مهمة الإشراف على تنظيم المواصلات غير مترفع عنها بعد رئاسة الجمهورية، والواقع أن منصب المدير العام لمواصلات الصين لا يقاس على نظائره في البلاد الأخرى؛ لأن علاقات الدول بالصين تدور على خطوطها الحديدية ومواصلاتها البحرية والبرية، وتعمير الصين من أقصاها إلى أقصاها يتوقف على مستقبل هذه الخطوط ومعضلاتها المتجددة أكبر من طاقة الدولة الصينية برمتها، وهذه المعضلات هي التي أراد يوان أن يمتحن بها طاقة الزعيم المحبوب، فهو ملاق فيها الفشل والحيرة لا محالة، وكل أولئك خير لإمبراطور المستقبل يوم تتهيأ الفرصة للتشهير بالرئيس القديم.

ومن مهازل النقد والتاريخ أن ألسنة يوان من الصحفيين الأجانب أخذوا على سن ياتسن أنه أمر بإعداد خريطة للصين ترسم عليها المواقع التي يراد الاتصال بينها، فأعدوها له ورسموا الخطوط المطلوبة غير حافلين بما يعترضها من الجبال والأنهار والعقبات، واستدل النقدة المؤرخون بهذا على جهل الزعيم وتصديه لما لا يحسنه ولا يدريه، وفاتهم أن يتهموه بالعمى عن رؤية مواقع الجبال والأنهار ... فليست المسألة إذن جهلا بهندسة المواصلات، فما من أحد يجهل أن الجبال والأنهار تعوق المواصلات، وإنما هي مسألة نظر يرى الجبل في موضعه أو لا يراه.

وحقيقة المسألة أن الخريطة الأولى وضعت كما قال أولئك النقدة المؤرخون، ولكنها خريطة تعقبها خرائط لرسم القناطر والأنفاق أو رسم المنعرجات الطوال والقصار حيث لا يتيسر بناء القنطرة وفتح النفق، ولا بد من الخريطة الأولى والخرائط التي تليها في بلاد لم توضع لها خريطة قط، لغرض من هذه الأغراض.

وقد وجه يوان مساعيه الخفية جميعا لإحباط مشاريع السكك الحديدية والاستيلاء على جميع القروض التي يحصل عليها من خزانة الديون.

ومضى في الإخلال بجميع الشروط المتفق عليها بينه وبين رؤساء الجمعية الوطنية، ومنها شروط لا تستقيم مع الإخلال بها حكومة دستورية، فأغفل البرلمان جملة في مسائل القروض والمعاهدات، واتصل بمندوبي مجلس الديون

Consortium

دون عرض الأمر على الهيئة النيابية القائمة، وهذا المجلس هو الهيئة التي تألفت من مندوبي الدول ذوات القروض والإتاوات: وهي إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان. وقد سمحت للقائد المخاتل بما طلب على شدة ضنها بالمال ... لأنها حمدت منه استمراره على سنن أبناء السماء في ضمانات هذه القروض، ولم يعترض على هذه الضمانات أحد غير الرئيس ويلسون لمساسها بسيادة الصين، خلافا للعهود المتفق عليها بين الدول «ذوات المصالح والامتيازات ...»

والمفهوم من موالاة القائد يوان لمجلس الديون أنه يدخره للمستقبل عسى أن يعترف به إمبراطورا على الصين بعد إلغاء الجمهورية، وأنه اقترض المال وحصل على عدة ملايين فلم ينفق منها كثيرا ولا قليلا على مشروعات التعمير، بل أنفقها كلها على تسليح الفرق الموالية له ورشوة القادة المسلطين على الأقاليم.

والمفهوم أن سن ياتسن وأنصاره نقموا على هذه السياسة خوفا على مستقبل الجمهورية، وانتظارا منهم لتسوية مسائل القروض والديون والجمارك والمواصلات على أساس جديد يناسب الدولة الحديثة، مع مناداتهم باحترام المعاهدات إلى أن تتم التسوية المنتظرة، خوفا من تأليب الدول على العهد الجديد.

وكان من رأي سن ياتسن أن يستعان ببيوت المال والصناعة في اليابان على تمويل مشاريع التعمير الأولى؛ لاعتقاده أن اليابان لا تستطيع أن تنفرد بامتياز يخصها على حدة، وأنها إذا حاولت أن تنفرد بامتياز كهذا صدتها الدول مجتمعات دون أن تنتظر التخويف أو الإثارة من قبل الحكومة الجمهورية، فالواقع أن الدول التي لا تحمي سيادة الصين غيرة عليها بل خوفا من غلبة إحداها على هذا الميدان الفسيح، ومن تغلبت عليه طغت على العالم بقوة تخشاها الدول جمعاء.

وقد عرف من مفاوضات يوان أنه قبل ضمان الملح في الدولة الشاسعة لسداد قروضه الأخيرة، فأبرق سن ياتسن إلى الدول يحذرها، وأعلن الرئيس ويلسون كما تقدم تنحي الولايات المتحدة من مجلس الديون.

ووقعت الواقعة بين الرئيسين.

وصرح الشر باسمه بين العاصمتين.

وتمادى يوان في أساليبه، فنكل بخصومه وأرسل إلى زعيم معارضيه بالمجلس (سنج شيو جين) من يقتله وهو على رصيف محطة شنغهاي يهم بالسفر إلى الشمال، وقبض على قاتله في مكانه، ولكنه خنق في السجن قبل أن يوجه إليه سؤال.

وتتابعت حوادث الاغتيال وتعطل البرلمان بوقف جلساته أو فصل أعضائه من حزب الكونتانج أو رشوة الأعضاء الآخرين، وتدرج يوان من إكراه الأعضاء الباقين على تجديد انتخابه إلى إلغاء الجمهورية وإعلان الإمبراطورية، فنادى بنفسه إمبراطورا ولما تنقض على الجمهورية أربع سنوات (يناير سنة 1916).

وكانت الحرب العالمية الأولى قد شغلت الدول الغربية عن الصين وعن اليابان، وسنحت الفرصة لليابان فوجهت إلى حكومة يوان مطالبها التي اشتهرت بالمطالب الواحدة والعشرين، ومنها اعتراف الصين بحق اليابان في الاستيلاء على مخلفات ألمانيا وامتيازاتها، والاعتراف باحتلالها لمنشوريا ومنغوليا الشرقية، وتخويلها حق الرقابة على مناجم الفحم والحديد، وأن تتعهد الصين بألا تسمح لطرف ثالث باحتلال موانئها ومراكزها التجارية، وأن تقبل المستشارين والخبراء من اليابان للإشراف على شئونها السياسية والعسكرية والاقتصادية.

ولم يسع يوان أن يجابه اليابان برفض مطالبها، لاشتغال الدول عنه واشتغاله بمكافحة الثورة الداخلية، فوقع المعاهدة بينه وبين اليابان (في الخامس والعشرين من شهر مايو سنة 1915) على هذه الشروط المجحفة بعد تعديل طفيف لا يقدم ولا يؤخر في جوهرها، وكان إذعانه لهذه الشروط إحدى الضربات القاضية عليه، فزادته خذلانا بين خصوم الجمهورية فضلا عن دعاتها وأنصارها، ومكنت سن ياتسن من مقاتله ومن تجميع القوى شمالا وجنوبا على حكومته، فاعتقد أهل الصين أنه باع البلاد وباع الأسرة المالكة وباع الجمهورية ليشتري لقب الإمبراطور.

وجاءته النكبات من المخلصين وغير المخلصين، فلم يبق حوله أحد من الوزراء الأكفاء الذين قبلوا معاونته بموافقة سن ياتسن حثا له على إنجاز برامج الإصلاح ورياضة له على الاعتدال واتقاء للبغتة والمفاجأة، واقتدى به غير المخلصين فاشتغل منهم بولايته ووجد من يبايعه بالإمارة على هواه، ولا فائدة هنا من تعديد الأسماء فإنها تبلغ المئات لم يثبت اسم منها طوال الأزمة على ولائه لهذا الفريق أو لذاك الفريق، ومن بقي منهم على عهد الثورة لم يبق على خطة واحدة من خطط الحرب أو خطط المسالمة.

وغني عن القول أن نقمة بكين كلها كانت تنصب على رأس رجل واحد هو سن ياتسن؛ صاحب الاسم الذي تدور حوله كل دعوة إلى مقاومة السلطان المطلق، وكان هذا الزعيم الأمين صريحا مع الطاغية الباقعة فأبرق إليه منذ الخلاف الأول (أبريل سنة 1913) يعلنه بالعداء ويقول له في غير مواربة: «إنك تخون الوطن، وإنني لمحاربك منذ الساعة كما حاربت الأسرة المانشوية.» وعاد بعد شهر فأبرق إليه يطلب إليه الاعتزال، وعاد بعد شهرين فأبرق إلى رؤساء الأقاليم يدعوهم إلى خذلانه والثورة عليه، صارحه بهذا العداء منذ ركب رأسه وتصرف بأموال الدولة كأنها من ماله، ووضح من كل استعداد له أنه استعداد لقمع الشعب والتزلف إلى الدول بالتفريط في حقوقه ومصالحه، فما كادت اليابان أن تفرض على البلاد دعاواها الواحدة والعشرين حتى قبلها بعد يوم واحد من توجيهها إليه، أبرقت إليه بمطالبها في السابع من شهر مايو سنة 1915، وأجابها إليه بغير تعديل ذي بال في التاسع من الشهر، ووقع الاتفاق المهين بعد أسبوع.

وخيل إليه أنه يخدع البلاد والدول جميعا عن نياته، وأنه ضمن الاعتراف من الدول سلفا بسياسة الخنوع والرشوة، فجمع من أنحاء الشمال والجنوب مؤتمرا وطنيا يتألف من ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين عضوا وصلوا إلى العاصمة قبل ختام السنة، وسئلوا رأيهم فكانوا جميعا على رأي واحد: وهو تغيير نظام الحكومة وإقامة الملكية الدستورية ومبايعة يوان شي كاي ملكا دستوريا بلقب الإمبراطور.

وانكشف الإخراج المسرحي حين كتب إلى المؤتمر الوطني يرجوه أن يعيد النظر ويعفيه من الإلحاح عليه ويقول له: «إنه ما دام قد أجمع على إقامة الملكية الدستورية فلا محل لاعتراض رئيس الجمهورية على هذا الإجماع، إلا أن ترشيحه هو للملك قد أذهله، وأن السماء لهي التي تخلق الشعوب وتولي الملوك ولا تبديل لما تريد، وإنما يستحق ولايتها من كان على فضيلة نادرة ...»

ثم قال: وإنني أنا الرئيس قد خدمت الدولة ثلاثين سنة وبلوت الغير والصروف وما حصلت على شيء، وقد مضى على قيام الجمهورية سنوات أربع لقيت فيها الصعاب الجمة واقترفت الأخطاء الكثيرة، فكيف وما اتسع الوقت بعد لتصحيح تلك الأخطاء أستحق ذلك الشرف؟

ثم استطرد إلى محاسبة الضمير فتساءل: كيف يستريح من وخزه وهو يفكر في مولاه النازل عن عرشه؟ أو يفكر في قسم الولاء للحكومة الجمهورية؟

ثم قال: إنه لا يقوى على هذه المحنة إلا إذا شفع له فيها وعده بنسيان نفسه والتضحية بكل عزيز عليه فداء لوطنه، وإنه ليرجو مع هذا ألا يلجئه المؤتمر إلى مأزق يأباه ولا يزج بنفسه فيه وهو راض، وأمامه المرشحون للملك يختار منهم من يشاء عداه، وهو من يبايعه ويرضاه.

فلم يمض غير قليل حتى عاوده رسل المؤتمر بسجل طويل سردوا فيه فضائله ومزاياه وعددوا فيه مآثره على البلاد وخدماته للعرش وللجمهورية، وذيلوه بالفتوى التي تحله من حساب ضميره، فقد كان عليه أن يبر بقسمه للجمهورية ما دامت الجمهورية، ولكنها تزول يوم يزيلها الشعب فلا توجد ولا يوجد لها قسم في الرقاب، وإنما المسئول من أزالها لو لم يكن له حق في إزالتها أو إبقائها، ولا نكران لحق الشعب في الحالتين ... فلا شأن «لإمبراطورنا» يوان شي كاي بما قضاه رعاياه.

هذه فصول من المسرحية تلتها فصول أخرى، كلفت الدولة الصينية كما هو واضح جهد الجبابرة لو صح أن يوصف بالجبروت هزل كهذا الهزل ومجون كهذا المجون، ولو أنها كانت مسرحية تمثيل كلفت ممثليها ومخرجيها عشر هذه التكاليف لنجحت أضعاف هذا النجاح، ودام تمثيلها على الأقل بضعة شهور واستعيدت بعد سنوات، ولكنها بعد كل هذا العناء لم تشغل من مسرح السياسة الصينية أكثر من بضعة أسابيع، فإن «الإمبراطور» «على الرغم منه» وضع التاج على رأسه وأسبغ الطيلسان على كتفيه في مطلع السنة (1916) وخلعهما - باختياره - في الثاني والعشرين من شهر مارس مستجيبا هذه المرة أيضا لمشيئة الشعب، وأذاع أنه قانع برئاسة الجمهورية ما دام الشعب ينفر من لقب الإمبراطور.

وبديه إنه لم يلبس التاج والطيلسان مطيعا للشعب ولم يخلعهما لطاعته، وإنما افترى على الشعب أولا وآخرا، وحاول أن يتشبث بالملك ما استطاع ولم يحسبه حسابا لصدق النفوس في الوطنية ولا لخسة المطامع في أمثاله وبين صميم أعوانه، فعصف به خلل الحساب، وما كان له من قدرة يفخر بها غير صواب الحساب.

وما هو إلا أن جلس على عرشه يتقبل التهاني من حاشيته وأذنابه حتى تجاوبت أرجاء الصين بصيحة أعوان سن ياتسن الذين أطلق عليهم اسم الإخوان المتعاهدين: أنقذوا الجمهورية! أنقذوا الوطن، ولم تبال الطوائف الفتية منها أن تخرج للمظاهرة والهتاف بهذا النداء بين سمعه وبصره، وأثبتت التجربة كرة أخرى أن عادات الشعوب الأصيلة أنفع لها وألصق بها من النظم المستعارة، فإن الأحزاب السياسية لم تبلغ من خدمة وطنها في هذه المحنة بعض ما بلغته الجماعات و«الأخوات» التي تعودتها الصين منذ آلاف السنين، وكانت جماعة «الإخوة المتعاقدين» أنشط هذه الجماعات وأقدرها على تلبية الرأي العام وقيادته ونشر الأخبار سرا وجهرة بين جماهيره إلى أقصى أطراف البلاد النائية، وثابرت على نشاطها بعد سقوط الطاغية وذهاب «الإمبراطورية» المغتصبة.

ومن الصدق للتاريخ أن يقال: إن فعل الخيانة في هذه المحنة لم يكن أهون وقعا على يوان وزمرته من فعل الأمانة والنخوة، ولكل شيء آفة من جنسه كما قيل.

ففي أسبوع واحد حذا المحتالون من أصحاب المطامع حذوه وأعلنوا استقلالهم بأكثر من عشرة أقاليم، وحز في نفسه أن معظم هؤلاء كانوا من أذنابه ومأجوريه، فاعتزل الملك وأخبار الممالك الداخلية المستقلة تلاحقه حتى أطبقت عليه الطامة الكبرى باستقلال رشوان وهونان وعليهما أقرب أعوانه وصنائعه ... فقضى عليه الغم والكمد في السادس من شهر يونيو، ولما ينقض على صعوده إلى العرش ستة شهور ولا على نزوله عنه ثلاثة شهور.

روى التاريخ أن يوليان المرتد كان ينادي قبيل وفاته بينه وبين خاصته وبينه وبين نفسه: أيها الجليلي، لقد انتصرت! يعني «السيد المسيح».

ورواية التاريخ هذه لم تثبت ثبوت اليقين، بيد أنها رواية معقولة لا داعي لنفيها واستغرابها، فقد كان الباقعة الصيني، المعتز بدهائه وسلطانه وما يفعله المال والسلاح يعجب قبيل نزوله عن العرش ويعيد العجب قبيل موته، كيف يطاع سن ياتسن هذه الطاعة بغير دهاء وبغير سلطان أو مال أو عتاد، وتكاد صيحة يوان أن تكرر صيحة يوليان.

ولم ينفرد باقعة الصين بهذه الدهشة من فعل الزعامة القوية، فقد كانت دهشة مستشاريه الغربيين أعظم من دهشته، وجاء في كتاب برنارد مارتين عن الحمية العجيبة

Strange Vigour

أن الدكتور موريسون صاحب الفتوى الفقهية الاجتماعية التي سوغت ليوان اغتصاب العرش وقررت أن الملك أصلح أنظمة الحكم للصين، دعا إليه الدكتور جيمس كانتلي أستاذ سن ياتسن ساعة احتضاره وهمه أن يعترف له قبل مفارقة الدنيا بأنه قد جهل قوة سن ياتسن وعظمته الشخصية، وأنه لو كان عرفه حق معرفته لاتخذ تاريخ الصين مجرى غير مجراه، قال: وبودي لو يصبح اعترافي هذا معروفا للناس!

وتتجلى المكانة الهائلة التي رزقها هذا الرجل من نوادر لا عداد لها يقصها الأجانب والوطنيون ويتحدثون فيها عن الخاصة والعامة من قومه، وربما كانت كلمة المكانة أضعف من التعبير الصحيح عن هذه الخاصة العجيبة التي لا يرزقها جميع الزعماء، فلولا أنها مكانة ثقة أو محبة لكانت كلمة السطوة أحرى أن تدل عليها حق دلالتها، ولولا أنها سطوة روحية لما نجح بشخصه منفردا - كما روى الجنرال موريس كوين - في إقناع قائد جيش عاص بالارتداد مع جيشه وراء المدينة، تهدئة لروع السكان.

وتقدم من بعض الأخبار ما يشير إلى عادته المرعية في تحميل التبعات والمحاسبة عليها، فإنه لا يشهر العداء على أحد حتى يبرئ ذمته من تذكيره ونصحه، وجريا على هذه العادة أبرق بعد وفاة يوان إلى وكيله لي يوان هنج يحذره من تحدي الدستور ومجاراة طلاب الانقلاب الملكي وإعادة الإمبراطور الصيني «بوتي» إلى عرشه، وكان هذا الوكيل يتولى منصبه ويقيم بالعاصمة الشمالية بعيدا من سن ياتسن وأشياعه، فلما وصلت إليه البرقية تخلى عن منصبه وعن المنصب الذي أسندته إليه الحكومة الموقوتة، ولم يحفل بغضب القادرين عليه مرضاة للزعيم الذي يطارده الأقوياء ولا يكاد يأمن على رأسه.

ويعلم المتتبعون لتاريخ الصين الحديث أن الصلابة والعناد أبرز صفات القائد شيان كاي شيك خليفة سن ياتسن على زعامة الصين، ولم يكن شيان على وفاق مع أستاذه في كل موقف وكل خطة، فخالفه مرات ولم يخطئ دائما في هذا الخلاف، بيد أنه كان يخالفه وهو بعيد، ويروغ من لقائه كلما تسنى له أن يداري روغانه خجلا من مخاطبته وجها لوجه بالخلاف، ولم ينفرد شيان بهذا الأدب مع أستاذه العظيم، بل كان مثلا يحكيه غيره من تلاميذ الرجل أو معارضيه، فهم جميعا يتقون لقاءه بالمعاندة والمكابرة، ولا يجترئ عليه إلا من يجهله ويجترئ بسورة البهيمية الجامحة على كل مقام.

ومكانته هذه بين العامة من قومه هي التي قاومت طغيان يوان ومناوراته وأحابيله التي ينخدع بها الدهماء من كل أمة، فلما اجتمع مؤتمره وأجلسه على العرش ونشرت وثائقه في الصحف وعلى المنابر وبين جماهير المستمعين كان السؤال الذي يتردد على كل لسان: وماذا يقول سن ياتسن؟ وأين توقيعه مع الموقعين؟ ثم يوصد السائل أذنيه عن كل مقال!

وطالما تضاحك الأمريكيون من هذه السذاجة كلما صادفتهم عرضا في دوائر الأعمال والمعاملات، فمن ذاك أن أهل الصين المقيمين بالولايات المتحدة عرفوا اسم الدكتور موريس وليام الذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام على مصادر ثقافة الزعيم، فإذا استرابوا في وثيقة تجارية أو نصيحة من محام أو محادثة من صحفي - وهم بمانهتان حيث يقيم الدكتور - قالوا لمن يناقشهم: هاتوا لنا كلمة من الدكتور وليام، ولا تجدي محاولة قط ما لم يسمعوا الكلمة من الدكتور.

ولم تضعف هذه الثقة إلى سنة 1941 بعد وفاة الزعيم بست عشرة سنة، فلما أرادت مسز فرانسس ماسون أمينة صندوق الإعانة الصينية أن تغتنم مناسبة 10 أكتوبر سنة 1941 لنشر الدعوة للصدقة يوم الاحتفال بعيد الجمهورية، واقترحت على طائفة من عامة الصينيين أن تنشر صورهم في الصحف مشفوعة بأحاديث مروية عنهم، تستجلب بها العطف على فقراء بلادهم، كان جوابهم: نعم، نفهم هذا، ولكن لا نفهم لماذا تصوروننا لإعانة أناس يعيشون هناك؟ وماذا عسى أن تعمل صورة هذا الشيخ أو تلك المرأة لتقوية الجند على حرب اليابان وضمد الجراح وإطعام المنكوبين؟

وكادت السيدة أن تجن من الغيظ وأن تصرف المصورين الذين حضروا في مكاتبهم وصبروا نحو ساعة على سماع حوارها. وذكر أحدهم اسم دكتور موريس وليام مستشهدا به على مسألة لا علاقة لها بموضوع الحوار، فلاحت على وجه زعيم الطائفة مستر بنج بارقة حياة، بعد أن لبث برهة كالصفحة الممحوة بلا كتابة ولا رمز ولا إشارة، وسألهم: أأنتم من معارف الدكتور؟ فلما قالوا له نعم، ونقلوا إليه بعض أخباره، قال لهم: حسن، الآن أحدثكم بقصة عن بلادنا وآذن لكم أن تنشروا معها صورتنا ...

وكان لتسعة من التجار الصينيين مشكلة مالية فاستشاروا أحد المحامين فأنبأهم أنها تستدعي ذهابهم إلى المحكمة وإدلاءهم هناك ببعض البيانات، قالوا: إن أشار علينا الدكتور وليام بالذهاب ذهبنا، وإلا فنحن مختارون للمشكلة محاميا غيرك ... وحاول المحامي أن يفهم علاقة الدكتور بالقضية وهو طبيب أسنان، فلم يفهم منهم شيئا حتى اتصل بالدكتور على التلفون، وعلم منه سر هذا «التفويض» القومي الغريب عند جميع الصينيين بالمدينة، ولا سيما الوافدين حديثا من غير المتعلمين.

1

ليست هذه طاعة رعية لرئيس جمهورية، ولكنها ثقة أبناء الوطن بمن سموه أبا الوطنية في بلاد تقديس الأسلاف، وتنسى أن أبوة الزعامة أبوة مجاز فلا تفرق بين الولاء لها والولاء لعبادة الآباء والأجداد.

ولم يؤثر عن أبناء الصين أنهم من ذوي الخيال أو ذوي المزاج الذي يسميه الغربيون بالمزاج «الرومانتيكي»، ويقصدون به صبغ الحياة بصفة الحماسة الشعرية والفخامة الوهمية، فالقوم كما قدمنا عمليون أرضيون يقدرون الأمور بمقادير الحس القريب ولا يعجبون إلا بما يبصرونه ويدركونه ويلمسون شواهده في معارض الواقع والعيان، فزعيمهم سن ياتسن لم يسخرهم بالخيالات والأباطيل، بل كسب الثقة منهم بيقين لا يمتري فيه اثنان، وليس أدعى إلى الثقة بالعظيم عند الناس من ثبوت نزاهته أمام المغريات والمخاوف، ويقينهم أنه لا يبالي مخاوف الموت ولا مطامع الحياة، وقد رسخ هذا اليقين عندهم في نزاهة الرجل حتى أصبح الشك فيها كالشك في رؤيته وسماعه ووجود شخصه، فبلغ بهذا اليقين ما لا تبلغه رئاسة الرؤساء وقدرة الزعماء.

والواقع أن الرجل فني في رسالته حتى لم يبق له وجود بمعزل عنها، وأذهل أنصاره وخصومه بنشاطه بعد قيام الجمهورية كما أذهلهم قبل ذلك بالسعي الحثيث إلى إقامتها، وأوشك أن يحسب من أصحاب طبائع الجان التي توجد في كل مكان، فبينا هو بكانتون إذا هو بشنغهاي وإذا برسالة له تقل من اليابان، أو من الجزر والسواحل المستطيلة من الجنوب إلى الشمال، ويخيل إلى مطارديه أنهم أحاطوا به وسدوا المنافذ عليه ثم يسمعون بأخباره على قيادة جيش أو على ظهر سفينة أو على منصة مؤتمر حاشد، لا يدرون كيف احتشد وكيف وصلت دعوته إليه، وبينا يخيل إلى أتباعه وأشياعه أنه قد يئس واستكان إذا بالأوامر منه تثيرهم إلى النضال وتحتم عليهم النصر «وعليهم أن يظفروا؛ لأنهم لا طاقة لهم بالهزيمة» فالنصر أيسر المطلبين.

وقد ولاه وكلاء الأمة المجتمعون في الجنوب كل منصب تشتد حاجتهم إليه، ولوه قيادة الحملة على الشمال، وأعادوا انتخابه لرئاسة الجمهورية وفوضوا إليه السفارة مع من يشاء، وكان قبوله لكل منصب من هذه المناصب بمثابة التسليم للموت والنكبة، فقبل أخطرها وأعسرها ولم يتردد إلا حين لا خطر ولا عسر ولا مظنة فيهما، بل قبل مرة أن يكون واحدا من سبعة لإدارة الحكومة على نظام القنصلية، ردا لدسيسة الطابور الخامس الذي كان يعمل في الجنوب بإيعاز من بكين.

وساوموه أياما على قسمة الشمال والجنوب وطنين منفصلين، بكين كمعناها عاصمة الشمال، ونانكين كمعناها عاصمة الجنوب، فكان على كراهته للحرب الأهلية يجيب على المساومة بصيحة «الصين الكاملة» ويقول: إن الصين لو بقيت في مثل نصفها متحدة كاملة أصح وأقوى من الصين ذات العاصمتين المنعزلتين.

وعمت الفوضى حتى أصبح سلطان العاصمة ينتهي عند جدرانها، وحتى أصبح حكم «الانتخاب الطبيعي» بين القواد هو الحكم الذي تقره دواوين العاصمة، فإذا غلب القائد من ينافسونه وينازعونه فوظيفة العاصمة أن تقر هذا «الانتخاب الطبيعي» ويشيع المغلوب بالذم والعقاب!

وإذا كان صبر يضرب به المثل فهو صبر الزعيم الجليد بين مذاهب هذه الفوضى ومنازع هؤلاء القادة: كان يفتتح المدارس العسكرية لتخريج القادة منها بعد سنوات قادرين على قهر القادة المتنازعين، وإلزامهم الطاعة بحكم «الانتخاب الطبيعي» الذي احتكموا إليه.

وجرب من مرارة الصبر - أو من حلاوته - أنه كان يرى ألد خصومه يثوبون إلى رأيه حقبة بعد حقبة على مناقضته وعصيانه، فكان يقول لهم باسما: لا تحتفظوا للغد بالندم على مخالفة اليوم.

وقد عابه الناقدون من الأجانب على الخصوص بالتشبث والعناد لغير ضرورة؛ لأنه أصر على رفض كل مساومة ترمي إلى التقسيم كائنا ما كان المصير، وكان أناس من قومه يوافقونهم كلما كلفتهم المقاومة عنتا يودون لو أعفاهم منه الزعيم العنيد، فلما قضى نحبه ونزلت النوازل بعد فوات الوقت كان منهم من يحسب أنه لم يتشبث كما ينبغي ولم يبلغ الكفاية من تشديد النكير، ولو أنه عاش لما فرغ من الملامة التي يؤجلون الندم عليها إلى الغد بعد الغد، بغير انتهاء.

مع الدول

يسمي الصينيون بلادهم بالبلاد الوسطى أو مركز العالم، فكل ما ابتعد منها فهو أطراف ومجاهل.

وكانت بلاد العالم تبادلهم هذا الشعور وهذه العقيدة، فمن أقام على مقربة من تخوم الصين يعلم أنه على مقربة منها، ولكنه يتكلم عنها كأنما يتكلم عن حيز من الأرض معزول وراء جدار، ولا يزال بعض أصحاب النحل الذين يقيمون إلى غرب القارة الآسيوية يعتقدون أن الصين هي العالم الأخير، فمن فارقت روحه العالم فإنما تفارقه لتذهب إلى مطلع الشمس من بلاد الصين!

وزاد الشعور ببعد الصين، أو بغرابتها، أن الذين طوحوا بأنفسهم في الأسفار، ووصلوا إليها قفلوا إلى أوطانهم يهولون ويبالغون في التهويل كدأب الرحالين الذين يحبون أن يوهموا الناس أنهم ركبوا الأهوال من أجل شيء يساوي مراكبها ومعاطبها، فلا يقنعهم الغريب حتى يغربوا في وصفه إلى الغاية من الإغراب، وجاء زمان كان المستمع فيه إلى كل غريب يحسبه لأول وهلة حديثا عن الصين، وأصبح من مضارب الأمثال حين يغلو المتكلم في استغراب كلام أن يقول: «هذا صيني بالنسبة إلي» أي هذه لغة لا تدخل في عداد اللغات التي يتفاهم بها السامعون.

ومن حظ الصين أنها اقتربت جد الاقتراب من أيدي المستعمرين وهي لا تزال بهذا المكان من الغرابة عند أمم المشرق والمغرب.

فالجزر البريطانية والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندة قائمة على شواطئ البحر الأطلسي، ولكنها كانت قد وصلت برواد الاستطلاع والاستعمار إلى الهند وما جاورها، فأصبحت من الصين قاب قوسين، وأصبحت الصين خط الامتداد الوحيد أمامها كلما طمعت في التوسعة أو ضاق بها المقام بين الطامعين المتغلبين.

ولما هب النائمون وفتحوا أعينهم على ميادين الاستعمار كانت الصين أقرب ما تناولوه، فتناولوا منه ما قدروا عليه ...

هبت روسيا واليابان لسباق الاستعمار بعد منتصف القرن التاسع عشر الذي عرف بالهجمة الاستعمارية الكبرى، وعلمت روسيا أن الاقتراب من الهند غير مأمون العاقبة، فلم تجد أقرب إليها من الصين.

أما اليابان فلا خيار لها في القربى، وإنما تأخر بها الزمن ولم يتأخر بها المكان، فانتهبت نصيبها مع المنتهبين.

كل هذا والدنيا لا تستغرب أخبار هذه المنهبة العالمية، فكل ما جاء منها فهو مكسب للبشرية من تلك المجاهل الغريبة، وكل مأخوذ فهو حق مباح .

ذلك من حظ الصين أو من سوء حظ الصين.

وبقيت في المكيال بقية تبرعت بها الدولة الصينية على غير قصد منها، فلم ينقل الناقلون عنها إلا كل غريب يسوغ تلك النظرة الغريبة، ويملي للقوم في الاستباحة والانتهاب.

وكانت هجمة بغير عنان، ثم توقفت على كره من الهاجمين، وتجمعت الدواعي من شتى الجهات لتوقيف ذلك الهجوم.

فأول هذه الدواعي أن الهاجمين على الغنيمة أشفقوا أن يتنازعوا عليها، فتريثوا على قلق وارتقاب.

وجاء الداعي الأهم بعد هذا من قبل الولايات المتحدة خوفا على ميزان الأمان في المحيط الهادي، فقد أخرجت إسبانيا من الفيليبين فلم تلبث أن وجدت أمامها من هو أخطر من الإسبان يتسابقون إلى غنيمة أكبر وأضخم من جزر الفيليبين: وهي الصين. ووافق حذرها هذا حذر الدول المستعمرة من تنازعها وتنافسها على الحصص الباقية، أو حذرها أن يموت صاحب التركة ولما يتفقوا على تقسيم ميراثه، فتوفقوا واستمعوا نصيحة الولايات المتحدة بالتوقف، وحرموا على أحدهم أن ينفرد بالدار المفتوحة لكل واغل وداخل، وسموا هذا التحريم الخاص أو هذه الاستباحة العامة بسياسة الباب المفتوح.

وداع غير هذه الدواعي أن التنين الغريب زالت عنه الغرابة، وزالت عنه حجة الاستباحة.

كان ابن السماء يحتج على استباحة أرضه، فيثبت باحتجاجه أنه يرطن وأنه من عالم آخر تفصله ألوف الفراسخ وألوف السنين.

وكانت رعاياه - رعايا ابن السماء - تحتج وتغضب فتضيف المئات من الفراسخ والمئات من السنين إلى تلك الألوف، فلم يكن أغرب من ابن السماء إلا أبناء أرضه دعاة السلام، أو الملاكمين دعاة الصراع ... ولما أراد رسول التايبنج أن يقترب بعض الاقتراب قال قولته التي جعلته أعجوبة الأعاجيب في أرض العجائب، قال: إنه شقيق المسيح الأصغر، فكان الوثنيون من قومه أدنى الفريقين إلى العقول والأسماع!

ثم فتح العالم أذنيه على صوت جديد: صوت ليس بالغريب عن الصين، وليس بالغريب عن العالم، في لهجته نبرة صينية لا خفاء بها، وفيها نبرة إنسانية لا خفاء بها كذاك، أو لعلها أدنى إلى الإنسانية من بعض ما يسمعونه بينهم، عصر القوة والقسوة والعداء والاعتداء.

ذلك صوت النهضة الحديثة من العالم القديم.

ذلك صوت «الصينية» التي تفهم ولا يضرب بها المثل في الإبهام والخفاء على الأفهام.

وانبرى العالم يتفهم ويتقرب.

أصبحت الصين جزءا من العالم.

ومن حظ الصين هذه المرة أيضا أنه العالم المنقسم على نفسه، فكل قسم منه يريد هذا الطارق الجديد إلى جانبه، إلا أنه يريده ليأخذه من طريق التفاهم بعد طريق السطو والسطوة، ولا يريده ليسلم ويسلم معه من غائله القوة والقسوة، وبلاء العداء والاعتداء.

فالسياسة الاستعمارية أبت، بعد النهضة الصينية، أن تعلم أن الصين تجشمت متاعبها وبذلت ضحاياها لتخلص من مساوئ العهد القديم لا لتبقيه وتطيله؛ كأنها لم تتجشم متعبة ولم تبذل ضحية، فصمدت على دأبها من الطمع والإهانة، وخيل إلى ساسة الغرب أن احتلال بقعة من بقاع الصين واغتصاب جزء من سيادتها قد صار مظهرا من مظاهر الوجاهة الدولية، يعاب على الدولة أن تفقده بين نظرائها ولو لم تكن لها مصلحة فيه. فلما رأت إيطاليا أنها تصعد على مراتب الدول نظرت إلى ما يعوزها من مظاهر الوجاهة فلم تجد لها فرضة على سواحل الصين ولا مرفقا من مرافقها، فطلبت منها أن تؤجر لها إقليم فيوكين البحري وميناء «سان تو آو»، وأوشكت أن تجرد عليها حملة لإرغامها على قبول مقترحاتها.

