وقف عم عمارة الجعفري البواب يلقي نظرة الوداع على القصر الأبيض. فاقت الأحداث تصوره وخياله ولكن طول العمر يهدهد الأحزان ... وراح الرجل يقول: لم يعد له صاحب هذا القصر الهائل، ستجف الأشجار وتذوي الأزهار، وسيجيء الربيع القادم فيجد الأبواب والنوافذ مغلقة والحديقة خرابة، وصاحب القصر ووريثه بين يدي علام الغيوب، من نحن حتى نفهم ما يدور حولنا؟ ولكنا نقول مع القائلين:
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
الربيع القادم
1
إنه يوم عادي، ولكن سرعان ما انقلب فاجتاحته عاصفة هوجاء. وتذكر ربة البيت أن تاريخه يخلو من الهزات العنيفة. مسراته عادية ومتاعبه عادية، وغوصه في عسر المعيشة مضى وئيدا، خطوة بعد خطوة، بلا طفرات، وهون منه بعض الشيء أن الجميع يشاركونه في العناء ويتبادلون الشكوى. إلى ذلك فهي ربة أسرة تحظى بمزايا لا يستهان بها، فالأب ناظر مدرسة ثانوية، وهي كانت مدرسة أولى بالثانوية حتى وقت قريب. واستمرارها في العمل كان مسلما به لولا إصابتها بارتفاع في ضغط الدم، واقتران بخروج خادمتها عنايات فضل الله من خدمتها منذ أشهر للزواج من ابن عمها. وعنايات لبثت في بيتها عشرة أعوام مذ بلغت السابعة عقب وفاة والدها وحتى استردتها أمها، وهكذا حملت جمالات - ربة البيت - الأعباء وحدها وقد تعذر الحصول على خادم إما لندرته أو لارتفاع أجره ارتفاعا غير محتمل. لم يخل بيتها فيما مضى من خادم، أما اليوم فعليها أن تنهض وحدها وأن تلاطف أيضا ما استطاعت ضغط الدم. تستيقظ مبكرة على رنين المنبه لتعد الإفطار لزوجها محمد فتحي ولأبنائها الثلاثة، زغلول (طالب طب) ورمضان (ثانوية عامة) ومحمود (الثانية الثانوية). وعندما يغادرون البيت تعكف على تنظيفه وترتيبه ثم تذهب للتسويق من سوق المنيل غير بعيد من شارع العاصي حيث تقوم عمارتهم، ثم ترجع لتعد الغداء. ويضايقها بصفة خاصة تنظيف الأواني والأوعية وغسل الحمام والمطبخ، ولم تجد ما تستعين به في ذلك سوى قفاز من البلاستيك. ولم يبق من اليوم ما تهبه للقراءة إلا وقت قصير تتصفح فيه الجريدة أو كتابا من المكتبة التي كونتها - هي وزوجها - منذ أيام اليسر. أجل كانت الحياة يسيرة واعدة، وكان ثمة مرتبان ينفقان عليها، ثم أخذ الغلاء يدب ويزحف ويتمطى وينجلي عن وحش لا يرحم، وسرعان ما عجز مرتب الزوج ومعاشها عن ترويضه، فاضطر محمد فتحي إلى إعطاء دروس خصوصية رغم مخالفة ذلك للتقاليد، وودت هي أن تفعل مثله لولا ضيق وقتها بعد ذهاب عنايات. وتوجست خيفة من المستقبل وتساءلت متى يكبح الغلاء وهل يفلت من يدها الزمام؟ وهل يمكن أن تطالب زغلول ورمضان ومحمود بمزيد من التقشف؟! وليس من النادر أن يعرب محمد فتحي عن عذره فيقول: إني رجل بيت مثالي، من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، كل ما يجيئني من نقود أسلمه لك عدا ثمن السجائر والمواصلات ...
ويردف ذلك عادة بتحية يزجيها إليها فيقول: والحمد لله أنك يا جمالات امرأة حكيمة مدبرة، البلد في حاجة إلى وزير مالية في مثل حزمك ودقتك، لا مليم يتبدد هباء في بيتنا.
وإنها لكذلك حقا. وكثيرا ما ترمى بالبخل ولكنها ترفض الصفة قائلة إنه الحرص والحكمة في مواجهة زمان عبوس. ألا يكفي أنها تبدو أكبر من سنها (خمسين عاما)، بل أكبر من زوجها الذي يكبرها في الواقع بخمسة أعوام. لقد ازداد وزنها، فقدت رشاقة عرفت بها أيام الشباب، وخددت التجاعيد جانبي فيها، وحالت نضرة بشرتها، وإنها لتغبط الرجل على صحته وتتهمه - في نفسها - بمداهنة الهموم ومدافعتها ما استطاع عن باله. من ذلك أنها تتابع أبناءها بالملاحظات والنقد، أما هو فيقول: أبناؤنا يسرون الخاطر يا جمالات، لنحمد الله العلي القدير، حياتهم مستقيمة، تفوقهم في الدراسة ملحوظ، متجنبون للانحرافات التي نسمع عنها هذه الأيام ...
ثلاثتهم من أبناء الثورة، ولكنهم ثمرة تربيتها قبل ذلك، ثمرة تربية أخلاقية حازمة، ودور الأب في ذلك لا يقل عن دورها. لم تستحوذ عليهم عاطفة سياسية بمثل ما استحوذت عليهم رغبتهم الصادقة في التفوق. وهم يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الثورة على مدى أطوارها، ولكنهم لو سئلوا عما يعنيه ذلك فلعلهم لا يجدون جوابا خيرا من أن يقولوا إنهم ليسوا من اليسار أو التيار الديني المتطرفين. ولم يفت جمالات أن تقيم هذا الموقف. إنها - كمربية أصيلة - تهتم بتقييم المبادئ كما تهتم بميزانية البيت، وهي تناقش زوجها في كل شيء. والرجل يقول: موقفهم باهت، لعلنا لا نختلف عنهم كثيرا يا جمالات، ولكن تذكري المحاكمات كي تحمدي الله على ذلك ...
ويقول أيضا: المهتمون بالسياسة اليوم قلة، أما الأكثرية فمنهمكة في طلب اللقمة ... سوف يكونون أطباء ممتازين ومواطنين صالحين، وهذا خير من أي سياسة ...
وتغري جمالات نفسها فتقول: إن السفينة يجب أن تبلغ مرفأ السلام قبل أن تعصف بها الرياح.
Halaman tidak diketahui