إن أول نقطة دم يراق لأجل دين أو عقيدة تستحيل زاوية عظمى في هيكلها الخالد، فنقطة دم من مؤمن بوطنه توطد بنيان ذلك الوطن فتصيره أمنع من الباطون المسلح، وهي أعظم دفاعا عنه من الطائرات والغواصات والدبابات والقنابل من ذرية وغير ذرية، فالحق للإيمان لا للقوة.
فما حيلة الأوطان إذن في خلق المؤمنين؟ إن الإيمان الأسمى لا يعلم كيف يجيء ولا كيف يذهب، أما الإيمان الوطني فطبيعي من البشر، يولد المرء ويولد معه حب الحرية. تأمل الطفل كيف ينازع الأقمطة، ثم كم يقع ويقوم في سبيل الانطلاق، ولا يفتأ يجاهد حتى يدرك غاية مشبوبة في كيانه، لا يطل من باب قفصه على دنياه الصغرى حتى ينشأ العراك بينه وبين أمه، يريد أن يسرح ويمرح في وطنه الأصغر وتأبى الأم عليه ذلك، فيظل يناضل لأجل حريته الأولى حتى يدركها.
ليس الوطن إلا بيت الإنسان الكبير، وكما يأبى الإنسان أن تمس قدسية بيته الصغير كذلك يبذل نفسه بسخاء ليصون بيته الأكبر، وعن حب الرجل مسقط رأسه نشأ حب الاستقلال في وطنه مهما صغر، فلا تقل لوطني مؤمن: وما هو وطنك يا هذا؟ إن استخفافك بوطنه كاستخفافك بذاته، وقد يسكت عن هذا الأمر ولا يسكت عن ذاك.
إن وطننا محتاج إلى مؤمنين، إلى أنصار ومجاهدين. وإن قلت لي: لا تتشاءم، أجبك: صدقت كلنا مؤمنون، ولكن الأوطان كالأديان تحتاج إلى تعاليم، فأين تكون هذه التعاليم يا صاحبي؟ في المساجد والهياكل يناجي المؤمن ربه، ويتذاكر مع إخوانه تعاليم دينه، فما هذا الذي نسميه صلاة إلا صلة بين المؤمن وربه، فأين هي إذن هياكل الوطن؟
هي المدارس يا صاحبي، سمعت وتسمع بمدرسة تحت السنديانة، هي مثل يضرب للاستخفاف، ولكني أؤكد لك أن لمدرسة تحت السنديانة أكبر أثر في نفس المواطن اللبناني، وإن أنكر ذلك أحدنا فدمه يصرخ مكذبا إياه، وضميره يبكته لأنه عق هواء نقيا ملأ رئتيه، ووحيا من طورها هبط عليه؛ فالمدرسة إذن مهما صغرت هي هيكل الوطن المقدس، وبخاصة في عهدنا الحاضر، العهد الذي صهرنا جميعا في بوتقة ليجعل من كل واحد منا مواطنا عامرا قلبه بالإيمان.
قال بسمرك: غلبنا فرنسا بمعلم المدرسة. فلننهض إذن، ولنعلم أن المدرسة هي المعمل الذي يصنع فيه المؤمنون بهذا الوطن، المدرسة هي التي تكون لنا رجالا من طراز الشاعر القائل:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
لسنا نطالب أولياء الأمر أن يقولوا للمدارس والمعلمين كونوا فيكونوا، فلا بد لهذا من وقت، ولكن تفتح العيون على المدارس لتتطور وتماشي الوطن الناشئ فرض واجب.
إن وزارة التربية دعامة كيان الوطن؛ فمنهج موفق يدرب للبلاد جيشا معنويا يتجسد كلمة حين تدعو الحاجة إليه. ولكن مقدمة «المنهاج اللبناني» العتيد لا تنطبق على ما فيه من ثرثرة ... فرب كلمة في كتاب تفتك في عقول أبنائنا فتك مكروب الأمراض السارية!
Halaman tidak diketahui