لا جرم تعود الدول سنة 1922 فترى أنها لا تزال كما كانت قبيل بداية القرن العشرين، وتتفق الدول التسع على معاهدة واشنطن لتعطي الصين أمانا على سيادتها وتحرم على إحداهن أن تنفرد بمزية فيها، وتعيد فتح الباب الذي يتسع لدخولهن مجتمعات على سنة المساواة ...

ولما انقسمت الصين بين حكومة الشمال وحكومة الجنوب رحبت الدول بهذا الانقسام وجعلته ذريعة للمزايدة في المطالب بين الخصمين المتنازعين، ولم تعترف بخير الحكومتين بل أفهمتهما معا أنها تعترف بمن يذعن لأمرها ويتقبل مطالبها ويتابع السير على سياسة العهد القديم بجميع تفصيلاتها.

وفحوى ذلك بعبارة موجزة، أنها لا تعرف حكومة سن ياتسن ولا تعمل على مؤازرته، ولا تزال تنظر إلى الصين كأنها سوق مستباحة، وتحسب أنها خاسرة يوم تصبح الصين حوزة لا تستباح.

والمطلوب أن يكون الرجل «سياسيا عمليا» باللغة التي تعنيها السياسة الاستعمارية.

وكل شيء تقوى عليه الطاقة البشرية إلا أن يصبح «أبو الوطن» سياسيا عمليا بهذا المعنى.

وذلك هو الحرج، أقسى الحرج في زعامة الأمم.

وتلك هي مسكنة العظمة ومظلمة الصدق والشرف.

لقد كان كل نهاز محتال في بكين سياسيا عمليا حكيما عليما بمنطق الواقع، مرجحا على سن ياتسن في هذا المضمار، بميزان الخيانة والاستعمار.

أما سن ياتسن فغاية ما استطاعه من الحكمة العملية أنه صرح بحاجته إلى رءوس الأموال الأجنبية، وأراد أن يكون فتح الباب لتثمير الأموال في مشاريع التعمير عوضا عن الحقوق الأجنبية المدعاة والامتيازات القضائية والاقتصادية المفروضة على الشعب والحكومة، فتلغى المعاهدات الجائرة باتفاق الطرفين، ويتفق الطرفان على تثمير الأموال بما يعمر الصين ولا يحيف على استقلالها وحرية حكومتها.

ولما اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى كانت للصين فيها سياستان متعارضتان: سياسة الشمال وسياسة الجنوب.

فأما سياسة الشمال فكانت تعطي كل شيء ولا تأخذ شيئا: كانت تسلم لليابان بما يشبه حقوق الحماية، وتقطعها الأرض التي جلا عنها الألمان وتخولها الإشراف على الدواوين والمعسكرات، وتشترك في الحرب العالمية.

وأما سياسة الجنوب - أو سياسة سن ياتسن - فهي تلتزم الحياد أو تدخل الحرب على ضمان، ولا ترى على أية حال موجبا للاشتراك في الحرب مع قبول مطالب اليابان.

وواضح أن سياسة الشمال هي السياسة التي لا مصلحة فيها لغير حكومة بكين، ولا باعث لها غير التزلف إلى الدول للاستعانة بأموالها ومناوراتها السياسية على البقاء.

وواضح أن سياسة الجنوب تكسب للصين إن كسبت، ولا تكلف الصين خسارة أكبر من الخسارة الواقعة، إن خسرت.

وواضح أي السياستين هي السياسة العملية الحكيمة بالنسبة إلى الصين، وأيهما هي السياسة العملية الحكيمة بالنسبة للاستعمار.

ولا أحد من الساسة الأجانب يرتضي الحكمة العملية بالنسبة إلى الصين مهما يكن حظها من الوضوح، ولا استثناء لسياسي أجنبي في هذا المجال مهما تكن صبغته وصبغة الحكومة التي ينتمي إليها، ومنها حكومات ثورية تنكرها جميع الحكومات.

فمن سخرية القدر أن رسول حكومة الثورة الروسية قصد إلى بكين بعد انتهاء الحرب العالمية بثلاث سنوات، ولم يعترف أول مقدمه بحكومة الجنوب، وكان هذا الرسول - أدولف جوف - يزف إلى أهل الصين بشرى النزول عن حقوق المعاهدات وهي بشرى يتقبلها سن ياتسن بالترحاب؛ لأنها عنوان سياسته وأصل من أصول برامجه الدولية والوطنية، ولكنه عندما كشف عن رسالته لم يعجب أحد لاعترافه بحكومة الشمال، وتجاهله لحكومة الجنوب.

كان هذا الرسول يبلغ الصين نزول حكومته عن حقوق خرجت من يديها، ويحتفظ بالمنافع التي تملكها، وهي منافع السكك الحديدية.

وهذه السكك الحديدية أقرب إلى الشمال.

وحكومة بكين أقرب إلى المساومة فيها.

فمن السياسة العملية أن يستقرب الشمال، وأنه مع الجغرافية والسياسة معا لقريب المنال. •••

إن القوى التي تعتبر مقياسا لعظمة الزعامة نادرة، لندرة العظمة بطبيعتها، وندرة اجتماع قواها في نفس الزعيم الواحد، ومن أندر هذه القوى - إن لم تكن أندرها جميعا - قوة الزعيم على مغالبة اليأس وابتعاث الرجاء من مكامنه حيث يضيع كل رجاء.

ويحار الباحث حين يبحث عن مصادر ذلك الرجاء في حوادث العالم أو علاقات الناس، فيبدو له أنها أحرى أن تكون من مصادر اليأس والتثبيط، ولا يهتدي إلى مصدر لها في غير سليقة الزعيم التي تخلق الرجاء لصاحبها وتخلقه للآخرين.

وقد امتحنت قوى الزعامة في نفس سن ياتسن مرات بعد مرات، من أيام الدعوة إلى أيام الثورة إلى أيام الرئاسة إلى أيام الانقسام في أمته وبين أعوانه وأعدائه، فلا نحسب أنها تعرضت لامتحان قط أعضل من امتحانها أيام الحرب العالمية الأولى.

فلو أنه التفت إلى عوامل اليأس في حوادث العالم أو في حوادث أمته أو في حوادث أصحابه وخاصته؛ لوجد في كل منها ما يملأه يأسا ويحجب عنه كل أمل يراود الحالم الممعن في الخيال.

كانت حكومة الصين قد استجابت دعوة الحكومة الأمريكية فقطعت علاقتها بألمانيا، ثم انتهت الحرب وانعقد مؤتمر الصلح وجلست الصين مع الدول المنتصرة، فإذا هي تعامل معاملة العدو المنهزم، وإذا بالمؤتمر يتبرع بإقليم شانتونج لليابان كأنه من تركة ألمانيا ولا علاقة له بالأرض الصينية!

ولم يجرؤ مندوبو بكين على توقيع معاهدات الصلح مع اشتهارهم بالاستسلام للدول الغربية، وغشيتهم الرهبة من الثورة التي أثارها سن ياتسن في الرأي العام فاكتفوا بالتوقيع على صلح النمسا، وأحجموا عن التوقيع على صلح ألمانيا، وفارقوا باريس وهم على وجل مما ينتظر حكومتهم بين سخط الرأي العام وسخط الدول المسيطرة عليها.

وقبل انعقاد المؤتمر بسنتين كانت حكومة الثورة الروسية تحلف حكومة القياصرة وتعلن لها سياسة خارجية غير سياستهم في الشرق الأقصى على الخصوص، وكان سن ياتسن يقول: إن الثورة الروسية نسخة من الثورة الصينية التي سبقتها بست سنوات، فأبرق إلى لينين يهنئه بزوال عهد القياصرة والاستعمار ويتفاءل بحسن المصير.

ثم تمضي سنوات بعد الحرب العالمية وترسل حكومة الثورة على القيصرية برسلها إلى الأمة الصينية، فإذا هم يقصدون إلى بكين، أو يقصدون إلى حيث تكون المساومة على الأقاليم والامتيازات، ويتجاهلون الثورة الصينية وقادتها ومقاصدها؛ لأنهم قوم لا يسامون ولا يساومون!

ومن أين يأتي الرجاء في السياسة العالمية!

من الغرب أو الشرق؟ من المحافظين أو الثائرين؟ من القارة الأمريكية أو القارة الآسيوية أو القارة الأوروبية؟ أو من الأمة التي لها قدم في أوروبة وقدم في آسيا؟

لا رجاء أينما نظر الناظر بين الآفاق والأرجاء.

ولكنه هناك في ينبوع واحد لا يفقد رجاؤه، وهو قلب زعيم.

وتشاء المقادير أن تغلق بكين أبوابها في وجه رسول الثورة الروسية؛ لأنها لا تفتح أبوابها بغير إذن الدول الكبرى.

فانفتح أمام الرسول باب الجنوب، والتقى هذا الرسول - أدولف جوف - بنواب سن ياتسن، وتبعه داعية من أقدر دعاة التنظيم والتهييج في الثورة الروسية، وهو ميخائيل بورودين، أو «بيرج» كما كان يسمى في أمريكا حيث تلقى دروسه الأولى، أو جروسنبرج

Grusenberg

كما كان يسمى في المكسيك حيث ذهب بأمر الدولة الثالثة لنشر الدعوة، وقد عرف بلاد أخرى غير روسيا وأمريكا الشمالية والوسطى؛ إذ كان في سكوتلاندة يحرض على الثورة، ثم كان مستشارا لمصطفى كمال.

وأراد سن ياتسن أن يستطلع الأمور على حقيقتها في البلاد الروسية، فأشخص إليها تلميذه الأكبر شيان كان شيك، واستقصى الأخبار والمعلومات من الطلاب الصينيين الذين كانوا يقصدون مدارس روسيا بعد شيوع السخط على اليابان.

ولم يفت بكين أن تغتنم الفرصة السانحة للتشهير بسن ياتسن في الصين نفسها وفي البلاد الأوروبية والأمريكية التي تساومها، فأطلقت ألسنة الصحف الوطنية والأجنبية تتهم الرجل بإفساد العلاقة بين بلاده وبلاد العالم المتمدن، وترويج الدعوة للشيوعية ومذاهب الفوضى بين قومه، وتدق ناقوس الخطر من جانب الزعيم «المارق من حظيرة الوطن وحظيرة الحضارة.»

وبينا هذه الضجة المسخرة تصم الآذان في المشرق والمغرب، ومؤامرات الاغتيال تدبر لقتل الزعيم وخاصته من جراء هذه التهم والشبهات؛ كان الرجل يبدأ كل مناقشة بينه وبين سفراء الروس بالتنبيه إلى المبدأ المرعي في كل اتفاق، وهو استقلال الصين وصيانة حقوق السيادة لها على أرضها، والتفرقة بين الصداقة السياسية والدعوة الشيوعية، ثم لا يكتفي بالتفاهم على هذا المبدأ في المناقشات الخاصة فيطلب من السفراء أن يرجعوا إلى حكومتهم لإقراره في بيان عام يذاع على الملأ بتوقيع الطرفين.

وصدر هذا البيان في السادس والعشرين من شهر يناير سنة 1923 وفي مطلعه: «إن الدكتور سن يرى أن أحوال الصين لا تسمح بتطبيق النظام الشيوعي أو نظام المجالس السوڤيتية، وأن مسيو جوف يقره كل الإقرار على هذا الرأي، ويضيف إليه أن قضية الصين التي هي أولى من كل قضية بالاهتمام والتعجيل هي استكمال وحدتها واستقلالها ...»

ويلي ذلك كلام عن قواعد الاتفاق على مسائل السكك الحديدية، ثم وعد قاطع بأن الحكومة الروسية لا تعمل على استقلال جزء من أجزاء الصين، وإشارة خاصة إلى أقاليم منغوليا وما جاورها. •••

والسياسة العملية التي توخاها الزعيم بهذا البيان هي إغراء الدول بهذه القدوة، وجلاء الحقيقة عن موقفه من الدعوة الشيوعية، ودرء المخاوف الباطلة داخلا وخارجا من نيات الحكومة الوطنية أو حكومة الثورة كما كانوا يسمونها. ولخص علاقاته الدولية بكلمتين: كلمة عن علاقته بالروس وهي «صداقة روسية ولا شيوعية» وكلمة عن علاقته بالدول الغربية وهي «عصرية ولا غربية» أو تجديد ولا تغريب

Modernisation and no Westernisation

وتجمعها في كلمة واحدة: وهي المحافظة على كيان الصين، ويريد بذلك كيانها الروحي فلا تفرط في ميراثها العريق من أجل الحضارة الحديثة، وكيانها السياسي فلا تشوبه دعاوى الدول ولا تقيده المعاهدات الجائرة.

وفي يوم المؤتمر العام الذي دعا إليه أعضاء حزبه بعد إعلان خطته نحو الدول دخل عليه كبار أعوانه في حجرته، قبل انعقاد المؤتمر، فرأوه مستغرقا في خريطة كبيرة يمثل عليها رسما بيانيا لسياسة الأحزاب والجماعات ... وكان هذا الرسم هو صورة دائرة كبيرة يدور محيطها على حلقات صغيرة، كتب على بعضها كلمات الاشتراكية والديمقراطية والشيوعية ورأس المال والماركسية، وترك بعضها بغير كتابة، فسألهم: ماذا تريدون أن تكتبوا في هذه الحلقات؟ اكتبوا ما تشاءون من الأزمات

Ismisms ؛ أي من عناوين المذاهب التي تنتهي في اللغات الإفرنجية بهذه الحروف، ولا يهم ما تكتبون ما دامت هذه الدائرة الكبرى محيطة بجميع الحلقات، وهي دائرة الوطنية الشاملة.

وعلم كل من يعامله من الوطنيين والأجانب أن المحافظة على كيان الصين هي القاعدة الراسخة التي لا هوادة فيها.

سعى إليه السفراء الرسميون وغير الرسميين من قبل الدول يزينون له الاستقلال بما في حوزته، ويعدونه أن تعترف الدول باستقلاله على أثر اعترافه بحكومة بكين، فلم يعن بالجواب على هذه المساومة، أو كان جوابه عليها مطالبة الدول بالكف عن التعرض لشئون الصين الداخلية سواء كانت خاصة بحكومة الشمال أو حكومة الجنوب.

وطالب الدول بالتخلي عن الجمارك في كانتون فلم تحفل بطلبه، وظنته «لجاجة شرقية» تبتدئ وتنتهي بالكلام. فاحتل الجمارك وأخذ في تحصيل الرسوم على البضائع الواردة، فلم يكد المندوبون الدوليون يصدقون أعينهم وهددوا بالمحاصرة واتبعوا التهديد بتسيير السفن الحربية وإنزال الجنود فيها، ونزلت الجنود فعلا فأنذرهم في اليوم الذي نزلت فيه إلى البر ليزيدن الرسوم الجمركية أو ترجع إلى مراكبها، واضطرت الدول إلى تغطية هذه المظاهرة والتفاهم على شروط جديدة لتحصيل الرسوم ونظام الاستيراد.

وأحست حكومة الشمال أنها تفقد «شعبيا» كلما كسبت «دوليا» من مجاراة المطامع الأجنبية، وأنها لا تأمن على وجودها طويلا إن لم تصطنع مجاراة الأمة مع مجاراة الدول الكبرى، فأصدرت (في سنة 1923) دستورا عصريا مستمدا من الدستور الفرنسي وبعض الدساتير الأوروبية الحديثة، وتخيرت فيه أرقى النظريات النيابية عسى أن تتقرب به إلى طوائف المجددين من أبناء الشمال وأبناء الجنوب، فلم يلبث هذا الدستور أن طوي قبل نشره وتطبيقه، لقيامه على أساس ينكره سن ياتسن ويعتبره مناقضا لقاعدة المحافظة على كيان الصين، وذاك هو أساس الحكومات الفدرالية، وظاهرها حسن مطابق للنظام الأمريكي الذي ارتضاه جمهرة من الناشئين المتخرجين من الجامعات الأمريكية، وباطنها سيئ يرمي إلى المساومة بين حكام بكين وحكام الولايات الطامعين في الاستقلال باسم الوحدة الفدرالية.

وقد رأى القراء فيما تقدم وسيرون فيما يلي أن سن ياتسن كان شديد الحذر من هذه القدوة الخاطئة، فإن الفدرالية كانت صلة الاتحاد بين الولايات الأمريكية المتفرقة، أما الفدرالية في الصين فهي تفريق للأمة المتحدة بين أصحاب المطامع والخوارج المتمردين.

ولم تملك حكومة الشمال أن تتجاهل نفوذ سن ياتسن بعد هذه المحاولات التي أحبطها جميعا باعتراضه عليها، واتهامه للأغراض المبيتة من ورائها، فتوسلت إليه تدعوه إلى زيارة بكين للتفاهم على قواعد الوحدة، وكانت هذه الدعوات تأتيه من قبل فيرفضها لضعف مركزه في الجنوب وخوف أنصاره في بكين من الظهور بتأييده، فاعتقد أنها فخاخ تنصب لاغتياله أو اعتقاله واسترهانه لمساومة أعوانه الجنوبيين على التسليم، فلم يستجب لتلك الدعوات واكتفى بشرح آرائه ومطالبه في المسائل المعروضة عليه.

أما هذه الدعوة فقد جاءته والقوة في جانبه والرأي العام في بكين نفسها يناصره ويشيد بذكره، وحكومة بكين مهددة مستضعفة بين المتمردين عليها والمتربصين بها من رعاياها، فاستجاب لها وأرسل قبل سفره إلى بكين طائفة من المقترحات وبيانا بالهيئات التي تدعى إلى الجمعية الوطنية لتمثيل الأمة برمتها، واشترط أن يشهد تلك الجمعية مندوبون عن الجامعات ومعاهد الصناعة وغرف التجارة ولجان الفلاحين والعمال، وسائر الطوائف من جميع الطبقات.

ثم أزمع السفر فبلغه في الطريق أن حكومة بكين رفضت مطالبه ومقترحاته، فلم يشأ أن يعود أدراجه، وواصل المسير إلى عاصمة الشمال، فوصل إليها في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر (سنة 1924) وأراد أن يواجه حكومتها بما يلزمها الحجة ويرد عليها دعواها التي تعودت أن ترميه بها، كلما أبى أن يقرها على سياستها.

إلا أنه لم يكد ينزل بالعاصمة حتى تراكمت عليه متاعب السفر ومتاعب المرض الذي كان يعاوده ولا يجد متسعا من الوقت لعلاجه، فانتقل إلى المستشفى وأجمع الأطباء على التعجيل بإجراء العملية الجراحية، وظنوا أنه يشكو خراجا في الكبد فظهر أنه سرطان مزمن لا أمل في شفائه ولا جدوى من علاجه، ولم تخف الحقيقة على الطبيب المريض فقضى أيامه الباقية في بيت صغير يلقى فيه أصحابه وزواره ولا يشغله عن الاستعداد للموت إلا أن يملي على خلفائه وصايا العمل من بعده، وهو يعلم وهم يعلمون أنها أيام معدودات يفارقهم بعدها الفراق الأخير. •••

مات سن ياتسن في الثاني عشر من شهر مارس (سنة 1925) وآخر كلمة في وصيته أن تنعقد الجمعية الوطنية لتوحيد الأمة وإلغاء المعاهدات الجائرة وتبادل الصداقة مع الأمم التي تعامل الصين على سنة المساواة.

الأحزاب والتلاميذ

أقسى المصائب ما يصيب الإنسان أو الشعب في كبريائه، وهو كذلك أنفعها له وأفعلها في تنبيهه لعيوبه وإيقاظه من غفلته، وقد كانت هزيمة الصين في حربها مع اليابان (سنة 1895) إحدى هذه المصائب النافعة، فأخذت تتساءل عن علة هزيمتها وعوامل القوة التي أتاحت لجارتها المحتقرة أن تنتصر عليها، فاتفقت آراء المفكرين فيها على تعليل ذلك بنظام الحكم وضرورة العمل بالأنظمة العصرية التي أخذت اليابان بنصيب منها.

وشرع الإمبراطور الناشئ في اقتباس النظم النيابية بمشورة نصحائه، وصدرت مراسيمه الأولى (سنة 1898) ببعض التعديلات الدستورية تمهيدا لاتباعها بغيرها، واستعد ولاة الأمر للسير المتدرج على هذا المنهج لولا المرأة المشئومة التي كانت تسيطر على البلاط في ذلك الحين، واسمها - لسخرية القدر - تزوهسي أي «الأمومة السعيدة»!

فهذه المرأة المشئومة تطيرت من حركة الإصلاح فأحكمت دسائسها داخل القصر وخارجه لانتزاع السلطان كله من يدي الإمبراطور الناشئ، وخيل إليها أن هذه الحركة الدستورية ألاعيب أطفال وأنها تعرف الأساليب التي تطرد بها الأوروبيين من مملكة ابن السماء ، فكان تدبيرها لفتنة الملاكمين إحدى هذه الأساليب، وشاء القدر على غير قصد منها أن تضرب العهد القديم كله بيديها، فارتدت اللكمات إلى صدرها، كما قال المستهزئون، وما أكثرهم في أيام المحن والأزمات.

وولد أول حزب سياسي على أثر الحركة الرجعية التي تعقبت حركة الإصلاح الدستوري بالإلغاء واضطهاد القائمين بها داخل البلاط ودواوين الحكومة، فأنشأ سن ياتسن جماعة «هسنج شنج هوي»؛ أي جماعة تجديد الصين بمقاطعة بكاو التابعة للبرتغال، وكان ذلك سنة 1892 بعد حركة الإصلاح الأولى بنحو أربع سنوات.

ووسع هذه الجماعة سنة 1905 أيام مقامه في اليابان وبعد طوافه في أوروبة فسماها جماعة «شنج كوتنج منج هوي»؛ أي جماعة الأخوة الصينية، ولم يجعل لها رئيسا، بل جعل لها مكتب إدارة يتولى العمل فيه باسم «تسنجلي»؛ أي المدير العام، وتتشعب فروعه في الصين وبين الجاليات الصينية حيث وجدت في البلاد الأجنبية.

واتبعت هذه الجماعة نظام الجماعات السرية إلى ما بعد إعلان الجمهورية، فحولها إلى حزب علني باسم الكومنتانج؛ أي حزب الوطن، وضم إليها جماعات أخرى كانت تعرف باسم الحزب الديمقراطي المتحد وحزب التقدم الشعبي وحزب التقدم الديمقراطي وحزب الشعب العام، وهي أحزاب كانت تدعو إلى الإصلاح الدستوري ولا تستلزم إسقاط الأسرة المالكة، فاتفقت مقاصدها ومقاصد سن ياتسن بعد إعلان الجمهورية، وانتخبته للرئاسة بإجماع الآراء، فقبل الرئاسة مؤقتا ثم تنحى عنها كعادته لصديقه (سنج شياو جن) وهو من أقطاب الدعوة الجمهورية وحراسها الأمناء.

وبعد نزول سن ياتسن عن رئاسة الجمهورية للقائد يوان شي كاي عمل هذا على مقاومة الكومنتانج؛ بفصل بعض الأحزاب منه وتأليف حزب يسمى «شنبتانج»؛ أي حزب التقدم، فتألف هذا الحزب الجديد ممن يسمون بالحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي وحزب الاتحاد، وذهب رئيس الكومنتانج «سنج شياو جن» ضحية لهذه المكيدة، فقتله أعوان يوان في العشرين من شهر مارس سنة 1913، ولم تكد تمضي سنة على قيام الجمهورية.

ورأى سن ياتسن أن الحزب يحتاج إلى تأليف جديد بعد خروج من خرج منه، وتسلل الطابور الخامس إليه من سماسرة يوان وأمثاله، فأعاد تأليفه في طوكيو بعد سنة من مقتل رئيسه، وعاد إلى إدارته باسم «تسنجلي»؛ أي المدير العام، ثم انتقل مركز إدارته من طوكيو إلى شنغهاي بعد وفاة يوان شي كاي، وكان أعضاء هذا الحزب موقدي الثورة في كل مكان يوم نادى يوان بنفسه إمبراطورا على عرش أبناء السماء، فلم تهدأ الثورة في ديرين وشنغهاي وهونان وشكيانج ويونان وكويشو وكوانجزي وكوانجستنج وشنسي إلا بعد نزول يوان عن عرشه، وتلك هي الأقاليم التي عرفت بانتصارها لدعوة سن ياتسن من أوائل أيام الجماعة السرية.

وفي سنة 1921 انتخب سن ياتسن رئيسا لحكومة كانتون المؤقتة، ثم نجمت الفتنة التي دبرها أحد القواد الخونة بدسيسة من حكومة بكين وسماسرة الدول الأجنبية، فعاد سن ياتسن إلى تنظيم حزبه وتأليفه من جديد سنة 1924، وتيسر له هذه المرة أن يوجه الحزب إلى أعمال غير أعمال التنظيم الحزبي، فأنشأ جامعة «كوانج تنج» العلمية وجامعة هوامبو العسكرية ومدارس متفرقة ثانوية وابتدائية، وفتح لجان الحزب للطلبة والصناع على نظام يناسبهم، ويكفل للحزب أن يمثل أبناء الصين كافة من جميع الطبقات والأعمار.

وتحقيقا لوجهته الكبرى التي تتلخص في المحافظة على كيان الصين تقبل اشتراك الشيوعيين في مؤتمرات الكومنتانج بصفتهم الشخصية، مع التفاهم بين الجميع على اختلاف أحوال الصين وحاجتها إلى ضروب من الإصلاح الاجتماعي غير التي يدين بها الشيوعيون في روسيا، وأولها إحلال التعاون القومي محل التنازع بين الطبقات وتغليب إحداها على المجتمع كائنة ما كانت منزلتها فيه.

والظاهر من تاريخ الدعوة الشيوعية في حياة الزعيم أن رؤساء الدعوة كانوا يعتقدون حقا أن الصين لم تستعد في تلك الآونة على الأقل لتطبيق النظام الشيوعي، وعمدتهم في هذا التقدير أن الصناعة لم تتطور وأن عمال الزراعة لا توحدهم جامعة ثورية، وقد روي عن ستالين إلى سنة 1945 أنه كان يقول: إن الحركة الشيوعية عامل غير خطير في سياسة الصين، ووجد زعيم الشيوعية الصينية (ماوتسي تنج) عناء شديدا في إقناع أصحاب النظريات داخلا وخارجا بسوء تقديرهم لعوامل الثورة بين الفلاحين من أهل الصين على الخصوص.

وأيا ما كان الباعث على قرار التفاهم بين الكومنتانج والحزب الشيوعي في حياة سن ياتسن فقد كان الفريقان يرعيان حق الأستاذية لأبي الصين، ويفهم من يسمعهم يذكرون «الأستاذ» ولا يزيدون أنهم يقصدونه دون غيره بهذا اللقب الذي خصوه به كما خصوه بلقب «الأب» الكبير.

وبقيت للرجل مكانته المرعية بعد وفاته بأكثر من ثلاثين سنة، فمن خالفه منهم لا يتهمه ولا يعيبه، وإنما يعالج تفسير كلامه على الوجه الموافق لرأيه، أو يعلل مخالفته إياه بمضي الزمن وتبدل الحال، ويقول: إن «الأستاذ» كان خليقا أن يرى رأيه ويعمل عمله لو كان بقيد الحياة.

برامج الإصلاح

قالت الكاتبة الصينية إميلي هاهن في كتابها عن أخوات سونج

The Soong Sisters : «إن سن ياتسن فصل في أيامه الأخيرة برامجه فبقيت بعده توراة لقومه، وإنها كما ينبغي لكل توراة صالحة أن «تزود» كل من شاء بالأفكار التي يرجع إليها، وتتنوع التنوع الكافي للاستشهاد بها على المذاهب المتقابلة، فالدكتور سن ياتسن يستشهد به اليوم على لسان كل أحد في الصين: على لسان شيان كاي شيك ووانج شنج وي، بل على ألسنة اليابانيين، فهم جميعا يغوصون في مبادئ الأمة الثلاثة ليخرجوا منها بالفكرة الملائمة.»

وأصابت الكاتبة البارعة، فإن وصايا سن ياتسن لهي في بابها توراة سياسية صينية بكل ما للتوراة من الخصائص في هذا الباب، فقد تحتدم المعركة الحامية لتقديم كلمة منها أو تأخيرها تأييدا لهذا الحزب أو تفنيدا لغيره، وهي كما قالت ترد على كل لسان حتى ألسنة اليابانيين.

وذلك حظ من القداسة لم يرزقه غير القليل من القدماء.

وليس هذا الحظ مقصورا على أقوال الزعيم في أيامه الأخيرة، فإن أقواله في بروسل - وهو دون الأربعين - قد أضيفت إلى مراجعه الأخيرة، فأصبحت مبادئ الشعب الثلاثة (سان مين شوآي) ومبادئ الدستور الخماسي (ووشوان هسين فا) أسفارا معتمدة من تلك التوراة الصينية، ولحقت بها من التعليقات مجلدات تتلوها مجلدات بغير انقطاع.

إن هذا الرجل الطموح كانت له غايته التي تتقاصر دونها الهمم منذ خطوته الأولى، فقد كان يناهز السادسة والعشرين يوم عقد العزيمة على «تجديد الصين » ولم يقصر جهده على إسقاط الأسرة المالكة أو تغيير أداة الحكم أو إعلان الجمهورية، فما كان شيء من ذلك في نظره إلا وسيلة إلى الغاية العظمى التي تهون في سبيلها الوسائل، بل تهون الغايات.

ومن مقاصده البعيدة ما لعله أجل شأنا من تجديد بلاده من الوجهة الاجتماعية أو السياسية، فإنه أراد أن يجدد «النفس» الصينية في إهابها العتيق، فطفق في سنواته الأخيرة يبدأ ويعيد حول معنى الفهم والعمل، ويؤكد حكمته العزيزة عليه، وهي الحكمة التي لخصناها بالكلمة الأولى من هذا الكتاب، وفحواها بمختلف العبارات وفي مختلف المعارض أن الفهم هو العسير، أما العمل فلا عسر فيه، وهذا ما أفاض في شرحه وسماه تدعيم النفس الصينية، فلم يكن يغنيه أن يتجدد بناء الصين دون بناء النفس الصينية على قوام جديد.

وفي أيامه الأخيرة ألف كتابه عن «تنمية» الصين بين الدول، وبسط فيه وجوه الإصلاح وجها وجها على أوسع ما استطاع من الإسهاب، ولم يقصد به أن يضعه على الأثر موضع التنفيذ العاجل، ولكنه علم أن تعمير البلاد - ولا سيما البلاد التي تشبه الصين اتساعا وازدحاما - عمل متداخل متشابك لا يرتجل قطعة بعد قطعة، ولن يفلح في هذا العمل من يبدؤه وهو لا ينظر عند ابتدائه إلى منتهاه، فبسط وجوه الإصلاح والتعمير ليحسب العاملون حسابها خطوة بعد خطوة، ومرحلة وراء مرحلة، وهذه الخطة العملية هي التي سماها خصومه حلما من أحلام الخيال.

ومن خصومه هؤلاء من هم خصوم فكرة أو خصوم مزاج لا يضمرون له العداء ولكنهم لا يطيقون أن يجروا معه في أشواط الحماسة الروحية، ومنهم من كتب إليه حين اطلع على مشروعاته يقدر له ملايين الأموال التي تتطلبها وعشرات السنين التي تستغرقها، كأنما هو قد بسط تلك المشروعات ليضرب عليها بعصا الساحر فيفتحها له «سمسم» تامة عامة في طرفة عين.

وقيل عن هذه المشروعات كثيرا إنها مرتجلة متعجلة، ولكنها على التحقيق لم تكن وليدة عام ولا بضعة أعوام، بل لازمه درسها وتقليبها على جوانبها أكثر من عشرين سنة، ومات وهو ينقح برامجه التي استهل بها حياته السياسية، ويرتب المراحل التي تتدرج عليها إلى منتهاها، مع تذكيره القراء والمستمعين أنها قابلة للتنقيح المتعاقب أثناء الطريق.

مات وهو يقول ويعمل لتثبيت مبادئه الثلاثة: الديمقراطية والسيادة الشعبية ورخاء المعيشة أو الاشتراكية.

ولم يخطئ التقدير إلا حين خطر له أن الصين قادرة على البدء بتطبيق تلك المبادئ عقب إعلان الجمهورية، فانقضى أكثر من عشر سنوات والجمهورية تبتلى بمحنة بعد محنة، والبدء بالتطبيق يتأخر سنة بعد سنة، فلم يزل برنامجه إلى أخريات أيامه محتاجا إلى أدواره الثلاثة: دور التوطيد ودور التوجيه ودور الحكومة الدستورية.

فمنذ أعلن في بروسل مبادئه الثلاثة قرر لمريديه أن بلادا تتسع اتساع الصين لن تستغني عن القوة لتوطيد أمنها واستقرار أمورها عقب إعلان الجمهورية، ثم يتوجه بها خدامها أو زعماؤها إلى وجهتها القويمة مع إيمانهم بسيادة الشعب وصدورهم عن هذا الإيمان في أعمال التشريع والإدارة، ثم تستفيد كل ولاية من تجاربها المحلية وتجتهد اجتهادها لتوثيق علاقتها بالحكومة المركزية، وساوره الرجاء أن تتم المرحلتان الأوليان بعد ثماني سنوات، ولم يحلم برؤية النتيجة أيام حياته، ولكنه لم يستبعد أن يفارق الحياة وهو مطمئن إلى نتيجة مرضية يشهدها الجيل الذي يليه.

وفي الباب التالي الذي نفرده لاقتباس أقواله زبدة من آرائه ومشروعاته نختارها من كتبه وندع لصاحب الترجمة أن يترجم لنفسه بقلمه ولسانه، فإن سن ياتسن لم يكن زعيم سياسة ولا رئيس حكومة وحسب، وإنما كان قبل ذلك وبعد ذلك صاحب مدرسة اجتماعية ودعوة فكرية، ومن كان كذلك فهو ذو حق في توضيح آرائه وتوضيح منحاة في الفهم والعمل.

وذلك ما نتركه له في الباب التالي، متبعين فيه ترتيب «الأهمية» غالبا وترتيب التاريخ ما تيسر، وهما على الجملة متقاربان؛ لأنه - كما قدمنا - قد أخر الابتداء بالعمل من فترة إلى فترة، فلم يتباعد الشوط بين الابتداء والختام.

من أقواله

(1) ذكريات من كتاب «مذكرات صيني ثائر»

منذ سنة 1885 - أي من عهد الهزيمة في حربنا مع فرنسا - وضعت نصب عيني خلع أسرة تاي تسنج وتأسيس حكومة جمهورية على أنقاضها، وابتدأت باختيار الكلية التي أدرس فيها لنشر دعوتي، ناظرا إلى صناعة الطب كأنها العمة الرءوم التي تقود إلى طريق السياسة العامة.

