الرجل الثاني‏

أمشير‏

الربيع القادم‏

الحب والقناع‏

السلطان‏

أيوب‏

قرار في ضوء البرق‏

أسرة أناخ عليها الدهر‏

الظلام القديم‏

الرسالة‏

الشفق‏

اللقاء‏

الجبل‏

الشيطان يعظ‏

الرجل الثاني‏

أمشير‏

الربيع القادم‏

الحب والقناع‏

السلطان‏

أيوب‏

قرار في ضوء البرق‏

أسرة أناخ عليها الدهر‏

الظلام القديم‏

الرسالة‏

الشفق‏

اللقاء‏

الجبل‏

الشيطان يعظ‏

الشيطان يعظ

الشيطان يعظ

تأليف

نجيب محفوظ

الرجل الثاني

1

جذبني مقهى النجف في سن المراهقة. كانت سنا يستهجن فيها غشيان المقاهي. الحق لم يجذبني المقهى نفسه؛ ولكن شدني بقوة سحرية صاحبه موجود الديناري الأسطورة الباقية. إنه آخر الفتوات غير أنه بالقياس إلي أول الفتوات وآخرهم. ذهبت لأحظى بمشاهدته فوق أريكة الإدارة في شيخوخته المجللة بالمهابة والقوة والجمال. اخترت مجلسا بعيدا عن مجلسه، منعني الإكبار، وجاء بي دوما ما استقر في قلبي من حكايات فتونته، سحرتني أكثر نوادره الغامضة التي تضاربت حولها التفاسير. طالما شعرت وأنا أحتسي قرفته المخلوطة بالمكسرات بأنني أعيش أبهج ما في الماضي والحاضر والمستقبل. •••

يحكى أن ...

يحكى أنه ألقى على أتباعه ذات يوم تحديا. عند الفجر من سهرة في غرزة المنارة المسقوفة بالسماء. قلب عينيه في وجوه الرجال فلم يبرح أحد مكانه. تبدت وجوههم غامضة على ضوء النجوم. تبدت وجوههم ذابلة من شدة السطول. تبدت وجوههم مخضلة بالندى. في فصل صيف شهد له الآباء بالغلظ، قال لهم: لن ترجعوا إلى بيوتكم قبل أن تسمعوا.

تطلعوا إليه باهتمام. جاهدوا نعاس الخدر. توقعوا نبأ عن معركة. موجود الديناري قهقه حتى سعل. قال بتؤدة أضفت على بنيانه القوي وملامحه الواضحة جدية مثيرة: إنكم تتساءلون ...

اشتعلت اللهفة ونفد الصبر فواصل الرجل: ما من جماعة مثلنا إلا وفيها رجل ثان، على ذلك جرى عرف من غبر ... ندت عن «طباع الديك» حركة عفوية داراها بسعلة مصطنعة. لم تغب عن عين الرجال ولا عين الرجل. كان أقوى الأتباع وأشجعهم وإن لم يجهر بذلك أحد، وطالما اعتقد أن المنزلة الثانية بمثابة حقه المعتبر. تساءل المعلم: ما رأيكم؟

أكثر من صوت أجاب: الرأي ما ترى يا معلم. - كلكم أقوياء، كلكم شجعان، ولكن الفتونة الحقة لا تستند إلى القوة والشجاعة وحدهما!

عند ذلك قال طباع الديك: منك تعلمنا أيضا مكارم الأخلاق ...

فابتسم المعلم ابتسامة غامضة وقال: دعونا من الكلام، عندي مهمة، فمن منكم يقبل القيام بها؟

فبادروا قائلين: نحن رهن الإشارة!

وتساءل طباع الديك: ما هي المهمة يا معلمي؟

فقال الديناري باسما: إنها سر من الأسرار.

همدت ألسنتهم. تذاكروا ما عرف عنه من غرابة الأطوار. تذكروا الغموض الذي يخالط وضوحه. حذروا بغريزتهم أن يقعوا في شرك لا قبل لأحدهم به. وسر الديناري بصمتهم فقال: إنها تتطلب أول ما تتطلب الطاعة العمياء!

وضح القلق في حركات طباع الديك المتوترة ولكنه تجاهله قائلا: قد يحيق الهلاك بمن يتصدى لها، لا يجوز إخفاء ذلك عنكم، فإذا وفق فاز بالمكانة اللائقة، وإن هلك تعهدت أهله بالعناية.

وخرج طباع الديك من صمته فقال: يا معلمي، لقد خدمتك منذ ...

ولكن المعلم قاطعه متسائلا: من منكم يقبل المهمة؟

من غشاء الصمت الثقيل انطلق صوت يقول: خدامك يا معلم!

تحولت الأبصار بذهول نحو شطا الحجري. فتى جاوز العشرين بعام أو عامين. أحدث من انضم إلى العصابة، لم يشترك بعد في معركة، قبل بناء على تزكية من طباع الديك نفسه. وجزع الديك. إنه في الحلقة الرابعة من عمره ويصغر معلمه بعام واحد. ورغم سوء ظنه بالمهمة وحذره من مقالب معلمه فقد خاف أن تفلت منه فرصة العمر؛ لذلك هتف: لا أحد لها سواي.

فقال المعلم بهدوء: إنه شطا الحجري. - ولكنه ...

فقاطعه المعلم: لقد سبق، ولا حيلة لك.

غشيت الصمت كآبة، أيصير شطا الحجري الرجل الثاني إذا لم يهلك؟ ترى ما هي المهمة؟ هل أنقذهم الخوف أو ضيعهم؟ أيهلك شطا أم يفوز؟ وماذا لو تكشفت المهمة عن تكليف يسير لا يشق على أحد؟ لقد تمنوا في أعماقهم أن يتقرر الهلاك مصيرا لشطا. وتلهفوا على معرفة المهمة فتساءلوا: لم يعد محظورا أن تكشف لنا عن سر المهمة يا معلم.

فقال المعلم بمرح: كل شيء مرهون بوقته.

وقام الرجل نافضا عن عباءته ذرات الرماد ومضى نحو الحارة وهو يقول: تناسوا ما دار بيننا في هذه الليلة الحارة، فلا شأن لكم به!

2

توارى المعلم عن الأعين. لزم الرجال أماكنهم من شدة الذهول. وجد شطا الحجري نفسه في بؤرة منصهرة بحرارة الأبصار والصيف. أراد أن يخرج من الحرج بكلمة اعتذار فقال: أعترف بأنني ما زلت أحبو في الذيل، ولكنها إرادة الله.

فقال رجل مغلفا قوله بنبرة نذير: بل اخترت بإرادتك يا شطا!

فقال في استسلام: إنما يجري كل شيء بمشيئة الله.

فقال آخر بخشونة: للشيطان أيضا دور في رحاب الفتونة.

فتغير مزاج شطا وقال بعناد: لقد أعددت كفني يوم انضممت إليكم.

فتلاطمت أصوات في سخرية: عفارم! عفارم! الطموح مهلكة، ولكنه حلم الفتوات!

ضاق شطا بصمت طباع الديك أكثر مما ضاق بسخريات الرجال. استأذن ناهضا ثم غاص في الظلمة.

استقبلته أمه في بدروم عمارة الجبلي، ستهم الشهيرة بالغجرية تستيقظ عادة مع الفجر لتتهيأ ليوم عمل كادح. قال: حدث الليلة أمر عجيب.

وقص عليها ما جرى. عكس وجهها المتجعد الكالح انفعالات متضاربة، تفكرت حتى وجمت ثم قالت: يا لك من متعجل!

فتحامى الجدل، فقالت: إنك لمجنون يتحدى الجميع بلا تدبر.

فاتجه نحو منامة فوق الكنبة صامتا، فقالت: لم يبق لي من ذكر سواك، أخواتك في بيوت أزواجهن، لعنة الله على شيطانك.

فتمتم بامتعاض: لا تتوقعين إلا الشر! - أتحسب أن الفتونة لهو؟!

رغم قلقه واضطرام أفكاره فقد أسلمه الإرهاق إلى نوم عميق.

3

استيقظ شطا الحجري عند الضحى. اجتاحته ضوضاء الحياة. ما زال الصيف يزفر نارا. استيقظت معه ذكريات الليل. لم يلق إليه المعلم بأية إرشادات. هل ينتظر حتى تجيئه إشارة؟ كلا، عليه أن يتحرك. ليتحرك حتى لا تنفرد به الأفكار. قرر أن يذهب إلى دار الديناري. أول مرة يعبر البوابة العملاقة. اخترق فناء واسعا. إلى اليمين مجمع نخلات مثقلة بالبلح الأحمر وإلى اليسار إصطبل. سمح له بالانتظار في منظرة. طالعته في الجدار الأوسط بسملة مذهبة تشرف على الأرائك والبساط السنجابي. حتى أذان الظهر انتظر ثم جاء الرجل. خيل إليه أنه يرى رجلا آخر. لأول مرة يرى شعر رأسه الأسود، ولأول مرة يخطر أمامه في جلباب فضفاض أبيض، أما رائحة المسك فهي دائما تنتشر منه. تربع فوق الكنبة الوسطى ثم أشار إلى الأرض قائلا: اجلس.

فتربع على مبعدة قصيرة من موطئ قدميه، ثم قال كالمعتذر: جئت بلا دعوة.

قال ووجهه لا ينم عن شيء: لو لم تفعل لاعتبرت الأمر كأن لم يكن.

فحمد الله في سره على أول توفيق يصيبه. وسأله الرجل: ماذا قال الرجال أمس عقب ذهابي؟ - اتهموني بتجاوز الحد. - هي الحقيقة بالقياس إليهم هم.

فحمد الله في سره مرة أخرى، على حين رجع المعلم يسأل: ماذا عن أمك الغجرية؟ - قلقة وخائفة. - لو لم تقدم لاتهمتك بالجبن!

انقطع الكلام قليلا حتى قال شطا: إني رهن إشارتك.

فمد ساقيه قائلا: دلك ساقي.

فشمر شطا عن ساعديه وراح يدلك الساقين المدمجتين بارتياح وفخار. تواصل الصمت حتى تساءل المعلم: ما الذي دفعك إلى القبول؟

فبادره شطا بحماس: أن أحظى برضاك. - كاذب، أو نصف كاذب، إنه الطموح، ولكن لا فتونة بلا جنون.

لم يدر ماذا يقول. ترامت من بعد صيحات

- رهن الإشارة.

فقال الرجل بوضوح: اغتسل، ارتد ملابس جميلة، اعثر على أجمل بنت في الحارة، ثم اذكرها لي!

ثقلت يداه وأوشكتا أن تتوقفا عن التدليك. ما سمعه لم يتوقعه قط. ظن المهمة مغامرة لا يطيقها إلا الأفذاذ. ما تصور أن تكون مهمة خاطبة، بل الخاطبة أشرف. لا يمكن أن تقتصر المهمة على ذلك. ما هي إلا مقدمة لاختبار الطاعة. الحذر الحذر من التردد، الطاعة أو الضياع. ما يعرف من قسوته مثلما يعرف من مكارمه. إنه ولا شك لم يقل كل شيء، فلينتظر. لكن وجهه لا يعد بمزيد! أخيرا تساءل: أهذه هي المهمة بلا زيادة؟

قال المعلم ببرود: لا أسمح بأي سؤال.

تركه يدلك ساقيه في صمت، ثم سحبهما قائلا: مع السلامة.

4

وهو يغادر الدار شعر بالندم، بل بالغضب. ربما ضرب يوما مثلا للحماقة والسخرية. الفتى الذي طمح إلى السيادة فعمل خاطبة، أو قوادا ذا قرنين، وسيكون نادرة أخرى إذا هرب. ولكنه وعده بالمكانة الثانية إذا نجح. وهو الوفاء إذا وعد. فكيف يشك في جدارة العمل؟! إنه لأحمق إذا تهاون مع سوء الظن. إنها محنة حقا ولكن وراءها ما وراءها، فليصمد وليصمد وليمحق الريب.

وسألته أمه ستهم الغجرية بلهفة: خبرني ما هي المهمة؟

أجل، إن المعلم لم يكلفه بالكتمان، ولكنه شعر بأن الأمان في الكتمان، والكرامة أيضا تلزمه به. فليذعه المعلم إن شاء أن يبلوه؛ لذلك قال: الأسف والمعذرة.

فصرخت المرأة: من يخف عن أمه سرا فهو ابن حرام.

وهتفت أيضا: أنت وشأنك ولتتجرعن الندم.

وقال لنفسه: «تقدم بلا تردد». ذهب إلى حمام الأمير وأسلم جسده إلى المغطس. ارتدى جلبابا جديدا ولاثة منمنمة ومركوبا أخضر ومضى منور الشباب كالبدر. استحال عينين حذرتين، تسعيان وراء الجمال حيث يكون؛ في النوافذ، عند صنبور المياه، في سوق الخردوات والحلي. كلما لمح حسنا سجله في ذاكرته وواصل السعي. وصادف في سعيه رجالا من العصابة يراقبون ويتساءلون. ضاعف من حذره مطمئنا إلى أنهم لم يقفوا على سره بعد. تمنى أن يحافظ المعلم على السر كما يحافظ عليه هو. تمنى أن يعثر على ضالته حتى تنجلي الحقيقة عارية. أجل ستنكشف مهمة الخاطبة عن المجد لا الندم.

وكان يستريح في مقهى النجف عندما جلس إلى جانبه طباع الديك. انقبض صدره ولكنه ابتسم. هو الذي زكاه عند المعلم يوم قبل. صديق أسرته الذي يعتبر ستهم الغجرية أما له. قدم له الشاي حبا وكرامة. ابتسم الرجل وقال: أصبح لك مظهر الوجيه لا الفتوة!

إنه يستدرجه ولكن هيهات. وتمتم الرجل: لا تستقر في مكان!

بادله الابتسام دون أن ينبس، فقال طباع الديك: لا أريد إحراجك، هذا أول ما تطالبني به علاقتنا الطيبة.

فتمتم شطا بأسف: معذرة يا صاحب الفضل. - إني عاذرك، ومقدر لحالك، ولكن واجبي كصديق للأسرة يطالبني بأن أحذرك. - تحذرني؟ - معاذ الله أن أحرضك على إفشاء سر؛ ولكنك حديث عهد بنا، فلا تعرف فتوتنا كما أعرفه.

فقال شطا بصدق: الحارة كلها تعرفه! - لعلها لا تعرف مثلي حبه الدعابة والعبث.

ارتعد قلبه، ولكنه قال بقوة يغطي بها على ارتعاده: الدعابة لا العبث، إنه جاد كل الجد. - لم صفح عن زميلنا الأعجر؟ ولم أصر على عقاب شعراوي القفا؟

ارتعد قلبه مرة أخرى، ولكنه قال: ثمة سبب يعلمه ونجهله، إنه أبعد ما يكون عن العبث. - إذا أردت الاستشهاد بالأدلة، فستجد ما يؤيد جديته وستجد ما يؤيد عبثه. - لا، لا تقس ما يقع في حارتنا بما يحدث أحيانا في الغرزة. - ولكن المغامرة التي تقدمت لها حدثت في الغرزة.

فقال مجاهدا غيوم القلق: لكن نتيجتها ستطبق على الحارة! - صدقني يا شطا، لم لم أقدم على المهمة رغم أنني أجدر الرجال بها؟! حدثني قلبي بأنه يهيئ للعبث مقلبا!

هز شطا رأسه نفيا واحتجاجا، فقال طباع الديك: ثم إنه لا يتأثر بالعواطف، وهو قوي كما نعلم جميعا، فمن ذا يضمن وفاءه؟ بل هبك هلكت - لا سمح الله - فلم يعن أمك، فمن ذا يحاسبه؟!

لزم شطا الصمت بنظرة رافضة، فنهض طباع الديك قائلا: الله معك!

فقال شطا: هيهات أن تتزعزع ثقتي به.

وأتبعه ناظريه وهو يلعنه.

5

الوساوس والهواجس تخامره. طباع الديك لا يذكر العبث بلا دليل. أجل إنه مغرض وحاقد وخائف، ولكنه لا يهذي. على ذلك فهو يصر على جدية معلمه. رغم غرابة ما كلف به. رغم الغموض المتعمد من الآخر. رباه! ما العمل لو كان يعبث به حقا؟! ما العمل لو تبدد الجهد نظير لا شيء؟ ما العمل لو تناثرت قوائم حياته فيما يشبه المزاح؟!

وهو يحاور نفسه طالعه فجأة وجه يمرق من الملاءة السوداء كالضوء. وجه نفاذ الحلاوة بهيج الأثر. ما تمالك أن قال لنفسه وهو ينتفض بانتعاش غامر: «لعلها هي!» في الحال تناسى وساوسه وهواجسه وحل بقلبه الظفر. لعله رآها قبل ذلك ولكنها عبرت في غفلته بلا أثر. سرعان ما تبعها عن بعد على إيقاع تموجاتها الراقصة، حتى عطفة البرادة وحتى غيابها في عمارة ريحان المتهالكة. هي هي ضالته المنشودة، فمن تكون؟ عليه أن يجمع المعلومات الكافية. الناجح من يحافظ على السر ويجمع المعلومات الوافية. أفعم قلبه بالإلهام والثقة. وحلم بالمكانة الرفيعة الثانية. ودعا الله أن يتم المهمة دون مساس بكرامته. ومن حظه السعيد لاحت في النافذة، لمحها ولمحته أيضا بنظرة خاطفة. في العطفة كواء بلدي وبياع طعمية ولكنه تجنب سؤال الأنفس المتطفلة. استدرج غلاما يلعب، فسأله: يا شاطر، من يسكن في الدور الثاني؟

فأجاب الولد: عم طناحي بياع الطعمية.

آه! ثمة شبه بين الكهل والبنت الفاتنة. رجع إلى بيته مستوصيا بالحذر. ورغم ما بينه وبين أمه من جفاء سألها: هل تعرفين أسرة عم طناحي بياع الطعمية؟

فتجاهلته حتى كرر السؤال، فسألته بدورها: لماذا تسأل؟ - حديث دار في المقهى حول بنت جميلة له. - زوجت له بنتين وبقيت الصغرى وداد، صغيرة ولكنها أجمل البنات.

فقال مخفيا انفعاله: ذاك ما قيل عنها. - قل لمن يتحدث إن الطائر قد حلق في السماء. - السماء؟! - ما زال الأمر سرا، ولكني الوحيدة من غير الأسرة التي تعرف أن معلمك الديناري خطبها منذ أسبوع! - حقا؟! - حظها السعيد، لا أهمية للسن ولا لكثرة الزوجات! ابعد إن كنت فكرت في القرب.

إذن قد خطبها الرجل قبل أن يكلفه بالبحث عنها. ولكن هل يغير ذلك من موقعه من المهمة؟ عليه ألا يضيع وقته وأن ينسى ما سمع.

6

قبع في مجلسه عند قدمي المعلم وراح يدلك ساقيه. الرجل يرتاح لذلك وهو يجيده. مهما يكن من أمر العاقبة فهو اليوم ألصق الجميع به. غير أنه لا يستطيع أن يقرأ وجهه. ألا ما أكبر الفارق بينه وبين البنت، في العمر والحجم وكل شيء. والرجل صامت يضن بالسؤال، فعليه هو أن يتكلم. قال: عثرت على البنت المنشودة يا معلم.

بعد هنيهة صمت، قال الرجل: انطق. - الاسم وداد، كريمة عم طناحي، بالدور الثاني من عمارة ريحان القديمة. - ألم تفتك فرصة؟ - نعم. - هل فطن أحد إلى مسعاك؟ - كلا. - الكتمان في صالحك أنت. - حرصت عليه، بحسن تقديري. - إنك معجب بنفسك. - فتورد وجهه الأسمر حياء، تفاءل بالصمت، ثم تساءل: انتهت المهمة يا معلمي؟

فقال الرجل بلا مبالاة: الآن عليك بمغازلتها!

كأنما تلقى ضربة على نافوخه. هتف: مغازلتها؟!

قال الرجل ببرود: مع السلامة.

في الخارج لم يسمع صوتا رغم الضوضاء، لم ير أحدا رغم الزحام، لم يلق بالا إلى متربص. المهمة تتعقد والمخاوف تتجسد والأشباح تتخايل. ها هو يحمل أمرا من معلمه بمغازلة خطيبة معلمه. وهو مطالب بإبلاغه بالنتيجة. هيهات أن تؤاتيه الشجاعة على الكذب. أهي طريقة لاختيار الرجل الثاني حقا أم الأمر عبث في عبث؟ الليل تتكاثف ظلمته وتتوارى نجومه وراء السحب.

7

وجد نفسه بعد ذلك بين اثنتين؛ الهرب أو الصمود. قرر أن يصمد. ليس وراء الهرب إلا السخرية والضياع، أما الصمود فإنه يمارس فيه رجولته، وليكن بعد ذلك ما يكون. ربما انتهى به الصمود إلى شماتة الحاسدين، ولكن الهرب ينذر بما هو أفظع. وكلما تعقدت الأمور وانبهم المغزى على إدراكه، قال لنفسه مستهينا: ليست السلامة بالغاية المفضلة في هذه الدنيا.

وانطلق في أثرها يخط بالقدم مصيره ومصيرها. تعرض لها في نافذتها، تبعها إلى دكان الخردوات وهي بصحبة أمها، وهبها عينين حادتين وهي تمر أمام مقهى النجف. تطايرت نظراته الموشاة بالبسمات الخفية معلنة عن عاطفة لا وجود لها. وفي فرح شهده وكانت وداد بين المدعوات قاربت بينهما نظرة طويلة، فغمز لها بعينه ملقيا بنفسه في فم القدر. إنها الآن تعرفه تماما وتخمن مقصده، فليتها تغضب، ليتها تشي به عند والديها فتنقذه من المجهول، وتنقذ نفسها. لكنها لم تغضب. بل مرحت في دلال معلنة محاسنها كاشفة عن استجابة واضحة. قال لنفسه بحزن إنها لا تهمها الفتونة، إنها تؤثر الحب على الجاه، إنها حلم الشباب المثالي، وا أسفاه!

ومضى في الطريق مستسلما، لاغيا عقله. حتى ضمهما يوما زحام يحدق بالحاوي. تزحزح خفية حتى استقر جنبها. ولما التفتت نحوه همس: يا جميلة.

فالتفتت عنه في دلال مشجعة على المزيد، فهمس: أقول إن جمالك ...

ولكنها قاطعته هامسة ومعلنة استجابتها في الوقت نفسه: الناس! الناس! - صدق من قال إن العاشق مجنون. - أنت لا تعرف كل شيء.

فهمس متخطيا أشباحه: أعرف أنك مخطوبة للديناري.

فرمقته بدهشة وإكبار وهمست: إنه سر. - لكني أعرفه. - لن تحظى بأحد يقبلك. - المهم رضاك أنت.

فتساءلت متظاهرة بالتركيز على يد الحاوي وهو يلاعب الحية: أي فائدة ترجى؟ - لنتقابل على انفراد. - أمر عسير. - الشمس تقترب من المغيب، زاوية الدرمللي مكان آمن. - ولكن ... - سأسبقك، لا تضيعي فرصتنا الوحيدة.

ومضى نحو الميدان ثم انعطف إلى الزاوية. اضطرب خافق القلب. ثمة أمل ضعيف في أن يستردها العقل في آخر لحظة. أن تثوب إلى رشدها وتندم.

لكنه رآها مقبلة في شجاعة تثير الدهشة.

8

استغرق اللقاء الخفي دقائق معدودة في الركن المتواري المعتبر مأوى للمجاذيب. سألها: لديك فكرة عن الخطر الذي يتهددنا؟

فأجابت بثبات أكبر من سنها بكثير: نعم. - لا سبيل أمامنا إلا الهرب إلى الأبد.

فتمتمت: ليكن.

وبانتهاء اللقاء الأول انعقدت سحب التعاسة فوق رأسه. وقع في حفرة لم يقدر مدى عمقها من قبل. غزاه صدقها وشجاعتها وبراءتها. صدقته تماما، وهبته قلبها النابض، وضعت مصيرها بين يديه. دهمته أيضا استجابتها غير المتوقعة. هاله الدور القذر الذي يمثله بمهارة فائقة. ألم يخش لحظات من جانب معلمه العبث؟ ها هو يعبث بالطهارة والبراءة! لماذا؟ من أجل أن يعتلي الموقع الرفيع الثاني في جماعته. أيهون عليه حقا أن يتم مهمته فيدفع بالبنت إلى الهاوية؟ كلا! لم يكن يوما من أهل ذاك المنحدر. وما أغراه بالانضمام إلى جماعة المعلم إلا استزادة من الشرف، وهيهات أن ينسى نظراتها المحبة الواثقة. ولا صوتها العذب وهي تتمتم: ليكن.

هل يبيع ذلك كله من أجل مهمة غامضة كلفه بها رجل عظيم حقا، ولكنه معروف بأطواره المحيرة؟! كلا، فليقدم على ذلك وغد من الأوغاد لا رجل يهيم بالحياة السامية.

هكذا جلس عند قدمي معلمه وقد قرر أن شرفه أعلى من المهمة الغامضة.

9

قال واعيا بإقدامه على ما هو أخطر من قبول المهمة نفسها: البنت عاقلة لا سبيل إليها!

فقال موجود الديناري بهدوء: أنت كذاب.

تطلع إليه بذهول مؤمنا بأنه قد انتهى. السر افتضح، وفاته أن يفترض ذلك. إنه لم يخنه فقط، ولكنه أساء الظن أيضا بقدرته، وانقلب أتفه من لا شيء. وراحت يداه تدلكان ساقي الرجل بآلية في صمت ثقيل، حتى قال الرجل بجفاء: انطق.

فقال باستسلام: الصدق ما قلت يا معلمي. - كيف غفلت عن أنني أمتحنك أنت لا هي!

فقال بأسى: إني غبي ولكنني لم أستطع أن أكون وغدا. - فلتهنأ بالشهامة والعصيان!

فقال بيأس: أعترف بأنني أخفقت في القيام بالمهمة.

فتساءل المعلم بسخرية: ما هي المهمة؟ - ما كلفتني به يا معلمي.

فصمت الرجل قليلا ثم قال: أقول لك يا أعمى استمر!

فتمتم شطا بذهول: أستمر؟! - وأبلغني عن كل خطوة في حينها.

فاشتد الذهول بشطا وتساءل: أيعني ذلك أنني ما زلت مكلفا بالمهمة؟

فندت عن يد المعلم حركة تدل على ضيقه وقال بحزم: اذهب.

