ربما استباح لنفسه - عندما يصير قاضيا - أن يبول أمام الرجل المتربع أمامه! أما مدرس ابتدائي فيظل مدرسا ابتدائيا، وحسبه شاربه الغليظ وأطنان الثقافة التي عوجت رأسه.
ونظر السيد أحمد إلى فؤاد باهتمام وهو يسأل: وكيف حال السياسة؟
فقال فؤاد بارتياح: وقعت المعجزة! وقعت المعاهدة في لندن، أصغيت إلى الراديو وهو يعلن استقلال مصر، وانقضاء عهد التحفظات الأربعة فلم أصدق أذني. من كان يصدق هذا؟! - إذن أنت من الراضين على المعاهدة؟
فقال وهو يهز رأسه هزة أصحاب الشأن: في الجملة نعم؛ للمعاهدة أعداء مخلصون وآخرون غير مخلصين .. فإذا تأملنا الظروف التي تحيط بنا، وذكرنا أن شعبنا صبر على عهد صدقي رغم مرارته دون أن يثور عليه. فينبغي أن نعد المعاهدة خطوة موفقة، أزالت التحفظات ومهدت الطريق لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحددت مدة الاحتلال بعد قصره على منطقة معينة، إنها خطوة عظيمة بلا شك.
كان حماس السيد أحمد للمعاهدة أقوى وإحاطته بظروفها أقل، وكان يود لو تجاوب الآخر معه تجاوبا أشد، فلما خاب ظنه قال بعناد: على أي حال ينبغي أن نذكر أن الوفد قد أعاد إلى الأمة دستورها وحقق لها الاستقلال ولو بعد حين ..
وفكر كمال: كان فؤاد دائما «باردا» في الناحية السياسية، ولعله لم يتغير ، ولكنه يبدو مائلا إلى الوفد، أما أنا فطالما كنت مندفعا مع العاطفة، ثم انقلبت لا أومن بشيء، والسياسة نفسها لم تسلم من شكي النهم، ولكن قلبي لا يزال ينبض بالوطنية رغم عقلي.
وعاد فؤاد يقول ضاحكا: إن النيابة في عهود الانقلاب تنكمش إلى الوراء على حين يحتل البوليس المقدمة؛ إذ إن عهود الانقلاب عهود بوليسية، فإذا عاد الوفد إلى الحكم ردت للنيابة مكانتها ولزم البوليس حدوده؛ ففي عهد الحكم الطبيعي يكون القانون هو الكلمة العليا.
فعلق السيد على ذلك قائلا: وهل يمكن أن ننسى عهد صدقي؟! لقد كان الجنود يجمعون الأهالي بالعصي أيام الانتخابات، وكثير من الأعيان من أصدقائنا خربت بيوتهم وأشهروا إفلاسهم ثمنا لثباتهم على مبدأ الوفد، ثم إذا بنا نرى «الشيطان» ضمن هيئة المفاوضات في لباس الوطنيين الأحرار!
فقال فؤاد: كانت الظروف توجب الاتحاد، ولم يكن هذا الاتحاد ليكمل دون أن ينضم إليه الشيطان وأعوانه، والعبرة بالخواتيم.
ولبث فؤاد في حضرة السيد فترة غير يسيرة، احتسى في أثنائها القهوة، وجعل كمال يتفحصه بعناية فانتبه إلى بذلته الحريرية البيضاء الأنيقة، والوردة الحمراء التي تزين عروتها، وإلى الشخصية القوية التي أضفتها عليه الوظيفة، فشعر في أعماقه بأنه سيسر - رغم كل شيء - إذا طلب هذا الشاب يد بنت أخته، غير أن فؤاد لم يطرق هذا الموضوع، وبدا عليه أنه يرغب في الذهاب، وما لبث أن قال للسيد: آن وقت ذهابك إلى الدكان، سأمكث بقية الوقت مع كمال، وسوف أزور حضرتك قبل سفري إلى الإسكندرية؛ إذ إنني قررت أن أقضي بقية أغسطس وبعض سبتمبر في المصيف.
Halaman tidak diketahui