ومضت عشر سنوات كيوم واحد، وكنت في كلية كانتون الطبية قد صادقت شن شي ليانج الذي كان على اتصال واسع بمعارف كثيرين لهم علم حسن ببلاد الصين، فلما فاتحته في شأن الثورة وأمثلتها العليا وجدت منه موافقة وصارحني باستعداده للاشتراك في الحزب الذي يعمل لها على شريطة أن أتولى أنا قيادته، ونمى إلي بعد سنة في كلية كانتون الطبية أن مدرسة طبية إنجليزية ذات برنامج أوسع من برنامج مدرسة كانتون قد افتتحت في هونج كونج، فذهبت إليها يستهويني خاطر العمل على نشر الدعوة في نطاق أوسع مع إتمام تعليمي، وقضيت أربع سنوات عاكفا على نشر الدعوة طوال الوقت الذي أفرغ فيه من دروسي، متنقلا ما بين هونج كونج وأموي، ولم يكن لي يومئذ أعوان غير ثلاثة مقيمين في هونج كونج هم: شن شاوبو ويو شاو شي ويانج هولين، ورجل واحد مقيم بشنغهاي هو لوكو تنج، واجتنبني الآخرون؛ لأنني ثائر متمرد كاجتنابهم من يخافون من عدوى الطاعون.

وكنت مع أصحابي شن ويو ويانج نعيش معا في هونج كونج ولا نكف عن حديث الثورة، وتشبثت أفكارنا بموضوعات الثورة في الصين، فعكفنا على قراءة تواريخ الثورات وأصبحنا ولا سرور لنا في غير التحدث بهذه الموضوعات. ومضت سنوات عرفنا خلالها بين أصحابها باسم الأوغاد الكبار المتلازمين، وكانت بالنسبة إلي فترة مباحثة وتدريب.

وحصرت عنايتي بعد التخرج من المدرسة بمكانين هما أموي ويانج شن لمزاولة الطب ظاهرا ونشر الدعوة الثورية في الواقع، وكان شن شي ليانج في الوقت نفسه يجمع الأعضاء للحزب، ثم خرجت أنا ولوكو تنج إلى الشمال قاصدين بكين وتينتسن لنروز قوة الأسرة المالكة، ثم قصدنا إلى وشانج كي نتفقد الأحوال هناك.

وسنحت لنا فرصة حسنة سنة 1894 فقصدنا إلى الفيليبين لتأسيس جماعة تجديد الصين على أمل الارتباط بالجالية الصينية، ونلقى المساعدة منها، وغاب عنا أن الوقت لم ينضج للثورة فلم تسفر دعوتنا في الفيليبين إلا عن عشرة استجابوا لها بعاطفتهم لم يقبل منهم غير اثنين أخوين أن يضطلعا بشيء من التضحية في سبيل القضية العامة.

حدث هذا والجيوش الإمبراطورية تنهزم في معركة بعد أخرى، وهيبة المانشو تتضاءل بعد ضياع كورية ولا يخامرنا الشك في انحلال أسرة المانشو وتداعيها، وقد كتب إلينا زميلنا بشنغهاي سن يويه لو يلح علينا وجوب العودة، فعدت أنا وتن ين نان وثلاثة من الزعماء إلى موطننا على نية تنظيم الثورة بكانتون والاستيلاء عليها.

وكانت جماعتنا في هونج كونج وفرع منها في يانج شن، وكان في الجماعة تن ين يان ويانج تسوي ين وهون ين شان وشن شاوبو وآخرون يدأبون على التحريض، وكان لوكو تنج وشن شي ليانج في فرع يان شي مدربين من أمريكا وبعض القادة، وجعلت أنا أتردد بين كانتون وهونج كونج، وكانت مهمتنا وقتئذ محدودة واضحة الخطوط والاستعداد تجري على قدم وساق، وقد اجتمعت لنا قوة لا بأس بها وفي استطاعتها بضربة واحدة أن تحدث حدثا ذا بال.

إلا أن السلطات، في ذلك الوقت، كانت قد علمت بأمر تهريب السلاح إلى الداخل (خمسمائة مسدس) وقضت على عضو من أمثل زملائنا بالموت وهو لوكو تنج، فكان ذلك أول ضحية لنا على مذبح الثورة الصينية، وحدث في الوقت نفسه ضبط تسي هسي وشو جوي والقضاء عليهما بالموت، وضبط نحو سبعين آخرين من بينهم الأميرال سن كوي جوان.

وحلت بنا أول هزيمة ثورية في اعتقادي تاسع سبتمبر سنة 1895، وكنت لا أزال بكانتون بعد هذه الهزيمة بثلاثة أيام، ولكني اضطررت إلى اللياذ بهونج كونج بعدها بعشرة أيام من الطرق الجانبية، ثم برحتها إلى اليابان مع زملائي شن شي ليانج وشن شاربو قاصدين النزول بمدينة يكهاما، وقصصت ضفيرتي واتخذت الملابس الأوروبية؛ لأن موعد عودتنا إلى الصين غير معروف، ثم برحت اليابان إلى الفيليبين وقفل زميلي شن شي ليانج إلى الصين كي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل هزيمتنا، وبقي شن شاو بو باليابان لدرس الأحوال السياسية، وكنت قد اتصلت يومئذ بسوني وميازاكي من الجمعية اليابانية، فكان هذا بدء الاتصال بين الثوريين الصينيين واليابانيين.

وأخذت بعد وصولي إلى الفيليبين أضم الزملاء إلى حركة تجديد الصين ... ولكن زملاءنا أنفسهم لم يكتموا يأسهم بعدما حل بنا من الهزيمة، وتنكر غيرهم لمبادئنا، وأعوزتنا العوامل التي تساعد على تطور النزعة الثورية فتراخى العمل فيها بعض حين، ولم أجد من البواعث ما يستبقيني بالفيليبين، فاعتزمت السفر إلى أمريكا لربط العلاقات بيننا وبين المهاجرين من أبناء وطننا هناك.

وصادفني في أمريكا جو أمعن في الهجوم من جو الفيليبين، وقطعت القارة من سان فرنسسكو إلى نيويورك، وتريثت أياما خلال الطريق لا تزيد في مكان على عشرة أيام، وطفقت حيث نزلت أنادي بإسقاط أسرة المانشو لإنقاذ الصين من الدمار، وأهيب بكل صيني أن يسهم في بناء وطنه على أساس ديمقراطي جديد.

ولم يكن مقامي بأمريكا ذا بال في تقدم الثورة الصينية، ولكنه على هذا أثار الخوف والتوجس عند الحكومة الإمبراطورية، فما وضعت قدمي بلندن حتى الفيتني في براثن السفارة الصينية، ولم ينقذني من خطر الموت غير أستاذي الدكتور جيمس جنتلي.

فلما نجوت من لندن قصدت أوروبة لدراسة نظمها السياسية، والتعرف إلى هيئات المعارضة والمقاومة، وفي أوروبة علمت أن الدول الأوروبية على نجاحها في أسباب القوة ومبادئ الحكم القومي لم تنجح في توفير أسباب السعادة والرضا لرعاياها، ولهذا اتجهت مساعي الثوريين الأوروبيين إلى الثورة الاجتماعية، ونبتت عندي فكرة الجمع في وقت واحد بين حل مشكلات الاقتصاد والاستقلال والحرية الشعبية، ومن هنا كانت نشأة ال «سان مين شو آي» أو الديمقراطية القائمة على دعائمها الثلاث.

إن الثورة هي رسالتي الكبرى في الحياة، فاعتزمت التعجيل بإنهاء عملي في القارة الأوروبية حرصا على الوقت اللازم لتحقيق الثورة أن يضيع سدى. وأقلعت إلى اليابان معتقدا أننا نستطيع على مقربة من الصين أن نواصل جهودنا الثورية، فلقيني في يكهاما اثنان من زعماء الحزب القومي اليابانيين، ثم التقينا بعد ذلك في طوكيو أصدقاء قدماء وتناولنا البحث فيما له علاقة بالصين على أتم ما يكون من الصراحة، واتفق في ذلك الحين أن الحزب القومي تولى الوزارة واختير أكوما وزيرا للخارجية، فقدمت إليه وإلى الساسة اليابانيين الآخرين، وكان ذلك بدء اتصالنا بالدوائر اليابانية الحاكمة، ثم التقيت بسوزيما وغيره من ممثلي المعارضة اليابانية.

وكان المهاجرون الصينيون باليابان يبلغون عشرة آلاف، يسودهم جو فتور وخمود وتفزعهم خواطر الثورة شأنهم في ذلك شأن المهاجرين إلى الأقطار الأخرى، وجاهد زملاؤنا بينهم سنوات فكان قصارى ما صنعوه أنهم ضموا نحو مائة إلى حركة الثورة وهم نحو واحد في المائة من جملة المهاجرين.

وإذا كانت مهمة الدعوة الثورية بين المهاجرين على هذه الحال من العسر وقلة الشكر، فقد كانت الدعوة أعسر من ذلك وأقل شكرا بين الصينيين في صميم بلادهم، فمن لم تصدهم فكرة خلع المانشو وانضموا إلينا كانت مداركهم قاصرة وكانت الأواصر بينهم واهية ولم يكن لهم يقين متين بشيء من الأشياء، وغاية نفعهم أنهم وسيلة سلبية لا يعتمد عليهم بحال من الأحوال في العمل الجدي لأغراض الثورة.

مضى من سنة 1895، أي من عهد هزيمتنا الأولى، إلى سنة 1900 خمس سنوات كانت كلها فترة مشقة وعناء للحركة الثورية الصينية، وانهار ما بنيناه خلال عشر سنوات سواء نظرنا إليه من وجهة أعمالنا الفردية أو وجهة الدعوة العامة، ولم تفلح الدعوة الخارجية إلا قليلا، وحدث كذلك أن المنظمات الملكية نمت ونشطت خلال هذه الفترة، وأوشكت آمالنا أن تتقوض لولا وفاء زملائنا الذين طردوا اليأس عن نفوسهم ونظروا إلى المستقبل قدما في ثقة وشجاعة.

أرسلت شن شاو بو إلى هونج كونج لإصدار صحيفة تنشر الأفكار الثورية، وبعثت بلي كيانج جو إلى مقاطعة شكيانج لتنظيم القوات فيها، ووضعت التعليمات لشن شي ليانج ليشخص إلى هونج كونج وينشئ فيها مكتبا يتولى تجنيد أعضاء جدد للحزب، ولم يلبث جماعة تجديد الصين أن اندمجوا في هيئة واحدة مع المنظمات التي تأسست في إقليم كوانتنج وغيرها من أقاليم وادي اليانجزي.

واتفق كذلك أن ظهرت في ذلك الحين جماعة الملاكمين «البوكسر» بإيحاء من أسرة المانشو، فأنفذت ثماني دول جنودها إلى الصين وباشروا حملاتهم العسكرية، وقررت ألا تضيع الفرص السانحة، فأمرت شن شي ليانج بمغادرة هونج كونج إلى هوشو لتنظيم حركة عصيان فيها، وأنفذت لي كيانج جو إلى يانشن للغرض نفسه، وذهبت أنا إلى هونج كونج مع بعض الضباط الأجانب.

بينما كان هذا الاستعداد يجري مجراه قاصدا أن أصل بحرا إلى موطني للإشراف بنفسي على قوات الأمة الموثوق بها، وتنظيم جيش مدرب ينقذ الصين من مصيرها إلى الخراب، ولكني لم ألبث أن فوجئت بوغد يعترضني ويغري السلطات بتفتيشي وحجزي عن النزول، فلم يتسن لي المضي في خطتي الأولى وعهدت بالتبعة كلها إلى شن شي ليانج في هوشو، وأرسلت إليه ريانج تسويا وين لي تسي وشن شاوبو وغيرهم لمساعدته. وعدت إلى اليابان ثم ذهبت منها إلى فرموزا على نية الاحتيال على دخول الصين، وكان حاكم فرموزا يومئذ (قدامة) ممن يعطفون عطفا شديدا على الفكرة الثورية لاعتقاده أن الفوضى شائعة في ذلك الحين بين بلاد الشمال، فعهد إلى أحد أعوانه في مفاوضتي ووعد في حالة وقوع الاضطراب الخطير أن يمدني بالمعونة.

ووسعت خطتنا الأولى بزيادة الضباط الخبراء؛ إذ كان حزبنا إلى تلك اللحظة قليل الأعضاء من الخبراء العسكريين ذوي الفكرة السياسية، ثم أمرت شن شي ليانج في الوقت نفسه بالعدول عن الخطة الأولى التي كان من مقتضاها البدء بالهجوم على المدينة الكبرى بالإقليم، والتمكن من المواقع البحرية بدلا من ذلك وتركيز قواتنا هناك ثم البدء بعد ذلك بالهجوم. وبادر شن شي ليانج بتنفيذ تعليماتي وأغار بفرقة أكثرها من الفلاحين على جنود الإمبراطورية بسنيانج وشن شوان، وجردها من سلاحها ثم هجم على لونجان وتانشوي يانهو وغيرهما موفقا، حيث كان مما جعل جنود الإمبراطورية تتشتت كلما اقتربت منها طلائعه، ونجح بعد ذلك في احتلال المواقع البحرية من سنيانج إلى هوشو وانتظر هنالك وصولي مع أعواننا ووصول المدد من السلاح والذخيرة.

ولكن حدث على غرة بعد ابتداء حركتنا بعشرة أيام تغيير في الحكومة اليابانية، واتخذ رئيس الوزارة خطة نحو الصين على نقيض الخطة التي سار عليها سلفه ، وحال دون كل اتصال بين حاكم فرموزا والثوار الصينيين، كما منع تصدير السلاح والإذن للضباط اليابانيين باللحاق بجنود الثورة، وقد أخل هذا الطارئ بجميع خططي فأنفذت يامادا وبعض الزملاء إلى معسكر شن شي ليانج لإبلاغه ما حدث كي يتصرف على حسب الظروف، فوصلوا إلى معسكره بعد ثلاثين يوما من بدء الحركة، وكان هنالك جيش من عشرة آلاف قد تجمع وانتظر في لهفة ما يرد إليه من السلاح وكبار الضباط، فلما علموا برسالة يامادا قرروا حل الجيش وعاد شن شي ليانج إلى هونج كونج مع مئات من الزملاء، وضل يامادا طريقه فوقع في أيدي جنود الإمبراطورية وأعدم فكان أول أجنبي فقد حياته ضحية للثورة الصينية.

وبينما كان شن شي ليانج في وقدة القتال حاول لي كيانج جو في كانتون أن يساعده بغير جدوى، فقرر أن يلقي بقذيفة على مكتب حاكم مقاطعتي كوان فلم تنفجر وقبض عليه وأعدم، فكان البطل الثاني من الضحايا الذين هلكوا على مذبح الثورة.

وكانت قصة سنة 1900 هي الهزيمة الثانية للحركة الثورية، بيد أن الشعب الصيني غير موقفه منا بعد الهزيمة تغييرا عظيما، فقد كانوا بعد الهزيمة الأولى ينظرون إلينا نظرتهم إلى شرذمة من المشاغبين وقطاع الطريق يقترفون ما لا يجوز، وكانوا يهيلون علينا اللعنات والشتائم ويحسبوننا من الأفاعي السامة ويعزفون عن معرفتنا، فلما أصبنا بالهزيمة سنة 1900 لم تنقطع أصوات اللعنة الأولى عن الصياح بنا كما كانت تصيح من قبل، ولكننا وجدنا أناسا كثيرين من الأذكياء يأسفون لإخفاقنا ويعربون عن عطفهم على حركتنا، وذلك ولا ريب فارق عظيم عند المقابلة بينه وبين الحالة فيما مضى، وزملاؤنا الذين أحسوه قد خامرهم الفرح بهذه العلامة من علامات اليقظة في البلاد، وخدمت ضجة الأسرة المالكة حين دخلت جنود الدول الثمان إلى بكين ظافرة، ولاذ وكلاء القصر الإمبراطوري بأذيال الفرار وأذعنوا بعد الهدنة لشروط الغرامة وقدرها مائة مليون، وازدادت حالة الأمة الصينية سوءا على سوء ولم تزل نذر الخطر تغشاها على الدوام، وأجمع أذكياء الصين على أنها تنزلق وشيكا إلى الخراب فجاشت من ذلك الحين موجة جديدة من الثورة والهياج.

وكانت الأقاليم جميعا في ذلك الحين قد دأبت على إرسال الطلبة منها إلى اليابان لتلقي العلوم الحديثة بمدارسها، ووفد على اليابان من هؤلاء الطلبة زرافات من ذوي الرءوس الفتية النيرة، فأقبلوا توا على التزود من خواطر الثورة واشتركوا في الحركة الثورية، وكانت مناقشاتهم وآراؤهم كلها تدور على مسائل الثورة، وقد ألقى لو شن يوي خطابا فعالا على اجتماعهم الذي عقدوه لمناسبة رأس السنة وضح فيه ضرورة الثورة لخلع أسرة المانشو، ففصلته الجامعة تلبية لطلب السفير الإمبراطوري بطوكيو، وراح طلاب آخرون ... ينشرون الصحف لترويج الخواطر الثورية.

وشقت هذه الدعوة بين الطلاب طريقها إلى الصين، فلجأ شانج تي يانج ووويوهوي وشوشانج من طلاب شنغهاي إلى استخدام الصحف المسيحية لبث الدعوة الثورية، فاحتجت السلطات الإمبراطورية على تصرفهم ونجم من احتجاجها اعتقالهم في المنطقة الأجنبية، فاحتال أحدهم على الهرب وتلت ذلك أول قضية من نوعها: وهي شكوى الحكومة الصينية أحد رعاياها أمام محكمة أجنبية، فصدر الحكم بسجن شو شانج سنتين.

اشتدت الحركة خلال ذلك فرحب المهاجرون بكتاب شو شانج عن جيش الثورة الذي أنحى فيه أشد الإنحاء على الأسرة المالكة، وكان له أثر ضخم بين الصينيين والمهاجرين، وأحسب أن هذه الفترة كانت فاتحة عهد التطور الواسع في الحركة الثورية، فانضوى المهاجرون شيئا فشيئا إلى جانب الثورة وتلقفوا دعوة الطلبة والنهضة العامة في البلاد، وأعربوا لي عن مؤازرتهم حيثما التقيت بهم في طوافي باليابان.

وفي سنة 1905 وصلت إلى أوروبة مرة أخرى، ووجدت معظم الطلبة مؤيدين لقضية الثورة، وكانوا قد وصلوا إلى أوروبة حديثا من اليابان والصين فملكتهم فكرة الثورة وتقدموا من المناقشة فيها إلى توجيه أعمالها، فأبرزت يومئذ برنامجي الذي ضمنته بث الديمقراطية على مبادئها الثلاثة وتفصيل الدستور الخماسي عسى أن نتمكن من خلق نظام ثوري على هذا الأساس، وانعقد اجتماعنا الأول بمدينة بروسل فانضوى إلى رابطتنا ثلاثون عضوا ثم انضوى إليها عشرون في الاجتماع الثاني ببرلين، وكان الاجتماع الثالث بباريس حيث انضوى إلينا عشرة آخرون، ولكننا لم نعقد اجتماعنا الرابع بطوكيو حتى بلغ المنضوون إلينا عدة مئات، وكانت الصين كلها ممثلة في رابطتنا ما عدا كانسوه التي لم يكن منها أحد يطلب العلم بمدارس اليابان.

على أن كلمة الثورة لم تزل مرهوبة إلى ذلك الحين، فاكتفينا بإطلاق اسم الرابطة المتحدة على رابطتنا واحتفظت بهذا الاسم بعد ذلك بزمن غير قصير.

واعتقدت بعد قيام هذه الرابطة أن طورا جديدا من أطوار الثورة في مستهله، فقبل ذلك ما تجشمت المصاعب وتعرضت للزراية والسخرية، ومنيت بالهزيمة غير مرة فصبرت وتقدمت، ولا أخفي أنني لم أكن أحلم يومئذ ببلوغ المقصود من خلع أسرة المانشو وأنا بقيد الحياة، فلما تألفت الرابطة خريف سنة 1905 داخلني الرجاء في إنجاز المقصد الأكبر من الثورة خلال حياتي، واعتزمت إذن أن أعلن شعار الجمهورية وأبشر به جميع أعضاء الحزب كي يرجع كل منهم إلى بلده وهو على أهبة الثورة تمهيدا لإقامة الجمهورية.

ولم تكد تمضي سنة واحدة حتى ارتفع عدد أعضاء الرابطة إلى عشرة آلاف، وتشعبت فروعها على وجه التقريب في كل إقليم، فانطلقت الحركة في طريقها بخطوات فساح، وجاوز تطورها ما كنت أتوقع.

وكنا منذ تأسيس الرابطة قد أصدرنا الصحف التي تذيع خواطر الثورة في أوسع مجال وتنادي بالديمقراطية على مبادئها الثلاثة

1

واتجاهها نحو الدستور الخماسي، وطافت بالصين موجة ثورية ارتفعت إلى الذروة عندما بدأنا في إصدار الصحف، وانضم إلينا في هذه المرحلة أبطال من أمثال هسوسي لن وسن يين تسي وتسو تسن وغيرهم.

وبدأت ثورة بنلي مستقلة سنة 1907 معتمدة على قواتها؛ إذ كان جيشها قد جند من أعضاء فرع الرابطة المتحدة فيها، وبينما كان هذا الجيش يصطدم بالجيش الإمبراطوري في حرب الحياة والموت كان أعضاء الرابطة بطوكيو يحاصرون مكتبنا ويلحون في طلب السفر إلى الميدان، ومنهم من بكى كالأطفال حين تعذر عليه السفر.

وقد وصلت إلينا أنباء ثورة بنلي متأخرة لسوء الحظ فلم نستطع تدبير العدة الملائمة، فخسرنا المعركة ووقع لو تاويي ونين تياوبي ويوان هن يين وغيرهم من الزملاء في أيدي جنود الإمبراطورية ، فحكم على بعضهم بالموت وعلى آخرين بالسجن، وكانت هذه هي «المعمودية» الأولى للرابطة في ميدان القتال، وأمكننا أن نعتقد بعد هذه المعركة أن الدعوة الثورية استولت على البلاد في مجال من السعة والقوة لم يسبق له نظير، ولم يكن في وسع أعضاء الرابطة بطوكيو أن ينظروا إلى هذه الحال قانعين بالفرجة والسكوت، فالتمست الحكومة الإمبراطورية من حكومة اليابان أن تخرجهم من بلادها، فخرجت من اليابان ومعي هان ين وشينج وي ميممين شطر أنام لتنظيم فرعنا بهانوي وإعلان عصيان آخر، وثرنا في شاوشو وانهزمت جنود هوان كان فابتلينا ثم بالهزيمة الثالثة.

ثم نشبت ثورة في مركزي ليان وشيان من جراء الإضراب عن أداء الضريبة وأرسلت الحكومة الإمبراطورية أربعة آلاف جندي بقيادة كوجين شانج لقمع الفتنة، فأمرت هوانج كاي تسيانج وهويي شين بالذهاب إلى معسكراتهم وإقناعها بتأييد الثوار، فوعد كلاهما بالانضمام إلى الثورة إذا نهضت بها قوة جدية.

ولم نكن قبل تأليف الرابطة نتلقى من المعونة المالية غير القليل، وأكثر المتبرعين من تربطهم بي صلات شخصية، ولم يجسر غيرهم على التبرع، فلما تألفت الرابطة أخذت الإعانات تتوارد علينا من الخارج. وأذكر ممن أعانونا يومئذ شانج تسين سيانج الذي باع مصنعه بباريس وأعطانا ستين أو سبعين ألف ريال، وأذكر منهم هوانج تسين نان من أنام وقد أعطانا جميع مدخراته التي تبلغ بضعة آلاف ريال، وأذكر منهم كذلك بعض أثرياء أنام أمثال لي شو فونج وتسنج هسي شو وماي بي شن الذين تبرعوا بنحو عشرة آلاف ريال.

ولم يسعني بعد الهزائم المتوالية في قتالنا مع جيوش الإمبراطورية أن أبقى مطلق الحرية في اليابان أو هونج كونج أو أنام أو أي مكان على مقربة من الصين، وكاد العمل على مقربة من وطني أن يصبح إحدى المستحيلات، فعهدت بالقيادة إلى الزميلين هوانج كاي سيانج وهوهان مين ومضيت في جولة حول العالم لجمع التبرعات.

وعلى أثر ذلك أنشأ هوانج سيانج وهو هان مين لجنة رئيسية بهونج كونج للإشراف على شئون الجنوب، واجتمعوا مع شاوبو سيانج وني يانج شين وشوشي سين فأضرموا الثورة معتمدين على الفرق العسكرية الحديثة التدريب، وكانت فكرة هذه الثورة سديدة فارتفعت راية العصيان سنة 1910.

وبرحت أمريكا إلى الشرق خلال هذه الفترة، فعلمت بالثورة عند وصولي إلى سان فرنسيسكو، وأقلعت على الأثر قاصدا إلى الفيليبين ثم اليابان للعودة من ثم إلى الصين، ولكن الجواسيس عرفوني بيكاهاما فتعذر علي المقام بها ويممت الجنوب حيث اعتزمت الاجتماع بهوانج كي سيانج وهوهان مين للتشاور في خطط المستقبل، وكانت الكآبة ترين على الزملاء حينئذ بعد توالي الهزيمة وخسارة المواقع الصالحة واضطرار كثير من الزملاء إلى الفرار والمهاجرة، وأعوزتنا القدرة على إعادة الكرة من جديد.

ألفيت الزملاء على حالة سيئة من التشاؤم، وانطلقت منهم آهات الأسف والأسى عندما هممنا بالبحث فيما ينبغي أن نصنع، وانحرف بعضهم عن بعض بنظره، وانفردت بالكلام فذكرتهم أن هزائمنا الماضية كانت أفدح وأصعب من هزائمنا الأخيرة، وأن عدتنا اليوم قد تكون قليلة، ولكن موجة السخط تعلو وتتسع يوما بعد يوم وتشتد معها الروح المعنوية بين أبناء الأمة، فإذا عقدنا عزائمنا على الخطة التي أرسمها فإنني كفيل بتدبير المورد اللازم ... قالوا: إذا كنا لا نصيب حاجتنا للنفقة على أنفسنا، فكيف ترانا نصيب الموارد اللازمة للمضي بالثورة؟

فأكدت مرة أخرى أنني سأجد المورد اللازم. عندئذ قال الزميل پو: إننا إذا اعتزمنا حقا أن نعيد الكرة وجب علينا أن نبعث بأحد الزملاء مزودا ببضعة آلاف ريال إلى إقليم زشوان لتثبيت الإخوان هناك وصرفهم عن نية التفرق، وحل الجماعة، وبهذا دون غيره يحق لنا أن نأمل في تأليف لجنة جديدة واستئناف الصراع. قال الزميل پو: وعلينا حتما أن نرجع إلى هونج كونج لمعاودة البحث وأن نمد زشوان توا بخمسة آلاف ريال، فإذا انتوينا المثابرة على الكفاح كان لزاما علينا أن نحصل على عدة آلاف من الريالات.

فأرسلت في طلب المهاجرين الصينيين الذين يشعرون مثل شعورنا، وأسفر الاجتماع عن التبرع بثمانية آلاف ريال، والاتفاق على إيفاد الرسل إلى الأقاليم والجهات المختلفة لجمع ما نحتاج إليه، فاجتمع لنا خلال أيام مبلغ يتراوح بين ستين ألف وسبعين ألف ريال.

فوضعنا خطة العمل، وبدأت أنا فسافرت إلى المنطقة الهولندية فلم يؤذن لي بالنزول ولا بالذهاب من ثم إلى المنطقة الإنجليزية، فلم يبق لي معدى أن أحول وجهتي إلى أوروبة أو أمريكا، فقصدت أمريكا وجعلت انتقل خلالها من ركن إلى ركن؛ أثير حمية المهاجرين الصينيين وأحضهم على المساعدة بالمال لتأدية قضية الثورة، فلقيت أفواجا كثيرين من المؤيدين أثناء هذه الرحلة.

وكانت الثورة قد نشبت في ودشانج عند وصولي إلى كولومبيا، وقبل ذلك بعشرة أيام تلقيت برقية من هوان كاي سيانج بهونج كونج لم أفسرها؛ لأن الجفر كان في حقيبتي، ولم أعرف فحواها إلا بعد نزولي بإحدى المدن من ولاية كولمبيا، فعلمت منها أن تسوي شن وصل إلى هونج كونج وأبلغهم أن المدد المالي مطلوب عاجلا لإمداد حركة الجنود الحديثة التدريب، وإذ كنت ساعتها لا أملك مالا خطر لي أن أبرق إليهم بإرجاء الحركة، ولكن الليل أدركني وأثقلني تعب الرحلة فأجلت الإبراق إليهم حتى الصباح عسى أن ينفسح الوقت مع ذلك لتقليب المسألة على جميع الوجوه.

وبكرت لتناول طعام الإفطار فلم أكد أصل إلى المطعم حتى رأيت ثمة صحيفة صباحية فتحتها فإذا هي تروي بلسان البرق خبرا عن استيلاء جنود الثورة على ووشانج، فبادرت بالإبراق إلى هوان كاي سيانج موضحا له سبب سكوتي، وكان من الميسور أن أصل إلى شنغهاي بعد عشرين يوما للمشاركة في الثورة؛ لولا أن الجبهة الدبلوماسية كانت في تلك اللحظة أهم حتى من النشاط العسكري، فصممت العزم على متابعة المسائل الدبلوماسية وألا أعود إلى الوطن حتى نستقر من هذه المسائل على قرار.

كان الموقف السياسي يومئذ كما يلي: أمريكا أعلنت فيما يتعلق بالصين سياسة الباب المفتوح والمحافظة على سيادتها، ولكنها لم تتخذ موقفا محدودا من ناحية الثورة، إلا أن الرأي العام الأمريكي كان مؤازرا لحركتنا.

أما الموقف من جانب الحكومة الفرنسية والشعب الفرنسي فهو موقف عطف على الحركة.

أما في إنجلترا فقد كان الشعب معنا وكانت الحكومة تعارض الثورة، ووضح لنا أن ألمانيا وروسيا كانتا تناصران أسرة تاي تسنج، والعلاقة بين ثوارنا وشعبهما واهية لا تتيح لنا أن نستعين بهما على توجيه سياسة الحكومتين. وبقيت اليابان القريبة منا وبين خير أبنائها أناس ناصرونا وبذلوا حياتهم فدى لقضية الثورة، إلا أن سياسة الحكومة اليابانية لم تكن جلية، وقد نرى قياسا على الماضي أنها تسلك منها مسألة المعارضة، فقد نفتني مرة وحظرت نزولي إلى أرضها مرة أخرى.

وابتداء من سنة 1900 تقرر ألا تعمل دولة من الدول على انفراد في شئون الصين، وكان عدد الدول التي تهتم بالصين ستا في ذلك الحين، اثنتان منها - وهما أمريكا وفرنسا - إلى جانب الثورة، واثنتان - وهما ألمانيا وروسيا - تعارضانها، ولم تعين إنجلترا سياستها، ولكن الشعب الإنجليزي أبدى دلائل العطف عليها، وأيدها شعور الأمة اليابانية مع جنوح الحكومة اليابانية إلى معارضتها.

وكذلك كانت مسألة المسلك الدولي مسألة مهمة في حساب الثورة الصينية، وأهمه عندنا حينئذ مسلك إنجلترا؛ لأننا قدرنا أنها إذا سلكت قبل الثورة مسلكا لم تلبث اليابان أن تحذو حذوها، فانتويت من أجل هذا الشخوص إلى إنجلترا.

وبينا أنا في الطريق قرأت في الصحف خبرا فحواه أن الثورة نشبت بووشانج وأن سن ياتسن سيتقلد رئاسة الجمهورية المنتظرة، فرأيت اجتناب الصحفيين؛ إذ بدا لي أن الإشاعات تسبق الوقائع.

وتابعت السفر ومعي زميلي شوشو وين في رحلتنا الطويلة إلى البلاد الإنجليزية، وعلمت عند بلوغي نيويورك أن الزملاء يهاجمون كانتون فأبرقت إلى الحاكم شانج ني أيس أنصح له بتسليم المدينة اتقاء لسفك الدماء، وأمرت الزملاء أن يؤمنوه على حياته، وهو ما حدث بعد ذلك.

وعمدت عقب نزولي بإنجلترا إلى مفاوضة الاتحاد المصرفي للدول الأربع لأحذره من إمداد أسرة المانشو بالقروض، وكان الاتحاد قد رضي فعلا أن يقرضها مائة مليون بضمان سكة حديد شوان هانج، ثم زاد القرض مائة مليون أخرى، ودفع قسط من أحد هذه القروض ولم تصدر الأسناد في القروض الأخرى مع توقيع الاتفاق، وأردت وقف الأقساط من القرض الذي بدئ بدفعه ومنع صدور الأسناد من القروض الأخرى، وتبينت أن هذه التسوية رهينة بمشيئة وزارة الخارجية فأمرت مدير دار الصناعة (وي هاي وي) أن يفاوض الحكومة البريطانية على مسائل ثلاث أصررت على تسويتها: «أولها» وقف جميع القروض الممنوحة لأسرة تاي شنج، والمسألة الثانية ثني اليابان عن التدخل، والمسألة الثالثة إلغاء جميع الأوامر التي تحظر نزولي بالمناطق البريطانية، كي يتيسر لي الوصول إلى الصين بغير مشقة.

فلما تلقيت الجواب المرضي عن هذه المسائل من الحكومة البريطانية تحولت إلى الاتحاد المصرفي للحصول على قرض للحكومة الثورية، فجاءني الرد من مديره قائلا:

إنه لما كان الاتحاد قد وقف دفع القروض للأسرة المالكة فالاتحاد لا ينوي ألا يمنح هذه القروض إلا حكومة ثابتة معترفا بها، ويرى الاتحاد في الظروف الحاضرة أن ينفذ مندوبا معك يبدأ المفاوضات عند الاعتراف الرسمي بحكومتك.

كان هذا كل ما استطعته خلال مقامي بالبلاد الإنجليزية، فلما بلغت باريس لقيت أحزاب المعارضة وتلقيت منها جميعا عبارات التأييد وبخاصة من الرئيس كليمنصو.

وبلغت شنغهاي بعد ثلاثين يوما من مبارحتي باريس، وكان مؤتمر الصلح بين الشمال والجنوب منعقدا في ذلك الحين، ولكن دستور الجمهورية المنتظرة لم يتقرر بعد، وراحت الصحف قبل اقترابي من شنغهاي تذيع أنني أعود إلى الوطن محتقبا المال الكثير لمساعدة الثورة، ووجدتهم - زملائي ومندوبي الصحف الأجنبية والوطنية - يترقبون ذلك فأجبتهم عند سؤالي أنني لم أحضر معي فلسا واحدا وأن كل ما أحضرته معي روح الثورة وأنه - إلى أن يتحقق الهدف - لا وجه للكلام في مؤتمرات الصلح، فأقبل المندوبون من أرجاء الصين بعد هذا التصريح على الأثر متقاطرين إلى مدينة نانكين، وانتخبت رئيسا للجمهورية الصينية.

وتوليت عملي (سنة 1912) آمرا بإعلان الجمهورية الصينية وتنقيح التقويم القمري، واعتبار تلك السنة أول سنة للجمهورية.

وكذلك انقضت ثلاثون سنة كاليوم الواحد، وبعد انقضائها فقط بلغت الهدف، هدف حياتي: وهو إنشاء جمهورية الصين. (2) من تاريخ الثورة بيان المؤتمر الوطني الأول سنة 1924

بدأت فكرة الثورة بعد الحرب الصينية اليابانية، وبلغت أشدها سنة 1900 ونجحت سنة 1911 حين سقطت الحكومة الملكية.