10

إنه يغوص في الظلمات بلا مرشد. خلا إلى نفسه في البدروم الذي تهجره أمه طيلة النهار سعيا وراء الرزق. تجرد من ثيابه دفعا لحر ذاك الصيف. فليفكر وليفهم. لقد أخفق في المهمة واستحق غضب الرجل. كان عليه أن يدرك أن للمعلم عيونه أيضا. لماذا إذن يأمره بالاستمرار عوضا عن أن يعلن فشله أو ينزل به عقابه؟ أيمنحه فرصة جديدة؟ كلا، لا تمن نفسك بالأوهام. هل المهمة شيء آخر غير ما وضح له؟ أيريد أن يخفف من عقوبته بعد أن خسر الثمرة؟ هل يسوقه إلى العقوبة من حيث لا يدري؟! ثمة أمر يقيني وهو أنه يتعمد إلقاءه في الحيرة. ما أعجزه عن الإدراك المطمئن، ولكن لا مفر من الاستمرار. إنه يفهم الآن مغزى تردد طباع الديك رغم قوته وشجاعته. أما هو فما أشبهه بلاعب السيرك الذي يترصده الهلاك عند الخطأ. فليذهب إلى الموعد المرتقب. لن يخفى شيء عن الرجل. عليه أن يهتدي إلى ما ينبغي له فعله قبل أن تتبدد حياته هباء. •••

وعندما أقبلت نحوه قبيل المغيب، عندما منحته ابتسامة اللقاء، نسي مخاوفه، استهان بالعواقب، محق شكوكه، غمره رضا وسلام، خفق قلبه بعمق، اكتشف أنه يحبها. أجل إنه يحبها كما تحبه وأكثر. لعله أحبها من بادئ اللعبة وهو لا يدري. وفي ظل الحب حظي باليقين. ومهما يكن من غموض معلمه أو عبثه فقد هداه إلى الحب. عليه أن يدمجه في مصيره ويحملهما معا. لقد محاها مرضاة لضميره وها هو الحب يلحق بالضمير ويجاوزه. لا أهمية الآن للمهمة ولا للدفاع عن النفس ولا للبقاء في الحارة. الهرب! الهرب! إنه الحقيقة الباقية. تلقاها بحرارة وسط ضوضاء المجاذيب. يوجد حتما من يراقبهما ولكنه سيلوذ بالمفاجأة. - أهلا بك يا وداد.

ثم بجدية بالغة: ليس لدينا وقت نضيعه.

تساءلت بنظرة من عينيها السوداوين فقال: الآن وجب الهرب.

فاضطربت متمتمة: الآن؟! - قبل أن تفلت الفرصة إلى الأبد.

فتفكرت وهي تعبث بأناملها بقلق ثم تساءلت: أأنت مستعد؟ - معي من النقود ما يكفي في البداية. - إلى أين؟ - أقرب وآمن مكان، الدرب الأحمر. - لا صديق لنا فيه. - جميع الدروب معادية، ولكن فتوته الشبلي خير من غيره. - وإذا أبى حمايتنا؟ - لا أظن، سأجعل نفسي في خدمته، وإلا ولينا وجهة أخرى.

فوجمت كالمترددة، فقال: لا اختيار منا وثمة أعين ترقبنا!

فقلقلت عيناها من الخوف، فقال: سنمضي من تونا وسوف تكون مفاجأة لم يتوقعها أحد، هذه هي فرصتنا. - إني معك، ولكن فلنؤجل التنفيذ حتى أستعد. - إنها فرصتنا الوحيدة.

هكذا مضيا في الطريق الجديد مضطربين مصممين سعيدين، يموتان ويولدان من جديد.

11

مضى شطا الحجري من فوره إلى مقابلة المعلم الشبلي في داره القديمة. صدمه الفارق الشاسع بين دار الديناري الباهرة وهذه الدار الهرمة، بين هيكل معلمه المترامي وجسم هذا الرجل النحيل الذي تأهل للفتونة بخفة النمر ودهاء الثعلب. قال شطا: جئتك مقدما الولاء وطالبا الحماية.

سر الفتوة للجوء أحد أتباع الديناري إليه، ولكنه قال: حدثني عما ألجأك إلي.

ولم يجد شطا بدا من الاعتراف الكامل بحكايته ليسوغ ما أقدم عليه من سلوك غريب. وضحك الشبلي طويلا وقال: معلمك يحيط نفسه بالغموض، في الظاهر استجلابا للاهتمام، وفي الحقيقة ليداري جنونه المؤكد.

فأحنى شطا رأسه ليخفي ضيقه ولاذ بالصمت، فقال الشبلي: لك الحماية والإقامة، ماذا تريد أيضا؟ - أن تقبلني في جماعتك.

فقال الفتوة بصراحة جارحة: أما هذا فلا، لا أمان لرجل خان معلمه!

أصابت الطعنة مقتلا، فقال بحرارة: أردت ألا أكون وغدا! - نحن نفضل الوغد المطيع على الشهم المتمرد. - لك ما تشاء وعلي الرضا بالمقدور. - ألك حرفة؟ - كنت نجارا قبل أن ألتحق بالجماعة. - مارس حرفتك واحذر أن تلعب بذيلك.

فقال بانكسار: إني أنشد السلامة يا معلم!

رجع شطا إلى وداد وقد خسر أشياء لا تعوض. ومن نقود الديناري المدخرة لديه تزوج واكترى حجرة وأثاثا بسيطا. استقر في مسكن وعمل كما استقر الحزن في أعماق نفسه. لقد اعتبر في الدرب آية على تفوق فتوة الدرب، ولكنه عومل كغريب. وأراد أن يهتك ستار الغربة فقال في المقهى: كان أحد أجدادي من الدرب الأحمر.

فسأله شيخ الحارة متحديا: أجئت من أجل ذلك؟

فبادره وقد فطن إلى ما وراء السؤال: بل جئت طلبا لحماية فتوة معروف بشهامته!

وتساءل في نفسه: ترى كم من زمن سيجري قبل أن ينهضم مقامه ويألف ويؤلف ثم يتناسى أحزان الماضي كله؟!

وقال لوداد: دفعنا إلى المر ما هو أمر منه.

فقبلته قائلة: إني غير نادمة. - لقد اعترفت للشبلي بحكايتي، والآن آن لي أن أعترف لك.

وقص عليها قصة علاقته بها منذ خرج للبحث عنها حتى وقع في حبها. وأصغت وداد واجمة، وصمتت مليا، ثم قالت: قصة جميلة، ولكنها لا تخلو من رعب.

فقال بحرارة: لم يبق لنا إلا أن نسعد.

ولكن حتى الليلة الأولى لم تخل من تنغيص ومن حزن. لقد حظي بالحماية ولكنه باء بسوء الظن والاتهام كما ثبت أنه غير أهل للثقة. وتساءل أناس هل يرجع الديناري إلى المعارك غضبا لكرامته خارقا ما التزم به من تعهدات سلمية - هو والشبلي - أمام الشرطة؟! هل يثبت شطا الحجري أنه شؤم على المكان الذي وفر له الحماية، كما كان عارا على المهد الذي ولد ونشأ فيه؟!

وانعكس ذلك كله على شطا وتسرب إلى حنايا وداد، فلم تخل الليلة الأولى من شهر العسل من تنغيص ومن حزن.

12

في صباح اليوم التالي ترامت إليهما أنباء عما لحق بأهلهما من تحرش وتضييق في الرزق، وتعرض لشتى ألوان الإهانات والقهر. في السوق أيضا سمعت وداد اللعنات تصب على جمالها الذي يهدد الحارة والدرب. رجعت إلى مسكنها شاحبة الوجه منهزمة وهتفت بعين دامعة: أبي وأمي وأخواتي!

فتمتم شطا بنبرة حزينة: أمي وأخواتي أيضا!

تبادلا نظرة طويلة حائرة. أفصحت النظرة عن أشياء انحبست وراء معانيهما. قالت النظرة إنهما اندفعا مع عاطفة طاغية دون تفكير في العواقب. الحق أنهما لم يشعرا بصفاء السعادة إلا في رحاب الاندفاعة المذهلة. الآن يعترضهما جدار سميك من الحقائق المرة بأنيابها الحادة. وكالغريق الذي يتعلق بقشة قال شطا: وراءنا طريق مسدود، وعلينا أن نستخلص من القمامة جوهرة السعادة المفقودة.

فتأوهت قائلة: اللعنات تطاردني في الطريق. - علينا أن نجعل من الحاضر ماضيا.

فنكست وجهها صامتة فرجع يقول: فعلنا ما هو صواب ومشرف. - ولكننا نسينا العواقب، دعنا نبحث عن رزقنا في مكان آخر. - لن يخفف ذلك البلاء عن أهلنا. - والعمل؟ - لا مفر من مواصلة الحياة. - لكنها مليئة بالمرارة!

فقال بضيق: لا مفر ولا حيلة!

13

في مساء اليوم الثالث استبقاه الشيخ ضرغام إمام الزاوية عقب صلاة العشاء، وقال له: عندي رسالة إليك من الشيخ عقلة إمام حارتكم.

أصغى شطا بفتور وتشاؤم، فقال الشيخ: إنه يخبرك بأن ما يعانيه أهلك وأهل زوجك فوق ما يحتمل البشر.

فتقبض وجه شطا وهو يقول: الحزن يمزق قلبي! - أيكفي ذلك؟ الناس هنا يتساءلون كيف تنعمان بالحب على حين يؤدي أهلكما عنكما ضريبة العذاب؟ - أهل الدرب هنا يكرهوننا يا مولاي. - إنهم معذورون. - فقال شطا متنهدا: من الأوفق أن نذهب. - إلى أين؟ - إلى أي مكان. - والمعذبون وراءكم؟ - فقال شطا باستياء: كأنما تدعونا إلى الموت! - إني أخاطب ضميرك. - ضميري هو ما ساقنا إلى هنا، والمسألة أننا ضحية عبث. - عبث؟! - أجل، عبث لا معنى له. - ولكن، انظر، ما من فعل إلا وله سببه وله هدفه أيضا. - لقد خدعت فكلفت بمهمة عابثة. - ألم تكن تطمح إلى أن تكون فتوة حارتكم ذات يوم؟ - أيعني ذلك أن أكون ألعوبة في يد الغير؟ - من أجبرك؟ - عظيم، لقد اخترت بعد ذلك أن أفعل ما رأيته صوابا. - وها هو يتكشف عن أخطاء فمن ذا يصلحها؟ - وإذا سرت إلى الهلاك بقدمي فهل تدافع عني أنت؟

فقال الشيخ ببرود: الهلاك نهاية كل حي، ولكن يوجد الخطأ كما يوجد الصواب أيضا.

شكره بجفاء وقام ماضيا نحو مسكنه. شعر بأنه يمضي إليه كارها، فتعجب من ذلك غاية العجب.

14

وجد في الحجرة غشاوة صفراء - مشبعة بحرارة الصيف - لا تستطاب فيها لقمة ولا يخفق قلب بالحب.

تبادلا النظرات في صمت مشحون بالكآبة. أعاد على مسمعها حديث الشيخ. وتبادلا النظر أيضا. كأنما تقول له «أنت السبب». إنهما تعيسان وما بينهما يتدهور كلبنات البنيان الآيل للسقوط. تنهد قائلا: الحياة لا تطاق.

فأمنت قائلة: هي كذلك.

اعتراف ينذر بالمأساة. تساءل كمن يتحسس ضرسا مريضا: هل نهجر الدرب ونعيش بلا مبالاة؟ - تقول ذلك بلسانك لا بقلبك.

فتساءل متحديا: ما عسى أن نفعل؟ - أرشدني فإنك أنت الرجل.

استشف في قولها سخرية أثارت غضبه، فقال غاضبا: ما من شقاء إلا وراءه امرأة. - فليسامحك الله، ولا تنس أنك بدأت بخداعي. - ستصبين الأخطاء فوق رأسي. - كنت القائد وكنت التابعة. - هذا هو الظاهر. اللعنة!

فهتفت محتجة: ما دمت قد أحببت فإني أستحق أكثر من ذلك. - ما أعجب أن نذكر الحب في مثل حالنا! - لك علي ألا أذكره.

وندم على ما فرط منه. ما جدوى الغضب؟ وكبح نفسه قائلا وهو يجفف عرقه: نحن نهرب في الغضب من مواجهة أنفسنا. - طيب أن تذكر نفسك بذلك.

فقال كالمعتذر: وداد، إنك امرأة ناضجة رغم صغر سنك، لك مزايا عظيمة، الفتونة لم تخلب لبك فأخلصت لنداء قلبك، تحديت الحارة وهربت معي، ناضجة ومحترمة، عظيم، اقترحي علي.

فقالت متأثرة بندمه: اقترح أنت.

فتفكر قليلا ثم قال: الشك يمزق قلبي، أأنا ضحية عبث؟ أم العبث من خلق تعاستي؟ في مثل حالي هذه لا يحسن بي أن أتخذ قرارا! - تستطيع أن تتخذ قرارا في جميع الأحوال.

فتنهد قائلا: سأحمل الشيخ ضرغام رسالة إلى معلمي القديم موجود الديناري أسأله عن شروطه لكي يعفو عنا.

فصمتت غير قليل ثم تمتمت: افعل، لا حيلة لنا، لا أتوقع خيرا.

15

جاءها بالرد مساء اليوم التالي أو اليوم الرابع في مقامها الجديد. قال لها بوجه ناطق بحيرته: كما توقعت.

فقال بأسى: لم أتوقع خيرا. - إنه أفظع من ذلك، لقد قال للرسول: «قل للأعمى أن يستمر.»

فانتقلت الحيرة إلى وجه وداد وغمغمت: أن تستمر؟! - هذا ما ردده في آخر لقاء لي معه. - تستمر في ماذا؟ - لم يزد عما قلت ولم ينقص. - أهذا هو شرطه ليعفو عنا؟! - لم يجر للعفو ذكر في جوابه. - لا شك أنك تفهمه خيرا مني. - إنه يتعمد إبقائي في الحيرة حتى أجن! - ليته يقنع بذلك ويعفو عن أهلنا.

فضحك ضحكة جنونية وقال: لن يكف يده عنهم قبل أن أصدع بأمره وأستمر. - إذن فعليك أن تستمر. - في ماذا؟ - لم لا تستوضحه؟ - فعل الرسول ولكنه لم يرد. الشيخ ضرغام نفسه قال عنه إنه يتعذر التفاهم معه، بيد أنه نصحني بأن أفعل ما يمليه علي ضميري. - رجعنا إلى ما قبل السؤال. - توهمت مرة أنه يعني أن أستمر في المهمة! - ولكنك أخفقت من أول خطوة. - لا أستطيع أن أحكم لأنني لم أطلع على كل ما يدور في رأسه.

فتساءلت نافدة الصبر: أهلنا هل ينتظرون حتى نحل هذه الألغاز؟

فقال متجاهلا مقاطعتها العصبية: توهمت مرة أخرى أنه يدعوني إلى إصلاح الخطأ. - هل يقبل الحل الذي ترتئيه؟ - لا أدري البتة!

فهتفت: ثمة مهمة عاجلة، وهي أن نرفع العذاب عن أهلنا وأن نبعد عن هذا الجو المعادي لنا. - بل يعني أن نرجع إلى الحارة. - لا يمكن أن نرجع ونحن زوجان وإلا عد ذلك تحديا له. - يجب أن نرجع. - قال بأسى: وداد، إنك تفكرين في التخلي عني.

فشهقت بالبكاء ولم تدر ما تقول، فقال: هبنا انفصلنا فهل يعفو عنا؟ - ثمة أمر مؤكد وهو أنه سيكف عن أهلنا وسننجو من هذا الدرب البغيض.

فتمتم كالمتردد: من يدري؟

فقالت بوضوح: إني راجعة. - يلزمنا مزيد من التفكير. - نحن نزيدهم عذابا، ونتعذب أيضا، فلنقدم ولنكل أمرنا إلى الله.

16

عليه أن يستأذن المعلم الشبلي صاحب الفضل والحماية. إنه حريص على النزاهة بقدر ما هو متهم بالخيانة. شعر مرة أخرى بالفارق الكبير بين الدارين، دار الشبلي ودار الديناري. هنا فناء واسع ولكنه موحش ولا زرع فيه، والإصطبل تفوح منه روائح أليمة. وتجري الأبراص بين عمد الأسقف البارزة. الشبلي نفسه لا ينعم جسده بالنظافة إلا حين انطلاقه إلى المقهى. أجل إنه - بخلاف الديناري - واضح، ولكنه وضوح الابتذال والتفاهة. والحق أنه رغم كل ما كان لم يحب الشبلي ولم يبغض الديناري. وقد مهد لمطلبه قائلا: لن أنسى فضلك ولا ما وجدته في دربك من أمن.

فقال المعلم ببرود: لعله يثمر معك.

فقال متصبرا على اللطمة: لن أنسى فضلك أبدا. - ماذا تريد؟ أراهن على أنك لم تحضر للسؤال عن صحتي! - صحتك دائما عين المراد، المسألة أننا لم نعد نطيق البقاء مع ما بلغنا عن انتقام الديناري من أهلنا.

فتساءل الرجل في سخرية: أجئت تطالبني بحماية أهلكم؟! - ما إلى هذا قصدت، ولكننا قررنا الرجوع إلى حارتنا، وليفعل الله ما يشاء. - هل ترجع بخطيبة معلمك وهي على ذمتك؟ - سيكون الطلاق ضمن ما نقدم من تضحية.

فتهلل وجه الرجل وقال: هو الصواب ولا لوم عليك. - لذلك جئتك مستأذنا في العودة. - لك ما تشاء، ولكن يجب أن يتم الطلاق هنا! - لكن حدوثه في الحارة خير لنا.

فقال بإصرار: أرى أن يتم هنا.

فتساءل شطا في ارتباك: وما وجه الحكمة في ذلك؟ - لترجع زوجتك إذا رجعت بمشيئتها لا بحكم كونها زوجتك. - ولكنها صاحبة الاقتراح. - ولو، قد تغير رأيها وتؤثر البقاء وحدها!

قالها بوضوح غليظ، فأدرك شطا من فوره أن الرجل يريدها لنفسه، فقال بقلق: هيهات أن أنال العفو عن الأهل إذا رجعت وحدي.

فقال بقحة ونبرة منذرة: لا يهمني ذلك!

فقال متوسلا: معلمي ...

ولكنه قاطعه قائلا بخشونة: لقد قدمت لك خدمة لا توزن بثمن، وجاءت نوبتك لترد إلي بعض الجميل.

تردد شطا، فواصل الرجل غاضبا: اذهب وطلق!

17

اهتز عودها الرشيق من الغضب وهتفت: لن يكون هذا أبدا.

فرمقها شطا بحزن ويأس مدركا عمق المأزق الذي وقع فيه، فهتفت: فلنهرب!

فقال بذهول: هيهات أن يتيسر لنا ذلك.

فحدجته بنظرة غاضبة وقالت: لقد أخطأت بذهابك إليه. - فعلت ما يقتضيه الواجب. - دائما يقودك تصرفك إلى مشكلات لا حل لها. - إني أفعل ما يمليه علي ضميري!

فقالت بحنق: لا شك أنه يطالبك بأن تحمي أيضا زوجتك.

فهتف بغضب: أجل، ولكن ما حيلتي؟ - هل يمكن أن تتركني له ثم تذهب؟

فتمتم شاردا: غير ممكن. - ماذا تنوي أن تفعل؟ - لا أدري. - إنه يتوقع أن تصدع بأمره. - أجل. - هل تصدع بأمره؟ - كلا! - ماذا تنوي أن تفعل؟ - لا أدري. - أكاد أن أجن. - ما أنا إلا رجل مفرد أمام عصابة في درب لا صديق لنا فيه. - إنك تفكر في التسليم. - إنك لا تفكرين إلا في ذاتك.

فقالت محذرة: شر ما نفعله في موقفنا الحرج أن نتشاجر معا. - من الخير أن نذكر أنفسنا بذلك.

عند ذاك دق الباب، فنهض شطا إليه يفتحه، فدخل الشبلي يتبعه مأذون الحي ونفر من رجال العصابة.

18

ابتسم الشبلي عن ثنيتين ذهبيتين وقال: جئنا لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه!

تراجعت وداد إلى ركن الحجرة وهي تحبك جلبابها حول جسدها متسائلة: أي اتفاق؟

ردد الشبلي عينيه بينهما ثم قال بهدوء منذر: ها هو المأذون، واختر من الرجال شاهدين.

فغلى دم شطا في عروقه وملكته نشوة كالتي دفعته إلى قبول المهمة في غرزة المنارة، فقال: لا اتفاق بيننا يا معلم.

فاربد وجه الشبلي وتساءل: ألا تريد أن تطلق؟

فقال شطا وهو يفتح صدره على مصراعيه للمجهول: نعم.

فرنا إليه مليا بين رجال متوثبين في صمت يشل الخواطر، ثم التفت نحو المأذون قائلا: اذهب فلا حاجة بنا إليك.

ولما أغلق الباب وراءه قال: لي طريقتي، ولكل شيخ طريقة، ولدي دائما ما هو أفتك من القتل!

وتنحى جانبا وشطا يتابعه بعينيه أما الرجال فاتجهوا نحوه متحفزين، فصرخ به شطا : تقدم أنت يا جبان.

انقضوا عليه فدارت معركة حامية. كال لهم ضربات صادقة، وتلقى ضربات مجنونة. صارع بقوة وشجاعة ولكن اختل توازنه فهوى. ارتمى عليه الرجال فأشبعوه حتى نزف الدم من بين أسنانه وأنفه. وأوثقوا يديه وقدميه وجلس أثقلهم فوقه. مضى الشبلي نحو وداد وهو يقول مخاطبا شطا: فلتر بعينيك عاقبة عنادك!

19

أخيرا خلت الحجرة لهما. تحطمت قوائم الكنبة الوحيدة وتفزر حشوها، وتغطت الحصيرة بالطين والتراب، وفاحت رائحة العرق. ذهب الرجال مخلفين روائحهم والجريمة. تكومت وداد ممزقة الملابس وطرح شطا على الأرض ملوثا بالدم معذبا بالوعي. حجز بينهما صمت وشعور عميق بالحرج. أما الحزن والغضب فقد استقر في أعماق الروح. وتملص من الصمت فقال: لا تحزني، أنت بريئة وطاهرة.

تحجرت نظرتها أكثر، فقال متأسفا: بذلت المستحيل!

تحركت من مرقدها. سوت ثوبها، مضت مترنحة إلى الدهليز عادت قابضة على سكين. تمنى لو تغمدها في قلبه. راحت تقطع وثاقه. تحرك متأوها وراح يجفف دمه بطرف جلبابه. أخذ راحتها بين يديه مغمغما: يا للتعاسة!

فقالت بصوت غريب: لنذهب.

فقال متوعدا: لأقتلنه ذات يوم! - قد تقتل قبل ذلك، فلنذهب! - لا شك أن الحكاية تتردد الآن في سوق الدرب.

فقالت بكآبة: ستسبقنا إلى الحارة أيضا.

ثم رفعت منكبيها استهانة وتساءلت: أين يتم الطلاق؟

فصرخ: لن أطلق أبدا!

فاتسعت عيناها في ذهول، فقال بإصرار: أبدا! أبدا! - وعذاب الآخرين؟! - إني ماض إلى مقابلة الديناري ومواجهة المستحيل.

20

غادر شطا الحجري ووداد مسكنهما فيما يشبه الزفة. أحدق بهما الرجال، فتبعوهما حتى عبرا بوابة المتولي مخلفين وراءهما الدرب الأحمر وذكرياته الدامية.

قال شطا: لم يبق لنا إلا أن نواجه مصيرنا بشجاعة.

فتمتمت وداد: من يصدق أننا لم نلبث في الجحيم إلا خمسة أيام! - ساعة واحدة كافية إذا حم القدر.

ونفخ غاضبا ثم استدرك: ليت في الوقت متسعا للصبر حتى يزول الورم عن أنفي وشفتي لأرجع إلى الحارة على الحال التي تركتها عليها. - هيهات أن ترجع تلك الحال! - فقال متوعدا: لي رجعة إلى الدرب الأحمر! - فلنفكر فيما نحن مقبلون عليه. - لن أعرف الجبن والتردد بعد اليوم.

وقبيل مدخل الحارة بخطوات وشمس الظهيرة تصب على الميدان نارا، رأى طباع الديك يدخن نارجيلة أمام دكان النجار. انقبض صدره، وانقبض أكثر عندما نهض الرجل طارحا خرطوم النارجيلة على المقعد مقبلا نحوه في ترحاب ظاهر: أهلا، لم تخلق الغربة لنا.

صافحهما ثم وقف يردد عينيه بينهما ثم قال: قلبي معكما، إنها لمأساة حقا!

فتساءل شطا نافد الصبر: أتنوي الشماتة بنا؟

فقال مستفظعا: الشماتة! أنسيت أني أعتبر أمك أما لي؟ أنسيت تزكيتي لك عند المعلم؟ أنسيت تحذيري لك في الوقت المناسب؟ أنسيت أيضا أنني أعتبر الاعتداء على عرضك اعتداء على عرضي أنا؟!

آه، إذن وصلت الحكاية مع أشعة الشمس! وهتفت وداد محتدة: إني شريفة رغم أنف الجاحدين.

فقال طباع الديك: وجه زوجك يشهد بشجاعته في الدفاع عنك.

فهتف شطا: لن ينجو المجرم من العقاب. - شهم ابن شهم، ما عليك الآن إلا أن تنال عفو المعلم. - هذا ما جئت من أجله. - الأمور معقدة، ولكن متى كانت الدنيا يسيرة؟ وكلما ازداد الرجل همة ازدادت الدنيا له تعقيدا، ولكن لن ينسى أبدا أنك كنت السابق إلى قبول المهمة!

فقال شطا بعصبية: لن يخدعني كلامك المعسول، لقد علمتني المصائب في أيام ما لم أتعلمه في عشرين عاما، وهيأتني لمواجهة المصير أيا يكون. - عفارم، لا يعيبك إلا سوء ظنك بالناس، وشر سوء الظن ما حاق بالأصدقاء، وكان يجب أن تعلم أن الشماتة ليست من شيم الفتوات!

21

قال شطا لوداد وهما يمضيان نحو الحارة: إني لا أصدقه ولا أثق به.

فقالت وداد بعدم اكتراث: ولا أنا.

وهما يدخلان الحارة همست وداد بخوف لأول مرة: ما أفظع لقاء الناس.

فقال شطا بتحد: ليكن ما يكون.

انتبه لهما قليلون راوحت نظراتهم بين الشماتة والازدراء. همس شطا: فلنسرع نحو دار المعلم.

ترامت إلى أذنيهما تعليقات: الهاربان. - الخائنان. - المهتوكان.

أخيرا طالعتهما البوابة العملاقة.

22

ها هو موجود الديناري. ها هو وجهه الذي لا يفصح عن شيء. مثلا أمامه في ذل واستسلام. ولما لم يتكلم أو يوح برغبة في الكلام قال شطا: ليس في نيتي الاعتذار، ذنبي أكبر من ذلك، ولكني جئت مسلما نفسي لتقضي بما تشاء.

لزم المعلم الصمت. ترى أيخفي وراء الصمت غضبا؟ أم سخرية أم عبثا؟ ونفد صبر وداد فقالت: لن نسألك شيئا لأنفسنا، ولكننا نطلب الرحمة لأهلنا الأبرياء. - لم يتغير مظهره ولكنه تساءل بهدوء: ماذا يشكو أهلكم؟ - إنهم يعانون العقاب الذي استحققناه نحن. - هل تحريتم ذلك عند أهلكم؟ - كانت دارك مقصدنا الأول، ولكن ذلك ما بلغنا في مهجرنا. - كذب ما بلغكم!

