فقابلت الجنود كلماته هذه المرة بالتهليل والهتاف، وبينما هو يضع ثيابه إذ اقترب منه المتمردون الذين أمر بضربهم أقبلوا يزحفون على الأرض ليقبلوا قدميه، ويسألوه العفو والسماح فصفح عنهم.
ولما أتم سوفاروف وضع ملابسه وتقلد ثانيا وساماته وشاراته اعتلى صهوة جواده. وسار يتبعه الجيش وقد آلت الجنود على نفسها أن تكافح حتى تموت دون أن تترك أباها المحبوب.
الفصل الخامس
تقدم سوفاروف وجيوشه غازيا مدينة إيرولو، وكأن السعد الذي كان ملازما له في سهول إيتاليا رأى الطريق شاقة عليه ففارقه على جبال سويسرا؛ إذ لبث 3 آلاف من فرسان الروسيين يقاومون 600 من الفرنساويين تحت أسوار المدينة المذكورة، فلم يتمكنوا من الظهور عليهم وهاجمهم الليل على غير طائل، ولما أشرق الصباح سير سوفاروف جموعه كلها لاستخلاص المدينة من قبضة هؤلاء الأبطال، ولكن قاومته عناصر الطبيعة فاسود وجه السماء وأرسلت إليه الرياح مطرا من البرد رفيعا كالحصى يدمي الوجوه، فاغتنم الفرنساويون الفرصة فأخلوا المدينة أمام هذه القوى العديدة، وذهبوا ليلجئوا إلى مكان حصين، فاحتلوا أعالي هضبات الفركة وجرسمال، وتم بذلك الانسحاب استيلاء الروسيين على جبل سان جوتار.
وقد علم سوفاروف أن المكان ليس بأمين؛ فلا يكاد يبرحه حتى يحتله أعداؤه، ولكنه رجل تعود الإقدام، والإقدام يستلزم التقدم، فترك - غير مبال - جبل سان جوتار وسار فافتتح أندرمات، واخترق مضيق الأوري، حتى إذا وصل إلى مضايق «كبري الشيطان» وجد عندها ألفا وخمسمائة من الفرنساويين تحت قيادة لكورب تعترض المجاز، فاشتبك القتال بين الفريقين، ولحصانة مركز الفرنساويين تمكنوا وهم ألف وخمسمائة من صد الروسيين وهم ثلاثون ألفا ثلاثة أيام متواليات، فزمجر سوفاروف وأرعد، وسخط على الأيام ورماها بنقض الزمام، وفي اليوم الرابع من هذا الموقف الحرج أتاه نبأ زاد الطين بلة؛ إذ علم أن أحد قواده - وهو الجنرال كورساكوف، وكان أرسله أمامه ليلحقه بعد قليل - قد هزمته جيوش موليتور الفرنساوي، فاضطر سوفاروف أن يغير خطته ويسرع لنجدة كورساكوف، فأرسل إليه كتابا يقول فيه:
أنا طائر لإصلاح غلطاتك، فاثبت مكانك وقاوم مقاومة الجبال التي لا تتزعزع، وإن رأسك رهين كل خطوة ترجعها إلى الوراء.
ثم أرسل إلى باقي قواده المتفرقين يأمرهم بأن يوافوه في وادي جلاريس، حيث عزم على حصر موليتور فيه بين نارين.
وكان سوفاروف مطمئنا لتلك الخطة واضعا فيها كل آماله وعلى يقين من نجاحها، فلما وصل إلى هضبات كلون تال المشرفة على وادي جلاريس أنفذ رسولا إلى موليتور يدعوه للتسليم، قائلا له أن لا سبيل إلى الدفاع، وقد أحدقت به الجيوش من كل جانب، فأرسل إليه موليتور يخبره أن قواده أخلفوا الميعاد، ولن يوافوه في الملتقى المعهود؛ لأنه حطم جيوشهم الأول بعد الآخر، ويزيده علما بأن رفيقه مسينا الفرنساوي آت عما قريب عن طريق موتو فيصبح (أي سوفاروف) في الموقف الذي ظن أن يجده فيه بين نارين كما يقول، فهو ينصحه الآن بوجوب التسليم.