بيد أن الثورة لا تطرأ دفعة واحدة، فمنذ احتلت أسرة المانشو الصين جاشت النفوس بالسخط زمنا طويلا، ثم افتتحت البلاد للتجارة الدولية فاندفع الاستعمار الأجنبي إليها كالسيل الغاضب، وهبط بها الاستغلال المسلح والضغط الاقتصادي إلى مركز سياسي كمركز البلاد المستعمرة، وضاع من ثم استقلالها، ولم تكن حكومة المانشو عاجزة عن صد الغارة الأجنبية، بل كان من همها الإصرار على إذلال «العبيد» وكسب رضى الدول الأجنبية بهذه الخطة، فاتفق الرأي بين فئة من جماعتنا بقيادة سن ياتسن على أن الأمل في تجديد بناء الصين عبث ضائع ما لم تذهب حكومة المانشو، فنهضوا في الطليعة وحمدوا النضال حتى تحققت مهمة الخلاص من سلطان المغير.

إلا أن مقاصد الثورة لا تقف عند هذه النهاية، وإنما وجب إسقاط المانشو للبدء بالعمل المنشود، أو بعبارة أخرى أن إسقاط المانشو من الوجهة القومية خروج من ربقة قوم أجنبيين للدخول في وحدة وطنية مؤلفة من أقوام الصين على قاعدة المساواة، وهو من الوجهة السياسية خروج من نظام الدكتاتورية إلى نظام سيادة الأمة، ومن الوجهة الاقتصادية خروج من عهد الصناعة البدائية بالأيدي إلى عهد الصناعة الكبرى صناعة الآلات الحديثة، وعلينا إذا أردنا المضي في طريقنا أن نرتقي بالصين من درجة المستعمرة إلى درجة الأمة المستقلة التي تحتل مكانها اللائق بها بين أمم العالم.

على أن وقائع هذه الأيام قد جاءت على خلاف ما توقعنا، ولئن قيل إن الثورة نجحت لقد كان غاية ما حققته هو الخلاص من سلطان الأسرة الأجنبية، واضطرت بعد قليل إلى المساومة والتفاهم من قوى الحكومة المطلقة، ومن جراء هذا التفاهم حبطت الثورة حبوطها الأول؛ لأنه كان بمثابة التسليم غير المباشر للاستعمار.

كان ممثل السلطان المطلق لذلك العهد (يوان شي كاي) وكانت السلطة التي ملكها أول الأمر لا تخرج على المألوف، ولم يشأ الزملاء أن يقمعوه رغبة صادقة منهم في اجتناب التمادي في الحرب الأهلية، مع حاجتهم إلى حزب منظم يرسم غايته ويدرك رسالته، ولو كان حزب كهذا موجودا لأمكنه أن يقابل مكيدة يوان شي كاي بما يردها عليه.

ولم يتحسن موقف الثورة بعد وفاته ؛ إذ كان العسكريون قد أقاموا أنفسهم من الشعب مقام الجلادين من ضحاياهم، وتعذر الشروع في أي عمل سياسي على قاعدة السيادة القومية، ثم أحس العسكريون عجزهم عن التفرد بالحكم فربطوا علاقاتهم بالدول الأجنبية، وكانت الحكومة التي تسمى بالحكومة الجمهورية نفسها بين أصابع هؤلاء العسكريين، فسخروها في تمكين مراكزهم بتمليق المستعمرين، وراح المستعمرون من جانبهم يسخرونهم لمآربهم، ويمدونهم بالقروض التي تملي لهم في منازعاتهم وتتيح لهم الصيد في الماء العكر. وهذه الفوضى كان لها أثرها الطبيعي فأخرت النهضة الصناعية فلم تقو على منافسة الصناعة الأجنبية في أسواقنا الداخلية، وأفلس من جراء ذلك صغار التجار وانتشرت البطالة بين الصناع فتشردوا أو لحقوا بعصابات السطو والإجرام، وعجز الفلاحون عن حرث أرضهم فباعوا محصولهم بأبخس الأثمان لغلاء الحاجيات وثقل الضريبة.

أين المخرج إذن من هذه المآزق؟ إن الآراء تختلف ويعم اختلافها من يقيمون بيننا من الغرباء.

فهناك «أولا» المدرسة الدستورية، وعندها أن متاعب الصين كلها راجعة إلى غياب القانون، فإذا أمكن توحيد الأمة في ظل الدستور عولجت هذه الفوضى وتيسر دواؤها.

ولا يخفى أن نفاذ الدستور يتوقف على تأييد الأمة، وبغير هذا التأييد لا يجدي السواد والبياض على الورق شيئا في ضمان الحقوق وحمايتها من عدوان العسكريين.

لقد كان لدينا دستور موقوت منذ السنة الأولى للجمهورية، فلم يحل دون فساد الحكم على أيدي العسكريين والسياسيين، فالدستور ورقة مهملة ما دام هؤلاء موجودين، وقد تمكن «تساوكون» من شراء منصب الرئاسة في ظل دستور أو خيال دستور، ولكنه لم يعمل إلا ما يناقض الدستور.

فقبل الدستور ينبغي أن تكون الأمة قادرة على حمايته، ولا فائدة من وضع العربة أمام الحصان، ونزيد على ذلك أن الدستور لا ينفع الأمة وهي مفككة الأوصال، ولو لم يكن ثمة من يسيء استخدامه من العسكريين، فسوف يظل حروفا ميتة في هذه الحال.

وتأتي بعد مدرسة الدستوريين مدرسة الاتحاديين «الفدراليين» وعندها أن فوضى الصين راجعة إلى الغلو في المركزية وجمع السلطة كلها بين أيدي حكام العاصمة، فمن المصلحة توزيع هذه السلطة بين حكومات الأقاليم والولايات، فلا تقوى الحكومة المركزية على ارتكاب الأخطاء متى آل الحكم إلى إقليم أو ولاية.

وينسى دعاة هذه المدرسة أن سلطان بكين لم تفوضه الأمة بنص من نصوص القانون، ولكن القادة الكبار قد اغتصبوه لتوسيع سلطانهم المسلح، وكأنما يريد دعاة هذه المدرسة باقتراحهم أن يستعدوا صغار القادة من حكام الأقاليم عن كبار القادة في العاصمة، ويبقى هؤلاء القادة الكبار حيث هم ليضيفوا إلى جرائمهم الأولى جرائم جديدة، فأين وجه الصواب في هذا الاقتراح.

إن النتيجة المحتومة هي قيام حكومات منعزلة في الأقاليم جنبا إلى جنب مع حكومة القادة الكبار في العاصمة، تتوخى كل منها منافعها من حيث تتمزق الأمة وتضطرب، ولن يرجى النظام ولا الحكم الذاتي في مثل هذه الحال.

ولا ريب أن الحكم الذاتي الصحيح هو الخير الأمثل الذي يطابق مصالح الأمة الصينية كما يطابق آدابها الروحية، إلا أن هذا الحكم لا يستقر قبل تمام وحدة الأمة وألفتها، فلا حرية للأقاليم والولايات حتى تتم الحرية للصين.

وثالث المدارس مدارس المؤتمرات التي تسمى بمؤتمرات السلام، ولا ريب أن شقاء الأمة بطول الحرب الأهلية قد أوحى بهذه الفكرة إلى ذوي الرأي من الصينيين والأجانب على السواء، فإذا صح أن السلام يأتي من هذه الطريق فليس أحب إلينا منها ولا أجمل. ولكن هذا الاقتراح يبطل نفسه؛ لأن الحرب الأهلية هي جريرة المطامع التي تحيك في نفوس القادة، فهم في تنازعهم عليها لا تتمهد بينهم سبيل للوفاق، وكل وفاق بينهم لا يراد به وجه الأمة، ونتيجة هذه المؤتمرات لن تختلف من نتائج أمثالها في أوروبة؛ إذ تضيع مصالح الأمم الصغار مرضاة للدول الكبار.

ورابع المدارس مدرسة تقترح أن يتولى الحكم أناس من زمرة التجار، فهل لنا أن نقول: إن زمرة التجار تمثل الأمة؛ إذ كان القادة والسياسيون قد استحقوا بغضها؛ لأنهم لا يمثلونها؟ إن الصواب هو أن تنظم الأمة حكومة تنوب عن أبناء الصين أجمعين ولا تنحصر نيابتها في تمثيل مصالح التجار، وخليق بحكومة كهذه أن تستند إلى مشيئة الأمة بأسرها ولا تلتمس العون من قوة خارجية. (3) برنامج الثورة من خطابه في الاحتفال بمضي ثماني سنوات على الجمهورية (سنة 1920)

أعتقد أن خلق الثورة ينبغي أن يجري على نهج التقدم العصري، وأن ننتفع فيه بتجارب الأمم الأخرى، مجتنبين خطأها مهتدين بعوامل نجاحها؛ إذ لا سبيل إلى الأمل في تقويم خطط الثورة بغير دراسة ناضجة لتجارب الثورات في الدول الأخرى بين الأقوام المختلفة.

وأمامي ثلاثة أدوار للثورة: أولها حكومة عسكرية، وثانيها تمهيد وتحضير وثالثها بناء دستوري.

فالدور الأول يستغرق فترة الهدم ويقترح فيه استخدام الأحكام العرفية، ولا بد للجنود الثائرة في أثنائه من تحطيم الدولة التي أقامتها أسرة «تاي تسنج» وطرد موظفيها المفسدين واستئصال التقاليد الباليه والقضاء على الرق وتطهير البلاد من سم الأفيون وسائر سموم الوهم والسحر والخرافة والتنجيم وإلغاء المكوس الداخلية بين الأقاليم الوطنية.

والدور الثاني - وهو دور التمهيد والتحضير - تشتمل مهمته على إنشاء الحكومة الذاتية المحلية في الأقاليم وتيسير تضامن الأمة وجعل الأمة وحدة من حكومات محلية مقسمة إلى قرى ومراكز.

وكل أمة خرج الأجنبي من بلادها وانتهى فيها الحكم العرفي فالواجب عليها أن تنشئ دستورا يقرر لأبنائها حقوقهم وواجباتهم، كما يقرر حقوق الحكومة الثورية.

وإذا مضت فترة سنوات ثلاث كان على أفراد الأمة أن ينتخبوا سلطتها.

فإذا أفلحت الأمة في استئصال جذور الفساد كما تقدم ودان نصف الشعب بمبادئ الديمقراطية الثلاثة والولاء للجمهورية، ففي وسع السلطة أن تحصي أبناء الوطن، وأن تقرر ضريبة البيوت وتنظم الشرطة وتشرف على الصحة العامة ووسائل المواصلات وفاقا للأحكام الدستورية.

ومتى انتخبت الأمة سلطتها وأصبحت وحدة مستقلة بحكمها حق لها أن تعول على النية الحسنة من حكومة الثورة، وأن تعترف لها هذه الحكومة بجميع حقوقها الدستورية في ظل الدستور الموقوت.

وإذا استقرت الأمور بعد ست سنوات في جانب البلاد كان على كل إقليم حاكم لنفسه أن يندب عنه نائبا لتأليف الجمعية الوطنية العظمى، ومهمة هذه الجمعية أن تنشئ خمسة مجالس على هدي دستور الهيئات الخمس لتنظيم عمل الحكومة: وهي الهيئة الإدارية والهيئة التشريعية والهيئة القضائية، والهيئة الاختبارية، وهيئة الرقابة والإشراف العام.

وينتخب المواطنون بعد قيام الدستور بطريق الاقتراع العام رئيسا لإنشاء مجلس الإدارة ونوابا لتكوين الجمعية التشريعية، أما المجالس الثلاثة الأخرى، فيعينها الرئيس بالتعاون مع الجمعية التشريعية، وهذه المجالس جميعا لا تكون مسئولة أمام الرئيس بل أمام الجمعية الوطنية، ولا تقبل استقالة أحد منها إلا بعد إدانته في الجمعية الوطنية بناء على اتهام هيئة الرقابة والإشراف العام، أما أعضاء هيئة الرقابة والإشراف العام فيعزلون بعد اتهامهم بقرار من الجمعية الوطنية.

وتشمل سلطات الجمعية الوطنية وواجباتها مباشرة الإشراف على تطبيق الدستور وتطهير الأداة الحكومية من الموظفين غير الصالحين، وتنظر الهيئة الاختبارية في المؤهلات التي ترشح صاحبها لعضوية الجمعية الوطنية والمجالس المختلفة.

وبعد إقرار الدستور وانتخاب الرئيس وانتخاب المجالس تسلم حكومة الثورة مقاليد السلطة للرئيس، وتعتبر مرحلة التمهيد والتحضير منتهية منذ تلك اللحظة.

والمرحلة الثالثة أو الدور الثالث هو دور إتمام الثورة، وفيه تتحقق الحكومة الدستورية، وفيه تبدأ حكومات الأقاليم الذاتية مباشرة حقوقها المدنية، ويتولى المواطنون سلطة الراشدين في تدبير شئون بلادهم وحل مشكلاتها السياسية وعزل الموظفين الحكوميين.

هذه هي الأدوار الدستورية، أو بعبارة أخرى هذه هي الفترة التي يتم فيها بناء الثورة، وهذه هي الخطوط التي أوثرها وأزكيها.

وبعد فما هي مشكلات البناء الثوري أو بناء الثورة؟

إن البناء الثوري هو بناء الطوارئ أو هو بعبارة أخرى بناء العجلة، ومن هنا وجب أن ينظر إلى وسائل الدوام وأن ينهج على منهج العوامل الاجتماعية الطبيعية؛ إذ كان البناء الذي توحي به دواعي الساعة غير كفيل في جميع الأحوال بموافقة مهام الثورة.

إن الثورة لها عملها الطارئ الذي تسقط به الملكية وتقضي على النظام الإمبراطوري، ولكنها إلى جانب الهدم الطارئ لا بد لها من البناء الطارئ، وكلاهما كالقدمين أو كالجناحين لا غنى لأحدهما عن الآخر، ومنذ الساعة التي أقيمت فيها الجمهورية قد جاوزنا دور الهدم الطارئ، ولكننا لم ندخل في دور البناء الذي لا بد أن يلازمه، وهذا هو مصدر جميع النكبات التي انصبت علينا: سلطان الموظفين العنيف ومنازعات الساسة وما إلى هذا وذاك، ولم يكن للصينيين وسيلة لمنع ما حدث، ففي زمن الطوارئ لا غنى عن بناء الطوارئ، ولا سبيل بغير هذا إلى تعويد الشعب أن يألف واجباته الجديدة، وإن ذلك لمهم إلى الغاية من الأهمية في خطط الثورة.

ولقد مضت حتى الآن ثماني سنوات منذ إنشاء الجمهورية الصينية، وقد استفاد أعضاء الحزب ذخيرة واسعة من التجربة والمعرفة، ولعلهم اليوم يذكرون دعوتي إلى تعليم الجماهير وتدريبها ويفهمون مغزاها دون أن يعتبروها من «الطوبيات» أو المطامح التي لا تقبل النفاذ.

لقد عاشت الصين آلاف السنين تحت نير العروش الرجعية، ودرج أهلها على احتمال الطغيان والحرمان من السيادة، وها هي ذي قد أنشأت منذ فجر الثورة حكومتها الجمهورية الدستورية، فعليها إذن أن تمر بدور من أدوار التدريب، وإلا تعذر عليها بلوغ غايتها.

إن أمتنا الصينية قد طال عليها عهد السيادة الملكية، وقد تركت (خلائق الرق) أثرا عميقا في روحها لا يتأتى محوه قبل العبور بها في دور من أدوار التدريب، وعلى الصينيين أن يعملوا كثيرا على تهذيب أنفسهم قبل إزالة هذه الأقذار المتجمعة من بقايا الماضي والاشتراك في حياة الحرية والمساواة.

إن عصبة الثورة حين أخذت أول الأمر في تنظيم الثورة الصينية كان من همنا بداءة أن ننشر آراءها بأسلوب الدعوة، وأن نجمع كل من صحت عزيمتهم على خدمة الأمة الصينية وتعاهدوا على تحقيق الديمقراطية القائمة على مبادئها الثلاثة لبلوغ مقصدنا الشامل وهو الجمهورية الصينية.

فهؤلاء الذين نقضوا ذلك العهد لا نحسبهم في زمرة الثوريين، ومنهم من ينظر إلى ذلك العهد كأنه بعض المظاهر الرسمية، ولكن قوة الكومنتانج قد نمت نموا كبيرا وتوطد نظامها؛ لأننا بالعهد الذي تعاهدنا عليه قد خلقنا للحزب قلبا واحدا، وإذا كان هذا شأن الحزب فهو شأن يصدق كذلك على الدولة.

وكثيرا ما قيل عن الأمة الصينية: إنها كالرمل المتناثر هنا وهناك، فإذا نحن أردنا أن نجمع هذه الملايين الأربعمائة من حبات الرمل لنخلق منها دولة متحدة قوية في اتحادها، فليس في وسعنا أن نتخلى عن فكرة القسم، وهكذا يحدث في جميع بلدان الحضارة المتقدمة، فإنهم يوجبون عند تغيير الجنسية أن يقسم المرء يمين الولاء والاحترام للدولة التي ينضوي إليها، وأن يعرب عن اعترافه بدستورها والتزامه لكل ما يفرضه عليه من الواجبات ولا يحسب في زمرة المواطنين قبل هذا القسم، بل يقضي حياته بين قومه ولا يزال معدودا بينهم من الغرباء الذين حرمت عليهم حقوق الوطنية.

وعندي أن الموظفين وأعضاء المجالس لا يؤدون عملهم قبل أداء هذا القسم، ومن حق الحكومة الجديدة حيث يتبدل نظام الحكم أن تطلب عهد الولاء من جميع المواطنين، وأن تعتبر من يرفض أداءه عدوا يطرد من حظيرة الدولة.

على أن زملائي في الحزب حسبوا أن مسألة القسم مسألة ثانوية، ووصفوني من أجل هذا بالنزعة النظرية، ولا أزال منذ إنشاء الحزب أصر على القسم، وأرى أن انقطاع مراسم اليمين - أساس القانون - هو أحد الأسباب الكبرى التي جرت إلى خيبة البناء الثوري، ولو لم يهمل زملائي كلماتي عقب تطور الجمهورية لتم في تكوين الدولة ما تم في تكوين الحزب، وكان على كل موظف أن يقسم يمين الولاء للجمهورية وأن يؤيدها ويذود عن حقوق الأمة، ويعزز مواردها، ولا يصح أن يستمتع بالحقوق القومية قبل ذلك بل يحسب من خدام أسرة «تاي تسنج» وأعوانها.

وكل إساءة إلى الجمهورية يعاقب فاعلها بعد حلف اليمين بحكم القانون.

إن الدولة سفينة تجمع قلوب رعاياها، وليست سياسة الدولة إلا صورة لعوامل الأمة النفسانية، فإن أردنا أن نجعل من رعايا الإمبراطور مواطنين مخلصين للجمهورية، فمن الواجب أن نطالبهم بيمين الولاء. ولم يستطع الكومنتانج عند إقامة الحكومة الجمهورية أن يحقق ذلك فكان من ثمة أن الحزب تجمعت له في دور الهدم ذخيرة هائلة من القوى الروحية ثم فقدها بعد إقامة الجمهورية ولم تتيسر له مهمة البناية الثورية.

وتقع التبعة في خيبة الثورة الصينية على جميع المواطنين الصينيين ذوي الفهم والمعرفة الذين لم يبذلوا دماءهم في صفوف الثورة الأولى، وليست هذه التبعة مقصورة على الذين قاموا بالثورة وحدهم، فإن ذوي الفهم والمعرفة جميعا هم مدد الثورة الذين وجب عليهم أن يخفوا لتأييد الطليعة من الثوار.

أبناء الصين! انهضوا نهضة قلب واحد حبا لوطنكم، وهبوا يدا واحدة لنبذ القديم وخلق الجديد، ورددوا بالنية الصادقة يمين الولاء للجمهورية الذي أردده الآن.

أنا سن ياتسن، بنية صادقة خالصة أقسم لأنبذن من هذه اللحظة القديم وأبنين الجديد، وأن أقاتل في سبيل استقلال الأمة وأصرف قوتي كلها إلى تمكين الجمهورية الصينية وتحقيق الديمقراطية على مبادئها الثلاثة، وإنفاذ الدستور بهيئاته الخماسية لترقية الحكومة الصالحة وتوفير سعادة الشعب وأمانه، وتوطيد دعائم الدولة باسم السلام في العالم أجمع. (4) الثوار من بيان عن الحل الصالح لمشكلة الصين (سنة 1904)

إن الصينيين الذين يجنحون إلى مبادئ الثورة ينقسمون على وجه التقريب إلى ثلاثة أقسام:

أولها:

وأكثرها عددا، أولئك الذين عجزوا عن تحصيل القوت من جراء مظالم الموظفين واغتصاباتهم.

وثانيها:

أولئك الذين تثيرهم الكراهية القومية لأسرة المانشو.

وثالثها:

أولئك الذين يستوحون الأفكار النبيلة والأمثلة العليا.

وهذه الطوائف الثلاث تستطيع أن تبلغ الغاية المطلوبة بالتعاون بينها في وجهات مختلفة وبالقوة والسرعة اللتين تنموان يوما بعد يوم.

ومن المحقق إذن أن سقوط حكومة المانشو إنما هو مسألة زمن، وتشبه أسرة المانشو في هذه الحالة منزلا متداعيا سرى الوهن إلى أساسه جميعا، فهل في وسع أحد أن يمنع سقوط هذا المنزل بأسناد توضع على خارج الجدران هنا وهناك؟

لعل هذا التدعيم نفسه خليق أن يعجل بتقويضه. وقد بدا من تواريخ الأسر المالكة في الصين أن أدوار حياتها كأدوار حياة الفرد بين المولد والنمو والنضج والشيخوخة والفناء، وهذا الحكم التتري القائم اليوم قد أخذ في الهرم منذ أوائل القرن الماضي فهو يمضي إلى فنائه على عجل، وأصبح واضحا جد الوضوح أن استبدال حكومة مستنيرة متقدمة بهذا الحكم التتري أمر لا محيص عنه.

إن في الأمة كثيرا من الأكفاء المتعلمين قادرون على النهوض بحكومة جديدة، والبرامج مهيأة لتحويل الحكومة التترية إلى جمهورية صينية، وهذه الجماهير من الشعب على استعداد للترحيب بالنظام الجديد وعلى أمل في حالة أفضل من حالتهم ترفعهم من وهدة هذه المعيشة المحزنة.

إن الصين اليوم مقبلة على حركة قوية عظيمة، وإن شرارة واحدة لكافية لإشعال النار في الغابة الكثيفة وطرد التتر من بلادنا، وإن مهمتنا لعظيمة ولكنها ليست بالمستحيلة. (5) مبادئ الأمة الثلاثة، من خطاب في اللجنة التنفيذية لحزب الكومنتانج (6 مارس 1921)

بلغت ثورتنا العاشرة، ولكننا لا نستطيع أن نزعم أننا بلغنا الهدف منها فمهمتنا لم تتم، وعلينا أن نمضي قدما في كفاحنا.

إن حزبنا مختلف كل الاختلاف من أحزاب الصين الأخرى؛ إذ كان من تلك الأحزاب من عقد النية على خلع أسرة تسنج وإقامة أسرة أخرى - وهي أسرة منج - في مكانها، وغني عن القول أن مبادئ هذا الحزب مناقضة لمبادئنا، فإننا في السنوات العشر الأخيرة من عهد أسرة تسنج ألفينا أنفسنا مكرهين على النزول بمدينة طوكيو، فقررنا يومئذ مبادئنا الثلاثة: وهي القومية والديمقراطية والاشتراكية، وكانت السيطرة يومئذ لا تزال في أيدي المانشو والثورة لا تزال عند مبدئها الأول وهو القومية، غير متمكنة من إقرار مبدأيها الآخرين.

إن مبادئ الرئيس لنكولن تطابق مبادئي، فقد كان ينشد حكومة من الأمة تنتخبها الأمة لخدمة الأمة، وهي مبادئ صورت غاية المسعى في عرف الأوروبيين والأمريكيين على السواء، ومن السهل أن نجد كلمات مثلها لسياسة الصين، فقد ترجمتها بالقومية والديمقراطية والاشتراكية، وأحسب أنها لا تعني شيئا غير هذا.

وأريد الآن أن أتكلم عن القومية:

فما هو المعنى الذي نريده بالقومية؟ لقد بقيت الأمة منذ قيام أسرة المانشو خانعة لنيرها الثقيل أكثر من مائتي سنة، وها هي ذي أسرة المانشو قد ذهبت ولاح أن الأمة خليقة أن تستمتع بحريتها الكاملة، فهل تستمتع الأمة الصينية اليوم بنعم الحرية الكاملة؟ كلا، فما هي العلة؟ وما بال حزبنا لا يزال بعيدا من تحقيق غايته لم ينجز منها إلا ناحيتها السلبية دون أن يتقدم شيئا في ناحيتها الإيجابية؟

بعد خلع الأسرة وإنشاء النظام الجمهوري في الأقطار التي تسكنها القوميات الخمس - ونعني بها الصينيين والمنشوريين والمغول والتتار وأهل التيبت - برزت لنا عناصر جمة من أنصار الرجعية السياسية والدينية، وهنا تكمن جذور الشر كله.

فمن جهة العدد يأتي ترتيب هذه القوميات على هذا النسق، ملايين عدة من أهل التيبت، وأقل من مليون من المغول، ونحو عشرة ملايين من التتار، وعدد ضئيل من المنشوريين، أما من الوجهة السياسية فهم موزعون على النحو الآتي: فالمنشوريون يقيمون في دائرة نفوذ اليابان، والمغول على حسب الأنباء الأخيرة يقيمون في دائرة نفوذ الروس، والتيبت غنيمة بريطانيا العظمى، وهذه القوميات لا تملك من القوة ما يكفي لاعتمادها على نفسها في دفاعها، ولكنها تستطيع أن تتحد مع الصين لتكوين دولة واحدة.

وفي الصين أربعمائة مليون، فإن عجزوا عن تكوين أمة واحدة متحدة فتلك مسبتهم، وفيها عدا ذلك دليل على أننا لم نحقق مبدأنا الأول وأننا مضطرون إلى الكفاح طويلا لإتمام عملنا على أوفاه، وإنما توطد الجمهورية المتحدة كي يتألف من جميع القوميات أمة واحدة قوية، وعلى سبيل المثال أشير إلى أمة الولايات المتحدة الأمريكية التي تجتمع منه وحدة متفقة وهي في الواقع تتألف من قوميات شتى، كالألمان والهولنديين والإنجليز والفرنسيين ... إلخ، فالولايات المتحدة مثال للأمة المتحدة، وتكوين أمة كهذه مستطاع، ولا بد أن نستطيعه.

أو خذوا مثالا آخر للأمة المتحدة من أقوام مختلفة بلاد سويسرة، فإنها تقع في قلب القارة الأوروبية، على حدودها من أحد جوانبها فرنسا، وعلى الحدود الأخرى ألمانيا، وعلى الجانب الثالث إيطاليا، وهم لا يتكلمون لغة واحدة ولكنهم مع هذا أمة واحدة، وإنما توحد بينهم الثقافة الحكيمة والنظام السياسي الرشيد، فتجمع من هذه الأجناس المتفرقة أمة متحدة متماسكة، ومصدر هذه القوة أن رعايا الجمهورية متساوون في حقوق الانتخاب المباشر، وهي إذا نظرنا إليها من الوجهة الدولية أول أمة ساوت بين رعاياها في تلك الحقوق، وهذه قدوة مثلى في الوطنية.

فلنفرض الآن أن قبائل الصين جميعا تمت وحدتها وخرجت منها أمة متماسكة، فليس هذا كافيا لتحقيق الغاية المنشودة؛ إذ لا تزال ثمة شعوب تعاني الإجحاف في المعاملة، ومن واجب أبناء الصين أن يتكلفوا برفع هذا الإجحاف وبسط يد المعونة إلى تلك الشعوب لضمها إلى الراية الوطنية الشاملة، وجدير بالإنصاف أن نتيح لهم فرصة الشعور بمساواة الإنسان للإنسان، وبالموقف العادل من الوجهة الدولية كما عبر عنه الرئيس ويلسون فيما سماه تقرير المصير، وما لم نبلغ بأمتنا هذا المبلغ لا نعتبر مهمتنا منجزة. فكل من أراد الانتماء إلى الصين وجب أن يحسب من صميم الصينيين، وذلك هو معنى الوطنية أو القومية، فهي القومية الإيجابية وينبغي أن نؤكدها بهذا المعنى.

أما الديمقراطية، فقد ذكرت الساعة أن الديمقراطية قد استوفت طورها الأعلى في سويسرة، إلا أنني أبادر فأقول: إن نظام التمثيل هناك لا يطابق الديمقراطية على أصحها، وإنما تصح الديمقراطية بحق الفرد المباشر. وقد نشبت ثورات عدة في فرنسا وأمريكا وإنجلترا تولد منها نظام التمثيل القائم بين تلك الأمم، ولكنه مع هذا لا يعني الحق المباشر على السواء لجميع المواطنين كما نعنيه ونجاهد في سبيله، وإنما الجوهري من هذه الحقوق جميعا حق الانتخاب لكل مواطن وحق العزل الذي يخول الشعب بعد انتخاب موظفيه أن ينحيهم عن العمل حين يشاء، وحق الاستفتاء الذي يخول الشعب أن يرفض كل قانون تصدره الهيئة التشريعية مخالفا لرغباته، وحق الاقتراح الذي يخوله أن يقدم إلى الهيئة التشريعية مسودات من القوانين يستحسن إصدارها.

فهذه الحقوق الأساسية الأربعة هي قوام ما أسميه بالحق الانتخابي المباشر.

ونتناول الكلام على الاشتراكية أخيرا وهي فكرة عرفت بين الصينيين في الأزمنة الأخيرة، ومعظم دعاتها يقصرون معرفتهم بها على بضع كلمات جوفاء لا تعبر عن برنامج محدود، ولكنني قد انتهيت من دراستها إلى جوهرها وهو حل مشكلة الأرض ورأس المال.

ونلخص ما تقدم ونضيف إليه بعض التفصيل فنقول: إننا منذ خلع الأسرة المالكة لم ننجز من مبدأ القومية غير جزء من عهودنا، فقد حققنا الجانب السلبي ولم نعمل شيئا من جانب الإيجاب، وعلينا أن نرفع كرامة الأمة الصينية، ونؤلف بين جميع الشعوب التي تستوطن الصين لتصبح في آسيا الشرقية أمة واحدة تسمى دولة الصين القومية.

ولإدراك هذه الغاية يلزمنا أولا أن نقرر الأصول الأربعة التي تدور عليها الحقوق الانتخابية الأربعة: وهي الاقتراع العام، والاستفتاء، والاقتراح، والعزل.

أما الاشتراكية فبرنامجي لها ما يأتي: «أولا» تقسيم الأرض على أساس النسبية.

وقد حاولت أيام مقامي بنانكنج؛ إذ كنت أتولى الرئاسة المؤقتة أن أنفذ هذا البرنامج فلم أستطيع؛ لأنني لم أفهم.

إن المشكلات الاجتماعية تنشأ من التفاوت بين الغني والفقير، فماذا نعني بالتفاوت أو قلة المساواة؟

لقد كان الفارق موجودا بين الغني والفقير في الأزمنة الغابرة، ولكنه لم يكن فارقا حاسما كما نراه اليوم؛ إذ يملك الغني الأرض كلها ولا يبقى للفقير حتى القليل منها، وعلة هذا التفاوت اختلاف أساليب الإنتاج، فقد كان قاطع الخشب مثلا يستخدم الفئوس والمدى وما إليها، ولكن المكنات تحل محل هذه الأدوات في العصر الحاضر ويستطاع الحصول على محصول كبير بعمل بدني قليل.

ولنضرب مثلا آخر من أعمال الزراعة، ففي الأزمنة الغابرة كان المعول كله في هذا المجال على الجهود الإنسانية، ثم نشأت المحاريث التي تجرها الخيل والبقر فزادت سرعة العمل وقلت الجهود البدنية، ثم استخدمت القوى الآلية اليوم في أوروبة وأمريكا فأصبح من المستطاع حرث ألف فدان وزيادة في اليوم الواحد وأمكن الاستغناء عن الخيل والبقر، فنجم من هذه الحالة فارق هائل يعبر عنه بنسبة ألف إلى واحد، فإذا انتقلنا من هذه الأمثلة إلى وسائل المواصلات رأينا أن الوسائل الحديثة كالبواخر والسكك الحديدية قد جعلت النسبة أكثر من ألف إلى واحد، عند المقارنة بين هذه القوى والقوة الإنسانية.

ولنتكلم أولا عن اشتراكية الأرض، فنظام الأرض مختلف بين أوروبة وأمريكا، ولا يزال نظام الإقطاع قائما في إنجلترا من حيث أصبحت الأرض مملوكة للآحاد في الولايات المتحدة.

إلا أن برنامجي يدعو إلى التقسيم النسبي اتقاء لشرور المستقبل التي بدرت اليوم بوادرها.

ولنضرب مثلا بما حدث تحت أعيننا منذ أنشئ المجلس البلدي في مدينة كانتون، فإن المواصلات تقدمت وأخذت أثمان الأرض على الجسر وعند مزدحم السكان ترتفع ويباع «المو» الواحد بعشرات الألوف من الريالات، وهذه كلها يملكها آحاد يعيشون بجهود الآخرين.

إن نظام الأرض القديم في الصين يوافق بعض الموافقة نظام التقسيمات النسبية، فإذا أردنا أن نطبق هذا النظام وجبت ملاحظة هذه الشروط! وهي فرض الضريبة على حسب قيمة الأرض، والتعويض على حسب القيمة العرفية.

وقد اتبع التقسيم على ثلاث درجات إلى اليوم في البلاد الصينية، ولكن قيمة الأرض لم تكن فيما مضى بهذا الارتفاع لنقص وسائل المواصلات وأدوات الصناعة، فلما تقدمت المواصلات والأدوات الصناعية مع بقاء التقسيمات العتيقة نجم من ذلك ارتفاع غير متناسب مع قيمة الأرض، فأصبح ثمن المو في بعض المواقع ألفي دولار وفي بعض المواقع الأخرى عشرين ألفا، وتراوحت بين هاتين القيمتين قيم متفاوتة، فإذا بقيت الضرائب كما كانت راج الغش والفساد بين دافعي الضرائب ومحصليها.

وعلى هذا ينبغي إذا أردنا اتقاء شرور هذه الحالة أن نفرض الضرائب بنسبة واحد في المائة من قيمة الأرض، فمن كان يملك أرضا بألفي ريال فعليه ضريبة عشرين ريالا، وتطرد الزيادة باطراد الارتفاع في القيمة، ومتى استولت الدولة على الأرض فينبغي أن يكون استيلاؤها على قيمة مقدرة بهذا الحساب.

أما مسألة رأس المال، فقد نشرت أخيرا كتابا عن تنمية الصين الدولية بحثت فيه مسائل الاستعانة برءوس الأموال الأجنبية لترقية صناعة الصين وتجارتها.

فانظروا مثلا إلى خطوط بكين هنكاو، وبكين مكدن وتينتسن بكاو التي مدت برءوس الأموال الأجنبية وهي تدر الآن مقادير جمة من الربح الجزيل.