فذهل شطا كما ذهلت وداد، أما المعلم فقال: إني فتوة الحارة وحاميها وليس من مذهبي أن آخذ البريء بالمذنب.

فقال شطا بحماس: هذا هو المأثور عن شهامتك. - ولكنكما صدقتما ما بلغكما مما يقطع بسوء ظنكما بي.

فتمتم شطا استحياء: الغربة أفسدت عقلنا. - ما دام هذا التصور الخاطئ هو ما دفعكما إلى المجيء، فلكما أن ترجعا ولن يتعرض لكما أحد.

فهتف شطا الحجري: لا حياة لنا إلا أن تقضي في أمرنا بما أنت قاض. - لا أصدقك فقد عهدتك تقول قولا وتفعل نقيضه. - كان الحرص على الشرف وراء كل فعل فعلته. - إذن أنت تتهمني بأنني أكلفك بما يناقض الشرف!

فقال شطا بحماس: معاذ الله يا معلمي، ولكنك تضن علي بإدراك مطالبك. - إما أنني عاجز عن التعبير وإما أنك عاجز عن الإدراك.

فقال شطا وهو يعاني مرارة القهر: أعترف بعجزي، ولكن ما حيلتي؟ لقد أرسلت إليك من يسألك عن شروطك للعفو عني فكان الجواب «قل للأعمى أن يستمر.» أستمر في ماذا؟ فكرت في إصلاح الخطأ فماذا كانت النتيجة؟!

عند ذلك قالت وداد وكأنما تجيبه عما يسأل: كانت المأساة الدامية والفضيحة التي سبقتنا إلى الحارة. - لعلكما تتصوران أنني المتهم!

فهتف شطا: معاذ الله، حسبنا الآن أن نتلقى حكمك.

فأشار المعلم إلى وداد وهو يسأل شطا: ما زالت على ذمتك؟ - اتخذنا قرارا بالطلاق والرجوع، ثم كان اعتداء الأثيم، فأقلعت عن فكرة الطلاق إلى الأبد. - وإذا أمرت بتطليقها؟

فأحنى شطا رأسه صامتا ويائسا، فقال المعلم: في الصمت جواب.

فقال شطا: إني أنحدر من خطأ إلى خطأ، ولن ينتشلني من العذاب إلا أن تقضي في بما ترى.

فقال المعلم مخاطبا وداد: إني أقرأ في عينيك فكرة أخرى، ما هي؟

فقالت وداد بجرأة غير متوقعة: أن تعفو عنه وأن تعيده إلى جماعتك! - حقا إنك أنسب شريكة لمن كان مثله.

فقالت ثملة بجرأتها: حسبنا ما ذقنا من عذاب، وحسبه ما أبدى من شجاعة.

فالتفت المعلم نحو شطا متسائلا: أهذا رأيك أيضا؟

فقال شطا بانكسار: إني منتظر قضاءك! - يا لك من ماكر. - مثولي بين يديك يقطع بصدقي. - بل أنت تريد أن تتوسل بالحكم إلى إدراك ما غمض عليك.

فقال مغلوبا على أمره: أروم حياة مطمئنة.

أمسك الرجل عن الكلام حتى تشبع الصمت باللهفة والأشواق، ثم قال: استمر!

فتطلع إليه شطا في حيرة بل في فزع، فقال الرجل: هذا هو الحكم، استمر!

فقال شطا بحرارة: أريد كلمة واضحة محددة.

فقال المعلم: لقد أضجرتني فاذهب.

23

مضى بزوجه إلى بدروم عمارة الجبلي. كانت أمه - ستهم الغجرية - في الخارج فجلسا وحيدين. اجتاحته الحيرة والتشاؤم بخلاف وداد التي راحت تقول: كان بوسعه أن يضربك أو يطردك من الحارة أو يصر على طلاقنا، الحق أنه عفا عنا. فتساءل: ماذا منعه من النطق بالعفو؟ - لعله عز عليه أن ينطق به بعد ما كان منك، ولكن ألا ترى أنك حر، لم ينلك أذى، وأنك ستواصل الحياة مثل بقية الناس؟ - لم يتركني حرا، أمرني أن أستمر، ثبتني في أعماق الحيرة، لم يطردني من العصابة ولم يرجعني إليها، لم يعاقبني ولم يعف عني، لم تند عنه كلمة واحدة تدل على الرضا ولا على الرفض!

فقالت بحرارة: عش حياتك ولا تشغل بالك بألغاز لا حل لها. - ولكن كيف؟ ألا يجوز أن أحاسب فجأة على أنني «لم أستمر»، ما زلت أشعر بأنني مكلف بأمر ما، غير أنني أجهله هذه المرة جهلا تاما. - يخيل إلى أن محور همك يدور حول إيمانك بجديته المطلقة، أليس هو في النهاية رجلا يجد حينا ويلهو حينا آخر؟ أليس من المحتمل أنه يميل إلى العبث وأنه وجد فيك مادة صالحة لعبثه؟ أبعده عن ذهنك وعش حياتك ولن تلقى مكروها أبدا. - لو افترضت به العبث لانقشعت الحيرة من أساسها، ولكنه رجل أقوى من الطاحونة وأدق من الساعة.

ثم رماها بنظرة مقطبة وتساءل: أيرضيك أن ترجعي ما حل بنا من شقاء وتضحية إلى اللهو والعبث؟! •••

ولما رجعت ستهم فرحت بعودته، ولكنها رحبت بفتور بوداد. وقبل مضي يوم راحت تعاتبه على ما جر على نفسه من سوء السمعة. والحق أن أقرانه لم يداروا عنه احتقارهم، وكاد أهل الحارة يقاطعونه مقاطعة كاملة. اضطر إلى أن يبحث عن رزقه بعيدا عن الحارة، وتجرع الغربة وهو بين الأهل والجيران.

وتساءلت وداد بمرارة: متى تنسى حكايتنا؟

فقال لها: إنه عقابه الذي لم يعلنه.

فصرخت: بل إنهم أوغاد ولا رحمة في قلوبهم.

فغمغم شطا وكأنه يهامس نفسه: استمر! استمر! ما معنى هذا؟!

24

مضت الحياة بمرها الكثير وحلوها القليل. ظل شطا يسعى خارج الحارة ويعيش فيها بلا صاحب، وقبل أن ينقضي الصيف الثقيل وقع الشبلي فتوة الدرب الأحمر في خطأ لا يغتفر. راح يتباهى بأنه اغتصب وداد خطيبة الديناري على مرأى من شطا الحجري «رجله الثاني». ترامت الأنباء إلى الحارة مصحوبة بأغان داعرة صاغت الحادثة في قالب مزاح ساخر، وإذا بالحارة تشهد تعبئة لم تشهدها من قبل. تسلح الرجال بالنبابيت والخناجر، وشحنت عربات بالزلط والقوارير وخردة الحديد. وانضم شطا الحجري إلى الرجال دون أن يدعى إلى ذلك وهو يقول لنفسه: «جاء اليوم الذي أحلم به.» وكانت غزوة مفاجئة وفي رابعة النهار. نشبت معركة حامية ما زالت ذكرياتها حية في رءوس الكهول ودوائر الأمن. وحقق شطا حلمه، فطعن الشبلي طعنة قاتلة متلقيا في الوقت ذاته عشرات الضربات القاتلة. وكان من جراء ذلك أن ثار غضب المحافظة فاتخذت قرارها الحاسم!

25

عندما درجت في مدارج الوعي كانت حكاية الديناري قد انطوت في أعطاف التاريخ، ولكنها كانت ما تزال حية في القلوب. لقد قضي على المعلم بالسجن عشرة أعوام، ولما أفرج عنه فرضت عليه رقابة دائمة، فابتاع مقهى النجف ومارس حياة مواطن كسائر المواطنين. جلس على كرسي الإدارة مجللا بالشيخوخة والمهابة والذكريات الباقية. وقد قتل شطا الحجري في مواجهة بطولية محت العار عن سمعته وكفرت عن زلته، فنشأ ابنه الوحيد رضوان محوطا بالاحترام. وقيل إن الديناري تكفل بدفنه، فأول ذلك بأنه تقدير أخير له، وبولغ في التأويل حتى قيل إنه اعتبر رجله الثاني. وقد رأيت بعيني وداد وهي امرأة تجاوز الأربعين، وكانت تبيع الخوص والريحان في مواسم زيارة المقابر. وأدركت موجود الديناري وهو يدير النجف وقد مضى عهد الفتوات والفتونة. اختفى الرجال وبطلت الشعائر، فأصبح الرجل في نظر القانون صاحب مقهى وتحت المراقبة الدائمة، ولكنه ظل في نظر العباد فتوة الحارة وحاميها، حتى الشرطي وشيخ الحارة لم ينجوا من دفقة الشعور العام، فكانا يختصانه بالاحترام وحسن المعاملة. أجل زالت عنه تقاليد الفتونة، ولكن بقي له السحر الخفي الذي لا يبالي بالقوانين والأوامر الإدارية، بقي له التاريخ والمهابة والأثر الحي.

هكذا جذبني مقهى النجف قبل أن أبلغ سن الشباب. وكنت أجلس في ركني المنعزل أسترق إليه النظر بشغف المعجبين وخيال العاشقين.

وكان يتجلى بهاؤه في الأعياد، فكأنها لم تخلق إلا له. كان يجلس على الأريكة متلفعا بعباءة جديدة، ممشطا اللحية والشارب، وتمر أمامه عربات الكارو محملة بالنساء والرجال والأطفال في أثوابهم الجديدة الملونة في هالة رائعة من الطبل والزمر والرقص:

يا فتوتنا

يا ديناري

يا حبيبنا

يا ديناري

يا حامينا

يا ديناري

ثم تدوي الهتافات والزغاريد، ويثمل العاشقون بكئوس المجد والعشق والحنين العارم إلى النصر.

أمشير

1

المارون بشارع رأس الحكمة بزيزينيا يجذب أنظارهم القصر الأبيض. عم عمارة الجعفري البواب يجلس عادة على أريكته أمام الباب الكبير، هادئ النظرة تتحرك شفتاه الغليظتان بتلاوة غير مسموعة، لا يكاد يرى ما يجري أمامه، ولا يبالي بما يقوم خلفه. والقصر الأبيض قابع بطابقيه بين أشجار دائمة الخضرة تتخللها نخلات طويلة رشيقة مغطاة الجذع بأردية بيضاء. وعندما يدور السمر بين البواب والسواق والطاهي حول القصر الجميل يثني عم عمارة على صاحبه جندي بك الأعور قائلا: إن الله يزيده ثراء جزاء ما طبع عليه من إحسان وخلق كريم، إنه يرد تحيات الفقراء بأحسن منها ويوزع الزكاة في الأعياد والمواسم. ولكن أي غمامة تلك التي تنداح في الأفق؟ ماذا يحدث بين الناس الطيبين؟ لم يخيل إليه أن وراء الستائر المسدلة قلوبا تردد أصداء الأمواج الهادرة؟ ويدعو الله مخلصا: «اللهم احفظ القصر وأهله، اللهم احفظنا.»

2

في ذلك الوقت انتقلت جميلة هانم من حجرتها إلى الفراندا الخلفية لمقابلة يحيى. جاءت جادة، حتى الابتسامة المغتصبة لم تحاول أن ترسمها فوق شفتيها الممتلئتين. واعتبرها يحيى زيارة غير عادية؛ إذ إن أمه تجد ما يشغلها من شئون القصر طيلة النهار. جلست على كرسي إلى جانبه في الفراندا المشرفة على حديقة الأزهار وحمام السباحة. وكانت الشمس تفترش الأرض الخضراء المترامية بين الأسوار العالية، ولا نأمة تجيء من شارع رأس الحكمة المزين على ضفتيه بالنخلات العشرين. وكان يحيى يستجم قليلا من المذاكرة، مستسلما لدفقات من نسيم الربيع تتلاقى في وجدانه بأنغام موسيقى خفيفة تنبعث من ترانزستر. فأسكت الجهاز مرحبا بمقدم بأمه. بدا في البيجاما رشيقا طويلا، جامعا في صفحة وجهه بين عيني أمه الجميلتين وبناء شعبي لأطراف وجهه الغليظ. ورغم رونق الأم الذي يعد فوق ما تتمنى امرأة في الخمسين فقد تجلت بها سمات شعبية في دسامة يديها وخشونة نبرتها. وإعرابا عن حبه تناول يدها ولثمها وهو يلحظها باهتمام. قالت جميلة هانم: لم يعد بينك وبين الامتحان النهائي إلا ثلاثة أشهر كان يجب أن تمر في هدوء شامل لتتفرغ لعملك، ولكن الظروف تحتم علي أن أحيطك بما يقع حولنا.

فرنا إليها بعينيه العسليتين باهتمام متزايد وهو يتمتم: ليكن خيرا إن شاء الله.

فقالت بأسف واضح: إنه أبعد ما يكون عن ذلك!

طالما شعر بأن القصر يمضي بلا تاريخ، فماذا حدث؟ أما الأم فقالت: لا أريد أن تباغتك الحوادث، تقرر أن يغادر محروس ابن البك القصر هو وأسرته!

تردد الكلام في مسمعيه أول الأمر بلا معنى. وسرعان ما لاح الانزعاج في عينيه. وتبين له أن منظر أمه ينذر بشر غير محدود. تمتم واجما: إنه لغز ولكن له تفسير ولا شك. - كأنه نوة من نوات البحر، إني آسفة! - ما معنى تقرر؟ من صاحب القرار؟ - صاحبه واحد، من غيره؟ تقرر طرد محروس وأسرته.

تجهم وجه يحيى. تذكر النفور الدائم بين أمه وحرم محروس، هل لعب النفور دورا في تخطيط هذه النهاية الأليمة غير المتوقعة؟ وقال بحذر: محروس بك هو الابن الوحيد لجندي بك فكيف هان عليه أن يطرده هو وأسرته من قصره؟

أجابت جميلة هانم بحزن شديد: ثمة جريمة شنعاء! - جريمة؟!

قالت وصوتها يتهدج: تصور يا يحيى، لقد دبر الابن جريمة خفية لقتل أبيه!

تصلب عود يحيى من الانزعاج والذهول، تفكر في معنى ما يلقى إلى سمعه، تأمله مليا برعب، ثم تجلت لمخيلته صورة وداد الجميلة المستقرة في أعماق قلبه. ما أكذب الربيع الساطع. إنه يسخر من أحلامه العذبة ويعصف بطمأنينته الراسخة. وتمتمت المرأة وكأنما تقرأ أفكاره الدفينة: الأمر محزن جدا، وهناك حزن آخر من أجلك أنت.

وراح يقول وكأنما يحادث نفسه: جريمة خفية، من يصدق هذا؟ ولكن كيف؟ - إنه الشيطان، أجل لم ينعم الجو بالصفاء بين الأب وابنه، ولكن الأب رجل عاقل وكريم، لم يضن أبدا على ابنه بخير، وكان محروس يعيش في القصر وكأنه صاحبه، هو وزوجته وابنته، ثم يحاول شراء الطاهي ليدس السم لأبيه؟! - أي غباء وأي جنون! - طوى الطاهي السر في صدره، أجل إنه صنيعة محروس، ومحروس الذي جاء به منذ سنوات ولكنه إنسان أمين فجاءني وأفضي إلي بسره! - أنت؟! - نعم، إنه يتعامل معي يوميا ... - وأنت التي أبلغت عمي؟ - ذهبت به إلى البك. - الأمر يتطلب تحقيقا عادلا! - عمك ثار وأوشك أن يبلغ الأمر للنيابة لولا توسلاتي إليه أن يفكر في هدوء وأن يتجنب الفضيحة. - ربما أسفر التحقيق عن لا شيء؟

فقالت بأسى: عندما واجه محروس بالتهمة لم يدر كيف يدافع عن نفسه، كأنما كان يعترف.

تنهد يحيى وتمتم: محروس في الأربعين، زوج وأب، لا ينقصه شيء، كيف اشترى جريمة بالنعيم والأمل؟ - إنه الشيطان، ومن يدري؟ العمل يبدو جنونا لا معنى له، والحمد لله أن عمك اكتفى بطرده وحرمانه.

بعيد أن يكون الرجل بريئا. لقد خسر بجنونه كل شيء. ضاع تماما. وتذكر مرة أخرى وداد كريمة المتهم. لقد طرد معهم بمعنى من المعاني. أمه ولا شك تدرك ذلك تماما. أيضا زوج أمه جندي بك الأعور. كم من متاعب ترصده في هذه الأيام الصفراء! ها هي أمه تقول: إني آسفة جدا يا يحيى. - لكن كيف تواجه الأسرة المطرودة الحياة؟

فقالت بعتاب: يجب أن ترثي أولا لعمك! - بلا شك، ولكن سؤالي له وجاهته أيضا!

فقالت وهي لا تخفي امتعاضها: لا بد من فترة انتظار حتى تنحسر عواصف الانفعال، في نيتي بعد ذلك أن أرجو عمك أن يهب الرجل وأسرته عمارة من عماراته حتى لا يدفعه اليأس إلى الجنون!

فقال يحيى مستردا بعض أنفاسه: فكرة طيبة.

وطوال الوقت فكر في وداد، وبدا أن أمه تشاركه خواطره، وقد قالت بصراحة: إني حزينة من أجلك يا يحيى.

فقال بوضوح: إني أحب وداد، وهي تحبني، لن يفرق بيننا شيء!

فقالت بإشفاق: عليك أن تتذكر عمك، إنه في الواقع أبوك.

فقال بمرارة: أعلم أنني بفضله أنعم بالحياة في هذا القصر على حين أن أبي الحقيقي لا يدري عني شيئا، كما أنني لا أدري عنه شيئا، وأعلم أيضا أنه كان من الممكن أن يعاملني كغريب، كابن زوجته من رجل آخر، ولكنه عاملني كابنه ...

فقاطعته بحماس: بل عاملك خيرا من ابنه، وأحبك أكثر منه، حتى قبل الجريمة! - أسلم بهذا، ولكنني أحب وداد أيضا، وهي بريئة من ناحية وحفيدته من ناحية أخرى.

وسدت راحتها منكبه وقالت: إني أطالبك بالحكمة، وأتمنى لك السعادة. - أنت لم تحبي محروس ولا زوجته، ولكن وداد فتاة ممتازة. - رأيك هو المهم، ولكن عليك أن تنتظر فترة ثم لك بعد ذلك أن تفضي بنواياك إلى عمك.

يبدو أن المهمة لن تكون سهلة، وأنه ربما اضطر إلى المقامرة بمنزلته عند الرجل. وهو لا يتعذر عليه النفاذ إلى أفكار أمه الخلفية، ولكنه قال متظاهرا بالبراءة: سوف أتحين فرصة مناسبة. - ورجائي ألا تثير غضبه.

فقال بضيق: إني حريص على رضاه، ولكني لن أفرط في وداد.

فقالت بصوت منخفض: تخيل ما يعدك به المستقبل!

لم يرتح لقولها. ورغم ثقته فيها تساءل عن الدور الذي لعبته في هذه القضية. شد ما تفزعه الوساوس. وقد كان دائما يؤاخذ هذا القصر على تقديسه للمال. إنه لا ينكر أهمية المال، ولكنه يكره أن ينصب هدفا أعلى للإنسان. لا حديث لأهل القصر سوى النقود والسلع. وقد دفعته تلك التقاليد إلى الالتحاق بكلية التجارة، كما دفعت وداد بعده. ومن أجل ذلك المعبود حرص الابن على قتل أبيه، وها هي أمه تتوثب لاستغلال الموقف الجديد لصالحه. قال برجاء: لا تحدثيني بما يثير اشمئزازي.

فقالت باسمة: لا أحد يحب الفقر.

هز منكبيه صامتا. أدرك بوضوح أن المتاعب الجديدة لن تعفي أحدا من آثارها.

3

الشاطئ ما زال خاليا. الرياح معتدلة مشبعة ببرودة ودودة آمنة. وفي أحضان العذوبة المنتشرة تراقصت الأمواج في رشاقة. لم يكن في كازينو جليم سوى العشاق. جلس يحيى ووداد في طرف الكازينو المطل على الخليج قبل الغروب بساعة. أول مرة ذلك العام غيرت وداد ملابس الشتاء فتجلى عودها الرشيق تحت البلوزة البيضاء الثرية والبنطلون الرمادي. جميلة ببشرتها القمحية وعينيها السوداوين وشفتيها المضمومتين، ولكنها جادة واجمة. لم تجمع بينهما جلسة كئيبة كهذه الجلسة من قبل. اختفى من عينيها المرح والدلال كما اختفت من عينيه الأشواق. جلسا جنبا لجنب وراء الترابيزة ينظران إلى البحر المنفسح بعينين لا تريان شيئا، وكانت تقول: أقمنا في شقة مفروشة، حياة لا يمكن أن تستمر طويلا، لا ندري شيئا عما يخبئه لنا الغد.

فانغمس في الشجن وهو يقول: لكن والدك اكتسب خبرة في الأعمال عندما كان يعمل في مكتب والده. - لا أعتقد أنه يتوفر له اليوم رأس مال كاف، ثم إن التهمة الظالمة ستطارده طويلا.

تنهد قائلا: حتى الآن لا أصدق ما وقع!

فقالت بإصرار: أبي ينكره وأنا أصدقه. - فما الحقيقة إذن؟ - لعله سوء تفاهم استغل أسوأ استغلال!

شعر بأن ثمة اتهاما يحوم حول أمه مثل ذبابة، فضاق صدره، ولكنه قال: أيكفي ذلك لاختلاق جريمة تفرق بين الأب وابنه الوحيد!

فقالت بامتعاض: المصائب تفوق الخيال!

وصمتا قليلا في حزن بالغ حتى قال يحيى: إذا كان للموضوع حقيقة خفية فلن تغيب طويلا، وسوف يوجد للموقف العسير حل، أما نحن فعلينا أن نركز في الواقع الذي يتحدانا.

فلم تدري ما تقول فواصل حديثه: ما بين يوم وليلة أصبح تلاقينا لا يتم إلا سرا، كأننا غريبان، هذا هو الواقع الذي علينا أن نتعاون على تحطيمه. - ولكنني لا أستطيع أن أنزع نفسي من مشكلتنا القائمة. - المأساة مأساتنا معا، سنفكر طويلا، لن نتركها ولن تتركنا، ولكن علينا قبل ذلك أن نتفق على الدفاع عن حبنا حتى الموت!

فقالت بصدق: حبنا في حرز حصين، لسنا أطفالا، ثم إنك ستختم دراستك بعد ثلاثة أشهر، وسوف ألحق بك بعد عامين، ولكن كيف نعيش في هذا الجو الخانق؟! - إنه يظل القصر أيضا، لا أحد يبتسم، وهو يهدد حبنا. - لسنا أطفالا، ولندع للزمن فرصته. - أود أن نسبق الزمن، أجل يجب أن أنتظر مهلة، ولكن لا مفر من مواجهة جدك، وعليك أنت أن تتصدي بشجاعة لأي عدوان يجيء من ناحية محروس بك أو شريفة هانم، ثم إنني في النهاية شخص غريب ليس إلا ابن زوجة جدك.

فقالت بإشفاق: إنك معدود ابنا له! - لا أنكر ذلك، ولكني لن أتخلى عنك أبدا.

قرر أن يخفف عن أعصابهما بشرب الكوكاكولا، مضى يراجع ما انتهي إليه فوجده طيبا لا بأس به، ثم قال متماديا في نشدان الأمان: وداد، اعتدنا المصارحة دائما، هل ساءك ضياع الثروة المتوقع؟

فتفكرت قليلا ثم قالت: يشغلني الآن هم أسرتي. - لم تجيبي على سؤالي. - الثروة نعمة، وحياتها عادة، لا أدري كيف أتخلص منها. ماذا عندك أنت؟! - أنا أيضا اعتدت مستوى لا تؤهلني له حقيقة أصلي، ومذ أدركت أني شخص فقير هيأت نفسي للحياة البسيطة. - زدني إيضاحا. - وداد، لم أرتح أبدا لولع أمي وعمي بالمال . - ممكن أن نحبه دون أن نعبده.

فهز رأسه في حزن ولاذ بالصمت، فقالت بنبرة دعابة لم تخل من فتور: أعلم أنك تحب سماع الموسيقى أكثر من اقتناء ثروة. - أتسخرين مني؟ - كلا، ولكن تردد في بيتنا الحزين أن الخطوة التالية المتوقعة من جدي هي أن يملكك ثروته بطريقة قانونية!

شعر للمرة الثانية بالاتهام الحائم حول أمه، فقال بشيء من الحدة: لو خيرت بين ثروته وبينك فلن أتردد في الاختيار.

فقالت بأسف: ستكون حياتنا متواضعة جدا.

فقال بعتاب: سيعوضنا الحب عن كل شيء!

فابتسمت ابتسامة خفيفة، وكان قرص الشمس يهبط وديعا أليفا في الشفق، وقد استلت منه روح الشباب الفائر.

4

تلقى من أمه خبرا بأن عمه يدعوه إلى مقابلته في الحديقة. قالت له بحرارة: تذكر أنه أبوك، وتذكر أنه لم يبق على امتحانك النهائي إلا ثلاثة أشهر، وأنك يجب أن تحافظ على صفاء ذهنك.

مضى إلى الرجل الذي عاش طفولته وصباه وهو يؤمن بأنه أبوه، ويحبه - وما زال - مثل أمه. لم يعرف الحقيقة إلا عندما اطلع على شهادة ميلاده لأول مرة، عندما نودي في المدرسة باسم يحيى عويس الدغل لا يحيى جندي الأعور. عند ذاك عرف أنه ابن رجل آخر لم يره، يدعى عويس الدغل، طلق أمه وهو طفل ثم هجرهما إلى حيث لا يدري. ولولا مجيء جندي الأعور وزواجه من أمه واحتضانه له لتعرض لمصير مجهول لا خير فيه. كانت لطمة أليمة ولا شك ولكن رعاية الرجل له أنسته ألمه وانكساره. وقد شب وعاش في النعيم كأنه ابن الرجل الطيب. فعليه أن يتذكر ذلك التاريخ الذي لا ينسى، كما يتذكر حبه.

وجد البك جالسا في الدائرة الخضراء كما يحلو له أن يدعوها. هي ربوة مستديرة خضراء السفح، مسقوفة بمظلة من الخشب الأبيض على هيئة قبعة تتدلى منها المصابيح وضفائر اللبلاب. جلس على أريكة وثيرة في جلباب أبيض، وضيء الصلعة، بين يديه فوق الخوان قارورة ويسكي وجردل أحمر مليء بمربعات الثلج، وطبق فستق مقشر. ربعة بدين ذو كرش جسيمة، بيضاوي الوجه لحيمه ، قوي الفك غائر العينين في أنفه فطس ذو شارب غليظ لم تشب فيه شعرة واحدة رغم بلوغه الستين. حياه الفتى وجلس - كما أشار إليه - في قبالته. النسمة رائقة، وحفيف الغصون يبعث هسيسا هامسا، والأرض تضحك بألوان الأزهار، وشذا الربيع يفوح مسكرا. قال يحيى لنفسه: إن الجو يسخر منهم ويعلن لا مبالاته بأحزانهم. قال الرجل وكان لا يعرف اللف والدوران:

ثمة حديث ما عاد يجوز تأجيله يا يحيى.

