وشاع خبر الإياب إلى الأوطان بين الجنود الروسية، فأبرقت أسرتها بشرا ورقصت قلوبها فرحا، وكان أجزلها بلا شك قلب فيدور ، كيف لا وقد آن له أن يلتقي بمالكة فؤاده فاننكا التي لأجلها خاض معامع الحروب، واستقبل كرات المدافع دافعا نفسه أيان وجد خطرا؛ طمعا في الشهرة وإحرازا للمجد، فكم شهدت له سهول إيتاليا من آيات في الشجاعة بينات، وحفظت له جبال سويسرا دلائل في الإقدام مدهشات، حتى اكتسب محبة سوفاروف واحترامه، وهو رجل لا تخطب مودته بالمهر القليل، وأصبح جديرا مع هذه المكانة برعاية الجنرال شرميلوف، وبمحبة ابنته أيضا إن أسعده الدهر.
لنرجع إلى سوفاروف، فإنه ما كاد يصل إلى ريجا من أعمال روسيا حتى أتاه كتاب من مشير القيصر الخصوصي يبلغه فيه عن لسان القيصر أنه علم أن الجنود مالت إلى الثورة في بحر هذه التجريدة، وأنه (أي سوفاروف) بدلا عن أن يؤدبها على العصيان صفح عنها وتجاوز عن زلاتها، وفي ذلك مخالفة لأقدس القوانين العسكرية، فالقيصر يمنعه ما وعده به من المنح والامتيازات ويحرم عليه أن يتمثل لديه.
وكان القيصر بول الأول هوائيا لا يستقر على رأي، فلم يدر سوفاروف ما الموجب لهذه النقمة بعد هذه النعمة، وزادت جراحه وتضاعفت آلامه وتكدر عليه صفو أيامه بعد أن كادت تنقشع غياهب أكداره، فجمع ضباط جيشه وقواده حوله في ساحة مدينة ريجا، وقام يودعهم باكيا كأب يودع أولاده وقد قدر عليه أن يفارقهم إلى الأبد، فودعته الجنود باكية، فعانق سوفاروف القواد العظام، وصافح باقي الضباط، وودع الجيش وداعه الأخير، ثم صعد في عربته قاصدا العاصمة واصلا سير الليل بالنهار لسرعة الوصول إليها، فدخلها متخفيا بعد أن كان من نصيبه أن يدخلها ظافرا منصورا، وقصد أحد أخطاطها القصية، حيث أم منزلا لإحدى بنات أخيه، فانزوى فيه، ولم يمض على وصوله خمسة عشر يوما حتى أسلم الروح منصدع الفؤاد، وكانت تلك خاتمة هذا الرجل العظيم، وهي أشبه بخاتمة كل من عمل على خدمة بلاده، سنة الدهر في عظمائه، فيا لعبر الدهر وعظات الزمان.
الفصل السادس
آب فيدور إلى بطرسبرج كما آب إليها سوفاروف لم تسبقه بشائر القدوم، ولا استعد لاستقباله صديق، آب ولا أب ينتظر ساعة قدومه، ولا أم حنون تفتح له أحضانها، لكنه امتاز عن سوفاروف إذ آب والأمل ملء قلبه، والحياة باسمة له، والشباب يشجعه، والهوى يدفعه، فلما دخل المدينة ركب عربة، وقصد توا قصر الجنرال شرميلوف، وما كاد يصل إليه حتى قذف بنفسه من العربة، فاجتاز صحن الدار، ورقي درج السلم مثنى وثلاث ورباع، ولما أبصر به حاشية الجنرال ذهلوا لهذه المفاجأة، أما هو فسألهم: أين الجنرال؟ فأشاروا إلى غرفة الطعام حيث الجنرال يتناول الغذاء مع ابنته.
وحينذاك وقف فيدور باهتا فاقد الحركة والإرادة، وأحس كأن ركبتيه قد خانتاه؛ فاستند إلى الحائط؛ كي لا يسقط من الانفعال، ولعمري فالموقف رهيب والساعة هائلة، إذ آن لفيدور أن يرى فاننكا، فتلك التي لم تبرح صورتها لحظة من ذهنه، إذ كانت تتمثل له في معترك الحروب باسمة الثغر؛ فيظن لمعان الأسنة من ضياء تبسمها، فيخوض المعامع بجأش ثابت وجنان قوي تلك التي انحصرت آماله فيها، وشيدت دعائم سعادته على التقرب منها، فظل لا يفكر إلا فيها، ويترقب الساعة التي تجمعه بها، تلك الحبيبة العزيزة صارت على بعض خطى منك يا فيدور، وما هو إلا اجتياز الباب حتى تمتع طرفك في محاسنها، وتروي صدى قلبك المشتاق من رؤيتها، فما بالك أصبحت موثقا لا تقوى على حركة، أفتقدم على المدافع وهي مسددة أفواهها نحو صدرك، وتستقبل كراتها وقنابلها بقلب لا يهاب الموت، وتعجز الآن عن مقابلة فتاة لم تكد تنفتح أمامها أبواب الشباب، ويبتسم لها ربيع الحياة، ويك، أي سلطان قهر إرادتك؟ وأي طلسم أبطل فعل عزيمتك؟
لسلطانك - أيها الحب - تنحني رءوس الجبابرة، وتنصدع قلوب الأبطال، وتلك هي قدرتك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لبث فيدور باهتا، وأنظاره متجهة نحو باب الغرفة التي فيها فاتنة فؤاده، وبينما هو كذلك إذ فتح باب الغرفة فجأة وظهرت منه فاننكا، كأنها خرجت تستخبر عما سمعته من الغوغاء، فلما أبصرت بالفتى صاحت، والتفتت نحو والدها قائلة: أبي هذا فيدور!
ومن سمع لهجتها الممزوجة بالفرح عندما ألقت هذه الكلمات ؛ لا يرتاب برهة في العاطفة التي بعثت إليها، وما كادت كلماتها تطرق آذان الجنرال حتى اندفع خارج الغرفة صائحا: فيدور، فيدور.
ومد يديه نحو الشاب، وكان فيدور على وشك أن يركع لدى فاننكا، فلما رأى الجنرال مادا إليه يديه، قدم واجب الشكر والاحترام على واجب الحب والغرام، فارتمى في أحضان الجنرال، حيث ضمه هذا إلى صدره بشوق وحنان، ثم التفت فيدور نحو فاننكا وجثا على إحدى ركبتيه أمامها كما جثا ساعة أن ودعها، لكن الفتاة عملت على إخفاء عواطفها حفظا لكرامة كبريائها، فاختفى الاحمرار الذي ورد وجنتيها حينا، ورجعت إلى ما كانت عليه من الثبات والسكينة كأنها صنم يمثل الكبر أفرغته يد الطبيعة، وأتمت إتقانه التربية، ثم مدت يدها إلى فيدور فقبلها، ولكنه شعر بها باردة كالجليد ترتعش بين يديه، فخفق قلبه بقوة وكاد يغمى عليه.
Halaman tidak diketahui