إن خطوط السكك الحديدية اليوم تبلغ في الصين من خمسة آلاف إلى ستة آلاف ميل، تقدر أرباحها بما يترواح بين سبعين وثمانين ميلا تزيد على قيمة الضرائب، فإذا امتدت الخطوط فبلغت خمسين أو ستين ألف ميل تضاعفت الأرباح عدة أضعاف.

وبرنامجي في الاستعانة بالأموال الأجنبية أن جميع الموارد التي تدر الربح عند إدارتها على أي نحو مقبول لا تزال في انتظار الأموال الأجنبية، ومن أمثلتها موارد المناجم والتعدين.

ومتى ذكرت القروض في هذا الصدد فإنما أعني الحصول على المكنات والأدوات الضرورية لاستغلال هذه الموارد، وقد كانت أرباح السكة الحديدية من بكين إلى هنكاو عظيمة، وكان الأجانب على استعداد لتسليمها مع إمكان الربح منها في المستقبل، وبلغ من وفرة هذا الربح أنه كان يكفي لمد الخط من بكين إلى كاجلان، وهو الخط الذي يصل اليوم إلى سونيانج.

ونوجز فنقول: إن الحصول على القروض من رءوس الأموال الأجنبية ميسور، ولكن السؤال هو: كيف ننفقها؟ وهل نستفيد من إنفاقها أو لا نستفيد.

وعلينا أن نسلم أن الضحايا الضرورية للثورة الاجتماعية أكبر من الضحايا اللازمة للثورة السياسية، وقد صح بعض الصحة مبدأ القومية منذ خلعت أسرة المانشو بعد ثورة سنة 1911، ولكن مبدأ الديمقراطية ومبدأ الاشتراكية لم يتركا لهما أي أثر، فلا مناص لنا إذن من السعي جهدنا كي نحقق غاية حزبنا ونحقق كذلك ما يعتبر في عرف العصر الحاضر غاية الجميع، ونعني به الديمقراطية، وهي أيضا إحدى غاياتنا.

ولا شك في تقدم إنجلترا وأمريكا في الحياة السياسية، ولكن السلطان السياسي لا يزال هناك في قبضة حزب لا في قبضة الأمة كلها. وقد أعلن الرئيس ويلسون خلال الحرب الأوروبية الكبرى نداء تقرير المصير وهو يقابل مبدأ القومية من برنامجنا، وقد تألفت بعد مؤتمر فرساي جمهوريات صغيرة ولكنها مستقلة تعيش معا بغير رابطة تجمعها، فجدير بكم أن تفطنوا من هذا للاتجاه الغالب على حياة الأمم العصرية.

لقد حان الحين لتحقيق مبادئنا الثلاثة جميعا؛ أي تحقيق القومية والديمقراطية والاشتراكية، وإنما يتاح العيش والحرية لأمتنا حين تتحقق هذه المبادئ على أوفاها، ويتوقف تفصيلها وتطبيقها على ما تبدونه من القوة وما تودعونه دعوتكم من النشاط والهمة. (6) مبدأ الوطنية (أو القومية) من محاضرات كانتون سنة 1924

ما هو مبدأ الوطنية؟

إذا رجعنا إلى تاريخ الصين في حياتها الاجتماعية وعاداتها الموروثة جاز لنا أن نقول: إن مبدأ الوطنية مرادف لفكرة الدولة.

فالأمة الصينية قد ألفت الولاء للأسرة والقبيلة حتى بما فيها شعور القرابة وعصبية القبيلة ولم ينم فيها شعور الوطنية.

وقد كانت الأسرة والقبيلة من القوى الموحدة، وحدث كثيرا أن الصيني ضحى بنفسه وبأسرته وحياته دفاعا عن قبيلته، أما عن الوطن فلم يعهد قط عمل عظيم من أعمال التضحية الجلية، فوقفت وحدة الصين عند القبيلة ولم تتقدم إلى وحدة الأمة.

فقولي: إن مبدأ الوطنية مرادف لفكرة الدولة يصدق على أحوال الصين ولا يصدق على الأحوال في الغرب؛ إذ يميز الغربيون بين الأمة والدولة، والكلمة التي يقابل بها الإنجليز كلمتنا «من تسو» هي كلمة الأمة، وهي ذات معنيين لا اختلاط بينهما.

نعم إن الدولة والأمة متصلتان ولا تبدو الضرورة للفصل بينهما، ولكن معناهما مختلف ولا بد من فهم معنى كل منهما على حدة.

فلماذا يصدق التوافق بين معناهما على الصين وحدها؟ يصدق ذلك على الصين وحدهما؛ لأن الصين منذ قامت فيها أسرة شين وأسرة هان تنشئ دولة واحدة من سلالة واحدة حيث كانت البلاد الأجنبية تنشئ حكومات متعددة في جنس واحد وتضم عدة قوميات إلى فرد حكومة.

ونضرب المثل بإنجلترا التي تعد اليوم أقوى دول العالم، فإنها ضمت إلى الجنس الأبيض أناسا من السمر والسود وغيرهم لتكوين الإمبراطورية البريطانية، فلا يصدق عليها أن الجنس والدولة شيء واحد، وهذه هونج كونج - وهي مقاطعة بريطانية - تؤوي عشرات الألوف من الصينيين فلا يصح أن يقال عنها: إن حكومة هونج كونج تعني أمة بريطانية.

أو انظروا إلى الهند - وهي اليوم مستعمرة بريطانية - تجدوا ثمة ثلاثمائة وخمسين مليونا من الهنود، فإذا قلنا: إن حكومة الهند والأمة البريطانية شيء واحد فنحن في زيغ من الحقيقة، ونحن جميعا نعلم أن أبناء إنجلترا الأصلاء من الأنجلوسكسون، ولكنهم غير محصورين في البلاد الإنجليزية، بل يوجد في الولايات المتحدة أيضا طوائف كبيرة من هذه السلالة، فلا يتأتى لنا حين ننظر إلى البلدان الأخرى أن نوحد بين معنى الدولة ومعنى الأمة، فبين المعنيين خط فاصل يميز بينهما.

فكيف يتسنى لنا التمييز الواضح بين هذين المعنيين؟ خير منهج ننهجه للتمييز بينهما أن ندرس العوامل التي مزجتهما، ونبسط العبارة، فنقول: إن الجنسية أو القومية تنمو بالعوامل الطبيعية، أما الدولة فتنمو بقوة السلاح، ونستعين بشاهد من تاريخ الصين السياسي فنذكر أن الصينيين تعودوا أن يقولوا: إن «وانج تاو» هي الطريق السلطانية وطريق الحقيقة، فالجماعة التي تتألف على الطريقة السلطانية هي السلالة أو القومية، أما القوة المسلحة فهي «باتاو» أو طريق الغلبة، فالجماعة التي تتألف على هذه الطريقة هي الدولة.

ونمعن النظر في قوانين البقاء كما عملت في السلالات القديمة والحديثة، فيبدو لنا أننا لا نستطيع أن ننقذ الصين ونحفظ سلالتها إلا بتنمية بواعث القومية، وعلينا أن نفهمها جيدا قبل أن نجعلها عاملا واضحا من عوامل الخلاص والسلامة.

إن أهل الصين يبلغون أربعمائة مليون، لا تختلط السلالة فيهم إلا في بضعة ملايين من المغول، وفي نحو مليون من المنشو، وفي ملايين قليلة من أبناء التيبت، وفي مليون من الترك المسلمين، فلا تزيد عدتهم جميعا على عشرة ملايين، ويتحد الصينيون ما عداهم في سلالة هان بدم واحد ولغة واحدة وديانة واحدة وعادات متشابهة: سلالة واحدة صافية.

ما هو موقف الصين من العالم بأسره؟ إننا بالقياس إلى الأمم الأخرى أكبرها عددا وأعرقها حضارة؛ لأنها حضارة دامت أربعة آلاف سنة، ولكننا على هذا نعد بين أفقر الأمم وأضعفها وننزل أسفل المنازل في الشئون الدولية، فنحن السمكة واللحمة وغيرنا من أبناء آدم هم الصفحة والسكين، وموضعنا اليوم على أشد الخطر ما لم نستمسك بعوامل الوطنية ونجمع بين الملايين الأربعمائة في أمة قوية؛ إذ نحن نواجه الكارثة ونستهدف لضياع بلادنا وفناء قوميتنا، ولن ندفع هذه الكارثة بغير الشعور الوطني والاعتماد على النخوة الوطنية لإنقاذ بلادنا.

إن الوطنية هي القنية النفيسة التي تهيئ للدولة أن تتطلع إلى التقدم وللأمة أن تطيل وجودها.

وقد ضيعت الصين اليوم هذه القنية النفيسة، ويتراءى لي أنها ضيعتها قرونا ولم تضيعها يوما وحسب، وما عليكم إلا أن تنظروا إلى الموضوعات التي تحارب الثورة وتندس إلينا من الخارج، وكلها تعارض الوطنية!

لقد كانت الوطنية ميتة خلال مئات السنين من تاريخ الصين، وهذه الموضوعات التي راجت في زماننا لا تعرض لنا نغمة واحدة من نغمات النخوة الوطنية ولا تني شادية بالثناء على فضائل المانشو ورحمتهم ومآثر سخائهم العميم، ونكاد نسمع منذ نشوب الثورة أولئك الأعلام المتطوعين للتغني بما كان للمانشو من المناقب والسجايا، ولم يقنع هؤلاء الأعلام باصطياد العبارات التي تستبقي ذكرى المانشو بل جاوزوا ذلك إلى تأليف جماعتهم المسماة «باو هوانج تانج» للدفاع عن إمبراطور المانشو وسحق النوازع الوطنية في ضمائر أمة الصين.

واجعلوا بالكم إلى هؤلاء الملكيين ... إنهم لم يكونوا من المانشو، بل كانوا من صميم أهل الصين ووجدوا الرعاية والترحيب بين الصينيين المقيمين في الخارج! فلما ازدهرت دعوة الثورة تحول هؤلاء المهاجرون شيئا فشيئا إلى تأييدها وتضاعفت الجماعات الثورية من ثم وراء البحار.

ومن هؤلاء فئة «هنج مين سان هوهوي» أو كما يسمون أحيانا بال «شيه كنج تانج»؛ الذين كانوا يحاربون المانشو ليأتوا بأسرة «منج» في مكانها، وكانوا ينطوون على حماسة وطنية قوية، ثم ظهرت الدعوة الملكية فأصبحوا ملكيين لا يبالون بغير «النقاء الطاهر» وهو الشعار الذي اتخذته الدعوة المانشوية لإعادة عاهلها إلى عرشه، وكفى بهذه النكسة دليلا على ما فقدته الصين من نخوتها الوطنية.

إننا خليقون أن نعرف إثارة من تاريخ هذه الجماعات الخفية حين نتكلم عنها، فقد بلغت غاية القوة خلال حكم العاهل المانشوي كانج هسي (1661-1722) وهب الموالون لأسرة منج يعارضون شان شي حين قضى على هذه الأسرة واستولى على زمام السلطان في أرجاء الصين بأسرها، واستمرت المقاومة إلى عهد كانج هسي فلم تذعن الصين كل الإذعان للمانشويين حتى ذل العهد، ولم تنطفئ شعلة المقاومة حتى يئس الجيل القائم بها من تدبير القوة الكافية للانتقاض فلجأ إلى الجماعات السرية.

وكان بقيتهم أناسا ذوي أصالة ونظر وخبرة بالمجتمع، فدأبوا على تنظيم الجماعات السرية إلى أن وضع العاهل المانشوي نظام الامتحان للمناصب فدخل في شبكته كثيرون من أساتذة عهد «منج» وعلم القائمون بحركة المقاومة أن الطائفة المتعلمة لا يعتمد عليها ... يومئذ انقلبوا إلى طبقات المجتمع الدنيا: إلى المشردين على ضفاف الأنهار والبحيرات، وراحوا يجمعونهم وينظمونهم ويبثون فيهم روح الغيرة الوطنية كي يتصل العمل بعدهم، ولكن هذه الطوائف لجهلها وسقوط بيئتها وجلافة تعبيرها وخشونة مسلكها لم تلق آذانا صاغية عند الطوائف المهذبة، ولا يمنع هذا أن حكماء أسرة منج أبانوا في عملهم عن دراية وحصانة حين لجأوا إلى تنظيم تلك الجماعات السرية لاستبقاء النزعة القومية، فلم يقو طغيان المانشو خلال القرنين الأخيرين على محو تلك النزعة وتوارث مصطلحاتها وتقاليدها طبقة بعد طبقة في تلك الجماعات السرية.

وظلت جذوة الوطنية حية منذ بدأت أسرة المانشو حكمها، ثم أخذ «تسو تسنجتانج» بناصية التنين الأعظم وعلم بخفايا الجماعات السرية، فحطم قيادتها الحربية وشتت شملها، فلما كانت الثورة الأخيرة لم نجد هيئة منظمة نعتمد عليها، فقد كانت جماعة ال «هنج مين» آلة مسخرة وآل الأمر بنخوة الصين الوطنية إلى الضياع.

إن الأمة إذا سادت أمة أخرى لم تسمح لها باستقلال التفكير، وهذه اليابان مثلا تسيطر على كورية وتعمل على توجيه أذهان الكوريين حيث تريد، فمحت مادة الوطنية من المدارس، ويوشك بعد ثلاثين سنة أن يكبر الأطفال الكوريون وهم لا يعلمون أنهم كوريون وأن هناك وطنا كان يسمى كورية، وقد مضى زمن كانت منشورية تحاول فيه معنا هذه المحاولة؛ إذ كان من دأب الأمة الغالبة أن تتلف هذه القنية النفيسة في ضمائر الأمة المغلوبة، وبهذه النية جعل المانشويون يحتالون شتى الحيل ويبتدعون مختلف الأساليب، فحرم كانج هسي بعض الكتب وجاء شيان لنج فكان أدهى منه في سحق الروح القومية، كان كانج هسي ينادي بأنه مختار السماء لولاية أمر الصين، فليس من التقوى أن يتمرد المتمردون على المشيئة السماوية، فلما قام شيان لنج بالأمر أزال كل فارق بين الصيني والمانشوي حتى أصبح المثقفون وقد خلت نفوسهم من وعي الوطنية، وانتقل هذا الوعي منهم إلى الطبقة السفلى، فكانوا يؤمنون بوجوب مكافحة التتار، ولكنهم لا يعلمون فيم يكافحونهم، وبهذه المثابة ضمرت روح الوطنية الصينية مئات السنين من جراء تدبير المانشويين.

ويصعب علينا أن نوضح كيف تم هذا التدبير وكيف تخلف منه ضمور الروح الوطنية، فلعل ذلك يتضح لنا من قصة شهدتها بنفسي في هونج كونج تفيد في تقريب ما أعنيه، وخلاصة هذه القصة أن أجيرا كان يعمل في حمل البضائع من البواخر ولا معول له في هذه الصناعة على غير حبله وعموده، وكانت أجرة الحمل كافية لمؤونة يومه، ثم ادخر على مر الزمن عشرة ريالات فاشترى بها ورقة نصيب ووضعها في جوف عموده وحفظ رقمها لكيلا يحتاج إلى إخراجها من حين إلى حين لينظر فيها، ثم جاء يوم السحب فعلم من كشف اليانصيب أن ورقته ربحت الجائزة الأولى وقدرها مائة ألف ريال ... فكاد أن يجن من فرحته وألقى بالعمود والحبلين إلى الماء لأنه أراد أن يستقبل حياة الثراء، وأن يطمئن إلى استغنائه عن حمل البضائع مدى الحياة.

إن عمود الحمال قد يشبه بالوطنية التي تعين الأمة على البقاء، وقد تشبه الجائزة المكسوبة بالعصر الذهبي الذي أقبلت عليه الصين حين اتسعت أطرافها وشملت العالم كله في نظر أبنائها، فليس للسماء غير شمس واحدة وليس للأمة غير ملك واحد، وما من أمة على الأرض إلا وهي تسجد أمام تاجه ولآلئه، فلن يعرف العالم بعد إلا السلام والوئام وأداء الجزية لملك الأنام، فقذفت الأمة بوطنيتها إلى البحر كما قذف الأجير بعموده وحبليه، ثم ابتليت بحكم المانشو فلن يكن قصاراها أنها عجزت عن سيادة العالم بل ساءت بها الحال حتى عجزت عن حماية حدودها، لقد ضاعت الوطنية كما ضاع العمود في الماء!

ولو أن أسلافنا حفظوا العمود لأخذوا الجائزة الأولى، ولكنهم قذفوا به ونسوا أن الورقة مخبوءة فيه، وحبذا لو استطعنا أن نعود إلى عمودنا أو نعيده إلينا، فما علينا إذن من ضير إن تجهمت لنا القوة الأجنبية وتنكرت لنا فرص العيش، فإننا لنصمد لكل ما نلقاه.

إن السماء قد وضعت على عواتقنا نحن أبناء الصين تبعات جساما، وإننا لخارجون عن مشيئة السماء إن لم نحبب نفوسنا، وها قد حان الوقت الذي يشعر فيه كل صيني بالتبعة على عاتقه، فإن كانت السماء لا تبغي القضاء علينا فهي تدخرنا لصلاح العالم وارتقائه، وإذا هلكت الصين فسوف تهلك على أيدي الدول العظمى، وسوف تقيم هذه الدول العقبات في سبيل العالم.

وبالأمس قال لي أحد الروسيين: ما بال لينين عرضة للهجمة عليه من كل دولة؟ إنه عرضة لهجماتها ؛ لأنه اجترأ على أن يقول: إن أبناء العالم قسمان: ألف ومائتان وخمسون مليونا في جانب، ومائتان وخمسون مليونا في الجانب الآخر، والأولون مسخرون للآخرين ... وهؤلاء الذين يسخرونهم لا يمشون مع الطبيعة بل يعارضونها ويناجزونها، وإنما نمشي مع الطبيعة حين نتصدى للقوة ونكبحها.

ونحن إذا أردنا أن نتصدى للقوة ونكبحها فلنبدأ أولا بتوحيد صفوفنا ولنكن صفا واحدا مع الألف والمائتين والخمسين من الملايين المسخرين، لنبدأ بإحياء الوطنية في قلوبنا ولنحقق أول الأمر وحدتنا، ولنعمل من ثم على عون الضعفاء وتمكينهم من الصمود للأقوياء، ولنجتمع لإعلان الحق في وجه القوة، حتى إذا انهزمت هذه القوة واندحرت سطوة الجشع والأنانية فهنالك يحق لنا أن نتحدث عن الوحدة الإنسانية.

إن الوحدة الإنسانية حديث اليوم في أوروبة، ولكنها كانت حديث أهل الصين قبل ألفي سنة، وما استطاع الأوروبيون بعد أن يدركوا عراقة حضارتنا، وأن الملايين الأربعمائة من أهل الصين مخلصون لمبادئ الأخلاق العالمية، وأنهم لقصورهم عن حفظ وطنيتهم قد عز عليهم الإعراب عن أنفسهم، ويوشك أن يحيق بهم البوار والزوال.

على أن الوحدة الإنسانية التي يتحدث بها الأوروبيون اليوم قائمة على قوة لا إنصاف معها، وشعار الإنجليزي الذي يقول إن الحق مع القوة إنما يعني أن الكفاح للغلبة والاستيلاء عدل وإنصاف، أما العقل الصيني فما اعتقد قط أن الغلبة بالحرب حق، وما وصف القهر بالعدوان قط إلا بوصف الهمجية والبربرية، وهذه الخلائق السلمية هي جوهر الآداب العالمية، فعلى أي أساس نبني هذه الآداب؟ نبنيها على أساس الوطنية، فالملايين المائة والخمسون في روسيا أساس العالمية الأوروبية، والملايين الأربعمائة في الصين أساس العالمية الآسيوية، وما من بناء يقوم على غير أساس، فلتكن الوطنية إذن أساسنا الذي نبني عليه، ومن شاء أن يبسط السلام على العالم فليبسطه قبل ذلك على وطنه، وليكن همنا أن نحيي الوطنية في جوانحنا وأن نجلوها ساطعة متألقة، فيومئذ يسوغ لنا أن نحمل علم الوحدة العالمية.

ثم نتساءل: ما الوسيلة التي نلجأ إليها لإحياء وطنيتنا؟ هناك وسيلتان: إحداهما أن ننبه الملايين الأربعمائة إلى حالتهم ، فهم في المأزق الذي يضطرهم إلى الهرب من البؤس وابتغاء السعادة، أو إلى الهرب من الموت وابتغاء الحياة.

لقد جهلت الصين من قبل أنها تنحدر فهلكت، ولو أنها أحست ما ينتظرها لما حق عليها الهلاك.

وإذا تساءلنا عن القوارع التي تهددنا ومن أين تعرض لنا، فالجواب أنها تعرض لنا من الدول العظمى، وأنها هي «أولا» الغصب السياسي و«ثانيا» الغصب الاقتصادي و«ثالثا» الزيادة السريعة في عدد السكان بين الدول العظمى.

هذه القوارع الثلاث من الخارج قد رانت على رءوسنا وجعلت أمتنا على خطر داهم، فالقضاء على الأمة من طريق الغصب السياسي قد يحدث بين عشية وضحاها، ووقوع الصين تحت نير الدول قد يحطمها في أية لحظة فلا طمأنينة لنا من نهار إلى نهار، وقد يأتي الدمار من القوة العسكرية كما يأتي من المناورات السياسية، وربما كان بين الدول اليوم في الصين توازن هو ملاذ العصمة لنا، ولكن الذين يتكلمون على تنافس الدول ويحسبونها متنافسة على الدوام ولا يحسبون حساب اتحادها واتفاقها؛ يخطئون السداد ويصدق عليهم المثل الذي يضرب لمن يتعلق بالفضاء ويراهن عليه، وتلك هي السلامة التي نعلقها على غيرنا ولا نعلقها على أنفسنا، وليس الرجم بالغيب سلامة نطمئن إليها.

والغصب الاقتصادي يسلبنا كل سنة ألفي مليون ريال لا تزال أبدا في ازدياد، وقد كان ميزان التجارة منذ عشر سنوات مائتي مليون ريال، فبلغ اليوم خمسمائة مليون؛ أي بمعدل مائتين وخمسين في المائة كل عشر سنوات، فإذا انقضت عشر سنوات أخرى ألفينا أنفسنا ونحن فاقدون ثلاثة آلاف مليون ريال كل سنة، يخص الرأس منا سبعة ريالات ونصف ريال، وكأنما يؤدي كل فرد منا سبعة ريالات ونصف جزية عن رأسه للأجانب كلما دار الحول، وإذا حسبنا النساء اللائي لا يؤدين هذه الجزية عن أنفسهن في الوقت الحاضر فالجزية خمسة عشر ريالا على كل فرد من الذكور ومنهم الشيوخ والصغار الذين لا يسهمون في الكسب، فلا جرم ترتفع الجزية على الرأس الواحد إلى خمسة وأربعين ريالا في العام.

أليست هذه بالصورة المفزعة لوقائع الأمور؟ وإنها في هذا لتتفاقم ولا تهبط، فلو فرضنا أن السياسة الأجنبية تنام عنا ولا ترهقنا بأعباء مضاعفة علينا فنحن هالكون في مدى عشر سنوات، وكيف الحال بنا بعد ذلك والصين اليوم فقيرة مستنزفة؟ أتراها قادرة على البقاء إذا تفاقم الخطب عليها عما قريب؟

ثم المشكلة الثالثة وهي مشكلة النمو الطبيعي، فإن الصين لم تزد خلال القرن الأخير، ولن تزيد خلال القرن المقبل إن لم تعمل ما يبتعث فيها عوامل النمو.

لقد أصبح عدد الولايات المتحدة عشرة أضعافه في مائة سنة، وأصبح عدد الروس أربعة أضعافه، وعدد الإنجليز واليابانيين ثلاثة أضعافه، وعدد الألمان ضعفين ونصفا، وعدد الفرنسيين أضيف إليه ربعه وهو أقل الزيادات.

ومع ازديادهم تركد الصين فلا تزيد بل تنقص، فلو نظرنا إلى تاريخنا علمنا أن زيادتنا في العصور الماضية كفلت لنا البقاء وأزالت أبناء الصين البدائيين من عشائر المياسو والياؤس واللاؤس والتنج وغيرهم، وقد كان العكس هو الخليق أن يصيبنا لو كانت الزيادة في جانبهم والنقص في جانبنا، فلا ضمان لوجودنا بهذه الحالة إذا دامت سيادة الأجانب علينا ودام الضغط عليهم من زيادة النسل على مدى الأجيال.

هذه القوارع عالقة على رءوسنا وعلينا أن نفهم الأمر الواقع وندرك الخطر الداهم، وأن نذيع بيانه حتى لا يبقى من يجهله ومن يخفى عليه ما يهدد الصين وما يعترض سلامتها من المصاعب، وحري بالسائلين وقد علموها أن يسألوا: وماذا عسى أن نصنع؟ والجواب أن الحيوان المحرج تبقى فيه بقية للنضال، ونحن فينا هذه البقية للنضال، وسنقوى عليه يوم نعلم أنها معركة موت وحياة وأنه مهرب واحد لا مهرب لنا سواه، وإنما نقوى على النضال كلما حومت على رءوسنا مخاطر الفناء.

يقول الأجانب: إن الصين صفحة رمل محلول ... وقولهم في وجهة الشعور الوطني صحيح، فما كانت لنا قط وحدة وطنية، فهل ترانا نعوذ بوحدة أخرى؟ نعم، لدينا أواصر الأسرة ووشائج القبيلة، وإنها من طبائعنا لفي قرار عميق، فإذا اتسع نطاق العصبية في القبيلة حلت عصبية الوطن محل عصبية الغيرة ، وحنين الصيني إلى مولده ومسقط رأسه شعور مكين يقام عليه صرح شامخ من شعور الوطنية على أوسع نطاق ... ... هذا الجانب الإيجابي هو أحد الجانبين اللذين يعتمد عليهما في مقاومة القوة الأجنبية، وفحواه إيقاظ الروح الوطنية وحل مشكلات الحرية والمعيشة، وهناك الجانب السلبي الذي نعتمد عليه في هذه المقاومة، فلا تعاون مع الأجنبي ولا وناء عن المقاومة السلبية، وتلك هي أسلحتنا لإضعاف الاستعمار والذود عن الديار واتقاء الدمار والبوار.

وسوف تسعد أمتنا وتبقى كلما تضافرت جهودها على هذا المسعى، فأما إذا تخلفت عنه فلا أمان ولا نجاة. (7) مبدأ الديمقراطية من محاضرات كانتون سنة 1924

ما هي سيادة الأمة؟ لأجل تعريف هذه السيادة ينبغي أن نعرف قبل ذلك ما هي الأمة، فكل جماعة إنسانية متحدة منتظمة تسمى أمة، أما السيادة فهي سلطان ينبسط على أرض الحكومة.

والحكومات صاحبة القوة العظمى في العصر الحاضر يسميها الصينيون بالحكومات القوية، وتسمى في اللغات الأجنبية بالدول

.

والقوى الآلية يسميها الصينيون بقوة الحصان، وتسمى في اللغات الأجنبية بطاقة الحصان، فالقوة والطاقة مترادفتان.

والقوة التي تتمكن من تنفيذ الأوامر وتنظيم الشئون العامة هي السيادة، فإذا اقترنت السيادة والأمة فتلك هي قوة الأمة السياسية.

ونوجز فنقول: إن الحكم شيء من الأمة وبواسطة الأمة، وهو ضبط شئون الأمة، والقدرة على هذا الضبط هو السيادة السياسية، ونحن نتكلم عن سيادة الأمة حين تتولى الأمة ضبط شئون حكومتها.

وننظر إلى العصر الحاضر أو نعود إلى الماضي فنرى أن القوة الإنسانية قد استخدمت - إذا توخينا بساطة التعبير - لحفظ النوع الإنساني؛ لأن النوع الإنساني يتطلب لبقائه وقاية ومئونة ويشعر بالحاجة إلى الحماية والمئونة كل يوم.

إن الوقاية للفرد أو للجماعة دفاع عن النفس، والقدرة على الدفاع عن النفس ضرورة من ضرورات الوجود، أما المئونة فهي تحصيل الطعام، وبغير وقاية ومئونة لا يحافظ النوع الإنساني على وجوده.

وقد ينقسم جهاد النوع الإنساني إلى عدة أدوار، وتقسيمه إلى هذه الأدوار يساعدنا على تتبع أصول الديمقراطية.

فالدور الأول من جهاده كان نزاعا بينه وبين الحيوان، وكان يستخدم في هذا النزاع قوته البدنية دون كل قوة أخرى.

والدور الثاني من جهاده كانت الحرب فيه بينه وبين الطبيعة، وكان يستعين في هذه الحرب بالقوة الإلهية.

والدور الثالث تنازع فيه الإنسان والإنسان، ووقع فيه الخصام بين الحكومات والأقوام ونشأت السيطرة المستبدة.

ثم يأتي الدور الرابع حيث يقع الخصام في الحكومة الواحدة وتحارب الرعية رعاتها وملوكها، ومحور هذا الخصام الخلاف بين الخير والشر وبين الحق والقوة، ولنا أن نسميه دور سيادة الأمة أو عصر الديمقراطية نظرا لاطراد التقدم في قوة الأمة.

إنه عصر جديد، وإنما بدأناه قريبا لإسقاط الحكم المطلق الذي تخلف من العصور الغابرة.

والسؤال الجوهري هو: هل الصين اليوم ناضجة للحكومة الديمقراطية؟ إن بين الناس من يقول إن مستوى الأمة الصينية أقل من ذاك، وإنها لم تستعد بعد للحكومة القومية، ومن أجل هذا حدث لما هم يوان شي كاي بتنصيب نفسه عاهلا على الصين أن أستاذا أمريكيا - اسمه جدناو

Goodnow - أوصى باختيار النظام الملكي مع أنه ينتمي إلى أمة ديمقراطية ... لاعتقاده أن تفكير الصينيين لا يطرد على سنن التقدم، وأنهم متأخرون عن الأوروبيين والأمريكيين فلا يحق لهم أن يحاولوا تجربة الديمقراطية، وقد اتكأ يوان شي كاي على هذه الوصية ونادى بنفسه إمبراطورا على الصين، فإذا كنا اليوم بسياق الدعوة إلى الديمقراطية فعلينا أن نفهمها على غاية الجلاء والوضوح.

لقد جهر كنفشيوس ومنشيوس بحقوق الأمة قبل ألفي سنة، فقال كنفيشيوس: إن كل من تحت السماء سيعمل للصالح العام يوم تسود الفكرة الكبرى، وكانت دعوته إلى عالم حر يسوده الإخاء ويؤول حكمه إلى الأمة.

ومنشيوس كان يقول: إن القيمة الكبرى للشعب ثم للأرواح التي تتولى الزرع والغلة ثم يليهم جميعا الأمراء، ومن كلامه أن السماء ترى ما يراه الشعب، وتسمع ما يسمعه.

فالصين قد أدركت معنى الديمقراطية قبل ألفي سنة، وإن لم تقدر يومئذ على تطبيقها، ولكنها كانت يومئذ بمثابة الطوبى في اصطلاح الغربيين: مثلا أعلى لا يتيسر تطبيقه على الأثر.

وكلما قرأنا تاريخ الصين تبين لنا أنها تقدمت إلى دراسة الديمقراطية قبل الأوروبيين والأمريكيين بألوف السنين، نعم إنها دراسة نظرية لم تأخذ مأخذ العمل والتطبيق، فاليوم وقد أخذ الأوروبيون والأمريكيون بالنظام الجمهوري، ومضى عليه بينهم نحو مائة وخمسين سنة فنحن الذين حكم آباؤهم بهذه الأفكار خلقاء أن نمضي في أثرهم وأن نستخدم قوة الأمة إذا رجونا لحكومتنا البقاء ورجونا للشعب السعادة والرخاء.

ولكن النهضة الديمقراطية بالقياس إلى غيرها من النظم متأخرة، ولا تزال حكومات كثيرة مصطبغة بصبغة الحكم المطلق ولا تزال تجارب الديمقراطية محفوفة بمعقبات الخيبة والإخفاق، وهذه الدراسة التي جرى البحث فيها بين أهل الصين قبل ألفي سنة لم توضع موضع التنفيذ إلا منذ مائة وخمسين سنة، وكأنما تنتشر في أرجاء العالم على أجنحة الرياح.

لقد عزمنا منذ ثلاث عشرة سنة - نحن الثائرين - أن ندين بالديمقراطية إذا طلبنا القوة للصين والنجاح للثورة، وكأنما تجري هذه الدفعة العالمية كنهر اليانجزي في مجراه: تارة هنا وتارة هناك وتارة إلى الوراء، ولكن المصب إلى الشرق في النهاية، فلن يصده عنه عائق آخر المطاف.

وإذا كانت الديمقراطية قد وجدت أكثر من قرن في الغرب فإنما جاءت في تاريخها تابعة لجهاد الحرية، فكانت الدماء تفيض فيضا في سبيل هذه الحرية، وكان العارفون من أبناء أوروبة وأمريكا يومئذ يتخذون من الحرية علما يرفعونه كما نرفع اليوم علم المبادئ الثلاثة، ويخلص لنا من ثم أن جهاد الغرب كان في طلب الحرية، فلما بلغ الحرية جاء علماؤهم فأطلقوا عليها اسم الديمقراطية.

ولما سرت نوازع الثورة إلى الصين أخيرا خرج الطلاب الناشئون وطائفة كبيرة من العلماء الجادين ينادون بالحرية، وخطر لهم أنه ما دامت الثورات الأوروبية - كالثورة الفرنسية - قد كانت تجاهد للحرية فليكن جهادنا نحن أيضا للحرية، وليس هذا إلا من قبيل ما يقال بغير فطنة لمعنى المقال، فما ألقى هؤلاء بالهم إلى سوابق تاريخ الديمقراطية والحرية لينفذوا إلى الحقيقة من ورائها، ونحن إنما وضعنا لحزبنا الثوري غاية من المبادئ الثلاثة؛ لأننا قصدنا بهذه الغاية دلالة عميقة ولم نرسلها جزافا.

إن الثورة الأمريكية كان شعارها الاستقلال، وثورتنا نحن شعارها المبادئ الثلاثة ، فنحن لا نردد شعار الآخرين ولا نحاكي أصداءهم، وما انتهينا إلى ذلك الشعار إلا بعد وقت طويل في التفكير والتقدير.

إن سيادة الأمة - مين شوان - هي الكلمة الثانية في شعارنا الثوري، وهي تقابل كلمة المساواة في شعار الثورة الفرنسية.

وقد انتشرت الحضارة الأوروبية شرقا فانتشرت معها المذاهب السياسية والاقتصادية والعلمية إلى الصين، وتعود الصينيون كلما نقلوا شيئا عن أوروبة أن ينسخوه كلمة كلمة بغير تعديل، فإذا كانت الثورة الأوروبية منذ قرنين أو ثلاثة قرون قد كافحت من أجل الحرية فليكافح الصينيون كذلك، وإذا كان الأوروبيون قد حاربوا في سبيل المساواة فالمساواة هي التي يحارب الصينيون أيضا في سبيلها، ولكن ضعف الصين الآن لا يرجع إلى قلة الحرية والمساواة، فإذا نحن صرفنا الجهد إلى استنهاض عزائم الشعب بصيحة الحرية والمساواة فقد ركبنا شططا وابتعدنا كثيرا من الوجهة المثلى؛ لأن شعبنا لم تلعجه هذه المسائل، وليس في حسه انتباه شديد إليها، فهو لا ينضوي إلى رايتنا إذا ناديناه بأسمائها.