فاعتدل يحيى في جلسته استعدادا، فقال جندي الأعور: ما حصل قد حصل لا حيلة لنا فيه.

فتمتم يحيى: ربنا معك. - ما زلت آسفا على أنني لم أسلمه ليد العدالة. - تصرفت معه بما يتوافق مع خلقك الكريم.

فصب في الكأس جديدا من الويسكي وقال: لم تكن الجريمة مفاجأة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فهو لم يضمر لي حبا ولا خيرا، وعلى العكس كنت دائما حذرا من ناحيته، دائما أتوقع ما لا يسر، ولا جدوى من حسن المعاملة مع أمثاله، بل لعلها زادته شرا، إنه الشرير الحقود، وكم من مرة أضبطه متلبسا بسرقة المكتب وأعفو، ماذا ينقصه؟ إنه عاش في بيتي عيشة الملوك، ولعب بالقرش لعبا، لكنه فاسق قذر ومقامر مجنون.

غشيته كآبة من مدخل الحديث فتنبأ له بنهاية غاية في السوء، أما الرجل فقال بقوة ووضوح: وشد ما حقد عليك كأنما تقاسمه لقمته، وشد ما طالب بطردك من القصر!

كان يشعر دائما بفتور عواطف الرجل نحوه، وزوجته أيضا، كرها في أمه، ولكن حبه لوداد جرف النفايات من مجرى حياته، أيضا لم يتصور أن النفور يتمادى لحد المطالبة بطرده. غير أن ما كان يهمه حقا فهو الحب وحمايته من إعصار الموقف الهائج. وصمت جندي الأعور حتى تستقر كلماته في أعماقه ثم واصل حديثه: له بطانة من السفلة والعاهرات، وقد بلغ الخامسة والأربعين دون أن ينال ذرة من الرشد.

لاحت الدهشة في وجه يحيى، تكشفت له أسرار بشعة لم تجر له في خاطر. واستحضر صورة زوجته الجميلة فازداد دهشة. ما وداد إلا صورة جديدة من أمها فكيف هان على محروس بك أن يخونها؟! وقال جندي الأعور بتقزز: زوجته لا تجهل مغامراته.

فتمتم الشاب في انزعاج: هكذا؟ - ولم تسكت المرأة الجريئة فردت الصفعة بأقذر منها!

لاح التساؤل في عيني يحيى، فقال جندي الأعور: انحرفت دون مبالاة متشجعة على ذلك بأصل قذر! - لكن ... لكن ...

فقاطعه: لا تكن ساذجا يا يحيى، لقد انحرفت، وقد كانت في الأصل عاهرة محترفة!

اصفر وجهه وهتف بصوت متهدج: لا!

فضحك جندي الأعور وقال: براءتك مذهلة، مثل أزهار هذه الحديقة، ولكن آن لك أن تفيق، المرأة كانت محترفة، وقد تزوج منها على رغمي مدعيا أنه يفعل خيرا يستحق عليه الثواب، لم تكن إلا شهوة عمياء ينز بها ثور، وقد رجع إلى فسقه وأرجعها إليه.

أحنى يحيى رأسه في غاية من الغم، فقال الرجل: حاولت الإصلاح فلم أوفق، هددته وهددتها، انتهى الحال بإنذاره بالطرد والحرمان، فكان رده السعي لاغتيالي.

تنهد يحيى أو تنفس بصعوبة، فمضى الرجل قائلا: لا شك عندي في أنها شريكته، إنها داهية بقدر ما هو غبي.

امتلأ الجو بالغبار فلم تبق ثغرة لكلمة طيبة غير أن جندي الأعور قال: أمك تلح علي في أن أهبه عمارة دفعا للمزيد من شره، ولكني ما زلت مترددا.

عند ذاك قال يحيى بشجاعة: أعتقد أنه اقتراح حكيم، فهناك أيضا حفيدتك وهي بريئة.

فقال بازدراء: لا أصدق أن تخرج نبتة طاهرة من مستنقع قذر.

فقال يحيى مستميتا في الدفاع: لكني أعرفها حق المعرفة.

فقال ساخرا: أنت لا تعرف شيئا، لذلك رأيت أن الواجب يطالبني بإزاحة الستار عما لم تعلم، خاصة وأنه لم يبق لي سواك!

فتمتم وهو غائب تماما: شكرا لك يا أبي.

أدرك أنه مقبل على أيام محنة وبلاء. أدرك أيضا أن الوقت غير مناسب للمواجهة. لا بأس من الانتظار ولو أنه لا توجد بارقة أمل في السماء المكفهرة.

5

بقي على الامتحان شهران ونصف. من أين له العقل الذي يستوعب به دروسه؟ حتى الموسيقى لم يعد يتذوقها، وهو كمحب ثابت، ولكن موقفه حرج. وعندما سألته أمه عما دار بينه وبين عمه أجاب إجابة عامة موجزة دون إشارة إلى ما قيل عن وداد وأمها. فعل ذلك وهو لا يشك في إحاطتها بما قيل كلمة كلمة. وإيمانه بنقاء وداد لا يمكن أن يتزعزع، والأهم من ذلك فهو يحبها حبا لا تنال منه الاتهامات فضلا عن الشكوك. في عالم النساء الساحر لا يخفق قلبه بحب سوى حبها، فهي مصدر الإشعاع والعذوبة في دنياه. ومن أجلها سيوجه الضربة الأخيرة لذلك القصر المزهو برشاقته.

وذات يوم قالت له وداد: لدي رسالة إليك، أبي يرغب في مقابلتك.

وسمت له اليوم والساعة في المسكن الجديد بشارع أبي قير. وافق بلا تردد لو تردد دقيقة لخسر وداد إلى الأبد. إذا علم عمه بالزيارة فستحدث أمور ولا شك. إن القدر يقتلع جذوره المغروسة في جنة رأس الحكمة جذرا بعد جذر، وهو يمضي نحو المأساة بكامل إرادته ووعيه. من هو حتى يحاكم جندي بك الأعور أو زوجته شريفة هانم الدهل؟ إنه رغم البراءة لا يخلو من أخطاء وعبث. ولا ينسى آراء أقرانه فيه، فهم يرونه من أولاد الذوات المدللين، لا هم له إلا أناقته وسماع الموسيقى. منطو أناني لا لون له، غير مبال بالتيارات التي يسبحون فيها ويعانون من أجلها ما يعانون. فمن هو حتى يحاكم جندي بك أو شريفة هانم؟! ووجد الرجل في انتظاره. رجل قصير قوي صغير الرأس غزير الشعر والشارب كبير الأنف جاحظ العينين. رحب به، ابتسم له كما لم يفعل من قبل، ولكنه لم يشك في أن مقته قد تضاعف. ترى ماذا يريد منه؟ أي شرك يحفره تحت قدميه؟ ليكن ما يكون ما دامت وداد له. كان الوقت صباح الجمعة. مضى أوله في احتساء القهوة وتلقى نظرات محروس المتفرسة. أخيرا قال الرجل: ستسمع في القصر حكايات مثل حكايات ألف ليلة فلا تصدق ما يقال، الرجل مجنون.

فقال يحيى بنبرة متوترة: لقد اختلط ما يصدق بما لا يصدق ودار رأسي. - إنه الحقد والجنون. - لكنه أبوك. - ما خفي عنك أنه مجنون! - سيدي، إنه رجل استثمار ورب أسرة ومحسن كبير. - لا تغرك المظاهر، إنه الإدمان والشذوذ والجنون، يوجد آخرون يعلمون بالحقائق ولكنهم يتجاهلونها لاستغلاله أسوأ استغلال.

لعله يشير إلى أمه. حقا قد طفحت القلوب بالحقد. وقال رغم امتعاضه: ليس مستحيلا أن تنتهي الأمور إلى خير. - هيهات، لقد حيكت مؤامرة بمهارة خبيثة فتهولت في خيال رجل مجنون ملئت أذناه بالأكاذيب المتواصلة مثل دقات الساعة!

إشارة أخرى إلى أمه. حتى متى يتحمل ويتصبر؟! وتساءل: ألا تستطيع أن تظهر الحق؟ - فات الوقت، كيف تطالبني بالتفاهم مع مجنون؟!

وفرقع بأصابعه ثم تساءل: من هو جندي الأعور؟!

وبرقت عيناه بوحشية ثم تطوع بالإجابة: ستقول إنه صاحب المكتب التجاري المعروف، ورجل الخير والإحسان، أما المدمن الشاذ المجنون فلا يعرفه إلا خاصته المنافقون، ولا أهمية لذلك بالقياس إلى الحقيقة، وهي أنه لص رسمي من أرباب السوابق والسجون.

وتضاحك هازئا ثم سأله: ماذا قال لك عنا؟

أجاب يحيى بلا تردد: لا شيء. - هل تصدقني القول؟ - أجل. - سيفتري الأكاذيب عاجلا أو آجلا، ولكني سأروي لك قصته.

تساءل يحيى متضايقا: ما جدوى ذلك؟

فابتسم إليه ابتسامة صفراء وقال: إنها قصتك أيضا وقصة والدتك!

خفق قلبه ناشرا توقعات مبهمة ومقلقة، فواصل الآخر حديثه: إنه تاريخ لا بد أن يعرف، لوجه الحقيقة والاعتبار، ولكي يتعرى جندي الأعور كما ينبغي له، وعند ذلك تعرف من أنت، الحقيقة أن الجندي الأعور سرق أباك الحقيقي، لم يسرق ماله فقط، ولكنه سرق أيضا زوجته.

هتف مستنكرا: أمي! - نعم، صبرك، بدأت الحكاية بتزامل أبي وأبيك في السجن! - لا!

بدرت منه في حدة، فقال بهدوء: صدقني، ما أقول إلا الحقيقة، إن يكن ثمة عار فهو لاحق كلينا، لقد تزامل أبي جندي الأعور وأبوك عويس الدغل في السجن، تزاملا عامين، فقد دخل أبوك السجن حينما لم يبق من مدة أبي فيه إلا عامان، وقد دخلاه بتهمة واحدة على وجه التقريب. كانت تهمة سرقة بالإكراه، وتهمة أبيك السرقة للمرة الثالثة.

ارتعشت يدا يحيى من شدة الانفعال فصمت الآخر قليلا ثم قال: إني آسف، أرجو أن تتمالك نفسك، لا مفر من الكشف عن الحقيقة مهما تكن بشعة مرة، أقول لقد تزاملا في العامين واطلع كل منهما على كثير من أسرار الآخر، وصارا بذلك صديقين، عرف أبوك أن أبي أرمل وأنه ترك وراءه في الحارة شابا ضائعا هو أنا، وعرف أبي أن أباك ترك زوجة ورضيعا هو أنت.

رغم غضبه واحتجاجه شعر بأن الحكاية لا يمكن أن تكون محض خيال، فما من واقعة ذكرت إلا ويمكن التثبت من صدقها، ترى ماذا هناك أيضا؟ - عرف أبي أن أباك سرق امرأة تدعى دليلة الفقي، جعلت من مسكنها بنك رهونات، سرق الذهب كله، وادعى في التحقيق أنه فقده، ولم توفق الشرطة في العثور عليه، ولما غادر جندي الأعور السجن رجع إلى حارة التكية وهي أصلنا جميعا، رجع في رأسه خطة.

بلغ يحيى نهاية في اليأس والقهر ولكنه أصغى إلى محدثه ومعذبه بكل جوارحه، فاستمر الرجل وهو يبتسم ابتسامة ظفر: أمك جميلة وكانت وقتذاك أجمل بالشباب، وكانت تكدح لتطعمك في ظروف سيئة، فزارها أبي باعتباره صديقا لزوجها، ورهن نفسه لخدمتها، وكنت أراقبه على كرمه منه، إذ كنا دائما نتبادل سوء الظن والنفور، وكان أيضا يخشى جانبي، وما تدري الحارة إلا وأمك تطالب في حقها من الطلاق من أبيك، ثم تتزوج من أبي، ويقرران هجر الحارة غير أنه اضطر إلى اصطحابي معه خوفا مني!

سكت ليشرب قليلا من الماء على حين انتظر الآخر في كآبة وحزن، وقد شعر نحوه بمقت لم يشعر بمثله لإنسان من قبل. واستطرد محروس: سافرنا إلى الإسكندرية، ومضى أبي يبيع الذهب ويستثمر المال، وفي الحال أدركت أنه استولى على الكنز المسروق بإرشاد زوجته، ومضى يعمل ويثرى، وشيد القصر وابتنى العمارات، وتنكر في صورة جديدة تناسب حياته الجديدة، بل عرف بالخير والإحسان، بفضل السرقة والغدر والخيانة، بفضل ثروة أبيك، وهي ثروتك إذا شئت، التي أدى أبوك ثمنها أعواما طويلة في السجن من عمره.

نفخ يحيى غيظا وقهرا. آمن بأن حياته كانت سرابا وأنه لم يبق منها ولا قبضة من تراب .

وضرب محروس الخوان براحته وقال: الحكاية قديمة أفلتت من قبضة القانون، ولكنها الحقيقة، إنه لا يحبك كما تتوهم، إنه لا يحب أحدا، لقد كره ابنه الحقيقي فماذا تنتظر؟ وأنت صاحب الثروة والمذكر الدائم له بماضيه.

وسكت دقيقة طويلة ثقيلة ثم تساءل: ما رأيك في الحكاية؟

فقال يحيى بجفاء: فظيعة لا تصدق! - ألم تصدقني؟ - لا أدري ماذا أقول. - لكن اليقين عند والدتك!

صمت قهرا ويأسا. أدرك مرماه الجهنمي. إنه ما استدعاه إلا ليعطيه الفتيل الذي يفجر به حياته وأهله. ولكن هل ثمة مهرب؟!

6

خلا إلى نفسه في حجرة مكتبه بحجة الاستعداد للامتحان، ولكنه غرق في همومه حتى قمة رأسه. إنه يتساءل دائما ماذا عليه أن يفعل. ويرى أنه يجب أن يبدأ من الصفر ولو تهاوى الحلم القديم فوق رأسه. كل شيء يدعو إلى التقزز، وقد تحول إلى دودة ترتع في الزبالة. وبدا أنه لم يحسن إخفاء ما يعتلج في نفسه كما وضح له ذلك من نظرات عمه وأمه عندما تجمعهم المائدة. وإذا بأمه تسعى إليه في خلوته. إنه يراها بعين جديدة. يرمق جمالها بأسى، يستشف وراء ربة القصر المرأة الكادحة المدعوة جميلة الأسطى. المرأة الخائنة. أجل إنها تزهو بالطول والعرض ولكنها محشوة بالقش. قالت بحنان: لا شك أنك حزين، ولذلك فإنني يائسة.

ولم ينبس. سحقا لكافة أكاذيب الحياة. قالت بإشفاق: لا شك على أن عمك أطلعك على حقائق مرة.

هانت بالقياس إلى حقائق أخرى. قطب مصرا على الصمت فقالت: كلما أدركت مدى ألمك حز في نفسي الألم، ولا شك أن احتمال فقد وداد احتمال أليم، ولكنه لا يقاس بالكارثة التي عصفت بعمك.

فقال بجفاء: لا أوافقك على ذلك. - يحيى، تصور الأمر بعين عادلة.

فقال متخطيا حاجز التحفظ: ليس هذا بكل شيء.

فلاحت في عينيها نظرة تساؤل فقال متراجعا: سوف تضيع العام الدراسي هدرا!

فهتفت في جزع: كان يجب أن تظل بمنأى عن همومنا. - ما كان كان.

فتنهدت وقالت: لقد سمعت كلاما، وربما سمعت أكثر، تعلم كيف لا تكترث. - كيف؟ - يحيى، تذكر ما تحوزه من فرص، إنك نجم هذا القصر، سيئول إليك كل شيء فيه، أمامك حياة طويلة عريضة ثرية، كل أولئك أشياء حقيقية، أما ما يقال فما هو إلا كلام لا يجوز أن يؤثر في الأشياء الحقيقية، وداد نفسها بنت جميلة، ولكن كم من جميلة تفوقها في الإسكندرية.

فتساءل في سخرية: والحب أليس له اعتبار عندك؟ - ما قيمته إذا ضيع فرص الحياة السعيدة؟

فرغما عنه قال: لكنه قوة، بسببها ينتحر أناس ويقتل آخرون ويغدرون.

فوجمت قليلا ثم تمتمت: العاقل لا يحرص عليه إلا إذا آمن بأنه طريقه إلى السعادة.

إنه يحوم حولها ولكنه يشفق من الانقضاض عليها. أجل إنها تستوي أمام ناظريه امرأة، ولكن وجدانه ما زال ممتلئا بها كأم. يهم بتوجيه ضربة ولكنه يتوقع أن ترتد إلى صميم قلبه. ما كان يتصور أن يصدق كلمة مما قال محروس، ولكنه تلقى كلامه في وقت تزعزع فيه كل قائم. تلقاه بعد أن شهد الابن ساعيا لقتل أبيه، والأب طاردا ابنه وملوثا حرماته، فأي شيء لا يصدق؟ وإذا بها تقول وهي تتفرس في وجهه: إنك لا تفتح قلبك لي.

فلم يحر جوابا، فقالت: لقد حدثك عن محروس؟ - أنت تعرفين ذلك. - وحدثك عن شريفة أيضا؟ - هل افترى عليها كذبا؟

فقالت بصوت متهدج: ما أبشع الصدق أحيانا!

فقال بتحد: كثيرا ما يكون كذلك. - ولكنا يجب أن نقدس الحياة الموهوبة لنا! - ولكنها تتمخض كثيرا عن أوهام وأشباح! - ما أتعسني بسماع ذلك.

فقال بتسليم: إني تعيس حقا!

فقالت برجاء حار: ولكنني مصممة على بعث الابتسامة فوق شفتيك!

7

عندما ترامقا غاصا في خيبة جديدة. كازينو جليم شبه خال، الكوكاكولا والمغيب المقترب. قال لنفسه لو وجدتها مرحة سعيدة كالأيام الخالية لخاب أملي أكثر. قال لها بحنان: وداد، لست على ما يرام. - أنت أسوأ حالا مني. - قد توقفت تماما عن المذاكرة. - سنة ضائعة لكلينا.

جعل ينظر إليها وهي تهرب إلى الأفق الغارق في البحر، حتى سألته بنبرة محقق: ماذا قال لك أبي؟

لم يدر ماذا يقول. العار مطوق لكليهما، ولكن ما عسى أن يقول؟ أخيرا تمتم: يخيل إلي أنك تعرفين كل شيء!

فلاذت بالصمت، فإذا به يندفع قائلا وهو ما لم يغفره لنفسه: قضي علي بأن أسمع ما أكره، تارة من أبيك وتارة من جدك!

أمالت وجهها نحوه في ارتياب، فغض بصره آسفا، وعند ذاك سألته: ماذا قال جدي؟

قال وكأنه يدافع عن زلته: علينا أن نعرف الحقيقة لنقرر مصيرنا ونحن على هدى، ماذا سمعت؟

فقالت بحزن: عين ما قيل لك، ولا داعي لإعادته. - القصة القديمة عن السجن والغدر؟ - القصة القديمة عن السجن والغدر، فماذا قال جدي؟

عاوده الاندفاع ليؤكد لها أنهما ينهلان من مستنقع واحد، قال: تكلم بدوره عن والديك.

فعاودها القلق والتوتر وقالت: أبي متهم، طيب، ماذا عن أمي؟ - لعله الغضب يا وداد. - أريد أن أعرف ما عرفته. - إنه سخف لا أكثر ولا أقل. - كلا، إنك تصدق ما قيل، فما هو؟ - إنني في حيرة.

فتساءلت بإصرار. - ما هو؟ - ماذا تتوقعين من رجل إذا أراد أن يعيب امرأة؟

اصفر وجهها، ازدردت ريقها، ثم قالت بحدة: أريد كلاما واضحا!

فقال ضارعا: لا تعذبيني فإنني كما ترين على أسوأ حال!

لاذت بصمت ثقيل أليم ثم تساءلت: ماذا بقي لنا؟

فقال بقوة لأول مرة: كل شيء، الحب. - ما معنى الحب في مثل حالنا؟

فردد معنى رددته أمه من قبل، ربما دون إيمان حقيقي: ما يهم هو الحياة الموهوبة لنا.

فقالت ساخرة: إذا فما علينا إلا أن نذاكر، ثم نمضي معا، أرادوا ذلك أم لم يريدوه. - هو ذلك!

فقالت بيأس: نحن نهذي يا يحيى. - ولكن ...

غير أنها قاطعته متسائلة: صارحني بما تنوي عمله!

فقال مستسلما: جئت رجيا من تلاقينا أن يبعث فينا روحا جديدة.

فقالت بحدة: لكننا تبادلنا أنباء الفضائح والتعاسة. - كان لا بد من التعرض لذلك!

فتساءلت بأسى: أين المحبان القديمان؟ - ها هما، أنا وأنت! - يحيى، إنك عاجز عن تجاهل ما سمعت! - وأنت كذلك، ولكننا سنقهر ما يعترضنا.

وساد الصمت والحزن. وعند ذاك استدعى شجاعته وقال بنبرة اعتراف: وداد، قررت أن أسافر . هذه هي الحقيقة!

فحدجته بنظرة متسائلة منزعجة، فقال بالنبرة نفسها: قررت أن أسافر إلى القاهرة، إلى الحارة. - أتعني حقا ما تقول؟ - بيتين. - خطوة غريبة تقطع بأنك أعجز ما تكون عن تجاهل ما سمعت؟! - إنها لا تقاوم. - هل تطمع من ورائها إلى خير؟ - يجب أن أقطع الشك باليقين.

فتساءلت بعد تردد: هبها أكدت ما سمعت؟

فتفكر قليلا ثم قال: ليكن، بوسعي بعد ذلك أن أقرر تجاهلها، بل لا معنى لتجاهلها إن لم أعرفها معرفة يقينية في منبعها، ولا بديل عن ذلك سوى العذاب.

فرفعت منكبيها في استسلام وهي تغيب في مهوى الشمس المخضب بالاحمرار، وقالت: نصحتني أمي بقطع علاقتي بك زاعمة أنها لن تجر وراءها إلا العذاب.

فقطب قلقا وهو يرمقها بعنف فقالت بهدوء: ولكنني رفضت النصيحة هازئة بما سمعت، فانظر إلى موقفك أنت! - أشكرك يا وداد، لا أتوقع منك قرارا آخر، ولكن لا تدعي الاستهانة، وإلا فما تفسير هذا الحزن القاتم الثقيل؟! - إنها الصدمة المباغتة، والانهيار المنقض، وانتثار الأسرة الواحدة! - فقال متنهدا: لذلك قررت السفر! - سافر إذا شئت، أما قلبي فإنه يتوجس أوخم العواقب.

فتوسد راحتها براحته وقال: حبنا ثابت راسخ، إنه مثل الضوء لا يعني اختفاؤه حينا إلا أنه يدور دورته ليريق ضحكته الإلهية في الصباح التالي.

8

ثمة جو جديد في قصر رأس الحكمة ينفث رائحته الكئيبة. جندي بك لم يعد نفس الرجل، ولا جميلة هانم، إنهما يبذلان جهدا لا يستهان به ليمارسا حياتهما اليومية في هدوء وطمأنينة، كما كان الحال قبل الجريمة. الأسى يتجلى وراء الأقنعة كما يتجلى العمر وراء التصابر. أما هو فلم يلبس قناعا ولم يبال بمشاعر الآخرين. وكانوا يحتسون القهوة بعد الغداء في حجرة الجلوس الزرقاء عندما فاجأهما بقوله: إني أستأذن في السفر.

وقالت أمه بقلق: لم أتوقع ذلك، ولم يبق على الامتحان إلا أقل من شهرين. - إني لا أكاد أعمل، وبي اضطراب لا يمكن تجاهله، فلا بد من رحلة قصيرة للنقاهة. - كان يجب أن تكون قد تغلبت على الكدر. - لم أوفق إلى ذلك. - ولكن أين تسافر؟

فأجاب بثبات: إلى مرسى مطروح.

فسأله جندي بك: أهذا قرار ضروري؟ - أعتقد ذلك، بضعة أيام أسترد بها صفائي.

وهمت أمه بالاعتراض، ولكن جندي بك قال: فليذهب، وسوف يرجع على أحسن حال.

9

إنه يقوم بأخطر رحلة في حياته. رحلة المغامرة والتضحية والحقيقة. هي أيضا رحلة الهروب من العذاب. ربما إلى عذاب أعمق وأكثف. كأنه لم ير القاهرة قط، كأنه من مواليد الإسكندرية. هجرها وهو ابن ثلاث ورجع إليها وهو ابن عشرين. دهمته القاهرة كأخطبوط خرافي. لم يجد شوقا للتقلب في جنابتها، فاخترق قطاعها الأوسط إلى الحي العتيق. أودع حقيبته في حجرة بالكلوب المصري وراح يدور من شارع إلى حارة. إلا حارة التكية، أجل اقتحامه لها حتى يتشبع بالاستعداد. وقال له صوت من الداخل: «ماذا تفعل؟ لا تكن سخيفا، ارجع من حيث أتيت، انجح في الامتحان، انتظر وداد عامين، تزوج منها ملقيا بالهموم جانبا، مستهينا بجندي وعويس، بجميلة وشريفة، ليس في الأمر مشكلة حقيقية.» ولكن انتصب أمامه إغراء الحقيقة القاسي. رغم شعوره بالعبث. وهل كانت إلا معركة بين لصين؟ ونادى عزيمته واقتحم الحارة. اقتحم الألوان الفاقعة والأصوات المتفجرة، الحاضر الصاخب والماضي المتحفز، النظرات المحملقة والقهقهات المتحشرجة، نداءات الحرف المختلفة بالأصوات والدقات والروائح النافذة، ومهرجان الأزياء من البدل والقفاطين والجلابيب فضلا عن الأجساد شبه العارية، والعطفات والأزقة، والبيوت المتداعية والعمارات الجديدة الشاهقة. ها هي امرأة تنادي مثلما كانت تفعل أمه، وها هو رجل يتصعلك كما فعل أبوه وعمه، وها هو طفل يلعب بفأر ميت ربما كما فعل هو. هنا تقررت مصائر عويس الدغل وجندي الأعور وجميلة الأسطى وشريفة الدهل. ذهب وجاء وهو يتساءل عن الراوي الذي سيهتك له حجب الظلام، من يكون؟ وأين يجده؟ ووقعت عيناه على عجوز قابع وراء صندوق الماركات في المقهى الوحيد، فحدس أنه يجد فيه بغيته. وقد صدق الحدس.

10

صدق حدسه، فالرجل عجوز مقيم ومقهاه من معالم الحارة الأثرية. اختار أقرب مجلس إليه وراح يفكر في وسيلة للنفاذ إليه واستدراجه للحديث. لفت نظر الرجل ببقائه المتواصل وكرمه مع صبي القهوة. ونفد صبر صاحب المقهى العجوز، فسأله باسما: أنت منهم؟

فتساءل - مرحبا بالحديث - عمن يقصدهم، فقال العجوز: رجال الجرائد.

