ونهض قائما فصافح السيد مودعا ثم غادر الحجرة يتقدمه كمال، وصعدا معا إلى الدور الأعلى حيث استقرا في حجرة المكتب. وجعل فؤاد يتصفح الكتب المصفوفة على الأرفف باسما ثم تساءل: ألا أستطيع أن أستعير منك كتابا.
فقال كمال وهو يداري عدم ارتياحه: بكل سرور، ماذا تقرأ عادة في أوقات فراغك؟ - عندي دواوين شوقي وحافظ ومطران، وبعض كتب الجاحظ والمعري، وأحب بصفة خاصة «أدب الدنيا والدين»، إلى مؤلفات كتابنا المعاصرين، هذا إلى بعض مؤلفات ديكنز وكونان دويل، ولكن انكبابي على القانون يلتهم أكثر وقتي ..
ثم نهض فجال جولة استعراضية بين الكتب قارئا عناوينها ثم عاد وهو ينفخ قائلا: مكتبة فلسفية قحة، لا ناقة لي فيها ولا جمل، إني أقرأ مجلة الفكر التي تكتب فيها، وأتابع مقالاتك التي تظهر تباعا منذ سنوات، لا أزعم أني قرأتها جميعا، أو أني أذكر منها شيئا، إن المقالة الفلسفية أثقل ما يقرأ، ووكيل النيابة رجل مرهق بالعمل، لماذا لا تكتب في الموضوعات الجذابة؟
طالما سمع بأذنه نعي مجهوده، ولكنه لم يحزن لذلك كثيرا كأنما اعتاده، إن الشك يلتهم فيما يلتهم الحزن نفسه، والشهرة ما هي؟ والجاذبية ما هي؟ ولكن مما يسره حقا ألا يجد فيه فؤاد تزجية الأوقات فراغه - وسأله: ماذا تعني بالموضوعات الجذابة؟ - الأدب مثلا. - قرأت لطائف منه مذ كنا معا ولكنني لست أديبا ..
فضحك فؤاد قائلا: إذن ابق في الفلسفة وحدك، ألست فيلسوفا؟
ألست فيلسوفا؟! عبارة مطبوعة في أعماقه، ارتجف من هول وقعها قلبه، هكذا هي مذ ألقيت عليه في شارع السرايات من ثغر عايدة! ولكي يداري جيشة صدره ضحك ضحكة عالية، ثم ذكر الأيام التي كان فؤاد يتودده ويتبعه كظله، ها هو الآن يطالعه رجلا خطيرا جديرا بالتودد والولاء! ماذا جنيت من حياتي؟ وكان فؤاد يتفحص شارب صاحبه ثم ضحك فجأة قائلا: ولو! ..
فتساءل كمال بعينيه عن معنى هذا فعاد الآخر يقول: كلانا يجري نحو الثلاثين دون أن يتزوج، جيلنا مكتظ بالعزاب، جيل الأزمة، أما زلت عند رأيك؟ - لا أتزحزح .. - لا أدري لم أعتقد بأنك لن تتزوج أبدا. - أنت بعيد النظر طول عمرك ..
فقال وهو يبتسم ابتسامة رقيقة كأنما ليعتذر بها سلفا عما سيقول: أنت رجل أناني، تأبى إلا أن تستأثر بكل حياتك لنفسك، يا أخي لقد تزوج النبي ولم يمنعه ذلك من ممارسة حياته الروحية العظيمة ..
ثم مستدركا وهو يضحك: لا تؤاخذني على ضرب المثل بالنبي، كدت أنسى أنك .. ولكن مهلا، إنك لم تعد الملحد القديم ، أنت الآن تشك حتى في الإلحاد، وهذه خطوة كسب للإيمان ..
فقال كمال بهدوء: دعنا من التفلسف فإنك لا تحبه وخبرني لم لم تتزوج أنت ما دام هذا هو رأيك في العزوبة؟
Halaman tidak diketahui