إن حزبنا الثوري لا يهيب بالشعب إلى المعركة من أجل الحرية والمساواة، بل من أجل المبادئ الثلاثة، وهي التي تعطينا الحرية والمساواة إذا أخرجناها إلى حيز الفعل من حيز القوة.

إذ الحرية والمساواة تقومان على الديمقراطية وتستندان إليها، فلا يطول بقاء الحرية والمساواة إلا حيث تزدهر الحرية، وما من وسيلة تفلح في حفظهما إن ضاعت سيادة الأمة، فلهذا نظر الحزب الثوري في الصين إلى وجهة الحرية والمساواة، ولكنه جعل الديمقراطية - أو سيادة الشعب - قوام الدعوة وشعارها، فلن يستمتع شعبنا بنعم الحرية والمساواة ما لم يدرك الديمقراطية، وهذه النعم داخلة في حسابنا منطوية في السيادة القومية.

وكثيرون منا يحسبون أن الديمقراطية إذا بلغت في الصين مبلغها في الأقطار الغربية تكون قد بلغت أهدافها، وتعتبر الصين إذن في طليعة أمم التقدم والحضارة، بيد أن المسافة بعيدة بين الديمقراطية الغربية كما نقرؤها في الكتب والديمقراطية الغربية كما نراها في الواقع.

انظروا مثلا إلى رواد الديمقراطية الغربية من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا التي نشبت ثورتها منذ أكثر من مائة سنة، فكم من الحقوق السياسية أدركها الشعب هنالك فعلا؟ إن المؤمن بالديمقراطية على حقيقتها يبدو له أنه لم يدرك منها غير القليل، وقد خطر للذين نافحوا الاستبداد طلبا لحقوق الشعب أنهم بالغون غاية الديمقراطية دفعة واحدة، فضحوا بكل شيء وحصروا جهودهم كافة في معركة حياة وموت، فلما ظفروا بالنصر إذا هم يتبينون أنهم لم يكسبوا من القوة إلا القليل مما علقوا به الآمال أثناء الثورة، وأنهم لما ينتهوا إلى الديمقراطية الوافية.

ومنذ رأى بعض الصينيين أن الولايات المتحدة تقدمت إلى مركزها الحاضر غنى وقوة على نهج الدساتير الاتحادية التي تترك الشئون المحلية لسلطان الحكومة، إذا بأولئك الصينيين المثقفين يتخيلون أن الصين تنال الغنى والقوة بالدساتير الاتحادية، ولم يشغلوا أنفسهم وهم يحاولون علاج مشاكل الصين بأن يعقدوا المقارنة بينها وبين الولايات المتحدة، وكان قياسهم المنطقي أن الدساتير الاتحادية هي الطريق إلى الغنى والقوة ما دمنا نريدهما وما دامت الولايات المتحدة قد حصلت عليهما من هذه الطريق، ونسوا أن هذا النظام إنما قام هناك؛ لأنه كان قائما فعلا في كل ولاية وكان لكل ولاية فعلا دستور وحكومة، فنحن إذا أردنا محاكاته وجب أن تهيئ كل ولاية من ولاياتنا دستورها وحكومتها المحلية، ثم تجتمع الولايات أخيرا للاتفاق على دستور الأمة قاطبة، أو بعبارة أخرى نعمد إلى الصين المتحدة فنقسمها كما كانت الولايات الأمريكية مقسمة منذ قرن مضى، ثم ندمجها جميعا في حكومة واحدة، وأنه لتفكير ولا شك منحرف عن الصواب، وكأنما نحن ببغاوات تردد الكلمات وعيونها مغمضة عما حولها.

وهؤلاء أصحاب هذه الفكرة يسوغون تقسيم الولايات في بلادنا بقيام الولايات الأمريكية على هذه القاعدة، وقلما يخطر لهم أن يرجعوا إلى الحالة التي كانت عليها الولايات الأمريكية عند إعلان استقلالها، فهل يذكرون لم كانت هذه الولايات تتغنى بالوحدة بعد خروجها من سلطان بريطانيا العظمى؟ إنها فعلت ذلك؛ لأنها كانت متفرقة ولم تكن قط جماعة منتظمة في إدارة واحدة، فرأت أن تجتمع لتصبح أمة متحدة.

والصين في هذا الصدد ما شأنها؟ لقد كانت الصين ظاهرا منقسمة إلى ثماني عشرة ولاية تضاف إليها ولايات منشوريا وسنكيانج فهي أربع وعشرون، وتضاف إليها كذلك جيهول وسويوان وككنور وولايات شتى ذات وضع خاص بها عدا منغوليا والتيبت. وكل هذه الأقاليم كانت تابعة لحكومة المانشو المركزية خلال مائتي سنة، وكانت قبل ذلك على عهد أسرة منج متحدة، بل كانت مع أقطار آسيا وأوروبة دولة واحدة في عهد أسرة يوان، فإذا رجعنا إلى أسرة سانج وجدنا الولايات على رباط وثيق ووجدنا الأقاليم كذلك بعد عبور نهر اليانجزي إلى الجنوب، وقد كانت على أيام أسرة تانج وأسرة هان على رباط كهذا الرباط، فلا معنى لتجزئة الصين مع أنها لم تكن أجزاء متفرقة في تاريخها القديم.

إن هذا الشتات الذي منيت به الصين في الوقت الحاضر إنما هو ظاهرة عارضة، جر إليها استيلاء القادة العسكريين على أجزائها، وهي حالة لا بد أن نعمل للخلاص منها، ولا يصح لأي سبب من الأسباب بعد اليوم أن نتصايح بالدعوة الاتحادية «الفدرالية» كأنما نمهد بذلك لاستقرار كل قائد من أولئك القادة العسكريين في البلد الذي استولى عليه، فلن تصبح الصين أمة ذات قوة ووفر إذا نجح القادة كل منهم في تسويغ سيطرته على الإقليم الذي هو فيه.

وكل من يتصايح بتلك الدعوة فحقيقة الأمر فيه أنه طامع يمهد لاغتصاب مطمعه، فهذا تانج شيياو قابض على يونان، وهذا شاو هنجتانج قابض على هونان، وهذا لوينجتنج قابض على كوانجزي، وهذا شن شيونج منج قابض على كوانتنج ... وإنها لفدرالية عسكرية هذه التي تسيطر هنا وهناك ... ليست هي فدرالية شعب يحكم بأمره، وما في هذه الفدرالية نفع للصين، بل هي مأرب من مآرب الطامعين العسكريين.

ونعود فنقول: إن الديمقراطية التي هي مبدأ من المبادئ الثلاثة في برنامج حزب الكومنتانج لبناء الصين هي شيء غير الديمقراطية الغربية، وليس المقصود من دراسة تاريخ الغرب أن ننقل نسخة منه ونقفوا أثره ونحن مغمضون، بل نحن نستخدم مبدأ السيادة القومية حيث نعيد بناء الصين أمة لا سلطان عليها لغير الأمة، وعلينا أن نفتح لأنفسنا طريقا جديدا ولا نقتدي بغيرنا عميا عن وجوه الاختلاف، فنجني على وطننا، ونضر بحياة قومنا، فللغرب مجتمعه ولنا نحن مجتمعنا، وما عندهم من العادات والعواطف لا يشبه العادات والعواطف التي عندنا، وما من أمل لنا في إصلاح مجتمعنا وترقية شعبنا ما لم نقتبس الجديد، متوخين في اقتباسه ما يوافقنا ويلائم أحوالنا ... ... ونحن دعونا إلى تطبيق الديمقراطية حين رفعنا علم الثورة، وفكرت في الطريقة التي نحل بها المشكلة، وهي طريقة أحسبها رأيا جديدا في المذاهب السياسية وأحسب أنها حل أساسي للمشكلة كلها، وأوضح ما أعنيه فأعرض أولا ما أعنيه بطبقات المجتمع الإنساني.

فعلى أي شيء أقيم أقسام المجتمع الإنساني؟ على نصيب الفرد من الفطنة والكفاية، وبهذا ينقسم الناس إلى طوائف ثلاث:

الطائفة الأولى:

هي التي ترى مبتدئة بالرأي، وهي صاحبة الفطنة الفائقة التي تتضح لها المسائل المتشابكة من نظرة، وتلقي بالها إلى الكلمة فتتبعها بالعمل العظيم، ومن ثاقب نظرها إلى المستقبل وجليل عملها في الحضارة تتقدم الحضارة الإنسانية، هؤلاء هم الرواد الكشافون ذوو البداهة والبصيرة النافذة.

والطائفة الثانية:

هي التي تتلوها في النظر والفطنة، وليس في طاقتها أن تبتدئ وتبتدع، بل هي تحاكي وتتبع وتستفيد مما عمله السابقون لها إلى الرأي والرؤية.

والطائفة الثالثة:

هي التي لا تدرك ولا تعلم وإن حاول الآخرون تعليمها، ولكنها تعمل وتثابر على العمل، أو بعبارة أخرى، إن الطائفة الأولى هي طائفة الكشافين المستطلعين، والطائفة الثانية هي طائفة المتولين المساعدين، و الطائفة الثالثة هي طائفة المنفذين المشتغلين، ويتوقف تقدم العالم على هذه الطوائف جميعا، فلا يصح نقصان واحدة منها. وكل أمة تشرع في تطبيق الديمقراطية يجب أن تكل إلى كل فرد من أفرادها حصة: إلى الرجل الذي يبتدئ بالرأي، والرجل الذي يتبعه ويساعده، والرجل الذي لا يرى لنفسه ولكنه يعمل ويشتغل.

وعلينا أن نفهم أن الديمقراطية السياسية ليست منحة الطبيعة ولكنها اختراع الإنسان، ويلزمنا أن نخلق الديمقراطية ونعطيها الشعب ولا نتريث حتى يحارب الشعب من أجلها ويأخذها.

والأمم الغربية طبقت الديمقراطية وحدث بعد تطبيقها أن الشعب تربى فيه شعور العداء للحكومة، وعز عليه أن يفرق بين حق السيادة وحق الكفاية، فإن فاتنا أن نتنبه لهذا فنحن منساقون وراء الغرب على غير هداية.

وينبغي أن يكون التمييز بين السيادة والكفاية سهلا على الصين؛ لأننا نفهمهما من عبارة «آه تو» وعبارة «شوكوليانج».

وخلاصة العبارتين أن الحكومة إذا صلحت فنحن الملايين الأربعمائة نجعلها «شوكوليانج» لنا ونخولها كل حقوق الدولة، وأنها إذا فسدت فنحن الملايين الأربعمائة نتقلد حقوق الملك ونطردها ونسترد السيادة إلى أيدينا.

ونحن اليوم نعرف طريقة للانتفاع بالديمقراطية وطريقة لتحويل موقف الرعية منها، ولكن الأكثرين من الرعية لا يفقهون، فمن خصتهم أمانة الفقه مسئولون أن يقودوا الرعية إلى الطريق الأقوم حذرا من عاقبة التجربة في البلاد الغربية.

وقد انتهى علماء الغرب إلى أن موقف الشعوب من الحكومة خطأ وأن تغييره واجب، ولكنهم لم يبصروا بعد كيف يكون التغيير.

وهذا الذي اهتدينا إليه، فلا مناص من التمييز بين حقوق السيادة وحقوق الكفاية والقدرة، فيقوم أساس الحكم في الأمة على حقوق الأمة، أما إدارة الحكومة فتعهد إلى خبرائها، ولا يقف منا أولئك الخبراء موقف الأبهة والرئاسة وفخامة المناصب، بل حكمهم عندنا حكم السواقين أو حراس الأبواب أو الطهاة أو الأطباء أو النجارين أو من نحسب من ضروب العاملين، وما دام موقفهم هذا الموقف فالحكومة تنتظم والشعب يتقدم.

وما هي خير الوسائل لتطبيق الديمقراطية؟

إن الانتخاب هو الوسيلة التي تعم البلاد المعروفة بالبلاد الديمقراطية، فهل هو وسيلة كافية لانتظام الحكومة؟ كلا؛ لأنه أشبه شيء بالآلات القديمة التي كانت عند اختراعها تستطيع أن تتقدم، ولكنها لا تستطيع أن ترجع، وإنما يتم تركيب الأداة بالقدرة على الرجوع، والوسيلة التالية لتلك الوسيلة الأولى هي التي تيسر للشعب أن يدير الأداة إلى الوراء، وأن يعزل الحكومة التي اختارها، وهاتان الوسيلتان - وهما الانتخاب والعزل - تحفظان سيطرة الشعب على حكومته وموظفيها فيبقيهم أو يخرجهم حين يشاء، ولا غنى لأداة الحكومة عن الجهاز الذي يدفعها قدما أو يردها ويثنيها إلى حيث يريد.

ومسألة القانون مهمة للحكومة الديمقراطية كمهمة الموظفين، فإذا وجد من يحكم فلا بد أن توجد مع قاعدة لحكمه، ومن حق الأمة إذا ارتضت قاعدة للحكم أن تجعلها قانونا وتوحي إلى الحكومة بتنفيذها، وهو ما يسمى بحث اقتراح القوانين، ونعتبره الركن الثالث من أركان الديمقراطية، فإذا اتفقت الآراء على استنكار قانون غير نافع للشعب فمن اللازم إذن أن يملك الشعب الوسيلة التي تكفل له تعديله واتخاذ البديل الصالح منه، ويطلقون كلمة الاستفتاء على هذا الحق أو هذا الركن الرابع للديمقراطية.

وليس يجوز لنا أن نقول عن أمة إنها تنعم بالديمقراطية الوافية ما لم تكن هذه الحقوق الأربعة نافذة فعلا، وما لم يكن تطبيقها مرعيا بوسائله المقررة، ويومئذ تتقرر السيادة الشعبية المباشرة.

إن السيطرة المباشرة على الحكومة لا تستقر حتى يتولى الشعب هذه الحقوق الأربعة «الانتخاب والعزل والاقتراح والاستفتاء» ويومئذ يصح القول باشتراك الشعب كله في حكم نفسه، ومعنى ذلك عندنا أن الملك هو الملايين الأربعمائة، يباشرون حقوقهم الملكية ويسيطرون على مسائل الدولة العظمى، ويرجع الأمر في كل شيء إلى هذه الحقوق الديمقراطية الأربعة. (8) مبدأ المعيشة من محاضرات كانتون سنة 1924 «مينج شنج شوي» هي مبدأ معيشة الشعب.

و«مينج شنج» هي كلمة طالما طرقت الأسماع في الصين، ونحن نتكلم عن الرخاء القومي ومعيشة الشعب من أطراف الشفاه ولا نعني بفهم المقصود منها، ولست أرى أنها تعبر لنا عن معنى كثير، ولكننا إذا حملناها في هذا العصر - عصر العلم - إلى دائرة البحوث العلمية لدراسة مدلولها من الوجهة الاجتماعية والوجهة الاقتصادية وجدنا لها مرمى كبير الدلالة.

فالمينج شنج ترمي إلى تدبير مئونة الشعب، وكيان المجتمع ورخاء الأمة وحياة الجماهير، وإني لمستخدم هذه العبارة الآن للدلالة على مشكلة من أكبر المشكلات التي نجمت في الغرب خلال القرن الماضي، وهي الاشتراكية.

فمسألة المعيشة هي الاشتراكية، وهي الشيوعية، وهي الطوبى.

والعوامل التي تضافرت على خلق هذه المسألة هي بالإيجاز تقدم الحضارة المادية السريع، وتطور الصناعة العظيم، والزيادة المفاجئة في القدرة البشرية على الإنتاج.

فاستخدمت القوى الطبيعية كالبخار والحرارة وتيارات الماء والكهرباء بديلا من الطاقة الإنسانية، واستخدم النحاس والحديد بديلا من عضل الإنسان وعظامه، وصار في وسع رجل واحد بمكنة واحدة أن يعمل عمل مائة أو ألف، واتسعت المسافة جدا بين طاقة الإنسان وطاقة المكنات، وهو ما يسميه الغربيون بالثورة الصناعية.

وهم يطلقون هناك كلمة الاشتراكية وكلمة الشيوعية كأنهما مترادفتان، وقد تشملهما كلمة الاشتراكية على ما بينهما من اختلاف.

وغرضي من إطلاق مبدأ المعيشة بدلا من الاشتراكية أن أصل إلى جذور المسألة وأكشف عن حقيقتها وأيسر فهمها لمجرد سماعها.

فهل مبدأ المعيشة حقا مخالف للاشتراكية؟ إن أهم ما تشتغل به الاشتراكية هو مسائل المجتمع الاقتصادية، أو مسائل المعيشة. ومنذ تقدمت الصناعة أصبح كثير من العمال قد نزعت منهم أعمالهم وتعسر عليهم كسب أرزاقهم، وجاءت الاشتراكية تحاول علاج هذه الحالة فتلاقت مسائل المجتمع ومسائل الاقتصاد ودخلت كلتاهما في نطاق مسألة المعيشة وهي محور الاشتراكية.

إلا أن الأمم اليوم تختلف في مذاهبها الاشتراكية وفي مقترحاتها لحل مشكلاتها، فهل نحسب إذن أن الاشتراكية وجه من وجوه مسألة المعيشة، أو أن مسألة المعيشة وجه من وجوه الاشتراكية؟

إن دعاة الاشتراكية الأولين كانوا على الأغلب دعاة أخلاق وكان أتباعهم أصحاب ضمائر وآداب، ولم يكن أحد يقاوم الاشتراكية غير أصحاب الأموال الذين رانت على نفوسهم الأثرة فلم يكترثوا لما يصيب الجماهير، وإذا كانت المشكلة الاجتماعية تدور على توفير الرزق للعديد الجم من بني آدم كان ذوو النظر والصلاح القائمين بالدعوة الاشتراكية أهلا للعطف والتأييد من الكثيرين، ثم راج المذهب فأخذت الأحزاب الاشتراكية في الظهور، واطرد نموها وانتظامها وسرت دعوتها إلى كل أمة.

غير أن الاشتراكيين الأوائل كانوا جميعا طوبيين يطمحون إلى بناء دنيا مثالية يظللها السلم والسعادة ولا تسمع فيها شكاية، ولم يصفوا للناس طريقة فعالة لمنع الشكاية والشقاء.

وهنا جاء ماركس فصرف عقله وذكاءه ومعارفه وتجاربه إلى تمحيص هذه الأمور ودراستها، وبنى آراءه الجديدة جميعا على القواعد الاقتصادية، وأنحى على الاشتراكيين السالفين لتعويلهم على ضمير الفرد وشعور الجماعة في حل مشاكل الاقتصاد التي لا تجدي الأخلاق ولا تجدي العواطف في حلها، وقال: إن المهم قبل كل شيء هو درس أطوار الاجتماع، وصدر في مبادئه عن رعاية مطلقة للوقائع دون النظريات والأمثلة العليا.

ثم تشعبت المذاهب الاشتراكية بعد ماركس إلى شعبتين: شعبة الطوبيين وشعبة العلميين، وهؤلاء ينادون باستخدام الأساليب العلمية لعلاج المشكلات الاجتماعية، فكل دراسة في هذا العصر الذي تتقدم فيه الحضارة المادية على عجل وتتعاظم فيه قوة العلم ينبغي أن تقام على القواعد العلمية كي تثمر وتفيد، ولا يحق لنا أن نترقب حلا لمشكلة من المشكلات قبل تناولها بالبحوث العلمية.

إن ماركس يؤكد الجانب المادي في دراسته لمسائل المجتمع، ومتى تناولت القوى المادية فأنت مواجه مسألة الإنتاج قبل كل شيء ... وحيث لا يوجد إفراط في الإنتاج لا توجد بالبداهة ثورة صناعية، وعلى هذا يحل الإنتاج المحل الأول من الأهمية في علم الاقتصاد الحديث، فإذا شئت أن تفهم أحوال الاقتصاد الحديثة فلا معدى لك عن فهم الوقائع التي تتعلق بالإنتاج.

وقد أصبح الإنتاج على نطاق واسع ميسورا في العصر الحديث بالعمل والمكنة، أو باشتراك رأس المال والمكنات واستخدام الأيدي العاملة، وتذهب أرباح هذا الإنتاج في نطاقه الواسع على الأكثر إلى أصحاب الأموال فلا يجني العمال منها غير قسط ضئيل.

ولهذا تصطدم مصالح أصحاب الأموال ومصالح العمال على الدوام، وتنفجر حرب الطبقات حين لا يوجد الحل المرضي بين الفريقين، ويعتقد ماركس أن حرب الطبقات لم تأت تبعا للثورة الصناعية، بل كان التاريخ الماضي كله قصة حرب بين الطبقات: أو بين السادة والعبيد، أو بين أصحاب الأرض والأكارين، أو بين النبلاء والعامة، أو بالإيجاز بين كل غاصب وكل مغصوب، ولن تكف هذه الحرب حتى تبلغ الثورة الصناعية مداها من النجاح.

وواضح من ذلك أن ماركس يعتبر حرب الطبقات ضرورة من ضرورات التقدم الاجتماعي، وأنها في الواقع هي القوة الدافعة لذلك التقدم، فحرب الطبقات هي السبب والتقدم الاجتماعي هو النتيجة.

على أن التوفيق بين معظم المصالح الاقتصادية في المجتمع إذا أمكن فمعظم الناس ينتفعون بهذا التوفيق والمجتمع يتقدم، ونحن لا نحاول التوفيق بينها إلا لعلاج هذه المشكلة: مشكلة المعيشة وتوفير المئونة.

ومن قديم الزمن بذل الإنسان جهده لحفظ كيانه، وكان صراع الإنسان لاستدامة وجوده باعثا للتطور الذي لا ينقطع في أحوال المجتمع، وذلك هو قانون التطور الاجتماعي، فليست حرب الطبقات باعث التقدم الاجتماعي، بل هي داء يتعرض له المجتمع أثناء التطور، وعلة الداء هي العجز عن توفير الرزق، والحرب هي نتيجة هذا الداء.

وكل ما استفاده ماركس من بحوثه أنه علم بالأدوات التي يتعرض لها المجتمع أثناء تطوره، فهو مشخص أمراض

ولا نستطيع أن نقول عنه إنه فزيولوجي مشرح لوظائف البنية، وقد وجد خلال درسه لمشكلات المجتمع علة واحدة من علله، فلم ينكشف له قانون التقدم الاجتماعي ولا القوة الرئيسية في مجرى التاريخ.

وقد استقر حزب الكومنتانج منذ زمن على طريقتين لتنفيذ مبدأ المعيشة القومية: إحداهما التسوية بين ملاك الأرض، والأخرى تنظيم رءوس الأموال، وهما كفيلتان بحل مشكلة المئونة في الصين.

ومن البديهي أن أمم العالم المختلفة مضطرة إلى اتباع طرق مختلفة لحل هذه المشكلة حسب اختلاف الأحوال فيها.

وكثير من أساتذة الصين الذين استوعبوا معارف الغرب قد حسبوا أننا نعالج مشاكلنا مقتدين في العلاج بغيرنا، ولم يلتفتوا إلى الخلاف الذي قام ولا يزال قائما بين أحزاب الأمم الغربية حول مشكلات بلادهم، فالماركسيون يحلون جميع المشكلات الاجتماعية بالدكتاتورية العمالية وجميع مشكلات الاقتصاد والسياسة بالثورة، وهم فريق التطرف الأقصى وغيرهم من الاشتراكيين يميلون إلى الأساليب السلمية واستخدام العمل السياسي والتفاهم بالمفاوضة والمساجلة، وبين الفريقين خصام شديد في أوروبة وأمريكا، ينحو فيه كل فريق منحاه.

وعند المقارنة بين هذا المنحى وذلك نرى أن ماركس يحل العقدة بقطعها، وأن الآخرين يفكون عقدتها برفق وتؤدة، فهل نريد نحن أن نحل عقدتنا بحد السكين أو الرفق والتؤدة؟

ينبغي أن نذكر أن مبدأ المعيشة الذي يدعو إليه الكومنتانج ليس المطمح المثالي، بل هو القوة الدافعة في المجتمع، وهو المحور الذي تدور عليه جميع الحركات التاريخية، والفرق بين الشيوعية ومبدأ المعيشة أن الشيوعية غاية مثالية للمعيشة، ولكن مبدأ المعيشة هو الشيوعية الواقعية، فليس بين المذهبين فرق أصيل، وإنما الفرق في أساليب التطبيق.

وبين هذه الأحوال التي تعانيها الصين نسأل: أية الوسائل هي التي نختارها لعلاج مسألة المعيشة؟

لن تكون هذه الوسائل نظريات فارغة، بل وقائع ماثلة، ولن تكون وقائع ماثلة في البلاد الأجنبية، بل في صميم بلادنا، فلا اهتداء إلى خطة قديمة ما لم نكن على علم بالوقائع الصحيحة، فما هي الوقائع الأساسية عندنا؟

لنعلم أننا جميعا أصحاب حصة في هذه الفاقة التي تبتلى بها الأمة الصينية، فليس عندنا طبقة غنية خاصة، بل هناك فاقة عامة، وهذا التفاوت بين الغني والفقير إنما هو اختلاف في طبقة واحدة، أو اختلاف في درجة الفاقة.

والواقع أن صاحب رأس المال الصيني بالقياس إلى نظرائه الغربيين فقير ومن عداه من أبناء الشعب فقراء مدقعون، وإذا كان أغنياؤنا فقراء في العالم الواسع فالأمة الصينية أمة فقراء، وليس بينها غني كبير، وكل ما فيها فقر محتمل وفقر لا يطاق، فكيف السبيل إلى التسوية بينهم وإلى الخلاص من براثن الفقر الشديد؟

إن التغير الاجتماعي والتطورات في رأس المال تبدأ عادة من مالك الأرض إلى التاجر إلى صاحب المال، وقد نشأ ملاك الأرض من عهد الإقطاع، ويمكن أن يقال: إن أوروبة لم تملك بعد حريتها من النظم الإقطاعية في حين أن الصين قضت على نظام الإقطاع فيها من عهد أسرة شين.

وكان النبلاء الذين يحوزون الأرض هم الأغنياء حين كان عهد الإقطاع قائما، ومن لم يكن في حوزتهم أرض فهم فقراء، وقد مضى نحو ألفي سنة على انتهاء عهد الإقطاع في الصين، ولا تزال الحالة باقية كما كانت لقلة التقدم في أساليب الصناعة والتجارة. وخلت الصين من كبار الملاك، ولكنها لم تخل من الملاك الصغار، وسارت العلاقات في سلام بين الملاك الصغار وآحاد الشعب، إلى أن سرت تيارات الحياة الغربية إلى الصين في الزمن الأخير فسرى التغيير إلى كثير من النظم، وكانت مسألة الأرض أول ما أصابه التغيير من جراء اتصالنا بالبلاد الغربية، فشاعت المقامرة والمضاربة بالأرض وارتفعت هذه المضاربات بأثمان الأرض ارتفاعا لا يطمأن إليه.

إن الغربيين لم يهتدوا إلى طريقة يعالجون بها هذه الشرور التي تتعلق بالأرض، فإذا أردنا حل هذه المشكلة فلنبدأ الآن ولا ننتظر حتى يتقدم تطور التجارة والصناعة فلا يسلس لنا مقادها بعد ذاك.

واليوم والمؤثرات الغربية تتوالى وأحوال الصناعة والتجارة تدخل أطوارها المتجددة، ننظر حولنا فنرى التفاوت يتباعد بين ملاك الأرض كما يتباعد بين ذوي الأموال والفقراء، ووجهتنا من دعوة الكومنتانج هي التقريب والتسوية بين موارد الرزق في المجتمع، فهي غاية كفاية الاشتراكية أو غاية الشيوعية، ولكن طريقة التطبيق هي موضع الاختلاف.

وخطوتنا الأولى هي علاج مشكلة الأرض، ونصف المشكلة كلها محلول إذا وفقنا في هذا العلاج، فأصحاب رءوس الأموال في الصين لا يزالون ملاك أرض لا ملاك مكنات ومصانع، وينبغي من هنا أن يسهل علينا العمل على التسوية بين الملاك وتنظيم رأس المال وأن نلتمس لنا مخرجا من مشكلة الملكية.

ولا يكفي تنظيم رأس المال إذا أردنا أن نحل مشكلة المعيشة وأن نستريح طويلا بعمل حاسم، فقد كان فرض الضرائب على الدخل إحدى الوسائل التي لجأ إليها الغربيون لتنظيم رأس المال، فهل ترونهم حلوا مشكلة المعيشة؟

إن الصين لا تشبه غيرها من الأمم، ولا يغنينا هنا أن نعمل على تنظيم رأس المال.

فالأمم الأخرى غنية والصين فقيرة، والأمم الأخرى يفيض إنتاجها عن حاجتها والصين لا تنتج ما يكفيها، فلا يكفي الصين تدبير رءوس الأموال الخاصة، بل عليها أن تدبر للدولة كلها رأس مالها، وما العمل والأمة اليوم ممزقة الأطراف؟ وكيف السبيل إلى تدبير رأس مال للدولة؟

يخيل إلينا أنه ما من سبيل إلى وجهة صالحة، أو يخيل إلينا أنه ما من أمل في ارتقابها بعد حين.

مصانع الدولة: ويومئذ يتسنى لنا أن نجتهد لتحقيق رجاء كنفشيوس في الأسرة القومية الكبرى.

وكل كلام عن مبدأ المعيشة فحواه أن يحصل الملايين الأربعمائة على طعامهم بالثمن القليل، فلا تعتبر مشكلة المعيشة محلولة حتى يتوافر الطعام الصالح بثمن ميسور.

من أمثلة الصين: «سبعة أشياء تشغل بالك حين تفتح بابك في الصباح: الوقود والأرز والزيت والملح والفول والخل والشاي!»

وقد كانت الصين من أقدم العصور أمة زراعية صناعتها الكبرى لتحصيل القوت هي الزراعة، وقوام الزراعة هم الفلاحون الذين ينهكهم العمل وتتوقف على حمايتهم بقوة القانون جودة المحصول ووفرة الأرزاق، ومن قسمة الصين أنها خلت من كبار الملاك ولا يزال تسعة أعشار أبنائها بغير أرض يملكونها، فأكثر الأرض يملكها أناس لا يزرعونها بأنفسهم، ومن العدل أن يزرع الفلاح أرضا يملكها وينتفع بمحصولها، إلا أن الفلاحين اليوم يزرعون لغيرهم ويذهب من محصولهم أكثر من نصفه إلى أيدي الملاك، وبحل هذه المشكلة يرتبط حل مشكلة المعيشة كلها، فقد دلت الإحصاءات الأخيرة على أن الزارع لا يحصل من أرضه على أكثر من أربعين في المائة، ويذهب سائره إلى المالك الذي لا يزرع.

وليس يكفي عند تناول مسألة الإنتاج الزراعي أن نجتهد لتحرير الفلاح، بل علينا مع هذا أن نجتهد لمضاعفة الإنتاج بالوسائل العلمية، وخلاصتها استخدام المكنات والاستعانة بالأسمدة والمخصبات ومناوبة الغلات والمحاصيل واستئصال الآفات وتنظيم المعامل والتصدير واتقاء الأزمات.

وعلينا أن نسأل: هل تعتبر مشكلة المعيشة محلولة إذا تحققت جميع هذه الجهود؟

أبادر فأقول: كلا، إذ ليست يسرة الإنتاج مغنية عن تنظيم التوزيع والتقسيم، ويتعذر الإنصاف في التوزيع والتقسيم مع عدم الاتحاد.

إلا أننا نتعزى بأن المحنة التي نحن فيها عارض زائل ونؤمن باتحادنا في المستقبل، وأننا سنحل مشكلة المئونة بتنمية رأس المال وترقية الصناعة، فنبدأ من المواصلات من سكك حديدية وطرق نهرية، ثم نفتح المناجم التي تخفيها الأرض مع الأسف على وفرتها في أرض الصين، ثم نلاحق ذلك ببناء المصانع والمعامل، وعندنا وفرة من الأيدي العاملة، ولكننا لقلة المكنات لا نقوى على منافسة الأمم الأخرى، والسلع التي تستنفدها الصين تصنعها الأمم الأخرى وتتولى تصديرها إلينا لحسابها، فلا جرم تستنزف حقوقنا الاقتصادية ومرافقنا وتمتصها شيئا فشيئا، ولا نستطيع نحن أن نوقف هذا الدم المنزوف ونسترد حقوقنا ومرافقنا إلا إذا سخرنا قوى الدولة لترقية الصناعة، واستخدام المكنات في الإنتاج وتوفير العمل لجميع الأيدي الصالحة له في الأمة، ومتى اشتغل العمال جميعا وأتقنوا إدارة المكنات والآلات لإنتاج السلع تجدد للصين ينبوع عظيم للثروة، ولا محيص من ولاية الدولة لهذا العمل؛ لأن الإشكال فيه على الأمراء والوطنيين والأجانب يوشك أن يسفر عن طبقة مفرطة في الغنى يعقبها التفاوت البعيد بين حظوظ الناس من الغنى.

لا محيص إذن من حصول الدولة على رأس مال، وما معنى ذلك؟ معناه البسيط إنشاء الصناعة القومية، وعلى الدولة أن تعطي القدوة في مشروعات الأعمال الكبرى، وأن تدير أنواعا من المكنات المنتجة التي تدخل في ملك الدولة، وهي إذا تمكنت من تنمية رأس المال القومي ونفع الأمة بثمراته فقد أمكنها أن تتجنب خصومات رأس المال.

وسيكون دخلنا عظيما من الصناعات الثلاث! صناعة المواصلات وصناعة المناجم وصناعة المعامل، وستكون مزاياها ومنافعها مشاعة بين الأمة قاطبة، وسيحصل كل صيني على حصة من أرباح رأس المال فلا يضيره رأس المال كما يضير أناسا من أبناء البلاد الأجنبية التي ينحصر القسط الكبير من رءوس أموالها بين الأيدي الخاصة.

ونعود فنقول: إن مبادئنا الثلاثة تفيد لأجل هذا حكم الشعب بالشعب لأجل الشعب، وإن الدولة ملك الشعب؛ لأن الشعب كله يشرف عليها ويجني ثمرات أعمالها، وبهذا تصبح للشعب حصة في كل شيء ولا يكون قصارى الأمر أنه صاحب حصة فيما تنتجه الملكية الخاصة، ونعني بها ملكية رأس المال؛ لأن الإنتاج ينظر إلى هدف واحد في هذه الحالة: وهو الربح.

ومتى كان الربح هو الغاية فنجاحنا في تخفيض سعر الأقوات يتحول إلى طلب الربح من وراء التصدير إلى الخارج حيث ترتفع أثمان الطعام، وحسب صاحب المال الخاص أن ينظر إلى الربح ليحفزه الطمع إلى التصدير ولو كانت المجاعة تفني الكثيرين.

هذا النظام من نظم التوزيع لن يحل مشكلة المعيشة، فتحقيق ال «مينج شنج» مستحيل ما لم نشفع تدبير مسألة الإنتاج بتدبير مسألة التوزيع، وما لم نجعل القبلة توفير الطعام لا توفير الأرباح.