فانتهز الفرصة وزعم أنه منهم، فقال العجوز: كثيرا ما يجيئون ويصورون ويأخذون ما يشاءون ...

فقال يحيى بدهاء: إني أبحث عن حكايات، ولكل حكاية ثمنها!

فاختلج جفنا العجوز فوق عينيه الكليلتين، وقال بإغراء: حارتنا حارة الحكايات ... ولكن لا بد من جلسة كيف!

فوافق على شروطه، ولكنه قال: تحت شرط أن نكون منفردين ... •••

هكذا جمعهما سطح مسكن العجوز. جلسا على وسادتين فوق كليم تحت ضوء النجوم تسعى حولهما دجاجات ناقة مقوقئة. تظاهر يحيى بأنه يدخن فجعل يملأ شدقيه بدخان الجوزة وينفثه في قرف لم تتح للرجل رؤيته. ولم يضن عليه بما طلب من نقود. وصبر على ثرثرته عن أسعار البن والسكر والشاي وحكيه لبعض النوادر الدارجة، ثم عجز عن كبت لهفته، فقال: اسمع يا معلم سليمان، لقد سمعت من آخرين نتفا عن حكايات، فلم يحظ بانتباهي إلا حكاية رجل يدعى عويس الدغل، ولكنها جاءت ناقصة لا تشبع، فهل تعرف أصل هذه الحكاية؟

فسعل العجوز سعلة محترف وقال: عويس الدغل عليه اللعنة، إنها عظة كل مغفل في حارتنا، ماذا سمعت؟ - لا أهمية لذلك، أريد أن أسمعها من راوية محنك مثلك، إنها حكاية مدهشة ... - لا تدهش، عندما تبلغ من العمر ما بلغته فلن تدهش لشيء أبدا ... - حقا؟! ولكن هل ما زال الرجل حيا؟ - وهل يبقى على ظهرها إلا الأشقياء؟

وضحك فجاراه في ضحكه وهو يجد غمزا أليما في قلبه، ثم سأله: ماذا يعمل؟ - إنه في السبعين، تربية شوارع وسجون، وهو اليوم أحد ثلاثة في حارتنا يرتزقون من توزيع الكيف ... - إذن فهو في عيشة راضية؟ - لا، موزع القطاعي محدود الرزق، تكون حاله أحسن إذا قام به، بالإضافة إلى عمل آخر، ولكن عويس لم يحترف عملا شريفا في حياته، وعجز أخيرا عن السرقة!

اجتاحته رغبة في البكاء، فقاومها بعنف ساءت به حاله. وقال العجوز: إنه يعيش في بدروم في آخر ربع قبل البهو، وإن شئت أن تراه أرسلت في طلبه؟

فقال بسرعة: فلنؤجل ذلك ... - لعله نسي. - نسي؟ - غدر جندي الأعور وخيانة زوجته، ألم يحكوا لك ذلك؟ - بلى، زمالة السجن، الطلاق، والهرب بالذهب والزوجة والابن ... - عندما خرج من السجن أقسم ليقتلنهما، وجد في البحث عنهما ما وسعه ذلك، وعاش دهرا كالمجنون.

فقال يحيى بصوت منخفض كيلا يفضح تأثره: حكاية غريبة.

فقال العجوز بلهجة منتقدة: الحق عليه، لقد كانت المرأة عاهرة محترفة فتزوج منها، ماذا يتوقع من مثيلاتها؟ - آه ... حمدا للظلام، إنه يتحلل مثل جثة الميت. لم يذكر محروس شيئا عن ذلك اتقاء لغضبه غالبا. وها هو يتلقى الحقيقة كلسان من لهب. ها هو ... آه ما أفظع الألم.

وواصل الرجل العجوز حديثه منتشيا بأهميته: أين ذهب جندي الأعور والمرأة والطفل؟ لم يعلم أحد، وحتى اليوم لا يدري عنهم شيئا، ونسي عويس الدغل الحكاية كما نسيتها الحارة، ولا شك عندي أنه اليوم في السجن وربما الطفل أيضا أما المرأة فلا محيد لها من الرجوع إلى مهنتها الأصلية ...

إنه يهبط درجات من الألم أردته إلى أعماق الجحيم في معزل عن الدنيا جميعا، إنه سقيم في كون موبوء لم يبق له من الغذاء إلا السخرية. وقال العجوز: عندما قبض على عويس هرعت دليلة الفقي صاحبة الرهونات إلى المرأة، توسلت إليها أن ترد الذهب اتقاء لغضب الراهنات والراهنين، فأقسمت بأغلظ الأيمان إنها لا تدري عنه شيئا، وقصدها الفقراء أصحاب الذهب المرهون يتوسلون ويبكون، أكثرهن نسوة كادحات يشترين الذهب لوقت الحاجة ويرهنه عند الضرورة ...

فتمتم يحيى بذهول: أولئك هن صاحبات الثروة المسروقة! - دون غيرهن، وهن اليوم في هذا الغلاء لا يجدن اللقمة إلا بالعذاب، ولعلهن صدقنها في وقتها حتى ظهر جندي الأعور وهرب بها فتأكدن بأنه ما لعب لعبته إلا من أجل الذهب المسروق ...

فقال يحيى بأسى: هن وحدهن صاحبات المال الحال ... - أما عويس وجندي فلم يكونا إلا لصين وبرمجيين، وقد نال عويس جزاءه في السجن وخارجه، ولا يدري أحد إلا الظن بما حل بجندي.

وضحك العجوز ضحكة ساخرة واستطرد: وقد كان لجندي ابن قواد! - ابن جندي الأعور؟! - نعم، وقيل إنه ابن حرام، وإن جندي كان يؤمن بذلك ولكنه كان يخشاه، ولذلك أخذه معه اتقاء لشره، ولعل الولد كان يراقب أباه وزوجة عويس حتى لا يفلتا من قبضته بالغنيمة، وقد تزوج الابن من امرأة محترفة جميلة وكان يقدمها للأعيان!

فتساءل يحيى: ترى ماذا يفعل عويس لو عثر على جندي الأعور فوجده خلافا لظنك ينعم بالجاه والثروة؟!

فقهقه العجوز وقال: ماذا بقي من عويس القديم؟ هل يقتل؟ هل يبسط يديه في ذل سائلا ما يجود به الآخر؟ كلهم لصوص برمجية أوغاد، وليرحم الله ضحاياهم المساكين!

11

رآه واقفا كالنائم مركونا إلى جدار الربع. هيكل خلا من مقومات القوة، كليل البصر لا يرى أبعد من متر، غائر العينين بارز الجبهة أصلع نابت شعر الذقن يمرق عنقه من جلباب لا لون له من تلبد الغبار والأوساخ عليه حافي القدمين. مر أمامه ذهابا وإيابا فلم ينتبه الرجل إليه ولم يشعر هو نحوه بأي عاطفة، ولكن اجتاحه إحساس شامل بالتقزز والاحتجاج والتمرد. لا يستطيع أن يقدم له شيئا ولا أن يأخذ منه شيئا، إنه غريب تماما ولكنه رغم غربته قلب حياته رأسا على عقب. مضى ورأسه يشتعل بالأفكار المحمومة. هذا هو أبوه عويس الدغل وهذه هي أمه جميلة الأسطى. وهناك أيضا والدا وداد محروس جندي وشريفة الدهل. إنه ليس الفقر ما يخجل ولكنه الانحطاط. في هذه القضية يستحق السارق والمسروق لعنة واحدة. وقد أراد أن يتثبت فجاءه اليقين نافثا رائحته النتنة. ما عسى أن يفعل؟ ماذا يقبل وماذا يرفض؟ الحيرة تمزقه وعليه أن يتخذ موقفا قبل أن يتبعثر بددا. إنه يحترق، لا يمكن أن يحتمل النار إلى ما شاء الله، ولا يمكن أن تمضي الحياة كما مضت على عهد الغيبوبة السعيدة. وله أن يفكر، ولكن فليحذر الدوران مع الدوامة بلا عمل حاسم. إنه بحاجة ماسة إلى وداد، ليتبادلا الرأي، وليتفقا على خطة موحدة. هل يطلق الكلاب المسعورة بعضها على بعض لتقول العدالة كلمتها القاسية في عويس وجندي ومحروس والجميع؟! قواه الغاضبة تود أن تفعل ذلك وإلا فلا معنى لأي شيء. وإلا فكيف يخرج من الجحيم؟ ولكن لا بد من مشاورة وداد. يجب أن تتكلم جميع جوانب نفسه. إنه يرفض أباه وأمه وعمه، ويود أن يوجه ضربات مذهلة.

12

وافته وداد إلى كازينو جليم. من أول نظرة من وجهه ارتسم القلق في وجهها. قال لها محذرا: لا أحد يعلم بوجودي في الإسكندرية.

فسألته بدهشة: ولم تخفيه؟ - ربما رجعت إلى القاهرة مرة أخرى ...

فقالت متوجسة: هل دعوتني لتحملني مزيدا من الهم؟ إني أعيش أتعس أيام حياتي ...

فقال بهدوء مخيف: يسعدني أن أسمع ذلك، شعور التعاسة في مثل حالنا هو ما يهبنا الجدارة بالحياة الكريمة، فلنترك السفلة ينعمون بالحياة في غمرة سفالتهم ...

ازدادت قلقا، أما هو فإن وحشية التجربة دفعته بقوة مستهترة إلى المكاشفة. قال: قطعت رحلتي ولكنني سأرجع، شعرت بالحاجة الماسة إلى مشاورتك، علينا أن ننتهي إلى موقف موحد. - إنك منفعل إلى درجة تخيفني ... - لا أنكر ذلك، تلزمنا إرادة حديدية لنستحق حياة نظيفة، ليس الأمر هزلا، ولن أباهي بظاهر براق إذا كان الباطن عفنا، أريد أن أرفض الحياة القذرة ...

قطبت متفكرة، فقال: سأصارحك بالكثير، المصارحة بكل شيء فوق طاقتي ولكنك ذكية وتكفيك الإشارة، الحياة التي نعمنا بها طويلا حياة زائفة قذرة مهينة، هناك في الحارة عرفت أصول الأشياء، من أبي ومن أمي، من جدك ومن أبوك ومن أمك، إنها العار والقذارة، المرارة تنسيني اللياقة، تنسيني الترفق بك، ولكني لا أترفق بنفسي أيضا، الماضي كله قذر، لا يجوز أن يمتد في الحاضر، علينا أن نقرر ...

ازداد وجهها الجميل شحوبا وتجلت في عينيها نظرة كئيبة. قرأها بعمق فخطر له احتمال مخيف، وهو أنها قد يفقدها إلى الأبد، وأن يتوه بلا قطرة عزاء في جحيم المحنة. لكنه كان مشحونا أيضا بثورة طاغية. كان يعاني مقتا لمقدساته القديمة تساءلت: هل لديك أدلة قاطعة؟

فتفكر قليلا وقال: التاريخ نفسه لا يملك أدلة أقوى!

فلاذت بالصمت. ولاحظ هو أنها تتجنب المزيد من الإيضاحات. لم تسأله مثلا عما عرف عن والديها. ربما بدافع من الإشفاق، وربما لأنها في غير حاجة إلى سؤال، قال: فلنطرح الحلول الممكنة أولا، فثمة حل هو أن نتجاهل الماضي بشره ونواصل حياة تحسدنا عليها الملايين!

فبرقت عيناها، وقالت وكأنها تستغيث: في بيتنا يتوقعون أن ينزل جدي لنا عن عمارة ولو دفعا للشر، يتوقعون أيضا أنه سيملكك ثروته بعد وفاته ...

فساءه أنها تعلقت باقتراح لم يطرحه إلا بدافع الإحصاء، وقال: الحل الثاني أن نرفض القوم وثروتهم وننجو بأنفسنا مهما تكن العواقب لنحيا حياة نقية جديرة بالكرامة ...

فلاحت متفكرة بعمق وصامتة، فقال: لا أخفي عنك أن بي ثورة لا تقنع بذلك؛ لذلك أفكر في حل ثالث وهو أن أحرش الشياطين على بعضها البعض حتى لا يفلتوا من العقوبة الرادعة، ولكي تعود إلى الأشياء معانيها ...

فرمقته بارتياع وتمتمت: إنك تتحدث بجدية تنذر بأوخم العواقب ...

فتساءل متجاهلا قولها: أي حل نختار يا وداد؟

فقالت بانفعال: مهما تكن الأخطاء فإنني أرفض أن أقيم من نفسي قاضيا للحكم على والدي، ولا أسمح بأن يصيبهما مكروه على يدي، بل لا أسمح أن يصيبهما مكروه إن استطعت دفعه، ذنبهما على جنبهما، كما يقال ...

إنها واضحة وضوحا حفر هوة بينهما. تساءل في وجوم: حقا ترفضين؟ - وأيضا الحل الثاني أراه خياليا، هبنا تبرأنا منهم فكيف نلقي الحياة بعد ذلك؟ سنضطر عند ذاك إلى الانقطاع عن التعليم، ولن نجد عملا، فهل نموت جوعا أو ننحرف مثلهم؟ إنه حل جميل تهفو النفس إليه، ولكنه ليس عمليا يا يحيى ...

أي خيبة تجيء في إثر خيبة! إنه في واد وهي في واد. هل تكشف له الأحداث عن شخصية أخرى تحت الشخصية المحبوبة؟! أما هي فواصلت وقلقها يزداد لشعورها بالفارق الكبير بين فتورها وحماسه: إنني متألمة مثلك، متقززة مثلك، غير أنني أرى أننا - أنا وأنت - لا نستحق أن نتحمل وزر ما ارتكبه الآخرون، فلنتجاهل الماضي الأليم، لنمض في حياتنا لا يفرق بيننا شيء، ذلك إذا آلت الثروة يوما إليك أن تفعل بها ما يرضي ضميرك ويكفر عن أخطاء وجرائم الآخرين ...

فقال بازدراء: معنى ذلك أن نرضى بنعيم اللصوصية والعهر ... - نحن نرضى بواقع علاقتنا بآبائنا ...

فتساءل بغضب: وبعد أن رأيت بعيني البؤساء الذين هم أصحاب الثروة المسروقة؟!

فقالت بإصرار: نحن أبرياء، لم نرتكب إثما، بل نحن ضحايا لما نعاني من عذاب، ومن الحماقة أن نرمي بأنفسنا للضياع ونحن نمد يدنا لقطف ثمرة كد السنين، فلنصبر ولو على الأقل حتى نقف على قدمينا!

فتساءل بحزن: أهذا رأيك؟ - يحيى، كن حريصا على حبنا حرصي عليه، لسنا قضاة ولا شرطة، وإذا أردت هجرهم لفورنا ففكر قليلا في العواقب، هبني قلت لك إني معك فما هي الخطوة التالية؟ ماذا نعمل؟ أين نعيش؟ أعطني إجابات محددة وأنا معك، لا أريد أن أقوم بمغامرة ثم أسقط في الضياع ...

فقال بصوت خامل محشرج بالخيبة: ليس عندي جواب محدد، لسانك يجري بمنطق العقل، والعقل أسمج محدث في موقفنا هذا، الجنون ما ننشد، أعني الجنون المقدس ... - أرجو أن أكون واضحة تماما، أنا لا أتعامل مع الجنون المقدس، ولعلي لا أعرف جنونا مقدسا، وأنت فريسة للغضب، فعليك أن تعيد التفكير وأنت هادئ متمالك لانفعالاتك ...

فقال بعد تردد: أرى أننا مختلفان! - كلا، من ناحية الشعور فنحن شخص واحد، لا أفرط فيك رغم الحملات المتتابعة، وفي الوقت المناسب سأقرر مصيري بنفسي، ولكني أرفض المغامرات الجنونية!

بقدر ما حاصره منطقها ثار عليه، وكلما اشتد الحصار اشتدت به الثورة. ولكنه انهزم. على الأقل لم يمض في اندفاعه إلى نهايته. أجل اتخاذ القرار. أجله وهو من القلق والحيرة في نهاية. وهما يغادران الكازينو ضغطت على ذراعه التي تتأبطها إعرابا عن تمسكها به ...

13

عندما ودعته قال في نفسه إنها تطالبني بالصبر ولو حتى الامتحان ولكن ألا يستوي أن أصبر شهرا أو عمرا؟! إنها مسألة مبدأ لا وقت. وقد انكشف عالمه عن حقيقته البشعة القذرة فكيف يقبله دقيقة واحدة؟ ما زالت نقود عمه في جيبه، يذهب ويجيء بها، وينعم بقوتها الفريدة. رغم ذلك كله ما زال مترددا ولما يتخذ قراره. ترى لو رفع صوت العقل في كل حين أكان يستشهد شهيد؟! العقل يحكم في الفلك لا في السلوك. إما براءة وإما قذارة. هل يظل ابن لص وعاهرة؟ ولو كانت المعركة صراعا بين لصوص لهان الأمر بعض الشيء ولكنها جناية وحشية ضحاياها أتعس تعساء البشرية!

وتفكر أيضا وهو ماض على الكورنيش أنه لم يبلغ ما بلغ من التربية والتهذيب والمستوى إلا بفضل النهب والدعارة فتضاعف امتعاضه وأساه. وهو على تلك الحال وجد نفسه يتجه نحو قصر الحكمة. ليس لديه قرار نهائي ولكنه سيلقى الموقف بتلقائية ولينظر كيف تتطور الأحداث. مر بعمه وهو يشارب رجلا غريبا في الدائرة الخضراء، رحب به الرجل وقال بنبرة المنتصر: قلت إنك ستضيق بالوحدة فترجع سريعا.

أما أمه فهرعت إلى حجرته متألقة بالسرور وقالت: خير ما فعلت، لا وقت لديك تضيعه وقد استجاب الله لدعائي ...

جلست قبالته وهو يجذب نفسه من بحر الانفعالات الذي يشده إلى أعماقه بين أمواج متلاطمة من النفور والازدراء والولاء. ها هي تقول إنها تعرف الله وتدعوه، وإنه يستجيب لها. وهي تجلس مطمئنة ملقية القدمين على وسادة مزركشة، جميلة وفخيمة وربة قصر وأي قصر. رياح الثورة ما زالت تعصف بأركانه ولكن يقاومها إشفاق لا يخلو من قداسة. ما زال يذكر بشدة منظر أبيه ومناظر الضحايا فيغص بالمرارة. غير أن الرحلة اقتلعت من صميمه التردد والحياء فلذلك اندفع يقول بلا روية: الحق أنني لم أسافر إلى مرسى مطروح! - حقا؟ إذن أين كنت يا حبيبي؟

فأجاب ببرود منذر بالويلات: كنت في حارة التكية بالقاهرة!

تلاشت البهجة فجأة من صفحة وجهها كأنها مصباح كهربائي انقطع عنه التيار. شحب لونها وهي ترنو إليه بوجوم واستسلام. لأول مرة يراها وهي مسحوقة بلا حيوية ولا كبرياء. وجاءه صوتها وانيا متسائلا: ماذا أذهبك إلى هناك؟ بل من دلك عليها؟

فلوح بيده ولم ينبس فقالت: محروس؟! - ما أهمية ذلك؟

وساد الصمت حتى أوشك أن يرثي لها، أوشك أن يندم على ما بدر منه. طال الصمت، وفيه قيل كل شيء بلا كلام. لم يتكلم ولم تسأل. كفى اسم الحارة لبعث تاريخ طويل بكل تفاصيله، ثم نكست رأسها ففقد القدرة على النطق. وقال لنفسه إنه لن يتيسر له البقاء بعد ذلك. لا قتال ولا سلام. ها هي تقوم متثاقلة وكأنها طعنت في الشيخوخة. مضت نحو الباب فتابعها بعين مودعة. غير أنها وقفت فجأة فوق العتبة. لبثت واقفة دقيقة كاملة. واستدارت بحركة لا تخلو من شدة. تجلى له وجهها جامدا ومتحديا، ثم أقبلت نحو مجلسها بتصميم جديد. نظرت إليه مضيقة عينيها وقالت برزانة أضفت عليها ثقة: يحيى، ماذا أقول؟ ولكن عليك أن تسمعني، وقبل ذلك أسألك ماذا عرفت؟

فأجاب وهو ينفخ: كل شيء ... - الأمر لله، عليك أن تسمعني، لقد وجدت نفسي ذات يوم وحيدة منبوذة مكروهة مع وليد رضيع ...

ثم وهي تزدرد ريقها: كان الطفل أمومتي الأولى والأخيرة فغير نظرتي للأشياء ...

وتريثت حتى تعالج أنفاسها وواصلت: ثم ظهر في حياتي رجل يدعى جندي الأعور ...

تفرست في وجهه الواجم ثم قالت: لم يكن جندي الأعور خيرا من عويس الدغل ولا عويس الدغل خيرا من جندي الأعور، ولكن كان قدري أن أجد نفسي دائما بين يدي أحد من أمثالهما، ولم يكن يشغلني وقتذاك إلا أن أجد مأوى لي ولابني ففعلت ما فعلت، أي دناءة في هجر لص من أجل لص آخر، وأي حظ كنت تتوقعه لو انتظرت أباك حتى يفرج عنه؟ وهل تدري أي وحش كان؟!

تنهدت بصوت مسموع، وبدت كمن نجا من الغرق بمعجزة ولكنه لم يبلغ الشاطئ بعد، وقالت بصوت استمد من الشجاعة بعض القوة: وما كنته قبل أبيك كان محنة لا خطيئة، لقد وجدت نفسي وحيدة ضائعة منذ صباي، وما احترفت شيئا به إغراء لأي آدمي، ولكن أين لمثلك ممن تربوا في أحضان النعيم أن يدركوا ذلك؟!

ها هي تسخر منه أيضا، وها هو يخنس أكثر وأكثر وقد تداعت أركان مملكته. وقد زادت الأمور تعقيدا واكتنف اتخاذ القرار صعوبات جديدة. أما الأم فمضت تقول: ولأول مرة يغير جندي الأعور مسلكه في الحياة فيقرر استثمار ماله عادلا عن الصعلكة والبرمجة، مصمما على تمثيل دور جديد، دور رجل الأعمال المحسن الكريم، ما مدى إخلاصه؟ لا أدري عن ذلك شيئا ولكن حسبنا أنه صار رجلا آخر وأنه أنشأك نشأة نبيلة، وبوسعي أن أؤكد لك أنه يحبك، إنه ما أحب محروس قط، كان دائما يخافه ويتوهم أنه ابن رجل آخر، ويئس تماما من تغيير سلوكه، فلم يبق له من عزاء سواك، ولا أستطيع أن أحكم على ماضيه بغير العين التي أحكم بها على نفسي، كان ضائعا مثلي ومثل أبيك، نحن لا يديننا إلا من لم يذق مرارة العيش مثلنا، حتى شريفة الدهل كانت مثلنا، أقول ذلك رغم الكره المتبادل بيننا ...

لم يرفع عينيه من الأرض ولم ينبس، فواصلت بحرارة جديدة: إني أتصور الضربة التي زلزلتك، ألمسها في وجهك، في رحلتك المخيفة، ولكن لا أحد يستحق أن يكون هدفا لمقتك وغضبك، إذا علمتك المأساة أن تحزن وتثور، فتعلم منها أيضا أن تفهم ...

فتمتم بعد صمت طويل: ما لا عزاء فيه هو أنكم سرقتم أتعس التعساء ... - ما الحيلة؟ ولكن لا تنس أننا كنا أتعس منهم ...

فتفكر مليا ثم قال: قد لا يكون لي حق المحاكمة ولكن واجبي أن أرفض. - ترفض ماذا؟ - هذه الحياة التي لا يمكن الدفاع عن قذارتها!

فقالت بجزع: يا له من قرار خاطئ، لماذا؟ ما مضى مضى وانقضى. عمك اليوم يرغب في أن يورثك ثروته وقد شاور محاميه في الأمر، ثم إنك بريء ولا شأن لك بأخطاء الآخرين!

فأشار إلى صدره وقال: الرفض من هنا ولا حيلة لي.

فتوسلت إليه قائلة: هلا أجلت التفكير في ذلك حتى تنتهي من امتحانك؟ - آه ... بأي عقل أتقدم للامتحان؟

فقالت بقوة: احبس نفسك في مكتبك كما تعودت أن تفعل، واحذر أن يعلم عمك بما عرفت أو بما يدور في عقلك، أعترف بأنه غبي وسيئ الظن بالبشر، أجل كل شيء ولا تشغل نفسك الآن إلا بالامتحان ...

14

قرر يحيى أن يتأهب للامتحان، فخاض معركة ليجمع فكره المشتت المبعثر. أراح قراره أمه ووداد وبعث في نفسهما آمالا جديدة. لم يكن راضيا عن نفسه، كان أبعد ما يكون عن ذلك، عد نفسه مترديا في السقوط مثل آلة ودون أن يملك من الأعذار ما يملكون. وواساه في عذابه أنه مصمم على الرفض عقب انتهاء المرحلة التعليمية، وأن هذا الرفض لا يعني نبذ الحياة في القصر فحسب، ولكنه يعني أيضا رفض ثروة جندي بك الهائلة. غير أن أحداثا غير متوقعة انفجرت تحت قدميه، فما يدري ذات يوم إلا وجندي بك الأعور يقتحم عليه غرفة مكتبه. جاء مكفهر الوجه عدواني النظرات ثم وقف في وسط الغرفة وخاطبه بلهجة لم يعهدها من قبل قائلا: لدي سؤال عليك أن تجيبني عنه.

واشتدت نظرته صلابة وهو يسأل: هل زرت حقا حارة التكية بالقاهرة؟

ذهل يحيى. تساءل في نفسه عمن أبلغه. ليست أمه على وجه اليقين. غير أنه لم يفكر لحظة في الإنكار فقال بتحد: نعم ...

فصرخ الرجل: إذن فكل ما بلغني صحيح، والآن دعني أسألك عما يبقيك في بيتي؟

اصفر وجهه. هل أجل الرفض ليطرد؟ غلى دمه. قال متحديا: إنه بيتي قبل أن يكون بيتك!

قهقه جندي بوحشية وصاح: عليك اللعنة، لقد اعتدت أن أوجه عشر ضربات قبل أن أتلقى الضربة الغادرة، إني لا أخشاك، لا أخشى أباك، ولا أخشى أمك، لقد أرادت هي أيضا أن تدافع عنك، وتمادت في الغباء فهددتني، اسمع، إني أطردك، إني أطردها أيضا، فلا ترني وجهك بعد اليوم ...

وغادر الحجرة وهو يرتعش من شدة الغضب.

15

هكذا وجد يحيى نفسه وأمه وحيدين في حجرة ببنسيون الدلتا. هو لا يملك مليما وهي لا تملك إلا مؤخر صداقها. ورغم الانفعالات التي تعصف بهما قالت له: أي نهاية! أنا صاحبة كل شيء، ولكن لننس همومنا، عليك أن تنجح، هي فرصتك الأخيرة، بل هل فرصتنا الأخيرة!