ولما بلغ سوفاروف هذا الجواب اعترته الدهشة، وأدرك خطارة الموقف الذي أصبح فيه محصورا في تلك المضائق والهضبات، فاندفع على موليتور مهاجما، فقابله هذا بثبات عجيب، ولبث طول يومه حافظا مركزه بألف ومائتين من الفرنساويين ضد 15 أو 18 ألفا من الروسيين. ولما أقبل الليل ترك موليتور هضبات الكلون تال، وذهب ليحمي قنطرتي نوفلس وموليس، فتبعه سوفاروف، حتى إذا بلغت جيوشه سهول جلاريس علم ما لحق بقواده من الدمار، وتأكد صدق نبوة موليتور، وأيقن أنه سيصبح عما قريب في الموقف الذي كان يؤمل أن يسوق موليتور إليه، فلم يبق لسوفاروف أمل إلا في الخلاص؛ فأسرع بجنوده يجتاز المفاوز والمضايق تاركا جرحاه وجزءا من بطارياته. فلما رآه الفرنساويون يلتمس سبيل النجاة أسرعوا في اللحاق به؛ فاشتبكت بين الفريقين عدة وقائع طورا في الأخوار والمضايق، وطورا على الهضبات وفوق القمم الشامخات، فكان منظرا رهيبا، ويوما عصيبا، ثلاثة جيوش مختلفة الأجناس - من فرنساويين وروسيين ونمساويين - تجتاز طرقا لم تسلكها الغزلان لوعورتها، ولم تطأها قدم إنسان لوحشتها، تؤم مجاوز السحاب ومساكن النسور، كأنها تستشهد السماء على ما يأتيه ابن آدم من فظائع الأمور، حتى أزعجت الطيور في مكامنها وأقلعت الوحوش في مساكنها، وبدلت برد الثلوج نارا، وصبغت مياه السيول احمرارا، وأرسلت من قمم هذه الجبال الشامخة جثث القتلى إلى جوف الأخوار والوديان، وحصد الموت النفوس، واستولى سلطانه في تلك الأصقاع القفرة التي لم تألفها الحياة، حتى شبعت النسور والعقبان من لحم الإنسان، ولم تزل سكان البلاد المجاورة تروي فيما ترويه من خرافاتها أن الطيور، لكثرة الغنيمة ووفرة الفريسة، كانت تعاف الجثث فلا تحمل إلى صغارها إلا عيون القتلى غذاء وقوتا.
ولما اجتاز سوفاروف هذه الجبال، وجمع حوله جنوده وقواده على مقربة من لندو، أحصى ما بقي من جيشه فإذا به ثلاثون ألفا من المائة ألف التي سلمه القيصر قيادتها، فكأن به قد خسر من جنوده ضعف جيوش الفرنساويين الذين كادوا له هذا الكيد وأبلوا فيه هذا البلاء، فعظم عليه الأمر ونسب ما أصابه من الفشل إلى النمساويين الذين تحت إمرته، وصمم على ألا يأتي عملا حتى تأتيه أوامر القيصر، فكتب إليه يبلغه حال الجيش، ويعلمه بخيانة الجيوش المتحدة، فأتاه جواب القيصر يأمره أن يسلك بجنوده طريق الروسيا، وأن يسبقها هو إلى سان بطرسبرج، حيث أعد لاستقباله احتفال فخيم، وهيئ قصر قيصري لنزوله به، ويبلغه أن سيرفع له تمثال في أحد ميادين سان بطرسبرج العمومية تذكارا لأعماله الجليلة.
Halaman tidak diketahui