فالقضاء على نظام رأس المال حتم لا هوادة فيه، ونحن نعلم أن موارد الصين كافية لإطعام أهلها في الوقت الحاضر، ولكننا نرى الموارد تنقص عاما بعد عام؛ لأن الطعام يتسرب إلى الخارج حيث يجلب الربح الجزيل لفئة قليلة من أصحاب الأموال.

ومدار المبدأ الذي يتصل بمعيشة الأمة أن يحصل الناس على أقواتهم لا أن تمتلئ الخزائن بالأرباح، ويضطرنا هذا إلى خزن الفائض سنة قبل المحصول الجديد فلا نسمح بالتصدير حتى نضمن الكفاية بعد العام القابل ...

فالحد الفاصل بين نظام مبدأ المعيشة ونظام رأس المال أن رأس المال يجعل الربح غايته، وأن مبدأ المعيشة يجعل الغاية تيسير القوت لجميع أبناء الأمة، ومثل هذا المبدأ قمين أن يقضي على شرور النظم الاجتماعية القديمة.

ولطالما ردد الاقتصاديون أن مطالب المعيشة ثلاثة: غذاء وكساء ومأوى، وتجاربي الطويلة تدفعني إلى إضافة مطلب رابع كبير الخطر في هذا الصدد، وهو المواصلات السهلة، وحل المشكلة - مشكلة المعيشة - يستلزم أن يتمكن الناس جميعا من تحصيل هذه المطالب الأربعة ولا يغنيهم عن ذلك تخفيض أسعارها ... وحيث يراد أن تتضافر المساعي على إبداع (دنيا جديدة) لا يجوز أن يوجد أحد يعوزه مطلب من هذه المطالب الأربعة.

والحكومة هي التي تتولى حتما تزويد الشعب بهذه المطالب، ويجب أن يكون من حق كل أحد أن يحاسبها على تقصيرها، فعلى عاتقها يقع عبء العمل لتزويد الشعب بضروراته المعيشية.

وعلى الشعب ولا شك تبعات قبل الحكومة واضحة الحدود، فعلى الفلاح أن ينتج مواد الغذاء، وعلى الصانع أن ينتج الأدوات والآلات، وعلى رجل الأشغال أن يوازن الكفتين بين العرض والطلب، وعلى العالم أن يفرغ للعلم ذكاءه ودرايته، وعلى كل بالإجمال أن يعرف واجبه ويقوم بأدائه على الوجه الأمثل.

والهيئة السياسية أو القوة السياسية، لازمة لإنجاز هذه المهام من تدبير المئونة واتقاء خطر المنافسة الأجنبية، ولكن الصين اليوم - وهي أسيرة المعاهدات - لم تفقد سياستها وحسب، ولم تعجز عن حماية صناعتها وكفى، بل هي قائمة بحماية الصناعة الأجنبية، وقد حدث هذا من جراء التمدد والتوسع في رءوس الأموال، كما حدث من جراء التقدم الصناعي ومن تفوق الأجانب علينا في ميادين الاقتصاد، وكل هذه المزايا تسندها من ورائها قوى الدول السياسية.

وإنهم اليوم ليعاملون الصين كأنها سوق مستعمرة ويقبضون بأيديهم على حقوق السيادة الصينية وعلى شئونها المالية، فلا يسعنا وهذه حالهم وحالنا أن نتفرد بعلاج مبدأ المعيشة، وعلينا أن نستولي على الجانب السياسي ونلغي المعاهدات الجائرة ونسترد مكوس الموانئ من الأيدي الأجنبية، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد المكوس وأن نتبع خطط الحماية الجمركية، وأن ندفع سيل الواردات المتدفق على بلادنا كي يتسع المجال أمام صناعتنا للتطور والانتشار.

وعلى الصين أن تأخذ بناصر السلع الوطنية وتقاطع السلع الأجنبية، ولطالما أثرنا الثائرة حول هذه المسألة ولم نظفر بمعاونة من الأمة؛ فأخفقت الحملة وحبط السعي، وهذا مع صعوبة النجاح حتى في حالة التعاون بيننا وبين الأمة، لضعف حكومتنا وقصور مساعيها السياسية.

فليس في طاقتنا أن نسيطر على مكوسنا البحرية وهي بين الأيدي الأجنبية، وليس في طاقتنا أن نزيد مكسا من المكوس، وليس في طاقتنا من أجل هذا أن نرفع ثمن المنسوجات الأجنبية ونهبط بتكاليف المنسوجات الوطنية، وما دامت المنسوجات التي ترد من الخارج أقل ثمنا من منسوجاتنا فليس في طاقتنا أن نحول الشعب من شراء الصنف الأجنبي إلى شراء الصنف الوطني بأكثر من ثمنه، وغير مجد أن نهيب بالناس أن يجتنبوا الأكسية الأوروبية ولو بذلك ينقض قواعد الاقتصاد في حياة كل فرد من عامة الأفراد.

لا مناص إذن من الاعتماد على القوة السياسية لتدبير الكساء وتعويد الأمة أن تلبس من منسوجات بلادها وتجتنب المنسوجات الواردة من البلاد الخارجية. (9) لوازم المعيشة من كتاب تنمية الصين الدولية

The International Development of China

في البرامج الأربعة السابقة حصرت القول في إنشاء الصناعات الأساسية التي تعتبر مفاتيح الصناعة.

وفي هذا البرنامج سأحصر القول في طائفات من الصناعات الأصلية التي تحتاج إلى المعونة الأجنبية، وأعني بالصناعات الأصلية تلك الصناعات التي تزود كل فرد وكل أسرة بضرورات العيش ومرفهاته.

وغني عن القول أن قيام الصناعات الأساسية أو مفاتيح الصناعة سيتبعه من تلقاء نفسه نشوء الصناعات المختلفة الأخرى خلال أجزاء البلاد في فترة قصيرة، فقد حدث مثل ذلك في أوروبة وأمريكا بعد الثورة الصناعية.

ولا شك أن قيام الصناعات الأساسية يتكفل بتدبير العمل الكثير من الأيدي ويرفع مستوى المعيشة بين العمال، وعند ارتفاع الأجور ترتفع كذلك أثمان الضرورات والمرفهات، ومقصدنا من هذا البرنامج هو المساعدة على خفض تكاليف المعيشة في الصين أثناء نشأتها الدولية، بحيث يحصل الشعب على الضرورات والمرفهات وعلى الأجور الحسنة في وقت واحد.

من المتداول بين الناس أن الصين أرخص البلاد وأقلها كلفة، وهو سوء فهم يرجع إلى تعود الناس أن يقيسوا كل شيء بقيمة العملة، ولكننا حين نقيس تكاليف المعيشة بما يلزمها من العمل نرى أن الصين أغلى البلاد وأعظمها كلفة بالنسبة إلى العامل، فإن العامل اليدوي يقضي في عمله من أربع عشرة إلى ست عشرة ساعة كل يوم ليكسب قوته، وليس في وسع كاتب الدكان أو معلم المدرسة أن يكسب أكثر من مائة دولار في السنة، ويحتاج الزارع لسداد الضريبة والإيجار أن يعيش عيشة الكفاف من يده إلى فمه كما يقال.

إن العمل رخيص جدا وكثير جدا، ولكن مطالب المعيشة لا تعدو الكفاية العاجلة كل سنة، فإذا وقعت الأزمة في إحدى السنوات وقع كثيرون في الضنك والجوع، وهذه الحالة التعسة التي يعانيها فقراء الصين نتيجة محتومة لنقص التطور وسذاجة الوسائل وتبديد الجهود العاملة.

وتعالج هذه الحالة علاجا حاسما بالاستعانة برءوس الأموال الأجنبية وبالخبرة الفنية من الخارج لمنفعة الأمة الصينية كافة؛ إذ كانت أوروبة وأمريكا قد سبقتانا إلى التطور الصناعي بنحو مائة سنة، فإذا أردنا اللحاق بهما في وقت قصير وجب علينا أن نستعين بما عندهما من الأموال والآلات، وإذا تعذر الحصول على رأس المال الأجنبي فمن الواجب على الأقل أن نحصل على الخبراء والمخترعين الذين يصنعون لنا آلاتنا، فلا مناص لنا بأية حال من الاعتماد على الآلات لمساعدة قوانا اليدوية الهائلة على تنمية مواردنا التي لا تحصى.

وتتلخص ضرورات المعيشة العصرية في خمسة مطالب هي: (1)

صناعة الأطعمة. (2)

صناعة الملابس. (3)

صناعة المساكن. (4)

صناعة المتحركات والناقلات. (5)

صناعة الطباعة. (9-1) صناعة الأطعمة

فصناعة الأطعمة تندرج تحت هذه العناوين: وهي (1) إنتاج الطعام و(2) تخزينه ونقله و(3) إعداد الغذاء وحفظه و(4) توزيعه وتصدير فائضه.

فالطعام الإنساني يأتي من الأرض والهواء، وأهمه وأكبره غذاء الهواء وقوامه الأوكسجين، وهو غذاء تدبره الطبيعة ولا يحتاج منا إلى تدبير إلا ما كان من قبيل تدبير الهواء للطيار والغواص، فهو غذاء مباح لكل طالب ولا يلزمنا أن نبحثه في هذا المقام.

والغذاء من الماء - وقد ألمعت إليه عند الكلام على إنشاء موانئ الصيد وسفنه - موضوع لا نتعرض له هنا اكتفاء بالكلام على الصناعات التي تتوقف على المعونة الأجنبية.

إن الصين بلاد زراعية، أربعة أخماسها على وجه التقريب مشتغلون بإنتاج الطعام، وقد عرف الزارع الصيني بالمهارة في استخراج المحصول، وفي وسعه أن يحصل من الأرض على أكثر ما تعطيه، ولكن الصين تتخللها أراض واسعة في الأماكن المعمورة متروكة بورا لسبب من الأسباب، فمنها ما يترك لقلة الماء، ومنها ما يترك لكثرته، ومنها ما يترك عمدا لتمكين المحتالين من المغالاة بالأجور والأثمان، وأن الأقاليم الثمانية عشر وحدها لتقوم اليوم بمعيشة أربعمائة مليون.

إلا أن مجال الزيادة والتنمية متسع إذا استطلحت الأرض البور وحسنت وسائل الإنتاج في الأرض المزروعة، وينبغي أن نحمي الزراع ونشجعهم بالقوانين الحرة التي تكفل لهم أن يجنوا ثمرات عملهم، وينبغي مع ذلك أن نتوفر على خطة نافعة في الوقت نفسه لنشأة الصين الدولية فيما يتعلق بإنتاج الطعام، وهذه الخطة النافعة تقوم على مساحة الأرض وإقامة المصانع لإخراج أدوات الزراعة الحديثة.

فالصين لم تمسح قط مساحة علمية ولم تعمل لها قط خريطة وافية، فكانت إدارة الأرض فوضى وتقرير الضرائب عليها جزافا بغير ضابط، مما يزيد المصاعب على الفلاحين والزراع المساكين، ومن ثم كانت مساحة الأرض كيفما كانت الأمور أول ما تشرع فيه الحكومة، وهو عمل لا يتم بغير المعونة الأجنبية لحاجته إلى الأموال والخبراء، ولهذا نقترح أن تتولى هذا العمل منظمة دولية تجمع نفقاتها من قرض يعقد ويعين على تنفيذ المشروع بما يلزمه من الخبراء والأدوات، وندع للمختصين أن يقرروا تكاليف المشروع وموعد إنجازه ونطاق معداته واستخدام الطيارات له أو غيرها من الوسائل والأساليب.

فيحفظ الطعام تارة بمعالجته بالملح وتارة بحرارة الشمس، ويندر أن تستخدم العلب والمصانع لهذا الغرض، ورأيي أن تبنى سلسلة من معامل الأرز في جميع الحواضر الكبرى بوادي اليانجزي والصين الجنوبية حيث قوام الغذاء من الأرز، ويحسن أن تبنى أربعة معامل في كل مدينة إلى شمال وادي اليانجزي حيث قوام الغذاء من القمح والشوفان وبعض الحبوب الأخرى، وتجعل هذه المعامل جميعا في كفالة إدارة واحدة للتوفر على التدبير والقصد في النفقة، ويوكل إلى المختصين تقدير الأموال الضرورية لهذا المشروع بالتفصيل.

ومن اللازم حفظ الأغذية من الفاكهة واللحم والسمك بوسائل التبريد والتعليب، وسيكثر الطلب على القصدير عند إنشاء صناعة التعليب، وهي صناعة ضرورية ومربحة، ويحسن أن تقام معاملها إلى جوار مناجم الحديد والقصدير، ففي الصين أماكن شتى يوجد فيها الفحم والحديد والقصدير على مقربة، ويتهيأ من ثم تحضير المواد والخامات للمعامل، ويحسن أيضا أن تجمع معامل التعليب ومعامل القصدير في صناعة واحدة لتيسير النفقة والتنظيم.

التوزيع والتصدير

والمعروف عن الصين أنها لا تعدم الغذاء في السنوات الطيبة، ومن أمثلتها الشائعة أن الحرث سنة يدبر الحاجة ثلاث سنوات، وقد تعود الناس في الأقاليم الغنية أن يخزنوا الأطعمة ثلاث سنوات وأربعا من قبيل الحيطة للسنوات المجدبة.

ولكن التنظيم المقترح خليق متى تم أن يغني الشعب عن الحيطة لأكثر من سنة واحدة، وأن يسمح له بتصدير الفائض إلى البلاد الخارجية، ويحسن أن يوضع التوزيع والتصدير مع الحفظ والتخزين في رعاية إدارة واحدة، فينقل الفائض إلى مخازن المدن الكبرى ويدخر منه ما يكفي لسنة واحدة، ويباع الطعام بتكاليف إنتاجه لأفراد الشعب، ثم يرسل الفائض إلى البلاد الخارجية حيث يطلبون ويبذلون فيه الأثمان العالية، وبهذه المثابة ينتفع بالطعام الفائض بدلا من إضاعته سدى جريا على المتبع في نظام الحجر على التصدير، ولا شك أن هذا المورد خليق أن يعتمد.

وتجري مع مساحة الأرض بحوث جيولوجية في وقت واحد للقصد في النفقة، ومتى تمت المساحة وتمت البحوث ووضعت الخرائط الدقيقة لكل إقليم فمن المستطاع يومئذ أن نصحح تقدير الضرائب على الأرض المزروعة والأرض المستصلحة، وأن نقرر ما تصلح على الأرض البور من أغراض الزراعة أو المرعى أو غرس الغابات وحفر المناجم، وأن نؤجر كلا منها لاستغلاله في أحسن الأغراض التي يصلح لها، ونخصص الفائض من محصول الضرائب لسداد القروض الأجنبية.

ولدينا عدا الثماني العشرة الأقاليم أراض واسعة للزرع والمرعى بمنشورية ومنغولية وسنكيانج، فضلا عن أراضي المرعى الواسعة في التيبت وكوكونور، ويمكن تثميرها على سعة بأسلوب التقسيم الجماعي الذي أشرت إليه في برنامجي الأول.

أما إقامة المعامل لصنع آلات الزراعة وأدواتها، فإن الحاجة إليها تعظم كلما مضى العمل في الزراعة والاستصلاح، وأيسر لنا أن نصنعها في بلادنا من استيرادها من البلاد الخارجية، لكثرة الأيدي العاملة عندنا ووفرة الحديد والفحم في أرضنا، ولا بد لذلك من تخصيص مقادير كبيرة من رءوس الأموال تنفق على المصانع التي يحسن أن تقام في مراكز الصناعة أو على مقربة من مناجم الحديد والفحم، حيث توجد الأيدي العاملة وتوجد الخامات.

التخزين والتصدير

والحبوب أهم مواد الغذاء التي تخزن وتصدر وهي اليوم تخزن بمقادير قليلة؛ لأنها إذا خزنت بمقادير عظيمة تعرضت للسوس والتلف والآفات الجوية، فلا تخزين إلا إذا قل المقدار وتعهدته العناية الدائمة مدة من الزمن.

وتصديرها كذلك باهظ النفقة؛ لأنها تنقل على الأكثر محمولة على الأكتاف، ثم تتعاورها وسائل النقل التي لا نظام لها متى وصلت إلى البحار.

فإذا أحسنت أساليب التخزين والتصدير توفرت لنا ثروة كبيرة، ورأيي في هذه المسألة أن تبنى خلال الديار سلسلة من مخازن الحبوب، وأن يصنع لها أسطول خاص في المياه المختلفة تتولى بناءه مصلحة التنمية الدولية، ويعهد إلى المختصين بتقدير رأس المال اللازم لهذه المشروعات وتعيين مواضع التخزين ...

إعداد الغذاء وحفظه

وإلى اليوم يجري إعداد الغذاء وحفظه على الأساليب البدائية القليلة، لسداد أقساط الديون وفوائدها.

وغير ميسور لنا أن نتمم صناعات الأطعمة دون أن نعنى عناية خاصة بمحصول الشاي وفول الصوية، فإن شراب الشاي معروف جدا بين الأمم المتحضرة، وفول الصوية آخذ في الاشتهار بمزاياه الغذائية بين الباحثين العلميين وخبراء الحكومات المنوط بهم تدبير الطعام، والشاي أصح الأشربة وأطيبها للناس ينتج من الصين وتقوم على زرعه وتحضيره صناعة من أهم الصناعات الوطنية، وقد مضى زمن كانت فيه الصين مصدره الوحيد في أنحاء العالم، ثم نازعتها إياه اليابان والهند.

ولكن الشاي الصيني لا تزال له ميزته على محصولات البلاد الأخرى؛ إذ الشاي الهندي مفرط في الحموضة والشاي الياباني تعوزه النكهة الشهية، فأفضل أصناف الشاي ما يخرج من الصين منبته الأول، ولم تخسر تجارة الشاي الصينية إلا من جراء غلاء التكاليف اللازمة لإنتاجه ومنها الضرائب المحلية وضرائب التصدير ونقص وسائل الزراعة، وليس أيسر من استرداد مكاسب هذه التجارة متى رفعت الضرائب واتبعت الوسائل الحديثة في زرعه، ورأيي أن تبنى في أقاليم الشاي معامل حديثة لتحضير الشاي بالآلات بدلا من تحضيره بالأيدي كما يحصل الآن، وبهذا تقل التكاليف وتزداد الجودة، وإذا كان إقبال العالم على الشاي في ازدياد ولا سيما بعد تحريم الخمر في الولايات المتحدة فالمشروع الذي يقوم على تحسين الصنف وتيسير ثمنه مشروع جزيل الربح بغير مراء.

وقد عرف الصينيون قديما مزية فول الصوية بديلا من غذاء اللحم وعول عليه الصينيون واليابانيون قواما للتغذية منذ ألوف السنين، وأزمة اللحوم تحس اليوم في البلاد التي تعول عليها فلا بد من حل لعلاج هذه الأزمة، ولهذا اقترح في برنامج التنمية الدولية أن نصدر هذا اللحم الصناعي ومعه مستخرجات اللبن الصناعي والزبدة الصناعية لتصديرها إلى أوروبة وأمريكا، وأن نستعد لتصدير هذه الأصناف بإقامة المعامل التي تخرج للغرب الأغذية النتروجينية الرخيصة، وأن نستبدل هذه المعامل بالصناعات اليدوية تجديدا للصنف وإقلالا للتكاليف. (9-2) صناعة الملابس

إن المواد الأصيلة لصنع الملابس هي الحرير والكتان والقطن والصوف وجلد الحيوان، وسأتناول الكلام عنها بعناوينها.

الحرير:

فالحرير من مكتشفات الصين، استعمل للكساء عدة آلاف من السنين قبل الميلاد، وهو صناعة من أهم الصناعات الوطنية في الصين، كانت الصين إلى زمن قريب تنفرد بتصديره إلى أنحاء العالم ، ولكن اليابان وإيطاليا وفرنسا أخذت هذه الصناعة لاعتمادها على الوسائل العلمية في المزروعات والمصنوعات؛ إذ لا تزال الصين معتمدة على وسائلها العتيقة كما كانت قبل آلاف السنين.

ولما كان الإقبال على الحرير يزداد في أنحاء العالم فتحسين الزراعة والصناعة فيما يتعلق به عمل مربح جدا، وينبغي أن ينشأ في كل مركز من مراكز الصناعة الحريرية مكتب علمي يتولى إرشاد الزراع وتعليمهم تربية الديدان الصحيحة، وينبغي أن تكون هذه المكاتب تابعة لإدارة مركزية، وأن يكون من عملها جمع اللوزات لتمكين الزارع من الحصول على ثمن مناسب، ولا بد من إقامة المعامل الحديثة لتحضير خيوط الحرير للصناعة الداخلية والصناعة الخارجية على السواء، ويقترن إنشاء هذه المعامل بإنشاء معامل للمنسوجات الحريرية تباع في الأسواق الوطنية والأسواق الأجنبية، وتضم جميع هذه الصناعات إلى رقابة قومية واحدة تمولها رءوس الأموال الأجنبية ويتعهدها الخبراء المختصون لتوفير أحسن المحاصيل الاقتصادية وإخراج أرخص الأصناف وأجودها.

الكتان:

والكتان أيضا صناعة وطنية قديمة، ومن مصنوعات الصين الجنوبية صنف من التيل الجميل اشتهر باسم حشيش الصين، ويمكن أن يضارع الحرير في نعومته وزهوه إذا عولج بالوسائل الحديثة، ولكن الصين على ما أعلم لم توجد فيها بعد أمثال هذه الوسائل لنسج التيل، ويصنع التيل الصيني في الأنوال اليدوية، فمن الواجب أن نستورد الآلات اللازمة لهذه الصناعة، وأن ننشر مراكزها في الجنوب حيث تتوافر الخامات والأيدي العاملة.

القطن:

والقطن محصول أجنبي دخل الصين منذ قرون، وأصبح صناعة وطنية مهمة في عهود الأنسجة اليدوية، ولكن ورود المنسوجات القطنية من الخارج قتل هذه الصناعة، وأصبحنا نصدر إلى الخارج مقادير كبيرة من القطن ونستورد مقادير كبيرة من المنسوجات القطنية، فما أعجب هذا عندما نفكر في وفرة الأيدي العاملة الرخيصة بيننا!

على أن المعامل القطنية قد أنشئت أخيرا في موانئ المعاهدات، وجنت أرباحا عظيمة من صناعتها، وقيل: إن بعضها وزع في السنوات الأخيرة أرباحا تضارع مائة في المائة، وترتفع أحيانا إلى مائتين، والطلب يزداد على سلع القطن، ولكن المعروض قليل، فلا بد من توفير المعامل وإنشاء سلسلة من المراكز تضمها رقابة واحدة تعمل على تحسين الصناعة وتيسير الحصول عليها بالثمن الرخيص.

الصوف:

إن شمال الصين كله - أي نحو ثلثي البلاد جميعا - أرض مرعى، ولكن صناعة الصوف لم تستوف قط عندنا؛ إذ تخرج من الصين كل سنة مقادير عظيمة من الخامات وتدخلها مقادير عظيمة من المنسوجات الصوفية، فإذا نظرنا إلى إحصاء الوارد والصادر تبين لنا أن الصناعة الصوفية جديرة أن تفيد فائدة كبيرة، وينبغي أن نسخر الوسائل العلمية لتربية الغنم وعلاج الصوف لتحسين الصنف وزيادة المقدار، وأن نقيم المعامل الحديثة في الشمال لصنع جميع السلع الصوفية؛ إذ نحن نملك الخامات والمعمل الرخيص والسوق الواسعة، وكل ما نطلبه هو رأس المال الأجنبي والخبرة ... وسيكون هذا المورد جديدا فلا يتعرض للمنافسة.

الجلود:

وصناعة الجلود أيضا ستكون من صناعاتنا الجديدة، على الرغم من وجود بعض المدابغ في موانئ المعاهدات، ولا يزال تصدير الجلود وتوريد المصنوعات منها آخذين في الازدياد عاما بعد عام، فمن المنتظر أن نحصل على فوائد جمة من إنشاء المدابغ والمعامل التي تخرج المصنوعات الجلدية والأحذية.

آلات الكساء:

والصين محتاجة جدا إلى الآلات التي تصنع الأكسية، ويقال: إن طلبات الآلات القطنية قد استغرقت لمدة ثلاث سنوات من أوروبة وأمريكا، فإذا تمت نشأة الصين وتنميتها على حسب برامجي كان الطلب عليها أضعاف أضعاف ذلك، وقصرت موارد أوروبة وأمريكا عن تلبيتها، فإقامة المعامل إذن لإخراج هذه الآلات مشروع نافع فضلا عن لزومه وضرورته، ويحسن أن تقام على مقربة من مراكز الحديد والصلب للإقلال من تكاليف نقل الآلات الضخام، وللخبراء أن يقرروا ما يتطلبه هذا المشروع من التكاليف. (9-3) المساكن

بين الملايين الأربعمائة من أهل الصين يسكن الفقراء في الخصاص والأكواخ ويسكن فقراء الشمال في الكهوف، أما الأغنياء والأوساط فيسكنون الهياكل، وكل ما يسمى المنازل ما عدا المبني منها على الطراز الحديث في موانئ المعاهدات فهو مقام على طراز الهيكل.

وإذا بنى الصيني بيتا فحساب الموتى مقدم لديه على حساب الأحياء، وأول ما يهمه محراب الأسلاف الذي يشاد في وسط الدار وتضاف إليه سائر حجراتها وجوانبها، ولا تبنى المساكن للراحة بل للمراسم والشعائر، أو ما يسمونه في الصين بمسائل الأحمر والأبيض، ويعنون بالأحمر حفلات الزواج وبالأبيض حفلات الحداد.

وإلى جانب محراب الأسلاف محاريب أخرى للأرباب البيتية، فهي أهم من الإنسان وأولى منه بالعناية، فليس في الصين منزل لوحظت فيه راحة الإنسان وموافقة معيشته. فإذا وضعنا خطة السكن في برامج تنمية الصين فنحن نضع الخطة لسكنى أبناء الصين أجمعين، ويقول قائل: أتريد أن تبني بيوتا لأربعمائة مليون؟ إنه مستحيل، وإنه لأضخم شغلة خطرت لإنسان على بال!

إلا أن الصين - إن كانت على عزيمتها أن تنبذ التقاليد الحمقاء والعادات النخرة - فتعديل نظام السكن أمر لا محيص منه على عمد أو على غير عمد. وهذه حضارة الأمم الغربية التي أدركتها تبدو لنا غير مقصودة؛ لأن العلوم الاجتماعية والاقتصادية لم تكن معروفة قبل الآن، ونحن نأمل في خلال خمسين سنة من تطورنا الصناعي أن تصبح مساكن الصين جميعا مستوفاة من وجهة الراحة والموافقة، أليس بناء المساكن في الصين وفاقا لترسيم العلم أفضل وأجدى من تركها بغير ترسيم؟ إنني لأحسب أن بناء ألف منزل مرة واحدة أقل نفقة من بنائها منزلا منزلا متفرقات، وكلما ازداد عدد المساكن نقصت التكاليف، فهو قانون اقتصادي واضح، ولا ضرر فيه إلا من جانب الإفراط والزيادة على الحاجة، فهذا هو العائق الوحيد في جميع الأعمال الكبرى. ومنذ قامت الثورة الصناعية في أوروبة وأمريكا لم تأت الأزمات إلا من طريق الإفراط في الإنتاج، ولدينا في الصين أربعمائة مليون راغب يتطلعون إلى المساكن، فلا أقل من خمسين مليون مسكن تدعو إليها الحاجة في الخمسين سنة المقبلة، ومليون منزل هو متوسط الطلب في كل سنة.

إن المساكن عامل هام في الحضارة، وهي تعطي الناس من المتعة والرفاهة ما لا يجدونه في الغذاء والكساء، وأكبر من نصف الصناعات البشرية تدور على مطالب السكنى، وستصبح صناعة البيوت أعظم ما نشرع فيه من خطط التعمير كما ستكون أربحها وأنفعها، وكل غايتي من هذه الصناعة أن نهيئ السكن الرخيص للدهماء ، وقد يتسنى بناء منزل كالذي يبنى الآن في موانئ المعاهدات بعشرة آلاف ريال ولا تزيد تكاليفه على ألف ريال، وإنما يتسنى هذا بالاستيراد والنقل والتوزيع، ومتى تم بناء البيت وجب تزويده بالأثاث، وكل هذا يدخل في نطاق صناعة السكن على الوجه الآتي: (أ)

إنتاج مواد البناء واستيرادها. (ب)

إجراء البناء. (ج)

صناعة الأثاث. (د)

تدبير المرافق المنزلية.

فأما مواد البناء فهي الآجر والقرميد والخشب والحديد والحجر والإسمنت والملاط، وكل مادة من هذه المواد تؤخذ من الخامات، فلا بد من الأفران لصنع الآجر والقرميد، ولا بد من المعامل لتحضير الأخشاب والحدائد، ولا بد من المحاجر لاستخراج الإسمنت والملاط والحجارة، ولا بد من وضع هذه المعامل جميعا حيث يسهل إمدادها والوصول إليها، وأن تضم كلها إلى مصلحة واحدة تخرج منها كل صنف على حسب الحاجة إليه، وتنقل المواد بطريق المواصلات المائية أو المركبات الخاصة على السكك الحديدية، وتتولى مصلحة السفن ومصلحة المركبات إعداد وسائل النقل من المعامل إلى الأسواق.

والمباني التي تنشأ في الصين تشتمل على مساكن عامة ومساكن خاصة، ويناط بناء المساكن العامة بمصلحة حكومية؛ لأنها لا تأتي بأجرة تعوض تكاليفها، أما المساكن الخاصة فلا تبنى إلا لغرض من غرضين؛ أحدها تيسير السكن للشعب، والآخر تحصيل الربح لخدمة هذه الصناعة. وتتبع الأساليب المرسومة في بناء المساكن، ومنها أسلوب البيت الذي تسكنه أسرة واحدة وأسلوب البيت الذي تسكنه أكثر من أسرة، فالبيت على الأسلوب الأول يقسم إلى ثماني حجرات أو عشر حجرات أو اثنتي عشرة حجرة، والبيت على الأسلوب الآخر يقسم إلى مساكن عشر أسر أو مائة أسرة أو ألف أسرة، لكل أسرة منها أربع حجرات أو ست حجرات، ويجب تقسيم المساكن في الريف على حسب أعمال السكان مع إلحاق الحظائر والجرن بمساكن الفلاحين. وتلاحظ في تخطيط البيوت راحة الإنسان فتعهد مهمة التخطيط إلى مصلحة تدرس عادات الطوائف المختلفة ومطالبها ويدخل عليها التحسين الضروري حينا بعد حين، ويتم البناء بالآلات المستعجلة التي تقتصد في الجهد إنجازا للعمل وإقلالا من نفقاته.

أما الأثاث فإن ضرورة تغيير أساليب البناء تستلزم تغيير الأدوات وصنعها على الطراز الحديث، ومنها أدوات للمكتبة وأدوات لحجرة الاستقبال وأخرى للمخدع أو للمطبخ أو للحمام أو للمراحيض، وتخصص لكل نوع معامل مستقلة تحت إشراف مؤسسة الإنشاء والتعمير.

ومرافق البيوت تشتمل على الماء والنور والحرارة والوقود والتلفون، ولا توجد في غير موانئ المعاهد موارد مائية، بل تخلو بعض هذه الموانئ من موارد الماء حتى الآن. ويستقي الناس في المدن الكبرى من الأنهار التي تنوب كذلك عن المجاري والمصارف. ومن هنا كانت موارد الماء في الصين غير صالحة، فمن المطالب العاجلة توفير موارد الماء في المدن بغير إبطاء، ولا بد لذلك من المعامل التي تصنع فيها الأدوات الضرورية، أما الإنارة فلا بد كذلك من تعميمها وإنشاء المعامل التي تخرج أدواتها.

ومن أعظم المطالب كلفة على الصين وقود الطعام، فالريفي يخصص عشر أرباحه لشرائه، والحضري يخصص لشرائه ضعفي هذه القيمة، ومن ثم كانت مسألة الوقود مضيعة لكثير من الجهد والثروة، ويجب استبدال الفحم بالعشب والحطب في بلاد الريف، وأن يستبدل به الغاز والكهرباء في الحواضر والعواصم، ولا غنى عن الأجهزة اللازمة لتحضير الفحم والغاز والكهرباء، وعلى مؤسسة الإنشاء والتعمير أن تعنى بهذا العمل، وعليها كذلك أن تيسر استخدام التلفون للريفيين والحضريين على السواء، وأن تنشئ المصانع التي تخرج الأجهزة والأدوات ميسرة بالثمن المستطاع. (9-4) المحركات

الصينيون شعب ساكن، فخر الرجل فيهم من قديم الزمن أنه يعكف على منزله ولا يعنى بغير شأنه، ومن أقوال لاوتسي معاصر كنفشيوس: إن الجيرة الصالحة تقيم على مقربة حيث يسمع الجار من بيت جيرانه صياح الديكة ونباح الكلب ولا يغشى أحدهم دار غيره مدى حياته، وطالما تردد هذا القول وصفا للعصر الذهبي في الأمة الصينية.

إلا أن الأمور قد تغيرت في الأزمنة الحديثة، وأصبحت الحركة هنا وهناك شغل الإنسان في حياته، وإنما بالحركة تتقدم الحضارة، وعلى الصين أن تتحرك إذا أرادت أن تدرك ركب الحضارة، فحركة الفرد جزء جوهري من نشاط الأمة، ومن حقه أن يتحرك حيث شاء ومتى شاء في يسر وسرعة، ولكن الصين في الوقت الحاضر تعوزها الوسائل التي تيسر الانتقال لمن يريده، فإن الطرق القديمة مخربة والسيارة لم تعرف بعد في أنحائها، وهذه السيارة وسيلة مستحدثة لا غنى عنها للحركة السريعة، فإذا أردنا أن نتحرك ونعمل فعلينا أن نستعين بالسيارة، ولا سبيل إلى الاستعانة بها قبل تمهيد الطرق لمسيرها، وقد بينت في هذه البرامج أننا محتاجون إلى إنشاء مليون ميل من الطرق المنتظمة، نلاحظ في بنائها نسبة السكان والمواقع، وفي أقاليم الصين الثمانية عشرة ألف محلة، فإذا كانت الصين على نية تعميم النظام المتبع في توزيع هذه المحلات وصل عددها إلى أربعة آلاف، وخص كل محلة مائتان وخمسون ميلا من الطرق، إلا أن السكان في كل محلة يزيدون تارة وينقصون تارة، ولا تتساوى المحلات جميعا في عدد السكان، فإذا قسمنا مليون ميل على أربعمائة مليون ساكن كان على كل أربعمائة ساكن بناء ميل واحد وهو عمل غير عسير، فإذا قبلته الأمة وقبلت معه أن يكون تمهيد الطرق شرطا للحكومة المحلية وجدنا أمامنا مليون ميل من الطرق كأنها امتدت بسحر ساحر، ومتى شرعت الأمة في تمهيد الطرق أمكن إنشاء المعامل لصنع السيارات قليلا قليلا ثم تزداد على حسب ازدياد الطلب حتى تفي بحاجة الملايين الأربعمائة. يجب أن تصنع السيارات لأغراض متعددة بحيث تصلح للزارع والصانع والتاجر والمسافر والمتنقل ... إلخ إلخ. وكلما كثر المصنوع منها قلت تكاليفه وتيسر ثمنه لمن يطلبه، ولا يكفي تيسير الحصول على السيارة دون تيسير الحصول على وقودها، فمن الواجب أن تقترن صناعة السيارات بالتنقيب عن منابع زيت النفط، وهو ما نفصل القول فيه عند الكلام على صناعة المناجم والتعدين. (9-5) الطباعة

هذه الصناعة - صناعة الطباعة - تيسر للإنسان غذاء فكره، وهي ضرورة من ضرورات الحياة العصرية لا يتم التقدم بغيرها.