هو أيضا مقتنع بذلك ومصمم عليه وليس دونها إحساسا بالخطر، غير أنه قال بحنق: لن يفلت المجرمون بلا عقاب.

فقالت بحرارة: لا تفكر إلا في الامتحان ... - ولكن ... كيف عرف الرجل؟ - إني أتصور ما حدث كما لو كنت شاهدة له، لقد أفضيت أنت بسر الرحلة إلى وداد، ما تعرفه وداد تعرفه أمها، أمها وجدت فيما سمعت ما يستحق أن تبلغه محروس، محروس وجد فيه ما يجب أن يوصله - بطريقة ما - إلى جندي الأعور ليقضي عليك أو علينا معا وبذلك يمنعه من التصرف في الثروة، جندي الغبي اعتقد أنك تبيت له أمرا فساء ظنه بك وبي وربما بأبيك أيضا، قرر أن يتخلص منا قبل أن نتخلص منه، لا أحد يدري ماذا ستكون الخطوة التالية، ولكن كل ذلك لا يهم، ما يهمنا شيء واحد هو نجاحك.

إنه مقتنع بذلك ومصمم عليه وليس دونها إحساسا بالخطر، حتى الحنق عليه أن يحبسه إلى حين.

وعندما التقى بوداد في ركنهما بجليم دمعت عيناها وقالت بتأثر شديد: إني آسفة يا يحيى، إن الحوادث جعلت من أبي رجلا شريرا!

فرفع منكبيه استهانة ولم يجد ما يقوله فقالت: أي ظلم وقع على والدتك!

أراد أن يقول إنه جزاء عادل، وإنه يجب أن يشمل الجميع. وتجنب هذه المرة أن يبوح لها بأسرار غضبه، ولكنه شعر بأن علاقتهما صامدة أمام العواصف.

16

وجد أنه لن يستطيع التفرغ لدراسته إن لم ينفس عن غضبه بضربة عاجلة. فكر مليا ثم قرر السفر إلى أبيه ليدله على مكان جندي الأعور وحقيقته. إنها مغامرة قد يستطيع أن يتكهن بعواقبها ولكن يحتمل أن يأكل الشر بعضه البعض. واعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه قرار مخيف لا يبرره إلا الغضب والرغبة الجنونية في رد الضربة بمثلها. وسافر دون أن يخطر أمه بنواياه. واقتحم الحارة منقبا عن عويس الدغل. ولما أعياه التنقيب قصد إلى صديقه العجوز عم سليمان صاحب المقهى. وقال له العجوز: جئت متأخرا، قبض على عويس الدغل أول أمس!

فذهل يحيى وتساءل: هل رجع إلى السرقة؟ - بتهمة توزيع المخدرات، ولكن الحارة تردد حكاية غريبة!

وأعاد الرجل على مسمعه الحكاية، وهي أن جندي الأعور علم أن سره بلغ عويس، وأنه يدبر له أمرا فاستأجر شخصا للإيقاع به، وتم له ما أراد!

وختم العجوز حكايته قائلا: من السجن إلى القبر هذه المرة!

هكذا رجع خائب الرجاء ولكن غضبه جاوز النهاية. لم يعد يفكر إلا في الانتقام من جندي الأعور، ولو كلفه ذلك حياته.

17

في الإسكندرية وجد أن الحوادث سبقته مرة أخرى. في اليوم نفسه حدث ما حدث، وكانت أمه هي الراوية. فقد عرف أن جندي الأعور شارع في الزواج من فتاة دون العشرين، وأنه يماطل في النزول عن إحدى عماراته لابنه محروس. تربص له محروس عند مغادرته مكتبه التجاري وقتله. هكذا ضاع الرجلان. استمع يحيى إلى الحكاية بذهول ولكن لم يشعر بأسف. على العكس فقد زال توتر أعصابه لأول مرة منذ زمن طويل. ولكن سرعان ما اتجه تفكيره نحو وداد فتساءل: ما مصير الأسرة التي خلفها محروس؟

فأجابت أمه: لا يختلف عن مصيرنا.

فقال بقلق: ولكن وداد لن تنتهي من دراستها قبل عامين.

فقالت الأم: لدى أمها من الحلي ما يسترهم هذه المدة.

18

وقف عم عمارة الجعفري البواب يلقي نظرة الوداع على القصر الأبيض. فاقت الأحداث تصوره وخياله ولكن طول العمر يهدهد الأحزان ... وراح الرجل يقول: لم يعد له صاحب هذا القصر الهائل، ستجف الأشجار وتذوي الأزهار، وسيجيء الربيع القادم فيجد الأبواب والنوافذ مغلقة والحديقة خرابة، وصاحب القصر ووريثه بين يدي علام الغيوب، من نحن حتى نفهم ما يدور حولنا؟ ولكنا نقول مع القائلين:

ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

الربيع القادم

1

إنه يوم عادي، ولكن سرعان ما انقلب فاجتاحته عاصفة هوجاء. وتذكر ربة البيت أن تاريخه يخلو من الهزات العنيفة. مسراته عادية ومتاعبه عادية، وغوصه في عسر المعيشة مضى وئيدا، خطوة بعد خطوة، بلا طفرات، وهون منه بعض الشيء أن الجميع يشاركونه في العناء ويتبادلون الشكوى. إلى ذلك فهي ربة أسرة تحظى بمزايا لا يستهان بها، فالأب ناظر مدرسة ثانوية، وهي كانت مدرسة أولى بالثانوية حتى وقت قريب. واستمرارها في العمل كان مسلما به لولا إصابتها بارتفاع في ضغط الدم، واقتران بخروج خادمتها عنايات فضل الله من خدمتها منذ أشهر للزواج من ابن عمها. وعنايات لبثت في بيتها عشرة أعوام مذ بلغت السابعة عقب وفاة والدها وحتى استردتها أمها، وهكذا حملت جمالات - ربة البيت - الأعباء وحدها وقد تعذر الحصول على خادم إما لندرته أو لارتفاع أجره ارتفاعا غير محتمل. لم يخل بيتها فيما مضى من خادم، أما اليوم فعليها أن تنهض وحدها وأن تلاطف أيضا ما استطاعت ضغط الدم. تستيقظ مبكرة على رنين المنبه لتعد الإفطار لزوجها محمد فتحي ولأبنائها الثلاثة، زغلول (طالب طب) ورمضان (ثانوية عامة) ومحمود (الثانية الثانوية). وعندما يغادرون البيت تعكف على تنظيفه وترتيبه ثم تذهب للتسويق من سوق المنيل غير بعيد من شارع العاصي حيث تقوم عمارتهم، ثم ترجع لتعد الغداء. ويضايقها بصفة خاصة تنظيف الأواني والأوعية وغسل الحمام والمطبخ، ولم تجد ما تستعين به في ذلك سوى قفاز من البلاستيك. ولم يبق من اليوم ما تهبه للقراءة إلا وقت قصير تتصفح فيه الجريدة أو كتابا من المكتبة التي كونتها - هي وزوجها - منذ أيام اليسر. أجل كانت الحياة يسيرة واعدة، وكان ثمة مرتبان ينفقان عليها، ثم أخذ الغلاء يدب ويزحف ويتمطى وينجلي عن وحش لا يرحم، وسرعان ما عجز مرتب الزوج ومعاشها عن ترويضه، فاضطر محمد فتحي إلى إعطاء دروس خصوصية رغم مخالفة ذلك للتقاليد، وودت هي أن تفعل مثله لولا ضيق وقتها بعد ذهاب عنايات. وتوجست خيفة من المستقبل وتساءلت متى يكبح الغلاء وهل يفلت من يدها الزمام؟ وهل يمكن أن تطالب زغلول ورمضان ومحمود بمزيد من التقشف؟! وليس من النادر أن يعرب محمد فتحي عن عذره فيقول: إني رجل بيت مثالي، من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، كل ما يجيئني من نقود أسلمه لك عدا ثمن السجائر والمواصلات ...

ويردف ذلك عادة بتحية يزجيها إليها فيقول: والحمد لله أنك يا جمالات امرأة حكيمة مدبرة، البلد في حاجة إلى وزير مالية في مثل حزمك ودقتك، لا مليم يتبدد هباء في بيتنا.

وإنها لكذلك حقا. وكثيرا ما ترمى بالبخل ولكنها ترفض الصفة قائلة إنه الحرص والحكمة في مواجهة زمان عبوس. ألا يكفي أنها تبدو أكبر من سنها (خمسين عاما)، بل أكبر من زوجها الذي يكبرها في الواقع بخمسة أعوام. لقد ازداد وزنها، فقدت رشاقة عرفت بها أيام الشباب، وخددت التجاعيد جانبي فيها، وحالت نضرة بشرتها، وإنها لتغبط الرجل على صحته وتتهمه - في نفسها - بمداهنة الهموم ومدافعتها ما استطاع عن باله. من ذلك أنها تتابع أبناءها بالملاحظات والنقد، أما هو فيقول: أبناؤنا يسرون الخاطر يا جمالات، لنحمد الله العلي القدير، حياتهم مستقيمة، تفوقهم في الدراسة ملحوظ، متجنبون للانحرافات التي نسمع عنها هذه الأيام ...

ثلاثتهم من أبناء الثورة، ولكنهم ثمرة تربيتها قبل ذلك، ثمرة تربية أخلاقية حازمة، ودور الأب في ذلك لا يقل عن دورها. لم تستحوذ عليهم عاطفة سياسية بمثل ما استحوذت عليهم رغبتهم الصادقة في التفوق. وهم يعتبرون أنفسهم منتمين إلى الثورة على مدى أطوارها، ولكنهم لو سئلوا عما يعنيه ذلك فلعلهم لا يجدون جوابا خيرا من أن يقولوا إنهم ليسوا من اليسار أو التيار الديني المتطرفين. ولم يفت جمالات أن تقيم هذا الموقف. إنها - كمربية أصيلة - تهتم بتقييم المبادئ كما تهتم بميزانية البيت، وهي تناقش زوجها في كل شيء. والرجل يقول: موقفهم باهت، لعلنا لا نختلف عنهم كثيرا يا جمالات، ولكن تذكري المحاكمات كي تحمدي الله على ذلك ...

ويقول أيضا: المهتمون بالسياسة اليوم قلة، أما الأكثرية فمنهمكة في طلب اللقمة ... سوف يكونون أطباء ممتازين ومواطنين صالحين، وهذا خير من أي سياسة ...

وتغري جمالات نفسها فتقول: إن السفينة يجب أن تبلغ مرفأ السلام قبل أن تعصف بها الرياح.

وكان يوم من أيام فبراير ضاعفت قوة الريح فيه من البرد، وغشيت العمارات المتلاصقة في الخارج غلالة هابطة من الغيم.

2

دق جرس الباب. فتحت فرأت أمامها أم عنايات. لا يبدو من السواد الذي يكتنفها إلا وجه مدبوغ وعينان ذابلتان. أدخلتها مرحبة، متسائلة في سرها ترى هل فشل مشروع الزواج؟ وهل جاءت تسعى لإرجاع البنت إلى خدمتها؟ - أهلا يا أم عنايات، ما أخبار العروس؟

تربعت المرأة فوق الكليم القديم في المدخل - الأثاث كله قديم - وتمتمت: أخبار لا تسر يا هانم. - لم كفى الله الشر؟

تجهم وجه المرأة وأغمضت جفنيها منذرة بالبكاء فسألتها جمالات: ماذا دهاك؟

قام ابن عمها بالواجب، أصبح الفرح قريبا، لكن حسدونا يا هانم.

تساءلت بقلق: ماذا حصل للبنت؟ - اختفت، هربت، دفنت رأسي في الطين، هذه هي الحكاية ... - هربت؟! - نعم، لا تفسير لذلك في قريتنا، إلا أنها هربت بعارها ...

فقالت جمالات بقلق: عنايات! - ابن عمها زين الرجال، لا تفسير آخر، وأكثر من شخص يطالب بغسل العار!

اضطرب رأس جمالات بالخواطر المتلاطمة السريعة وتمتمت: يا له من خبر!

والمرأة دافنة عينيها طيلة الوقت في الكليم. تمطى قلق جمالات. ماذا جاء بالمرأة؟ قالت: لعلك توهمت أنك ستجدينها هنا؟ - إنها لم تعرف مكانا آخر. - ولكن بيتنا معروف لديك ولا يصلح للهرب. - رأسي حائر، لا أدري كيف أتصرف ... - إني مقدرة لذلك، ومندهشة، فعنايات مستقيمة لا شك في ذلك ... - تربت عندك، عند أحسن الناس.

أثار القول أعصابها، ولكنها قالت بهدوء: كانت دائما موضع رعايتي، وعرفت في الخارج بالاستقامة ...

فترددت الأم ثم قالت: ربما كان أحد في الخارج ...

ولكنها قاطعتها: لا أظن ولا أتصور. - أمري لله. - هل نجري تحقيقا في السوق؟ الحق أنها لم تتأخر مرة دقيقة أكثر من المتوقع. - الأمر لله وهو المطلع ...

بلغ الضيق بجمالات حد الغضب. ترامي إلى مشمها رائحة طعام يحترق. هبت مسرعة إلى المطبخ فوجدت البامية قد جف ماؤها وشاطت. نسيت همومها وراحت تعالج الموقف بسخط إضافي. ولما رجعت إلى المدخل - وإلى الهموم - وجدت المرأة واقفة مرتبكة، فقالت لها: ابقي للغداء.

وقررت أيضا - بلا أدنى ارتياح - أن تهبها أجرة الرجوع إلى بيتها. وطيلة الوقت لم يخل رأسها من الفكر.

3

ما هذا الذي حدث؟ متى وكيف ومن؟ أم عنايات امرأة حائرة معذبة مكسورة الجناح، ولكنها تشير بأصبع الاتهام. ما حدث قد حدث وعنايات أمانة في عنقها. جاءتها وهي بنت سبع. ثمة مسئولية ولا شك. لا توجد قضية ولا توجد محكمة ولكن يوجد ضمير، وهي تستطيع أن تعصف بأي اتهام يوجه إليها، ولكن كيف السبيل إلى إسكات بلابل العذاب الخفي؟ لا تفسير للهرب إلا شيء واحد. القرية صادقة في ظنونها. الجريمة وقعت والبنت في خدمتها. تتابعت في مخيلتها صور زغلول ورمضان ومحمود. تنهدت مغمغمة: لكنهم أبنائي!

طنت الجملة في باطنها مثل شعار بال. عنايات جميلة. نضجت في بيتها قبل الأوان. فطنت في وقتها إلى تحذيرات جمالها الناضج. آمنت أنه من الأفضل إرجاعها إلى أمها. لم تنفذ فكرتها لشدة حاجتها إليها. وصادف ذلك ورود طلائع المرض. وأيدت سلبيتها بأن أم البنت أرملة وحيدة وفي حاجة إلى النقود. وأنها لن تستطيع على أي حال الاحتفاظ بها في بيتها. بنت رائعة فحتى الطهي أحسنته. في القرية يركزون المسئولية في الضحية. إنها هي أيضا ضحية. •••

اجتمعت الأسرة حول السفرة في منتصف الثالثة. لا يشغل بالهم إلا القضاء على الجوع عقب نهار برد وعمل مرهق. وجوههم مستبشرة. يبدو أن وجهها يقول شيئا ما، فها هو محمد فتحي زوجها يتساءل: ما لك؟

قالت وهي تبتسم: يوم بارد كئيب.

فقال محمود ضاحكا: ولكن طعامك لذيذ.

ها هم حولها، زغلول رصين لدرجة البرودة، حتى ليوصف بأنه إنجليزي ... ذقنه مدبب وعيناه جاحظتان قليلا ورأسه كبير بشكل ملحوظ. عاقل جدا، شغال جدا، محترم جدا، مترفع عن المهاترات، ربما أخطأ أحد أخويه في حقه ولكنه لا يخطئ، حتى المزاح البريء لا يميل إليه. رمضان كبير القسمات واضحها، عملاق في حجمه، مارس الملاكمة والمصارعة، ولكنه والحق يقال مهذب، غاوي مناقشة ولكن المناقشة تهمه أكثر من الرأي نفسه، مغرم بالقراءة، يود أن يتفوق على زغلول نفسه، محمود أجمل الثلاثة وجها، ممشوق القوام، محب للأناقة والغناء، طيب القلب وحيي وذكي وصديق لزغلول. الأول طالب طب والآخران يحلمان باللحاق به وتعد قدرتهما بذلك. من منهم؟ سلوكهم آية في الاستقامة، لا تتخيلهم في صورة أخرى حتى لو كانت ظروفهم المادية أحسن. ثلاثتهم يصلون ويصومون بلا إثارة من تعصب أو هوس. متوجون بالتهذيب والاعتدال والنشاط. لا تتصور بحال أن الجاني أحدهم ولكن وساوسها لا تنام. الأب لا يدري بما يمزقها. إنه يتناول طعامه في صمت وتركيز، عملاق أيضا، شاربه الغليظ يتحرك فوق شفته تحية لأجيال خلت. عما قليل يشاركها همومها. إنه مثلها ذو ضمير، ومثلها أسهم في تربية الثلاثة. ما جدوى ذلك كله؟ متى يجود القدر بالبراءة والراحة؟! •••

لم تسنح الفرصة لإثارة الموضوع إلا عندما جمعتهما حجرة النوم للقيلولة. تبين لها أنه كان يراقبها أكثر مما قدرت فسرعان ما قال بجدية: جمالات، لست كعادتك.

فقالت بنبرة اعتراف: ملاحظتك في محلها تماما.

رنا إليها متسائلا في اهتمام وهو يشعل كليوباطرة، فقالت: زارتني اليوم أم عنايات وأخبرتني أن عنايات هربت قبل الزفاف!

ردد قولها ببطء وهو يغوص فيه بحذر وإشفاق. تبادلا نظرة طويلة مثقلة بالشك، ولكنه لم ينبس، فقالت جمالات: أنت تدري كيف يفسرون ذلك في القرية، ولعله التفسير الوحيد المقبول، وهو يعني أنها ستظل عرضة للقتل في أي وقت، وأنها في جميع الأحوال قد ضاعت ...

فتساءل كالمتهرب: لعلها أملت أن تجدها عندنا؟ - قالت ذلك ... - تفكير غير سليم. - إنها تتصرف بوحي من اليأس ولكن يوجد اعتبار آخر! - اعتبار آخر! - محمد، يضايقني تغايبك في المآزق، ثمة اتهام موجه لبيتنا ...

فتمتم بقلق: ساء ظنها.

واضح من نبرته أن الهم قد ركبه، إنها لم تعد وحدها، قالت: هذه المآسي محتملة الحدوث كما تعلم.

فقال بصوت ضعيف: الأولاد عقلاء. - وهم أيضا مراهقون. - إنهم نماذج طيبة جدا لجيلهم. - ولو.

فتساءل بقلق: ماذا عندك؟ - لا شيء على وجه اليقين. - أحيانا ألمح وقوفهم في النوافذ ولكن ماذا نتوقع؟ - طبعا توجد بنات الجيران، إني أقنع عادة بإرشادات عامة أضمنها حديثي وكأنها غير مقصودة لذاتها. - عين الصواب، هل علموا بالمأساة؟ - كلا بعد. - هل يجدي النبش والتحقيق؟ - لا أردي.

أطفأ الرجل سيجارته وتساءل بضيق: ألا يمكن أن ننسى الموضوع؟

رغم أنها تمنت ذلك إلا أنها قالت: المسكينة أهدرت حياتها. - ليس في وسعنا أن نفعل شيئا، هل في وسعك ذلك؟ - ليته كان ممكنا، المساعدة غير ممكنة، ولكن الراحة أيضا مستحيلة ... - افترضي أنك عرفت الجاني فهل يهبنا ذلك أملا جديدا؟ - من العدل أن يعرف ما جنته يداه ...

صمت متفكرا ثم قال: يا له من كابوس! - هو ذلك تماما. - فنفخ قائلا: لا داعي لأن نسبق الحوادث ...

فقالت بإصرار: بل يجب أن يعرف الأمر، أن يعرف الخبر على الأقل ... - إنك تنبشين عن المتاعب. - لقد وجدت رغما عن إرادتي ...

فقال مقطبا: اعتمدي في ذلك على نفسك! - أنت تحاول الهرب. - هربت أم لم أهرب ستدركني الحوادث حيث أكون.

فقال بوضوح: فلنؤجل الحديث إلى عطلة الجمعة.

4

وجاء يوم الجمعة. تبدى محمد قلقا كئيبا، أما جمالات فكانت أقدر على حبس انفعالاتها. وعقب الإفطار تهيأ الإخوة إلى حفلة الساعة العاشرة بالسينما. وبصوت مرتفع قالت جمالات مخاطبة زوجها: زارتني أم عنايات التي تركتنا لتتزوج من ابن عمها، وأخبرتني أن البنت هربت قبل الزفاف.

انتبه زغلول ورمضان ومحمود باهتمام، اتجهت أبصارهم نحو أبيهم وهو يتساءل متجنبا نظراتهم: هربت؟ ما معنى ذلك؟

فقالت جمالات: لا معنى لذلك في القرية إلا أنها هربت لتخفي عارها!

وحل صمت ثقيل حتى قال زغلول: ربما وجد وراء ذلك سبب آخر.

فسألته أمه: أي سبب؟ - لعل العريس لم يعجبها. - هذا يحدث في السينما.

فقال رمضان: أو هربت مع آخر. - لو صح ذلك لعرف في الحال، وعلى أي حال فستظل مهددة بالقتل.

فتساءل محمود: ما زالت تلك التقاليد مرعية؟ - وستظل مرعية طويلا.

فقال زغلول: يا له من سوء حظ، كانت بنتا طيبة ...

فقالت جمالات: الطيب عرضة للخداع.

أدركت جمالات أنهم يشعرون تماما بالتهمة المعلقة فوق رءوسهم. قال رمضان: نحن لا ندري شيئا عما يحدث في الخارج.

فقالت جمالات بقوة: ما يحدث في الخارج يتردد صداه في الداخل!

فتساءل محمود: ماذا تعنين؟

فهدأت نوعا وهي تقول: أعني أن ... أعتقد أن البنت بريئة ... - إذن فلماذا هربت؟

إنه هو الذي يحقق! على ذلك تمنت من الأعماق براءتهم. وتمتمت: الله أعلم!

وضاق صدر زغلول بالمناقشة فنهض وهو يقول: صدقت، إنه أمر مؤسف ولكن ما الحيلة؟ وقد آن لنا أن نذهب ...

ولما خلا لهما المكان نظرت إلى زوجها قائلة في عتاب: لم تتفوه بكلمة. - إني حزين، هل أفادك ما فعلت ؟ - هو الواجب. - هل خرجت بانطباع ما؟ - يلوح لي أنهم أبرياء. - أرجو ذلك. - مضت ترفع أواني الطعام وهي تقول: عيبنا أن لنا ضمائر.

فقال بسخرية: أفنينا العمر في تربية الضمائر.

فرجعت من المطبخ وهي تقول: يقال إن زماننا بلا ضمير. - في كل عصر مضى قال عنه أهله ذلك. - أتعني أن الضمير خرافة؟ - كلا، ولكنه درجات، وأرفعه شأنا الضمير الذي يردف القول بالعمل فهو نادر جدا في كل عصر، هبي أنك عرفت أن ابنا من أبنائك هو الجاني فماذا كنت تفعلين؟

فتساءلت متحدية: هل تتوقع أن أبلغ الأمر للشرطة؟ - دعينا من الأساطير. - توجد سبل كثيرة للتكفير عن الأخطاء أو إصلاحها. - إنها تتطلب قدرا كبيرا من الشجاعة. - أعلم ذلك ... - عظيم. - لكن شعوري يحدثني بأنهم أبرياء.

فتمتم بسخرية: إنك تنشدين الراحة.

فقالت بحدة: كلا ...

فقال متنهدا: ثمة أناس يولدون للضياع. - لعلك تشير إلى دور المجتمع؟

فهز رأسه بالإيجاب، فقالت: نحن ننشد الراحة بأي سبيل.

فقال في ضجر: إني مغتم من أجلهم قبل كل شيء. - وأنا مثلك، ولكنني مغتمة من أجل البنت أيضا ... - لست وحشا كما تعلمين، أأنت واثقة من براءتهم؟ - أين مني ليت؟! - هل نمضي إلى الأبد على هذه الحال الجنونية؟!

فصمتت جمالات في غاية من التعاسة ثم تمتمت: ليتنا نعثر عليها لنفعل ما نستطيع من خير.

5

المتاعب الطارئة - رغم حدتها - تهون إذا انتظمتها سلسلة المتاعب القائمة. إنها تصارع كل يوم متاعب اللحوم والمواصلات والتليفون والمجاري، فأوشكت أن تألف مأساة عنايات. غير أن أم عنايات رجعت ذات ضحى. ولم تكن وحدها، فها هي تسوق أمامها عنايات نفسها! يا لها من مفاجأة فجرت الأزمة كأعنف ما يكون الانفجار. اجتاحتها انفعالات متضاربة. تجهم المستقبل - مثل السماء - بالسحب. ها هي عنايات أمامها كما تمنت، ولكن أي ازعاج أثارته! رغم كل شيء رحبت بهما قائلة: الحمد لله!

قالت الأم: أولاد الحلال دلوني عليها، فررت بها لأنقذها من الموت، ولم أجد لها مأوى آمن من بيتك!

حاولت أن تقرأ شيئا وراء الوجه المدبوغ، ولكنه بدا جامدا لا يبين. إنها محاصرة. لا تستطيع أن ترفضها ولا تود أن تقبلها. قالت: سيهتدون إليها هنا ... - آخر مكان يتصورون وجودها به، فضلا عن ذلك فهم يجهلونه، لا ترسليها إلى الخارج، قلبك كله رحمة يا ست ...

نظرت إلى عنايات فأجهشت في البكاء. ذبل جمالها واتسخ. وهي خجلى تعيسة لا تستطيع أن ترفع عينيها. وسحبت جمالات الأم من يدها إلى المطبخ، ثم قالت لها بحزم: أريد أن أعرف ما تعرفين.

فقالت الأم بحرارة: لا أعرف شيئا. - تمكرين بي؟ - لم يكن لدي وقت، تسلمتها وطرت بها قبل أن ينتبه إلينا أحد. - ولكنك قررتها؟ - أبدا وحياتك.

فقالت بإصرار: لا أقبلها حتى أعرف.

فتساءلت الأم بانكسار: هل ترسلينها للموت؟

فلعنتها في سرها وقالت: ستحملني من الهم ما لا يطاق. - ربنا ستار وقلبك كله رحمة.

فقالت بوضوح: إذا أزعجنا أحد من القرية فلن أسمح بأن أجعل من بيتي مسرحا لمعارك.

فقالت الأم بيقين: لن يكون ذلك.

وسرعان ما غادرت الأم البيت وكأنها تفر.

6

جلست جمالات في المدخل وعنايات قاعدة على الأرض بين يديها. قالت لها: لا شك تذكرين رعايتي لك؛ لذلك لم أصدق.

فأحنت رأسها ولم تنبس فقالت: طبعا هربت لسبب، ما هو؟

ثابرت على صمتها فقالت جمالات: ليكن الأمر كما ظنوا، صارحيني من هو؟

غاصت في الصمت أكثر. - يجب أن أعرف، هذا ضروري جدا لإنقاذك. - راحت تنشج، فقالت جمالات: لا ... تكلمي ... لا بد أن أعرف.

بإزاء إصرارها همست عنايات: لا أحد. - إذن لماذا هربت؟ - لا أريد أن أتزوج.

فقالت بريبة: لكنه زوج مناسب. - لا أريده. - تحلفين على ذلك؟

هزت رأسها بالإيجاب: توجد أكثر من وسيلة لمعرفة الحقيقة.

فلم تنبس، فقالت بحدة: كذبك واضح، أريد الحقيقة يا عنايات ...

فرجعت تهمس: لا أحد. - لعلك تحبين رجلا آخر؟

هزت رأسها نفيا، فهتفت جمالات: إنك تعبثين بي يا بنت.

فنشجت مرة أخرى. - كفي عن ذلك، أريد الحقيقة، لماذا تخفينها، لقد ربيتك مذ كنت بنت سبع، أنسيت ذلك؟

فغمغمت بانكسار: لا أحد. - ما عيب عريسك؟

فلاذت بالصمت. - أهو عجوز؟

هزت رأسها نفيا: أليس ابن عمك؟

فهزت رأسها بالإيجاب. - هل به عيب؟

فلم تنبس، فصاحت: أقلعي عن هذا الخرس، أنا لا أصدقك، ولا بد من الحقيقة.

ولكنها لاذت بالصمت ونشجت للمرة الثالثة، فحنقت عليها متمنية في الوقت نفسه أن تكون صادقة. تساءلت: إذن لم يعتد عليك أحد؟

فهزت رأسها بالإيجاب. تتمنى أن تصدقها، ولكن من أين لها اليقين؟ ورأت الاكتفاء بهذا القدر من الاستجواب مؤقتا. قامت وهي تقول: خذي راحتك ونظفي نفسك والله يتولانا برعايته.

7

رجع الرجال إلى البيت فتناولوا غداءهم. الشقة باردة مثل الخارج أو أكثر، ولكن إحكام إغلاق نوافذها حماها من عواصف أمشير، فلم يقتحم الداخل إلا زفيف رياحه. هذا البيت لا يحب الشتاء وخاصة أمشير. توارت في أثناء ذلك عنايات في المطبخ، فلم ينتبه لوجودها أحد. وطيلة الوقت جعلت جمالات تتأهب لإلقاء الخبر. رددت في أعماقها بإصرار «لا أحد». حل سعيد لم يجر لها في بال. لم لا؟ البنت بريئة ولأمر ما كرهت الزواج فهربت. إنه لا يصدق ولكنه غير مستحيل. لعلها تحب شخصا آخر. إن صح تخمينها فهي تحب صبي الكواء، فهو شاب وسيم ويخطر عادة في البلوفر والبنطلون. وبعد الفراغ من الطعام مضت إلى حجرة الجلوس وهي تشير إليهم أن يتبعوها. جلسوا على الكنب العتيق. توقعوا أمرا، وقال محمد فتحي الأب: لو تمطر السماء يصفو الجو وتهدأ العاصفة.

نظرت صوب التلفزيون والراديو الصامتين فوق حاملهما الخشبي، وقالت ببساطة: عنايات هنا ...

شخصت الأبصار. شخصت إليها باهتمام واضح. باتت عنايات بؤرة الإثارة وهدفها. ولم ينبس أحدهم بكلمة. انتظروا المزيد بوجوه مفصحة عن الاهتمام وحده. قصت عليهم قصة رجوعها وخطة أمها، ثم قالت بارتياح: حققت معها فأسفر التحقيق عن لا شيء، زوبعة في فنجان كما يقولون ...

تساءل محمد فتحي: ماذا تعنين؟ - لا جناية ولا جان ...

تمطى الصمت حتى شمل الكون، تساءل الأب: لم كان الهرب إذن؟

فأجابت بسخرية: العريس لا يعجبها! - هل يصدقونها هناك؟ - ما زالت حياتها معرضة للخطر، ولعلها معلقة بشخص ما. لعله صبي الكواء، سأعرف كل شيء في حينه ...

تمتم الأب: عادت المشاكل إلى بيتنا! - قد تتزوجه وينتهي الأمر.

فقال الأب بامتعاض: كان من الخير ألا نقبلها. - لم يكن بوسعي أن أطردها إلى الموت. - قد يسعى إليها الموت هنا ... - إذا تزوجت انتهى كل شيء بسلام.

وقلبت عينيها في الوجوه ثم قالت: لقد تصرفت في نطاق ما نؤمن به من مبادئ، فلا تلمني.

8

عاشت جمالات في قوقعة الطمأنينة قانعة بمصارعة المعيشة. رغم كل شيء تابعت عنايات بعين يقظة. لبث في أعماق قلبها شك مثل دودة خفية. كلما حاولت استدراجها سمعت عبارة عنيدة «لا أحد». اضطرت مرة إلى أن تسألها: لعله صبي الكواء؟

فهزت البنت رأسها نفيا. - هل ترفضين الزواج إلى الأبد؟

فلم تحر جوابا ومضت في عملها. وكانت عنايات تنام في الطرقة المؤدية إلى المطبخ فوق شلتتين متلاصقتين تحت بطانية خشنة. ومرة في جوف الليل وجمالات راجعة من الحمام تلقت من إحساسها رسالة خفية بأن الطرقة تموج بحياة حذرة مكتومة. توقفت وأطفأت النور وذابت في الظلام بقلب خافق. أشفقت من الإقدام وعجزت عن الذهاب. امتلأ رأسها بأفكار مثل الظلام. هل يمكن أن يتسلل أحد من الخارج وهم نيام؟ أي شيطانة! وأي تعاسة تقتحمها من جديد! وقبل أن تتخذ قرارا رأت في الظلمة التي ألفتها عيناها شبحا يتسلل من مدخل الطرقة ماضيا نحو حجرة الأولاد. تلاشت أحلامها تحت صاعقة الحقيقة. صاعقة محقت أي أمل. جسدت الاتهام وقذفت به في وجهها. تركته يذهب وهي مشلولة تماما. لم يهن عليها تفجير الفضيحة ولا إرعابه ولا حتى مواجهته. ثمة طرق أخرى توصل للحقيقة. وسوف توصل الحقيقة إلى الجنون. وبلا تردد اتجهت نحو الطرقة. أسدلت ستارة مدخلها وأضاءت المصباح. فتحت عنايات عينيها فزعة ولم تكن نامت بعد. نهضت مرتعدة ووقفت مستسلمة للأقدار. حدجتها جمالات بنظرة صارمة وسألتها: من؟

ولما ترددت لطمتها على وجهها قائلة بانفعال شديد: انطقي ...

فاندفعت تهمس في فزع: زغلول! - يا للداهية! يأبى الداء إلا أن يصيب مقتلا. اضطربت أنفاسها. - زغلول!

لاذت بالصمت منهارة تماما: هو الجاني؟

هزت رأسها نفيا ... ما معنى هذا. - ليس هو؟

أحنت رأسها بالإيجاب. - من الآخر؟ انطقي ...

وهزتها بعنف مكررة: انطقي ...

فهمست: سيدي محمود ... - عرفت الاثنين في وقت واحد؟

فصمتت، ولكنه الصمت المغني عن الجواب ... فتساءلت الأم: وهل يعلم أحدهما بما يفعل الآخر؟

هزت رأسها نفيا، ثم قالت بنبرة باكية: على رغمي ... لم أستطع صدهم ... جاءوا كلهم ... - رمضان أيضا؟ - نعم ... على رغمي ... - أنت فاجرة!

بسطت راحتيها في يأس وأجهشت في البكاء.

9

لما رجعت إلى الحجرة وجدت محمد فتحي يغط في نومه. على ضوء المصباح السهاري رأت الساعة تدور في الواحدة صباحا. لن يغمض لها جفن ولكنها أشفقت من إيقاظه. انتظرت في عذابها حتى الفجر ثم نادته: معذرة، عليك أن تشاركني سهادي ...

فتح عينيه ثم تساءل: ماذا أيقظك؟ - إني في حاجة إليك ...

طار النوم وحل محله قلق ثم تساءل: الموضوع نفسه أم شيء جديد؟ - نفسه!

تزحزح جالسا وهم يتمتم: لم يطمئن قلبي أبدا.

وصبت عليه الحقيقة صبا لتتخلص من قبضتها الخانقة حتى أسند رأسه إلى راحتيه وهو يقول: كارثة!

وتبادلا النظر في حيرة فتركها حتى تساءلت: كيف نتصرف؟ - ليتك ما سمحت لها بالبقاء؟ - ما كان ذلك ليخفف من الجريمة.

وإذا به يقول في خشونة: جمالات، الكلام عن الأخلاق شيء والسلوك الأخلاقي شيء آخر تماما، وقد حرصنا طيلة عمرنا على الاستقامة، فلم يرسب في تاريخنا ما نخجل منه، وأنشأنا أبناءنا على مثالنا.

فتساءلت في أسى: وما النتيجة؟ - لم تصادفنا تجربة بهذه القسوة، كيف نتصرف؟ لنكن واقعيين، لقد وقعت جريمة ولكن لن نعدم لها الأعذار الطبيعية المناسبة. - ليكن، ولكن المهم في تصرفنا بعد ذلك.

فقال بنبرة لم تخل من غيظ: هذا صحيح، فما التصرف الصحيح؟ إنه واضح، وهو أن يتزوج محمود من البنت التي شاركه فيها أخواه وهم لا يعلمون، بذلك نسترها ونكفر عن خطيئتنا وننقذها من الموت، فهل أنت قادرة على الحل الصحيح؟

أرخت جفنيها في ذل وانكسار، فقال: هذا هو الواجب، الكلام سهل أما الواجب فهذا هو، وهو كفيل بهز مستقبله ويجعلنا مضغة أفواه المحبين قبل الكارهين، إني أعرف تشددك وتقواك ، عظيم، افعلي ما ترينه صوابا ...

ها هو يلقي عليها الحمل. كأنما يتحداها. يخيرها بين الذل والجريمة. وهي تمقت الجريمة ولكنها تجزع أمام الحل الصحيح. هذه هي الحقيقة التي تصفعها. وعوضا عن الإجابة دمعت عيناها. ولم يتراجع عن خطه فقال: ما جدوى الدموع؟ القرار عسير، خذي مهلة كافية للتفكر ...

فقالت بصوت ضعيف: الأمر لا يخصني وحدي.

فقال بلا تردد: إن أردت رأيي فاعلمي أني رجل واقعي كما أني أخلاقي.

فانتظرت في امتثال، فقال: ممكن أن نزوجها من ابن الحلال بعد اتخاذ الاحتياطات الطبية الواجبة.

صمتت مغلوبة على أمرها، ولم تخل من سخط عليه وعلى نفسها معا. وشعرت بخجل كإنسان جرد من ملابسه فجأة. أما محمد فواصل قائلا: لا مفر في هذه الحال من إبقائها حتى نبلغ بها بر السلامة، ولكن عليك أن تخترقي الحاجز بينك وبين الآثمين. - ألا تقوم أنت بهذه المهمة؟

فقال بحسم: بل أنت، والأفضل أن تزعمي لهم أنني لم أعرف شيئا. - لماذا؟ - هو الأفضل ... - فتفكرت وقتا ثم قالت: إنه الحل الممكن، ولكنه ليس الأمثل، أمرنا لله، وهو سيعرينا جميعا نحن وأبناءنا ويفضح ضعفنا الحقيقي ... - سيدركون أننا نضحي بالسلوك النقي من أجل مصلحتهم. - وسيدركون أيضا أننا كاذبون، صناعتنا الكلام لا أكثر ولا أقل ...

فتساءل في عصبية: أليسوا المسئولين عن الجريمة؟ - ونحن المسئولون عن الحكم.

فقال بضيق: تصرفي إن استطعت على مستوى مبادئك.

فهتفت: كأنما تسعى لإذلالي ...

فخفف من نبرته قائلا: معاذ الله، كلانا غارق في مصرف واحد!

وتبادلا نظرة خلت من الروح والثقة وأترعت بالأسى.

10

الصباح يفتتح يوما مفعما بالمعاناة. ما زال البرد قارسا والرياح عاصفة. وتنظر من وراء زجاج النافذة المغلقة فترى الطريق ممتدا حتى المنعطف، لا شجرة به، الريح تنشر الزبالة فوق أديمه، وجه الطوار متشقق متعدد الفجوات، والناس يترنحون هنا وهناك. لقد انصرفوا جميعا، وعنايات تعمل في المطبخ، وهي تفكر في المواجهة التي ستتم بينها وبين أبنائها منفردين، إنها الكآبة والحرج. وكانت بدأت بالبنت فقالت لها بحزم حاد: حذار أن تذعني لأحدهم، كفى ما كان، وسنجد لمشكلتك الحل المناسب ...

من آن لآخر جعلت تراقبها وهي منهمكة في عملها. ترى ماذا يدور في رأسها؟ تبدو خالية البال كأن الموت لا يتهددها. بل أخذت النضارة تلوح في وجهها الأسمر ووجنتيها البضتين. كما رثت لها حنقت عليها. مأساتها مأساة من يواجهن الحياة بلا مال ولا علم. وتذكرت ضيقها إزاء الغلاء المتصاعد وكيف تهبط أسرتها درجة بعد درجة. إنها تلبي طلبات الأبناء بنسبة لا تزيد عن خمسين في المائة، ولولا جديتهم وتسلط روح العمل عليهم لانفجرت أزمات وأزمات.

وهي تمر بالبنت قالت هذه: ستي.

فتوقفت متسائلة، فتساءلت البنت: هل تريدين أن أذهب؟

فقالت بعصبية: لم أقل ذلك قط.

فتمتمت: أشعر بأني غير مرغوب في ... - انتبهي لعملك ونفذي ما أوصيتك به.

اتجهت إليها بكل جسمها وقالت بصوت منخفض: عرضوا على أمي أن أعمل في شقة مفروشة!

يا لها من مفاجأة. تساءلت في استنكار: ألا تفهمين ما يعنيه ذلك؟!

فقالت بصراحة لم تتوقعها: لن يكون أسوأ مما أنا فيه، ويمكنني أن أقتصر على السهر في الشقة!

وقالت جمالات بامتعاض شديد: سنجد لك مصيرا أحسن!

فقالت بصوت حزين دل على أنها ليست خالية البال كما بدت لعينيها: لا يوجد لي مصير حسن!

عند ذاك دق جرس الباب فذهبت جمالات لترى من القادم.

وكان القادم هو محمود.

11 - ماذا أرجعك؟

مضى بها إلى حجرة الجلوس وهو يشير: تخلفت عن المدرسة لأحدثك على انفراد.

أجلسها إلى جانبه، فجلست متوقعة أن تسمع اعترافا و - ربما - حلا من نوع ما. قال: لا أستطيع أن أحتمل أكثر مما احتملت.

فنظرت إلى الأرض بوجوم رافضة أن تتظاهر بما ليس فيها، فقال: الموضوع يتعلق بعنايات!

فلم يتغير من حالها شيء، فاعترف قائلا: لقد كذبت عليك، هناك اعتداء وأنا المعتدي ...

وتفرس في وجهها ليرى أثر كلامه ثم قال: أدرك الآن أنك عرفت الحقيقة. - أجل. - شد ما تعذبت عند سفرها مع أمها، لن أغفر لنفسي تقاعدي عن مساعدتها، كان الموقف أكبر من شجاعتي، وتضاعف العذاب عندما علمت بهربها ...

فقالت بهدوء: لا يداخلني شك في ذلك. - أعتقد أن والدي يعرف أيضا. - نعم. - إنها تنتظر أحد مصيرين، الموت أو السقوط. - ربما يوجد طريق ثالث.

فتساءل بلهفة: ما هو؟ - أريد أن أستمع إليك أولا.

فتردد قليلا، ثم قال: نحن قوم ذوو ضمائر حية. - هذه هي المشكلة.

فتشجع قائلا: الواجب يقضي علي بأن أحميها حتى أتزوج منها ...

خفق قلبها منذعرة وسألته: هل تدري ما يعنيه ذلك؟ - طبعا بكل أبعاده، وأدري أيضا ما يعنيه الغدر، وقد لقنت على يديك - ويدي أبي أيضا - مبادئ لا يجوز أن تنسى.

انحبست الاعتراضات في حلقها وتورد وجهها حياء، أما هو فتساءل: أليس كذلك.

فلم تجد بدا من أن تقول: بلى.

وجفلت من أن تشير له إلى ما تم الاتفاق عليه بينها وبين محمد فتحي، فرددت في نفسها «إذا بليتم فاستتروا». سيقع ما كانت تحذره إلا إذا انبرى أبوه لإنقاذ الموقف. تخيلت عنايات زوجة لمحمود وأمها حماة له فغاص قلبها في صدرها. غاص قلبها رغم أنها تتذكر تماما أن جدتها لأمها لم تكن ترتفع درجة واحدة عن أم عنايات، وأن جد زوجها كان فراشا في مدرسة! وإذا بمحمود يقول: ولكن توجد مشكلة أخرى.

حدجته بنظرة مستطلعة، فقال بحياء وتلعثم: إني في حكم الخاطب. - خاطب؟! - يوجد اتفاق لم يعلن بعد بيني وبين فردوس سمير جارتنا.

ذهلت جمالات حقا. إنها تعرف فردوس، كريمة المرحوم سمير المعلم، وهي صديقة حميمة لأمها جارتها منذ ربع قرن. أسرة طيبة ومحترمة، بكريها طبيب في الأرياف، وفردوس فتاة تكبر محمود بخمسة أعوام، لم تتم تعليمها، ذات ثروة محترمة، ولكنها سيئة الحظ لأنها عاطلة من الجمال، لا حظ لها منه رغم أناقتها المبالغ فيها، كما أنها تترك في نفس محدثها ما يثير السخرية لتصورها أنها محدثة لبقة واسعة الاطلاع. سألته بدهشة: هل تحب فردوس؟

فقال بمزيد من الحياء: المسألة أنني استجبت لتوددها، لم أدر كيف أرفضها ... - يا لها من خطوبة غريبة! - والأدهى من ذلك ...

وتوقف مرتبكا فتساءلت: هل يوجد ما هو أدهى من ذلك؟ - تورطت معها ...

فقاطعته: يا خبر أسود ... - لا أعني ذلك، أعني أنني اقترضت منها بعض النقود.

فكررت في عصبية: لا أصدق أذني ... - قروض اضطررت إليها ... - ما مقدارها؟ - الحق أنها مستمرة! - مستمرة؟! أأنت في حاجة إلى ذلك؟ - ماما، كيف غاب عنك ذلك؟ - نحن نشقى لنوفر لكم حياة كريمة. - أعرف ذلك، ولكن لولا نقود فردوس لأرهقتنا المعيشة إلى درجة عدم الاحتمال أنا وزغلول ورمضان. - يا للمصيبة، أهما شريكاك في ذلك؟ - نعم ... - ألم يعترض أحدهما؟ - لقد شجعاني على ذلك. - شجعاك على خداع بنت سيئة الحظ لسلب نقودها؟

فبادرها بحرارة: ليس في الأمر خداع، صدقت نيتي على الزواج منها في الوقت المناسب، وقال لي أخواي إن المال ميزة مثل الجمال، وإن فردوس على خلق ومن أسرة طيبة! - يا للعار يا محمود، تخطب فتاة سرا لتنفق عليك! - إنها قروض سأردها في المستقبل، ولولاها لحدثت لك أنت وأبي متاعب كثيرة ...

ألصقت راحتها بجبينها وهتفت: إني في حاجة إلى طبيب ...

فصمت مستسلما لوجوم كئيب حتى سألته: وكيف أخطأت مع الأخرى؟ - بلا إرادة ... ولكنني أعترف لك بأنني أحب عنايات! - ما شاء الله، وهل علم أخواك بجنايتك؟ - كلا. - لعل لديهما حلا فريدا! - ماما، إني معذب، لا أستطيع أن أتخلى عن عنايات، كما أنه يعز علي جدا أن أهجر فردوس ...

ونظر إليها في تعاسة مستوهبا النصيحة، حتى ندت عنها ضحكة عصبية وقالت ساخرة: ما عليك إلا أن تتزوج من الاثنتين ...

فقال بلهفة: يهمني جدا رأيك.

فقالت بحيرة: أمك احتارت واحتار دليلها! ماذا يقول لك ضميرك؟ - يملي علي أن أكون إلى جانب أشد الاثنتين حاجة إلي ... - ومن عسى أن تكون؟ - عنايات فيما أعتقد. - ثم يقال إنك سرقت فتاة طيبة وخدعتها! - أهون من أن أترك أخرى للموت أو السقوط ... - ستوجد على أي حال تضحية بفتاة بريئة ...

وساد صمت ثقيل مرهق للروح حتى تساءل محمود: أليس هو الصواب يا ماما؟

فقالت بنفاد صبر: حسبي أنني ربيت ضميرك، وعليك أن ترجع إليه وحده!

12

هكذا انضاف إليها واجب ثقيل آخر هو مواجهة زوجها قبل مواجهة زغلول ورمضان. تذكرت أياما خالية حرصت فيها على الاستئثار بحل المشكلات. كانت مشكلات هينة حقا، أما اليوم فكم تتمنى لو أن زوجها كان أكثر إيجابية! وقد عاد زغلول ورمضان متعبين، ولكن مرحين أيضا لا يدريان شيئا عما يتجمع وراءهما من سحب، أما محمد فتحي فبدا وكأنه يتقدم في العمر. وتساءل رمضان عن تخلف محمود عن الذهاب إلى المدرسة، فأجابت أمه بأنه متوعك. وتناولوا الغداء في جو لم يفلح جهد في تبديد كآبته. وفي حجرة النوم قالت جمالات لزوجها: لدي مزيد من الأخبار المزعجة ...

ورمته بالجديد منها بغير مبالاة. وراح الرجل يفكر ويضرب على كف بكف، ويقول: لن أدهش لو تكشف بيتي عن عصابة إرهابية للاغتيالات الدولية ...

فسألته بوضوح: أتستطيع أن تقنعه باقتراحك الأول؟

فهز رأسه باقتضاب: كلا.

إنه لا يريد أن يتلقى درسا في الأخلاق على ابنه وتلميذه. - قالت: الحق إننا أصغر من الأخلاق التي نعلمها. - أي حل الآن لن يعفينا من سوء السمعة ... - ما أكثر الخاطئين، ولكن ذوي المبادئ وحدهم هم الذين يدفعون الثمن ...

فابتسم ابتسامة ساخرة ولم ينبس، فثارت ثائرتها وقالت: إنك تخجل من مواجهة ابنك باقتراحك ... - بل اقتراحنا، فقد وافقت عليه أنت أيضا ...

وكالعادة سارع إلى ملاطفتها، فقال بهدوء: لا ترهقي ذاتك بالندم، فلنطارد التعاسة معا، المسألة أنه كان لنا حلم وتبدد ...

لكن سخطها تمطى حتى شمل كل شيء. نالت عنايات أرقى نصيب منه، فهي التي - بضعفها لا قوتها - زلزلت الأسرة وعرتها. ونال زوجها نصيبا لا يستهان به لضعفه وسلبيته. ولكنها لم تتجاهل أنها المسئولة عن ذلك. بقوة شخصيتها وذكائها حولته من شريك إلى أسير. وطالما سعدت بذلك واستمتعت بقوتها بلا حدود. اليوم تشعر بوحدتها، فتنحي عليه باللائمة وتكيل له التهم.

13

رغم أن الغداء لم يهضم، والجو لم يهدأ ولم يلطف، فإنها لم تشعر بالبرد، بل شعرت بأن رأسها يشتعل، تمنت أن يهطل المطر. شارع العاصي يتحول في أعقاب الأمطار إلى برك ومستنقعات ومع ذلك تمنت أن يهطل المطر، وتلبية لإشارتها لحق بها زغلول ورمضان بحجرة الجلوس. رتبت في ذهنها ما يقال وما لا يقال وسرعان ما لاحظت أنهما لا يخلوان من قلق. لا مفر من أن يعلما بقرار محمود وبدواعيه. فيما يتعلق بعنايات وفيما يتعلق بفردوس. لن تشير من قريب أو بعيد إلى خطئهما أو خطيئتهما ولكنهما لن يتورطا فيها مرة أخرى دون حاجة إلى تنبيه. وفي تقديرها أن عنايات تحب محمود، وأن ضعفها وحده هو المسئول عن استسلامها لزغلول ورمضان. هكذا قصت عليهما قصة محمود وقراره. لمست اضطرابهما وضيقهما. تطايرا في الهواء رغم المحاولة المستميتة للتظاهر بالحياد والثبات والبراءة. وهي محيطة بأزمتهما بكافة أبعادها، بمشاعرهما نحو أخيهما الذي اعتديا على من ستصير زوجة له، ونحو النقود التي سيفقدونها لقطع العلاقات مع فردوس. لم تشعر نحوهما بعطف إذ رأتهما مستحقين للعقاب. ختمت قصتها بقولها: اعتدنا أن نناقش مشكلاتنا معا.

وسأل زغلول: هل علم أبي بالقصة؟ - كان لا بد أن يعلم.

تبادلوا نظرات حائرة. قال زغلول: إنه قرار خطير جدا. - أجل، ولكن هل عندك حل أفضل؟

لم يحيرا جوابا، فقالت: علاقته بفردوس خطأ لا مبرر له وإنكما تتحملان تبعة ذلك مثله أو أكثر.

فقال زغلول مدافعا عن نفسه: كان صادق العهد في الزواج منها. - ومسألة النقود؟

فقال رمضان بجرأة: لم نجد من الإنصاف أن نطالبكما بما تعجزان عنه.

فقالت بحدة: لم نقصر أبدا. - أجل، ولكن الممكن كان دون المطلوب. - اعتقدت أنكما قادران على مواجهة الموقف بما يتطلبه من تضحية.

فقال زغلول: بذلنا ما نستطيع، أكرر أن القرار خطير جدا.

وإذا برمضان يقول: ماما، نحن لم نعد ندري بيقين ما الصواب وما الخطأ!

فتساءلت بانزعاج: ما معنى ذلك؟ - أصارحك يا ماما أنه بإزاء ما صادفنا من مشكلات تناقشنا - أنا وزغلول - في ماهية الأخلاق التي نشأنا عليها ...

فسألته وهي تتفرس في وجهه: هل رابك منها شيء؟ - تساءلنا إلى أي درجة تصلح لهذا العصر!

فقالت بحدة: مدى علمي أنها تصلح لكل زمان ومكان!

فقال رمضان بأسى: ما أكثر الذين يستهينون بها وينجحون!

فتساءلت بذعر: هل أقنعتم أنفسكم بأن النجاح هو كل شيء؟!

فقال زغلول بسرعة: كانت مجرد مناقشة استطلاعية.

فواصلت بحدة: تصورا أن نقنع بطرد عنايات، والاستمرار في ابتزاز أموال فردوس حتى يتخرج ثم يفسخ الخطوبة، تصورا ذلك! - كانت مجرد مناقشات مثل لعب الشطرنج. - لا أريد أن أختم حياتي باليأس. - هذا مسلم به.