إن نشاط النوع الإنساني محفوظ مسجل، ومعارفه جميعا مخزونة في المطبوعات، فالطباعة عامل عظيم من عوامل الحضارة، بحيث تقاس حظوظ الأمة من التقدم أحيانا كثيرة بمقياس مطبوعاتها في كل سنة.

والصين متخلفة في هذا المجال مع سبقها إلى اختراع الطباعة، ولكنها إذا اتبعت مناهج التقدم التي نبسطها هنا تعاظمت مطالب ملايينها الأربعمائة من المطبوعات وأصبح لزاما لتلبية هذه المطالب أن نؤسس شبكة من المطابع في أنحاء البلاد لإخراج المطبوعات المختلفة من الصحف إلى الموسوعات، ووجب أن تترجم نخبة الكتب في جميع اللغات إلى اللغة الصينية وتباع بالأثمان المستطاعة، وينبغي أن تلخص دور النشر جميعا بإدارة واحدة لتحقيق أفضل النتائج الاقتصادية.

وتيسير أثمان المطبوعات يستدعي العناية بصناعات شتى أولها صناعة الورق، وهو في الحاضر يستورد من الخارج لطبع الصحف ويزداد الطلب عليه يوما بعد آخر، على أن الخامات التي يصنع منها الورق موفورة في الصين، ومنها الغابات في شمالها الغربي وأنواع القصب في نهر يانجتزي والمستنقعات التي بجواره، وهي كفيلة أن تزود مصانع الورق بأحسن عجينة صالحة لصنعه، ويحسن إنشاء المعامل الكبيرة لهذا الغرض في المواقع الملائمة، وأن تنشأ معها معامل المداد والمسابك والأدوات المطبعية وكل ما هو ضروري لإدارة النشر والطباعة. (10) الحرب والسلم من كتاب تنمية الصين الدولية

إن الحرب العالمية ليست إلا السطو المسلح على نطاق واسع يأسف له كل فكر مستقيم.

ولما اشتركت الولايات المتحدة في النزاع الأخير فجعلتها بذلك حربا عالمية (1914-1918) كان أبناء الولايات المتحدة بلسان رجل واحد يريدون أن يجعلوها حربا للقضاء على الحروب، وحلق رجاء الأمم عاليا حتى خيل إلينا نحن أبناء الصين أن التاتنج

Tatung (أي: العصر الذهبي) مقبل لا محالة.

غير أن الولايات المتحدة قد أخفقت في السلم للأسف الشديد بعد نجاحها في ميادين القتال، فنكصت الدنيا إلى حالة كالتي كانت عليها قبل الحرب العالمية، وسينطلقون من جديد في السباق إلى ضم البلاد والتنازع على مواد الغذاء والتطاحن على الخامات، وبدلا من نزع السلاح سوف يتضاعف عدد الجيوش والأسلحة البحرية استعدادا للحرب المقبلة بين أولئك الذين كانوا من قبل حلفاء، وستكون الصين أغنى البلاد بالموارد والسكان غنيمة النصر في تلك الحرب المقبلة.

لقد كانت الدول جانحة منذ سنوات إلى تقسيم الصين وتقدمت روسيا القيصرية فعلا لاستعمار منشوريا، فإذا باليابان - ذات الحمية والنخوة - تتصدى لها وتنجو الصين بهذه المثابة من خطر التقسيم.

لكن سياسة اليابان العسكرية في الوقت الحاضر متطلعة إلى ابتلاع الصين، فمصير الصين إذا هي ظلت معلقة بمراحم الدول العسكرية أن تمزق بين هذه الدول أو تبتلعها واحدة منها.

ويبدو أن الأحوال آخذة في التغير، فهذه الصين التي لبثت هاجعة عدة قرون قد تيقظت وعلمت أن اللحاق بركب العالم المتقدم ضرورة لا محيد عنها، وها نحن أولاء في مفترق الطريق، فهل نعد أنفسنا للسلام؟

إن العسكريين والرجعيين منا يؤثرون الاستعداد للقتال ويحاولون أن يصبغوا الصين بالصبغة اليابانية، وأن يتحينوا الفرص لإعلان حرب كحرب الملاكمين (البوكسر) تتحدى عالم الحضارة.

ولكنني باسم الجمهورية التي أسستها أود أن تجمع الصين عدتها للسلام، وأثوب إلى القلم - وهو في اعتقادي أقوى من السيف الذي جردته للقضاء على أسرة المانشو - فأخط هنا تفاصيل البرنامج الذي تستعد به الصين لخدمة السلام.

إن الدول - إذا هي صدقت النية على التعاون لتحصيل المنافع المتبادلة - خليقة أن تتقي أخطار الصراع على المغانم المادية التي تتطلع إليها في الصين، فإن مغانمها من طريق التعاون أوفر وأجدى من مغانم الصراع والقتال.

على أن العسكريين اليابانيين لا يزالون يحسبون أن الحرب أنفع المساعي الوطنية، ولا يزال أركان حربهم يرسمون الخطط للحرب المقبلة خلال عشر سنوات، وقد أكبر هذا الوهم في رءوسهم أن غزوتهم للصين سنة 1894 كانت موفورة الربح على قصرها وسهولتها، وأن حربهم مع روسيا سنة 1904 كانت كذلك نجاحا لليابان وكانت ثمراتها كبيرة بالنصر كبيرة بالقيمة، وأن إعلانها الحرب على ألمانيا سنة 1914 لم يكلفها بعض ما تكلفه المقاتلون من الرجال والأموال، ولكنها على هذا ربحت من ورائه إقليم شانتنج وهو في سعة رومانيا قبل الحرب يسكنه أناس في عدد سكان البلاد الفرنسية.

لا جرم إذن، مع هذه المغانم من كل حرب، أن تستمرئ اليابان مغبة الحروب ويخيل إليها أنها أربح التجارات في هذا العالم، ولكن الصين اليوم يقظى لما حولها، فكل عدوان من قبل اليابان ستصده الصين ولا شك بعزيمة صادقة.

إن الحرب التجارية، أو التنافس على الأسواق هي صراع بين أصحاب الأموال، وهذه الحرب التجارية لا تتحرى مصلحة قومية، بل تنشب بين أصحاب الأموال في الوطن الواحد عنيفة قاسية كما تنشب بينهم في الأوطان المتعددة، وسلاحها الماضي أن تتسابق إلى البيع الرخيص للقضاء على المنافس الضعيف ثم الاستبداد بالسوق وإملاء الشروط على المستنفدين إلى أمد طويل.

وعاقبة الحرب الاقتصادية لا تقل عن الحرب المسلحة في إضرارها بالمنهزم وشدة وطأتها عليه، وقد تفاقمت ضراوة هذه الحرب بعد اتخاذ المكنات لإنتاج المصنوعات، وكان بعض خبراء الاقتصاد من مدرسة آدم سميث يحسبون التنافس عاملا طيبا ونظاما صحيحا سليم العاقبة، ثم انكشف للخبراء المحدثين أنه على نقيض ذلك مضيعة للجهود ومدعاة للخراب، وجنحت آراؤهم إلى الوجهة المقابلة: أي إلى وجهة التركيز والتكافل بدلا من التفرق والتنافس.

ولهذا تزدهر الشركات المؤتلفة في أمريكا على الرغم من تحريم القوانين لها وميل الجمهور إلى مكافحتها؛ لأن الشركات المؤتلفة تستطيع الإنتاج بتكاليف أقل من تكاليف الأفراد لقصدها في النفقة وتوفيرها للجهود المبددة، وهكذا تخلص الشركات المؤتلفة من المنافسين كلما دخلت ميدانا من ميادين الصناعة ويسرت للمستنفد سلعا أرخص من أمثالها، وجدير بهذه المزية أن تكون خيرا وبركة على المستنفدين لولا أن الشركات المؤتلفة في الأيدي الخاصة التي تتحرى مضاعفة الكسب جهد المستطاع، فما هو إلا أن تخلص من المزاحمين حتى تستبد بالسوق، وتغالي برفع الأسعار، وتضطهد جمهرة الناس، وإنما تعالج هذه الآفة علاجها الأمثل باستيلاء الشعب كله على الشركات المؤتلفة، وبرنامجي في تنمية الصين أن تجعل صناعاتها القومية جميعا شركة مؤتلفة كبرى تملكها الأمة وتنفق عليها من رءوس الأموال الأجنبية لتبادل المنفعة، فنقضي بذلك دفعة واحدة على الحرب التجارية في أكبر الأسواق العالمية. (11) دستور الهيئات الخمس من خطاب ألقي في سنة 1921 وأذاعته مصلحة النشر في اللجنة التنفيذية

نحن جادون كي نجعل الصين دولة قوية مجيدة، فكيف نبلغ بها ما نصبو إليه؟ إخال أن الطريق ينبغي ألا يكون وعرا، وأرى أنه هو طريق الدستور ذي الهيئات الخماسية.

مضى اليوم أكثر من عشرين سنة منذ تكلمت لأول مرة عن هذا الموضوع في الذكرى السنوية للمين پاو بمدينة طوكيو ... ولا يزال أعوان هذا الدستور جد قليل، وعلينا إذن أن نرحب بكل رغبة في زيادة العلم بكنه هذا الموضوع.

في تاريخ الحياة السياسية وجهتان: وجهة الحرية ووجهة النظام، وفحوى هذا أن السياسة تعمل فيها قوتان كالقوتين اللتين تعملان في الطبيعة، وهما القوة الدافعة من المركز والقوة الجاذبة إليه، فالقوة الدافعة تتجه إلى الامتداد خارجا والقوة الجاذبة تتجه إلى التجميع حول المركز، فإذا كانت القوة الدافعة أقوى من كل عامل آخر تطاير الجسم بدادا، وإذا كانت القوة الجاذبة هي الأقوى تكاثف الجسم وصغر، ويلزم من ثم أن تتعادل هاتان القوتان.

وينطبق هذا على وجهتي الحرية والنظام، فامتداد الحرية قد يفضي إلى الفوضى، والغلو في حفظ النظام قد يفضي إلى الحكم المطلق. وما كانت الأطوار السياسية خلال آلاف السنين الأخيرة إلا أثرا من آثار الصراع بين هذين الاتجاهين.

نعم، وهذان الاتجاهان في التاريخ السياسي بين السلطان المطلق والحرية هما موضع الاختلاف بين الصين والبلاد الأوروبية، ولكن التاريخ السياسي فيه غير ذلك طائفتان من الناس: طائفة الحاكمين وطائفة المحكومين، أو كما عبر عن ذلك أحد الحكماء حيث قال: «إن من الناس من يعمل لرياضة عقله ومنهم من يعمل لرياضة جسده، والأوائل حاكمون، والأواخر هم المحكومون.»

ولا بد لمن يحكم من المعرفة، ولا بد للمحكوم من فرصة لكسب المعرفة، وقد كان أبناء الأزمنة الغابرة كالأطفال ينتظرون القيادة من غيرهم، فانقضى عهد الطفولة السياسية وأصبح الناس وهم يشعرون أن هذا الفاصل بين الحاكم والمحكوم خليق أن يزول، وقد طرح الأوروبيون عنهم نير الأنظمة الملكية في القرون الأخيرة، ونعم الناس بقسط من الحرية أكبر وأرقى، ونهجنا نحن لهدم ذلك الفاصل منهج الهيئات الخماسية عسى أن نتأدى منه إلى مبادئ الديمقراطية الصحيحة.

ولقد ناديت عند بدء الثورة بالمبادئ الثلاثة وهي القومية والديمقراطية والاشتراكية، وهذه هي الأغراض التي عناها رئيس الولايات المتحدة لنكولن حينما دعا إلى حكومة الشعب بالشعب ولأجل الشعب ، فلا بد للناس أن يحكموا أنفسهم ليرضوا عن حكمهم، فلا رضى للناس مع عجزهم عن ولاية الأمور.

ولا ننس إذ نعالج سيطرة الذين راضوا عقولهم على الجماهير التي لم تشغل بغير أجسادها أن المشيئة الإنسانية قد تعمل حتى في مواجهة السماء.

ولننظر إلى الديمقراطية وهي أداة الشعب التي يطير بها أو يغدو أو يسبح أو يمضي حيث شاء بين الأرض والسماء، فما هي هذه الأداة؟ هي الدستور: هي الدستور الذي يضع الحدود لسلطان التشريع وسلطان القضاء وسلطان الإدارة وسلطان الاختبار وسلطان الرقابة والإشراف.

ذلك هو الدستور الخماسي الذي نبغيه، وهو سيارتنا أو غواصتنا أو طائرتنا، نسير به حيث نريد؛ لأنه يسلك بنا حيث توضع القوانين أو حيث تنفذ أو حيث تدار الأعمال الحكومية أو حيث يختبر الموظفون وحيث يراقبون.

ويقوم الرئيس على رأس الإدارة، ويقوم البرلمان على رأس التشريع، ويقوم القضاة على منصة الأحكام.

وكم من أناس أولي كفاية لم يعرف لهم فضلهم؛ لأنهم لم يوضعوا قط موضع الاختبار، لقد حدث كثيرا أن أناسا من الجهلة أشباه الأميين ارتفعوا إلى مناصب الحكم فغرسوا في النفوس شرور النقمة والبغضاء، وليس أصلح لعلاج هذه الآفة من اختبار المرشحين لوظائف الدولة واختيارهم من ذوي الفضل والدراية، فبغير هؤلاء النخبة المختارين يمضي الركب بغير سائق، وبهذه الوسيلة نحصل على الكفاة المدربين على الخدمة العامة.

لقد جرى الإنجليز على هذه الخطة منذ زمن غير قصير، وجرى عليها الأمريكيون منذ عشرين أو ثلاثين سنة، وكلهم مسبوقون إليها في الصين، فإن النظام الصيني أصلح الأنظمة، وبلاد العالم تستعيره منا اليوم.

ولما كنت في نانكنج رجوت مجلس الشيوخ أن يقتبس نظام الهيئات الخماسية فلم يفطنوا لمقصدي؛ لأنه يقطع عليهم مدى نظراتهم الشخصية، لكن هذا الدستور الخماسي - ثمرة جهودي وتجاربي - أداة ضخمة، فمن كان عليه أن يقطع مئات الأميال في غير بطء ولا وناء فلا غنى له عن سيارة أو طيارة يحكم آلاتها، ومن كان عليه أن يسير بالأمة على نهج الفلاح فلا غنى له عن الآلة الحكومية التي تضبط حركاتها.

تلك هي الآلة التي تدار بها شئون البلاد، ولدينا عدا هذا الدستور الخماسي مبدأ جوهري لاشتراك المواطنين المباشر في الحكومة المحلية، فهذا الاشتراك المباشر هو الخلاصة الصادقة لحقوق الإنسان، قوامه الانتخاب والعزل والاقتراح والاستفتاء، فإذا شبهنا الدستور الخماسي بالأداة فالحق المباشر هو مفتاح هذه الأداة، ويحق لمن يملك الانتخاب أن يملك عزل من أساء، ومن علم بشريعة صالحة فمن حقه أن يقترحها وأن يرجع إليه لسؤاله عنها، وذلك هو نظام الاستفتاء. (12) قبس من صلاة على ضريح عميد الأسرة الصينية القديمة «منج» توجه به الزعيم إلى روح العاهل «الخالد» بعد نجاح الثورة (1912)

وهنت أسرة «سنج» قديما فاغتنم التتار ومغول أسرة «يوين» هذه الثغرة ليشيعوا الفوضى في هذه الديار، وباءوا بغضب الناس والأرباب.

عندئذ ثبت يا صاحب الجلالة، يا رافع دعامتنا، تصد ذلك الغول، وخرجت من خفائك تعيد ذلك التراث القديم.

وما هي إلا سنوات اثنتي عشرة حتى جمعت أشتات الدولة وطهرت الديار من لوثة التتار الصاخبين.

ولطالما حدث في تاريخ أمتنا النبيلة أن أغار عليها برابرة الشمال فاستعبدوها لأمرائهم الصغار، فلم ينتصر عليهم أحد قط كنصرتك المؤزرة يا صاحب الجلالة، ولكنه مجد لم تقو ذريتك على حفظه، وأمانة عهدوا بها إلى أناس أساءوا الرأي ونظروا إلى أمد قريب، فأطمعوا فيهم همج التتار من المشرق ومهدوا لهم أسباب القوة والجرأة، فما عتموا أن تمرد المتمردون هنا وثم حتى انقضوا على مدينتك المقدسة فأخذوها، ثم انحدروا من قمتهم الخسيسة إلى أرجاء هذه التربة الطاهرة فدنسوا أنهارها وأوديتها وأعملوا في الرقاب فأس الجلاد وسيف الفاتك المنتقم.

ونشط الأكرمون الغيورون من رعاياك فاجتازوا الجبال إلى كانتون والجنوب الأقصى، وساورهم الرجاء أن ينقذوا بقايا التراث فلا يطبق عليه الخراب، وتتابعت الضحايا وهلك من هلك راضيا في هذا الجهاد، فلم يسكن غضب السماء ولم تنفع حيلة أبناء الفناء، وكأنما هي صفحة محزنة ضمت إلى سجل سيرتك يا صاحب الجلالة، ولا شيء!

واشتدت وطأة الشريعة الواغلة وضاقت شباكها، فيا للحسرة المرة على أمتنا المسكينة وهي قابعة في الأركان تصغي ولا تنطق ولا ينطلق لها لسان، وكأنما ألصقت ألسنتهم بالغراء بين أفواههم حيث سدت أمامهم أبواب الفرج والنجاة.

وراح الآخرون يسبغون صفات الزيف على المكارم الباطلة والأمان الكاذب، ومن ورائها حكمة تداس وآداب تهدر ووصايا تبتذل، ودعواهم أنهم يوقرون حكماءها المقدسين وأئمتها الملهمين.

كظموا أنفاس الناس ليكرهوهم على الطاعة، وغلبت السيطرة المانشوية بالغيلة والحيلة فلم يعسر عليهم أن يبسطوا بأسهم ويطلبوه ثم انفجرت الثورة على الرغم من كل هذا الطغيان، وتعاقب الثوار في كل مكان ... وآل أمرها نعم إلى الهزيمة، ولكنها أعلنت صوت الأمة وكشفت عن مشيئتها فتسايرت بها الركبان.

ثم لاحت أشعة فجرنا، وآذنت شمسنا بالطلوع، وبث نفحات الحياة في أمة الصين أنها تعارفت على حقوقها وأحست كرامتها، وخارت قوى المانشويين أنفسهم فلم يقدروا على حماية حوزتهم، وزحف العداة الأقوياء على الأرض فنزل المانشويون عن خيراتها ليشبعوا مطامع جيرانها. ولئن كان أبناء الصين اليوم في نكسة لقد كانوا منذ القدم سلالة الأبطال الأشداء، فكيف بهم يصبرون على أرواح عظمائهم الذاهبين أن تلقى هذا الهوان وتنصب عليها سياط البلاء!

يومئذ هب حماة الوطن كالعاصفة أو كالسحابة التي تبرز فجاءة في أفق السماء، فاستهلت من كانتون ثم روعت بكين بقذيفة وويوية،

2

وانطلقت رصاصة هسوهسلين إلى أحشاء طاغية المانشو قبل عام، ورفع هسونج شنج لي علم الحرية على نهر اليانجزي، فتعاقبت الوثبة بعد الوثبة خلال الديار، وعلم وصي العرش بما أعده له المجاهدون خفية فكشفت الثورة عن نفسها في كانتون، وارتاعت العاصمة فنكلت بطائفة بعد طائفة، وتقدم إلى مكانهم صف بعد صف، حتى انجلت الغاشية عن دولة جديدة وسلطان جديد ... ... قيل قديما: إن طغيان البرابرة على بلادنا لم يكتب له قط أن يطول بعد مائة عام، ولكن هؤلاء المانشويين قد طال بهم الزمن مائتين وثلاث مئات، وعلم القضاء بالساعة الموعودة وإنها في النهاية آتية لا ريب فيها. وها نحن أولاء نفتتح في آسيا الشرقية تجربة الحكومة الجمهورية، وما زال العاملون من قديم موعودين بالنجاح القريب أو البعيد، وما من ريب في عقبى الصالحين بعد حين، فما لنا نجزع اليوم وقد طال انتظار النصر المبين؟

وسمعنا كثيرا بالذين صعدوا إلى هذه القمة العليا يستلهمون وحيها عسى أن تساعدهم على الخلاص، ولطالما ذرفوا الدمع السخين كلما نظروا إلى ما تحتهم من الأنهار والأودية فرأوها جاثية تحت أقدام الأجنبي الغريب، فاليوم يتبدلون بالحزن سرورا ويطوون صدورهم على الغبطة بعد القنوط.

لقد ثابت إلينا نفحة الروح من ضريحك في نانكين، وها هو ذا التنين رابض في جلاله القديم، وها هو النمر يجيل بصره في ملكه المعهود، وكل ما حوله ساكن قرير.

إن جنودك قائمون صفا صفا على مقربة من الضريح، وإنهم لينصتون ويترقبون، وها هو ذا شعبك يحج إليك ليرفع إليك أنباء نصره، وعلى مثواك حيث يستقر رفاتك الأقدس بريق جديد من نور المجد والبهاء، جعله الله هاديا لذريتك فيما يلي من أيامها، وسلام أيها الروح ... تقبل منا هذا القربان. (13) عوارض الانحلال من خطابه لأول جماعة ألفها لإنقاذ الصين سنة 1894

إن الأمور تسير في الصين على ضلال: فضائلنا الموروثة وآدابنا العتيقة تفسد كل يوم، وجيراننا الأقوياء ينظرون إلينا من عل ويحتقروننا لاختلاف أهوائنا وتفرق قلوبنا، وأبناء قومنا واثبون على مطامع الأنانية والمغانم العاجلة، غافلون عن حالتهم في جملتها، لا يخطر لهم على بال أن الصين إذا تمزقت بين الأقوام الأخرى شب أولادهم وأحفادهم عبيدا مسخرين وضاعت أسراتهم بلا وزر ولا حماية. ما كانت الأثرة قط أشد إمعانا في الأثرة، وما تبلبلت المقاصد قط كما تبلبلت اليوم في الأمة بأسرها، فكيف النجاة إذن من الكارثة؟ إننا إن لم نثبت لنتساند وننهض بأنفسنا قبل فوات الحين فهذه الألوف من السنين التي سلفت لنا في السمعة والحضارة، وهذه الأجيال التي تعاقبت على السنن المأثورة ذاهبة لا محالة، صائرة إلى الدمار لا مراء، من المسئول عن هذا المصير؟ من عساه أن يكون غير الصالحين العارفين بهذا المصير؟ (14) لا أمل في الرجعية من كلامه عن الحل الصحيح (سنة 1904)

منذ فتنة الملاكمين (البوكسر) تخيل الكثيرون أن حكومة المانشو أخذت تلمح علامات الزمن وتصلح من شأنها لتحسين أحوال البلاد، واغتروا بمنشوراتها ومراسيمها التي تذاع من حين إلى حين وفاتهم أنها حروف ميتة لا يراد بها غير تهدئة النفوس الثائرة، وأن إخلاص المانشو في نية الإصلاح مستحيل؛ لأن الإصلاح يقضي عليها ويستوعبها في بنية الأمة فتخسر كل ما في يديها الآن من الحقوق والمزايا، وأن أحلك الجوانب من حكومة المانشو لخليق أن ينكشف بعد اليوم حين تبدو صحائف الدواوين وأسرارها في الضياء، فإن أصحاب هذه الدواوين المتجرة المتعفنة تعرف كيف تزدلف إلى أسرة المانشو وترشوها لتبقى في مكانها وتنعم بتجارة الغش والاختلاس. (15) من دستور الكومنتانج

كل شخص راغب في العمل بمبادئ الحزب، والسعي في تنفيذ قراراته، مستعد لإطاعة أصوله وتعليماته، يجوز أن ينتظم في عضويته بناء على طلبه وموافقة الحزب، بغير تمييز بين الجنسين.

ويشتمل الحزب على طائفتين من الأعضاء: طائفة الأعضاء المثبتين، وهي تتألف من كل شخص جاوز العشرين ومضى عليه سنة على الأقل عضوا تحضيريا في الحزب، بعد تزكيته من لجنة التنظيم وامتحانه أمام اللجنة التنفيذية، ومراجعة اللجنة المركزية في البلد أو الجهة المختصة، وتصديق اللجنة المركزية في الإقليم.

وطائفة الأعضاء التحضيريين، وهي تتألف من كل شخص جاوز ست عشرة سنة يقدم طلبه وفقا للإجراءات المقررة، ويزكيه عضوان مثبتان تقبل تزكيتهما في اجتماع عام للجنة التنظيم، ويجري امتحانه أمام اللجنة التنفيذية.

والأعضاء المثبتون لهم حق إبداء الرأي والاقتراع والاشتراك في انتخاب ذوي المراكز الإدارية في الحزب، كما يحق لهم أن ينتخبوا لتلك المراكز. والأعضاء التحضيريون لهم حق إبداء الرأي.

وعلى كل عضو في الحزب مراعاة النظام الآتي: (أ)

إطاعة دستور الحزب وتعليماته وقبول مبادئه. (ب)

مناقشة المسائل بحرية تامة، إلى أن يصدر الحزب قرارا فيها فيجب في هذه الحالة تسليمه بغير خلاف. (ج)

المحافظة على أسرار الحزب. (د)

ألا يهاجم عضوا في الحزب أو هيئة من هيئاته خارج مؤسساته. (ه)

ألا يشترك في هيئة سياسية أخرى. (و)

ألا يشترك في تأليف هيئة منشقة داخل مؤسساته.

وللحزب رسالة تاريخية يؤديها ، وهي السعي في الوحدة والاستقلال وسلام الوطن، وكلها تتوقف على نتائج جهاده، كما تتوقف نتائج جهاده على اتباع النظام التام فيه، وعلى الأعضاء أن يستقصوا غاية جهدهم لإنجاز هذه الرسالة.

كل منظمة حزبية تشمل موقعا من المواقع لها حق الإشراف على المنظمات في أجزاء ذلك الموقع.

وجميع المنظمات تدين بالولاء لجماعة الحزب القومية ولغيرها من الجماعات والوكلاء والمؤتمرات الذين يمثلون موقعا تنتمي إليه، وتشترك المؤتمرات المحلية والوكلاء المحليون في انتخاب الهيئة التنفيذية التي تباشر أعمال الحزب.

والهيئة العليا للحزب هي جماعة الوكلاء القومية التي تجتمع في الأحوال العادية مرة كل سنتين، وتدعى للاجتماع في الأحوال الاستثنائية كلما رأت اللجنة التنفيذية المركزية ضرورة لذلك، أو كلما اتفقت على ضرورة اجتماعها كثرة اللجان الإقليمية واللجان التي في طبقتها، وتتولى اللجنة التنفيذية المركزية وضع الإجراءات الخاصة بتنظيم أعمال الجماعة وانتخاب وكلائها ونسبة النيابة فيها.

وتناط الواجبات التالية باللجنة التنفيذية المركزية: (أ)

تمثيل الحزب في علاقاته الخارجية. (ب)

تنفيذ قرارات الجماعة القومية. (ج)

تنظيم وإدارة الهيئات الحزبية التابعة. (د)

تنظيم إدارات اللجنة التنفيذية. (ه)

الإشراف على مالية الحزب وأمانة صندوقه. (16) نشيد الحزب: سان مين شو آي

هدف جماعتنا

نوطد أركان الجمهورية

ونعقد أواصر الأخوة العامة

تقدموا يا رفاق

يا طليعة الأمة

لا وهن ولا مهل

بل جهاد متصل في سبيل مبادئنا

ثابروا على الهمة، واثبتوا على الأقدام

ثابروا على الصدق، واثبتوا على الولاء

وبقلب واحد، وبرأس واحد

سيروا إلى النهاية (17) الوصية

منذ أربعين سنة وقفت نفسي لقضية الثورة القومية التي تتكفل للصين بمركز بين الأمم على أساس الاستقلال والمساواة، وقد أقنعتني جملة تجاربي في هذه السنين بأن بلوغ هذا المقصد رهين بإيقاظ الجماهير من أبناء أمتنا والتعاون مع كل أمة من أمم العالم تعاملنا على سنة المساواة في الكفاح المشترك بيننا.

ولم تتحقق الثورة بعد، فلينظر زملائي جميعا فيما دونته عن خطط التعمير القومي والقواعد الأساسية التي يقوم عليها ذلك التعمير، وفي البلاغ الذي صدر من مؤتمر الحزب الأول، وليعملوا بلا وناء لتحقيق جميع هذه الغايات، وينبغي قبل كل شيء عقد مؤتمر قومي وإلغاء جميع المعاهدات المجحفة كما بينت أخيرا، وأن يتم ذلك بأقل ما في الطاقة من التأخير.

هذه وصيتي، وهذه رسالتي. (18) الكلمة الأخيرة

انتهينا من هذه الصفحات إلى التعريف ببطل من أعظم أبطال الشرق في العصر الحديث، ولا نهاية لسيرة هذا البطل إذا أردنا أن نستقصي آثارها بعد حياة صاحبها، ولكننا نستطيع أن نجتزئ من السيرة بالقدر الذي انتهينا إليه، فإن التعريف ببطولة الرجل لا يتوقف على الإحاطة بما حدث بعده، فهي بقية متجددة لا نهاية لها من الزمان.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن تاريخ الصين الحديث لا ينفصل بعد اليوم عن تاريخ سن ياتسن، وما كان المشيعون له من قادة الصين مبالغين؛ إذ قالوا: إنه أحد رجلين لم تعرف بلادهم اسما أقدس من اسميهما ولا عملا أخلد من عمليهما، وهما كنفشيوس في التاريخ القديم، وسن ياتسن في التاريخ الحديث.

ولم يشيعه أهل الصين تشييع زعيم من زعماء السياسة في عصر ينقضي بانقضاء جيله، بل شيعوه تشييع الخالدين، وشادوا له ضريحا

3

أعظم من ضريح كعبتهم الوطنية في نانكين؛ وهو ضريح عميد آل «منج» الذي حج إليه سن ياتسن بعد إعلان الجمهورية يشهده على أمانة الوطن لعهد الأسلاف والأعقاب.

ومن عادة أهل الصين أن يدلوا على تعظيمهم للدفين بتعظيمهم لنعشه، فلما نقل رفات الدفين المحبوب إلى ضريح نانكين - بعد إعداده في خمس سنوات - تقسم أجزاء النعش مائة وخمسون من أقوياء الجنود، وحملته السفينة الحربية إلى ميناء نانكين، ثم أبى مشيعوه من علية القوم إلا أن يترجلوا طول الطريق، والقيظ في أشد أيامه، ومن المرسى إلى أكمة الضريح خمسة أميال.

ودخلت ذكرى «الأب الكبير» في عداد الصلوات والعبادات، فخصصت لذكراه ساعة من صباح الإثنين في كل أسبوع، ينحني الحاضرون فيها ثلاثا أمام صورته، رمزا إلى مبادئه الثلاثة، ويرتلون نشيد الصين الوطني ويستمعون إلى وصيته ويصمتون دقائق دقائق ثلاثا في خشوع وسكون، ثم ينصرفون.

ولما ظهر بعد وفاته أول دليل من أدلة الأعلام والمشاهير ، لم يكن اسم سن ياتسن بين أسمائه، فأوشكت أن تكون فتنة وأن يهجم الشبان الغاضبون على دار الدليل سخطا على المكتب الموكل بجمعه، فما ينبغي أن يحذف اسم الزعيم الخالد من سجل الأحياء، وهو واهب الحياة للصين جمعاء.

وقد استحق الرجل ولا ريب هذا الوفاء من قومه، فإنه قد نسي نفسه ليذكرهم، ونسي - وهو الطبيب - أنه مريض محطم الجسد ليصحح أبدانهم ونفوسهم، وفارق الدنيا وليس له من ميراث غير مكتبته ومسكنه، ومعه ميراث آخر هو الذي استحق به ذلك الوفاء، وهو ميراث أربعمائة مليون عمل لهم ما لم يكونوا قادرين على عمله لأنفسهم، وقلما يساويه ميراث عظيم من عظماء الأوطان.

وآية العظمة في موازين الإنصاف أن يعمل الإنسان عملا لم يقدر عليه الملايين من قبله.

ليست آية العظمة أن يعمل كل شيء، ولا أن يعمل كل ما أراد، ولو قيست عظمة الأبطال الأفذاذ بمقياس كهذا المقياس لما بقي في التاريخ عظيم واحد، فما من بطل يعفي الناس من العمل بعده، وما من بطل ولا غير بطل حقق أمنيته كلها في حياته، وإنما البطولة أن ينهض فرد بأعباء الألوف، وأن ينسى نفسه ليذكر الناسين وينبه الغافلين، وبهذا المقياس يرتقي سن ياتسن إلى الذروة العليا بين أبطال الوطنية وأبطال الإنسانية، ويستحق حقه من أمته وغير أمته، وقد يكون حقه من أمته متصلا بالمنفعة والأثرة، أما حقه من غيرها فهو حق الأمانة لنفسه ولأبناء نوعه، ما دامت الثقة بالطبيعة الإنسانية شيئا يعنيه.

وهذه الثقة - في رأينا - هي أنفس ما نقتنيه من تراجم العظماء، فكل تراجم العظماء عبث إذا كانت خلاصتهم أن العظماء ليسوا بعظماء، وأننا نترجم لهم لنفضح عيوبهم ونقائصهم ونخرج منها بعزاء واحد لا يغتبط به محب لأبناء نوعه، وهو عزاء الخسة بتلويث كل عظيم.

قال لي فتى ممن يسمون أنفسهم بالنقدة الممحصين: إنك تكتب عن العظماء قصائد الثناء، يعني أنني أحفل بجوانب عظمتهم ولا أحفل بما فيهم من العيب والنقيصة.

ويصح ما قاله الفتى لو أنني أثني على العظماء لخصلة ليست فيهم ، أو أثني عليهم ولا أبين دواعي الثناء في أخلاقهم وأفعالهم، ولكنني أعود فأقول على فرض صحته: إنني أؤثر أن تكون تراجم العظماء قصائد ثناء، على أن تكون قصائد هجاء بافتراء أو بغير افتراء.

وفي هذه السيرة بذاتها أنكر أسلوب الترجمة للتعظيم ودفع الملام لو أن قارئا من قرائها يخرج منها وهو يرى أن سن ياتسن معظم لغير سبب، ومعذور بغير عذر، وموصوف بالخلائق أو المناقب التي لا تميزه من غيره، ولا تفرده بملامحه بين خدام الأوطان خاصة في كل أمة وملة. فإن كان القارئ لا يرى هذا ويرى على نقيض هذا أن صاحب السيرة موصوف للتعريف به والتمييز بينه وبين أمثاله، فليسم السيرة إن شاء قصيدة ثناء.

هي قصيدة ثناء، وكل ما نكتبه عن العظماء هو على هذا الأسلوب قصائد ثناء.

Halaman tidak diketahui