وقال رمضان في حيرة: لنا زملاء يخطئون بفكر متكامل، وهم يرمون كثيرا بالانحراف، وطالما غبطنا لأننا لم ننحرف، ولكن من نحن؟

فقالت بإصرار: مبادئنا فوق الجميع! - معذرة، أريد أن أقول إن طمأنينتنا لا تقوم على أساس، يوجد خطأ ما، لم تلوح الحياة بهذه القسوة؟ - لذلك أسبابه، أحد هذه الأسباب الانحلال الأخلاقي.

فتمادى رمضان قائلا: قد يقتل الإنسان دفاعا عن نفسه!

فارتفع صوتها وهي تقول: المهم أن يكون على صواب، إنكم لا تقدرون تعبنا حق قدره، لقد عملت حتى اضطرني المرض إلى طلب المعاش، أبوكم يعمل عملا مضاعفا رغم انحداره إلى الشيخوخة، وتفوقكم ميزة لا يستهان بها فلم الشك والانتهازية؟

فضحك زغلول تلطيفا للجو وقال: ما زلنا عند حسن ظنك.

سخرت من قوله في نفسها ولكنها قالت: أشكرك، سيكون لنا عودة إلى الحديث، أما الآن فإني أفضيت إليكما بأخطر قرار اتخذ في أسرتنا حتى لا تفجآن به غدا، فما رأيكما؟

وساد الصمت، وتبودلت النظرات، فقالت: حسبت الأمر لا يحتاج لتردد طويل؟

فقال زغلول: ليس التردد نتيجة للشك في صوابه ولكن إشفاقا من عواقبه!

فقالت ببرود: قدرنا ذلك قبل اتخاذ القرار. - عظيم! - ماذا تعني؟ - إنه قرار صائب تماما.

لقد غادرتهما وهي مليئة بالشك والغم.

14

وجدت رب البيت نائما. لمحت فوق الكومودينو قارورة البريكتين فأدركت أنه استعان بالمهدئ ليهرب. ما أحوجها هي إلى حبة بريكتين! لا شك أن الضغط الآن يتصاعد مثل الجو العاصف حولها. استلقت على ظهرها تحت الغطاء. تحت سطح الماء الساكن تيارات تتلاطم في الأعماق. أسرتها أسرة مثالية ولكن على الورق فقط، وها هي تتمخض عن مفاجآت غريبة وقبيحة. زغلول ورمضان يتملصان من قبضتها. الجو الفاسد يتسلل إلى الداخل رغم النوافذ المغلقة. لا جديد في أن يختلف الناس في الصواب، المهم أن ينشدوه لا أن يطرحوه أرضا. وآمنت بأنها لو خرجت من هذه الأزمة دون مضاعفات صحية فسوف تكتب في المعمرات. ولبثت تعاني يقظة حادة، وترفض في الوقت ذاته أن تمد يدها إلى قارورة البريكتين، فلم تدر أنها غفت قليلا إلا بفضل حلم رأته عن أمها. ولدى استيقاظها شد انتباهها شيء في الخارج. خارج الحجرة حركة وأصوات. ماذا يجري؟ زوجها ما زال يغط في نوم عميق. انسحبت من تحت الغطاء فارتدت الروب وغادرت الحجرة بسرعة. وجدت محمود في الصالة واقفا شاحب اللون مرتجف الأطراف. حدست في الحال أن وجه الحقيقة الآخر كشف له عن بشاعته كلها أو بعضها. - ماذا جري؟

ضرب جبهته براحته حتى خيل إليها أنه سيحطمها. مضت به إلى حجرة الجلوس. أضاءت المصباح وحبكت الروب وقاية من برودة شديدة. جلست ولكنه لم يجلس. كررت السؤال، فجعل يذهب ويجيء، ثم قال: عرفت أشياء غاية في القبح! - ما هي؟ - عنايات لم تكن ضحية كما توهمت ولكنها كانت داعرة! - ماذا تعني؟ - كانت تعبث بثلاثتنا، أنا وزغلول ورمضان. - اعترفت لك بذلك؟ - اعترف لي زغلول ورمضان ليحذراني.

آه ... إنهما يقصدان إجهاض القرار. وهي تعرف بواعثهما. بعضها أناني وبعضها لا غبار عليه. ورغم إيمانها بأن عنايات مظلومة فإن باطنها لم يخل من دبيب راحة. وسألته: ماذا فعلت؟ - قررت الداعرة حتى أقرت ... - خفض من صوتك أو يصل إلى الشارع، هل دافعت عن نفسها؟ - تدعي أنها استسلمت على رغمها الفاجرة! - اهدأ. - فوق طاقتي! - أرجو أن تنتظرني حيث أنت ...

مضت إلى المطبخ.

لكنها لم تجد لعنايات من أثر.

ورجعت إلى محمود متسائلة: هل طردتها؟

فهز رأسه نفيا، فقالت: لقد ذهبت.

15

انسرب الجو العاصف إلى القلوب. الإخوة - رغم الاعتراف المريح للضمائر - فقدوا شعورهم الطبيعي بالبراءة وعزة النفس. جمالات تدرك ذلك وتلاحظه بنفس مكلومة. الأمور الآن تناقش جهرا، وها هو الأب وزغلول ورمضان يلحون على اعتبار الموضوع منتهيا، أما محمود فقد تبعثرت ذاته. وضاعف من عذابها أنها في صميمها قد ارتاحت إلى اختفاء البنت وهي بريئة من دمها. ولاحظت أن زوجها لا يأبه لأحزان محمود ولكنه يتابعها هي بقلق. وقال لها وهو منفرد بها: لقد رضينا بالحل الصحيح الذي دل على شرف الولد، ثم حصل ما حصل بلا تدخل منا، فلا مسوغ للحزن يا جمالات.

فقالت بوجوم: محمود ضائع تماما وسيخسر عامه الدراسي! - خرج الأمر من يدنا ولم يعد في وسعنا شيء. - لن يغسل ذلك ملابسنا القذرة.

فقال بضجر: فلنتركها للشمس والهواء.

وحدجته بعصبية قائلة: إني أحسدك!

فتغيظ وقال: إني أصرح بما في ذاتك أكثر منك.

فاصفر وجهها من شدة الغضب وهتفت بكبرياء: إني ضمير حي لا يموت.

فهز منكبيه ولم ينبس. إنها واثقة من أنه يتجنب دائما مواجهتها في معركة حقيقية. في الوقت ذاته قد تعرت أمامه، بل تعرت أمام نفسها. وقال هو متراجعا: جمالات، إني أواصل العمل بطريقة تهدد صحتي، اعذريني وكوني لطيفة معي ما أمكن.

وتساءلت في نفسها كيف تمضي الحياة إذا أصرت طوال الوقت على احتقار أسرتها ونفسها؟!

16

ولاحقت محمود في انعزاله لشعورها بأنه أحوج الجميع إلى الدواء، حذرته قائلة: مستقبلك، لم يبق لك إلا مستقبلك وهو في خطر.

بدا وكأنه لا يشعر بالخطر. أين حساسيته الشديدة وأين مرحه؟ قالت: يوم أمثالنا لا يقدر بثمن.

فقال لها بحزن: رضيت بالتضحية ولكني حرمت منها. - أثبت حسن نيتك بلا أدني شك. - ما الفائدة؟ سأظل المجرم الأول في حياتها. - لنتركها لرحمة الله. - الموت أو السقوط، هذا ما تبقى لها. - لا شائبة تشوب ضميرك.

وتفكرت قليلا ثم واصلت: ولا تنس أنك ملتزم بفردوس!

فتنهد قائلا: كلا. - كلا؟! - لقد بادرت إلى إرسال خطاب لها قبل أن يكاشفني زغلول ورمضان بما خفي علي. - فسخت الخطوبة غير المعلنة. - اعتذرت بظروف قاسية، وسجلت المبالغ التي اقترضتها، واعدا بتسديدها عند الميسرة. - وصل الخطاب إليها؟ - يصل اليوم أو غدا. - يا له من تصرف مرعب. - ولكنه كان خيرا من الاستمرار فيه. - لم يعد كذلك الآن. - لقد فات الأوان. - ترى هل تمضي الأمور نحو الأحسن أو الأسوأ؟ قالت: على أي حال عليك أن تسترد صفاء ذهنك وقوة إرادتك لتواصل تقدمك الدراسي ...

وتساءلت مرة أخرى ترى هل تمضي الأمور نحو الأحسن أو الأسوأ؟!

17

وجاءت أم فردوس لزيارتها. ما أكثر الزيارات بينهما، ولكنها شعرت بأن هذه الزيارة غير عادية. وجاءت كالعادة أيضا عصرا وقد سفعت الرياح الباردة وجهها فاحمرت أرنبة أنفها. وهي تماثلها في السن، لا تخلو من وسامة؛ إذ كان من سوء حظ فردوس أن ورثت خلقة أبيها لا أمها. وغشي جو الزيارة ارتباك خفي وشى بأسرارها، وما لبثت أم فردوس أن قالت: أريد أن أحدثك كأخت.

فقررت أن تواجهها بالصراحة اللائقة فقالت: ما علمت بالأمر إلا منذ أيام قلائل! - وأنا كذلك وإلا ما أخفيت عنك شيئا. - كنت سأسر، فردوس ابنتي كما أنها ابنتك، وهي شابة ممتازة، ولعلهما أخفيا الموضوع لشعورهما بأنه سابق لأوانه بعض الشيء.

فقالت أم فردوس بصوت شاك: ولكنه انتهى نهاية غاية في السوء.

تنهدت قائلة: أعلم ذلك.

وبعد فترة صمت مشحونة بالانفعالات تساءلت أم فردوس: ما هي الظروف الخطيرة التي أوجبت القطيعة؟ - لقد صدق فيما قال. - ألا ترين أنه من الضروري أن أعرفها؟ - بلى، ولكن فيما بعد. - أهو قرار نهائي؟

فتفكرت جمالات مليا ثم قالت: أعدك بأنني سأبذل أقصى ما أستطيع.

فقربت منها رأسها وقالت بصوت خافت: اعتبريها مهمة بالغة الأهمية، البنت حالها في غاية من السوء! - أسفي فوق ما تتصورين. - إني واثقة من محبتك، وإليك اقتراحا مستعدة أنا لتنفيذه حال موافقتك، وهو أن نزوجها الآن، فردوس غنية، وسيجد محمود في بيتنا مكانا هادئا ليتم تعليمه.

فوضحت الدهشة في وجه جمالات، فقالت الأخرى: فكرة وجيهة وحكيمة.

فقالت جمالات بعد تردد: محمود حساس جدا! - لكنه اقتراح لا غبار عليه.

فقالت جمالات بصدق: أعدك بأنني سأبذل أقصى ما في وسعي.

وهما يفترقان همست أم فردوس في أذنها: البنت حالتها سيئة جدا!

18

داخلتها رقة في غمار القلق والأحزان. اعتادت أن تحب فردوس منذ طفولتها. وهي تعطف عليها دائما لخلوها من الجمال ولقعودها في البيت دون أن تتم تعليمها. وهذا الزواج المقترح إذا تم فسيفسر أسوأ تفسير، سيقال إنه زواج اليأس من ناحية العروس والطمع من ناحية العريس. ثم إن خطيئة محمود مع عنايات يمكن الدفاع عنها، أما ما ارتكبه مع فردوس فلا يمكن الدفاع عنه. وقد نبذ محمود عنايات باعتبارها منحلة، فلن تقف عنايات عثرة في سبيل الزواج. محمد فتحي قال أول الأمر: إنه قراره هو ...

ولما ألحت عليه جمالات قال: فليتزوج منها، سيضمن مستقبله ويصلح خطأه ...

فقالت جمالات متهكمة: ويخفف عنك بعض الأعباء.

فقال بتحد: عني وعنك.

زغلول قال: إنه موقف مناهض للرومانسية، ولكنه ليس مناقضا للأخلاق ...

وقال رمضان ساخرا: مع السلامة، حل غاية في التوفيق.

إن ثقتها بزغلول ورمضان لم تتدهور، ولكنها لم تعد تفهمهما تمام الفهم، وعما قليل ربما تلاشى التفاهم بين الجميع. ومن حسن الحظ أن محمود لم يعارض فكرة الزواج. لعله يرى فيه إصلاحا لخطئه أو تكفيرا عنه. إن مثله لا تطيب له الحياة بلا تكفير. على ذلك قال لها: سيبقى في النفس جرح لا يلتئم بسبب عنايات ...

سيبقى في نفسها أيضا. لعل سر عطفها عليه أنه يشاركها العذاب، وأنه جاد في تحويل القول إلى عمل، ولكنه كان أيضا الجاني الأول! فلتنته هذه المحنة التي عرتهم جميعا بلا رحمة. فلتنته ليرجع إلى وسادتها النوم الهادئ وليخف عنها الضغط. وإذا كانت لم تحظ براحة ضمير كاملة فقد لقنت درسا في التواضع والأسى. وسرعان ما زفت البشرى إلى صديقتها الحميمة أم فردوس، وسرعان ما تم الزواج بلا تكاليف من ناحيتهم غير مؤخر صداق مقداره خمسمائة جنيه.

19

واشتدت الزوابع في أواخر الشهر غير أن جمالات قالت لنفسها إن أمشير يلقي تحيات الوداع وعما قليل يهل الربيع بالنضارة والبهجة. وإذا بالبواب يقول لها وهي راجعة من السوق: عنايات تعمل في شقة مفروشة بالعمارة الجديدة عند الناصية ...

ارتعد قلبها وغشيتها سحب الأكدار. إنها إحدى النهايتين، وهي تؤجل النهاية الأخرى - الموت - ولكنها تؤكدها. وقد ضاق محمد بالخبر ضيقا شديدا وقال: بوسعها أن تصون نفسها، فلن يرغمها أحد على الفساد.

أشفقت من التمادي في مناقشته غير أنها تمتمت: سيعلم محمود بذلك عاجلا أو آجلا ...

فلوح بيده قائلا: فليعلم، لن يغير ذلك من الأمر شيئا. •••

وذات يوم رجع الرجل من عمله في ميعاده، ولكنه كان شاحب الوجه زائغ البصر. خفق قلب جمالات فشخصت إليه ببصرها دون أن تنبس. عند ذاك قال دون أن يشرع في خلع ملابسه: خبر سيئ جدا يا جمالات ...

فغمغمت فزعة: اللهم احفظنا! - محمود تزوج من عنايات وذهبا معا!

فهتفت بصوت مبحوح: غير معقول. - لكنه حصل ... - لقد انصرفت نفسه عنها بعد ما توكد له أنها ...

قاطعها بنفاد صبر: لكنه حصل!

فتساءلت بذهول: وفردوس؟ ومؤخر الصداق؟ - واضح أنه لم يصدر في عمله عن عقل أو منطق. - ومستقبله ودراسته؟

فقال بأسى: لم تتح لي مناقشته! - وكيف يعيش؟ كيف يواجه الحياة؟ هل وجد عملا؟!

رفع الرجل منكبيه في يأس وقال: لا معنى لهذه الأسئلة، التصرف جنوني لا سبيل إلى فهمه في نطاق العقل والمألوف.

وفرق بينهما صمت ثقيل فراح ينظر إلى صورة زفافهما المعلقة بالجدار نظرة خالية من الرؤية، على حين امتد بصرها من الزجاج المغلق إلى السحب الراكضة.

الحب والقناع

1

أول ليلة في الفيلا الجديدة عقب العودة من شهر العسل. شهر العسل - أغسطس - مضى في رأس البر ثري البهجة والرياضة والحساسية. بدأ حبا من جانب واحد - جانبه - ثم تسلل إليها الرضى والإقبال مقتلعا ذكريات بالية. استقبلا المساء بالجلوس في الشرفة على كرسيين هزازين متجاورين في ضوء خافت مطلين على الحديقة الصغيرة المفعمة بأنفاس الليل الناعمة. كما يطيب له أن يلحظ عارضها الجميل ورأسها النبيل بشغف ورغبة في الاستطلاع. وكانت ترسل الطرف إلى شارع الهمذاني الغائص في قلب المعادي بأشجار الكافور المغروسة على جانبيه. استرخت في قميص أبيض طويل طارحة شالها على ذراع الكرسي على حين تمدد في بيجامته الزرقاء الراسمة لطوله الرشيق. في شهر العسل تم تعارف حميم، تولدت ألفة حارة فاطمأن إلى نجاح مغامرته. قال: ضعي الشال على كتفك.

فقالت بصوت رخيم: الجو دافئ. - سبتمبر لا أمان له.

فقالت بعذوبة: أشعر بالأمان الكامل.

وجد في قلب الجملة معنى خاصا فامتلأ صدره بالامتنان. مالت بالكرسي إلى الأمام فملأ قدحين بعصير الموز له ولها. وردته ذكرى من ذكريات رأس البر حين قدم كأسين من الويسكي، قالت وقتذاك بجدية لم يتوقعها: مستحيل.

فقال معتذرا: إنه شهر العسل. - ولو.

ثم مستدركة برجاء وحزم معا: ولا أنت!

لم تنثن أمام الحرج أو المجاملة. حتى في أيام التلاقي الأولى، وفي غمرة طوفان العواطف رفضت ما تأباه بقوة وشجاعة. وقد تراجع متلقيا نذيرا من المتاعب. أجل لم يكن الأمر مفاجأة له فهو يعرفها من قديم. خبر صلابتها التي أرهقت قلبه، وطالما رآها وهي طالبة بكلية العلوم ترفل في زي المسلمات المحتشمات مطوقة الرأس والوجه بالخمار الأبيض. وألم يقل له صديقه عبد الباري خليل المحامي «إنك مقدم على الزواج من كائن له مظهر أنثى ومخبر إمام مسجد»، لكنه الحب أو لعله الحب والعناد.

وسألها: أعجبتك الفيلا يا فتحية؟ - إنها تفوق الخيال ولكني لم أقدم لها إلا القليل ... - قلامة ظفرك أثمن منها ومما فيها.

فقالت ضاحكة: أنت رجل غني تجود بالكلام كما تجود بالأشياء الثمينة. - أنا رجل عاشق بلا زيادة. - وأنا سعيدة. - لكن لم يجر الحب على لسانك بعد.

فضحكت قائلة: أنت تعرف تماما ما تسأل عنه. - تجلى لعينيه يسري أحمد. لا يمكن أن يجيء وحده ولكن في إطار جامع لعبد الباري خليل ووهدان المتجلي وعدلي جواد وفتحية سليمان وشارع ابن خلدون بالسكاكيني. جيران وأصدقاء من الطفولة. أعمار متقاربة حتى فتحية لا تصغرهم إلا بعام واحد فهي في التاسعة والعشرين بينما هو في الثلاثين. لكن يسري أحمد تجلى لعينيه وحده في تلك اللحظة. تجلى له في موقف لا ينسى حين خلا إليه في حديقة الظاهر بيبرس. كان أحب الجميع إلى قلبه وكان يسعفه في العلوم والرياضة المستعصية عليه. تطلع إليه بوجهه الشاحب الجذاب وارتبك فسأله: ما لك يا يسري؟ - لا أدري كيف أبدأ. - أمر هام ولا شك؟ - فعلا، لبيب، نحن أخوان ... - طبعا. - وأنا باسم الأخوة أحدثك، المسألة تتعلق بفتحية بنت الشيخ سليمان.

خفق قلبه خفقة رسبت في حفريات صدره إلى الأبد. - ما لها؟ - إنك يا عزيزي تطاردها في الشوارع.

تساءل بوجوم: شكتني إليك؟ - معذرة، إننا متفقان على الزواج.

تمتم وهو يتجرع المرارة: لم أكن أدري. - طبعا فأنت أخ كريم.

ها هي تقول له: «أنت تعرف تماما ما تسأل عنه.» بعد أن تلاشى الماضي تماما. ولكنه تلقى الخبر وقتها بحزن مجنون بها. ودفعته انفعالاته إلى جحيم الكراهية. انقسمت عاطفته نحو يسري أحمد، فجرى الحب في نصفها والمقت في النصف الآخر. يسري قصير رقيق وهو طويل رشيق، صاحبه رقيق ضعيف وهو رياضي قوي نسخة طبق الأصل من أبيه داود الناطورجي. وتساءل بحقد هل أصابها العمى؟ وتساءل أيضا هل يسلم بالهزيمة أو ينتظر نجدة من المجهول، من الموت نفسه؟ ها هي تقول له: «أنت تعرف تماما ما تسأل عنه.» وقال لنفسه: «إن خير ما اهتديت إليه هو أنه لا معنى لشيء.» - أعددت في الفيلا حجرة خاصة لوالدتك ولكنها عنيدة. - وأنا أيضا ألححت عليها، ولكنها كما قلت لك لا تفرط في بيتنا القديم.

هز رأسه متظاهرا بالأسف. عادا يتبادلان شعورا خفيا بوجودهما معا ويلوذان بصمت هنيء حتى خطرت له خاطرة فضحك، فسألته: ماذا يضحكك؟ - عرفتك دائما جادة فلم أكن أتصور أنك أنثى كاملة ...

فضحكت بسرور وقالت: ولكنك أقدمت رغم ذلك على طلب يدي! - إنه الحب! - أنت أيضا لا تخلو من تناقض، فمظهرك القوي غير متناسب مع رقتك الحقيقية. - فتملى قولها قليلا ثم تساءل: لعلك لا تتصورين أني قاتل مثلا؟

فقالت ضاحكة: إني كيميائية لا سيكلوجية وهذا من حسن حظك. - بهذه المناسبة أقول لك إنني شرعت أغازل كتبك العلمية، فعليك أن تغازلي كتبي الثقافية، كلانا يكمل صاحبه.

فقالت باهتمام: ولكني أسيئ الظن بكتبك، ولن تجد يقينا حقيقيا إلا في الدين والعلم ... إنها تتحدث عن اليقين. لعلها تظن أنها تعرفه كما يعرفها. وهي صارحته بكل شيء، صادقة صريحة ومنذرة بالمخاوف، أما هو فلا يعرف عنه إلا السطح، فهل تزوجت من رجل آخر؟ إنه الحب ولكنه الخوف أيضا فهل تتسع هذه الفيلا لثلاثة؟ وثمة الشعور الحقير بالذنب يطارد العذابات الخفية. هيهات أن ينسى منظر يسري أحمد قبيل وفاته، والانقضاضة الوحشية الدنسة في ظلام الليل.

2

وقفت في الشرفة عند الضحى في مهبط الشعاع الذهبي، عقب جولة من المشي السعيد في شوارع المعادي. يا لها من قامة رشيقة ووجه جذاب. إنه يملك ذلك كله بعد حسرة التهمت الصبا والشباب الأول. تمتمت: غدا أرجع إلى العمل، لكل شيء نهاية.

كما انتهى شهر العسل، وكما يدب الفناء في الوليد منذ اللحظة الأولى، قال بأسف: غاب ذلك عن بالي تماما.

فقالت متهكمة: هكذا ذاكرة الأعيان. - ترجعين راضية إلى معامل وزارة الصحة؟! - كل الرضا. - ذكرياتي عن الكيمياء تتلخص في أنابيب يتصاعد منها دخان كريه الرائحة ... - ولكني أراها بعين أخرى. - وكيف يستقبلونك بعد شهر العسل؟ - طبعا لن يخلو الاستقبال من غمز.

فتنهد قائلا: كم أحلم باستقرارك في بيتك.

أقبلت نحوه حتى وقفت أمامه في ردائها المكون من قميص أزرق وبنطلون رمادي، وسألته: خبرني متى تشرع أنت في العمل؟

الصوت الذي يخشاه يتكلم. الوعد لديها ميثاق دولي. تذكر لقاء الخطوبة الثالث عندما بدا أنها تميل للموافقة عقب إصرار طويل على الرفض. وقتها سألته: متى تخرجت؟

فأجاب ببساطة: منذ ستة أعوام. - ولماذا بقيت بلا عمل؟ - لست في حاجة إلى العمل كما تعلمين. - لكنه العمل الذي يخلق الإنسان لا دخل خمسمائة جنيه. - لا ينقصني شيء، وإني لخبير في التعامل مع الوقت، لي مكتبة ضخمة، لي أصدقاء، ثم إنني لم أقتنع بعمل أبدا ... - إن كنت تضيق بالوظيفة فافتح مكتبا للمحاماة، صديقاك عبد الباري خليل وعدلي جواد محاميان، صديقك وهدان المتجلي قاض. - إنهم في حاجة إلى العمل. - الإنسان بلا عمل عرضة للرعب. - الرعب؟! - الضجر، العادات السيئة، العزلة ... - قد توجد جميعا مع العمل. - الاستثناء يؤيد القاعدة ولا يهدمها. - هناك الزواج والأبناء. - العمل أيضا مهم، إنه لأمر مهين أن يخطر الإنسان في الحياة بلا عمل.

ولما كان متلهفا على الظفر بها فقد قال: سأجرب ذلك. - في أقرب فرصة.

فحنى رأسه بالإيجاب. تجاوز عن مزاجه الراسخ من أجل الحب. وتأثر بنظرة عينيها وثبات نبرتها تأثرا أشاع في نفسه الحذر والتوجس. وتذكر موقفها الرافض للزواج حتى شارفت الثلاثين فازداد حذرا وتوجسا. وتساءل هل يعثر تحت ذلك السطح الصخري على ينبوع من ماء الأنوثة العذب، تساءل مرتين ولكنه كان يحب حبا عنيدا أيضا. وآلمه شعوره القديم بضعف شخصيته. كان وما زال ناقدا قاسيا للذات فلم تخف عليه علله. إنه الآن يضع أمله في حياة زوجية متوازنة في الحب، حبها المتصاعد له. ستحبه كما أحبها وأكثر، بل لعلها أحبته بالفعل، فهمسات الفؤاد الخفية لا تغيب عن الوجدان اليقظ.

قالت بفخار: ملف خدمتي يحوي أجمل الشهادات بكفاءتي في العمل. - طبعا. - طبعا؟ لماذا؟ - إنك تتحرين الكمال في كل شيء. - أيرضيك ذلك؟ - بلا أدنى ريب، ولكني أحب أيضا الاعتدال! - يا لك من رجل طيب.

ماذا تعني يا ترى؟ أما هي فتساءلت: كيف كنت تمضي يومك؟

فقال مستبشرا: كنت أبدأ يومي بالسباحة طيلة أيام السنة عدا الشتاء فألعب التنس، فآوي إلى مكتبي حتى الغداء، أذهب إلى لقاء عبد الباري ووهدان وعدلي بركننا المختار في الفردوس، وقد أذهب إلى سينما أو أمضي السهرة أمام التلفزيون. - إنهم يستريحون من العمل، أما أنت فتواصل حياة الفراغ.

فابتسم بلا تعليق، فقالت: قراءاتك متنوعة، يسرني أنك تضم إليها العلم أخيرا، لكن لأي هدف تقرأ؟ هل حلمت يوما بالتأليف؟ - أبدا. - وفي المقهى كنت تشرب الويسكي؟ - بضع كئوس.

هزت رأسها بأسف، فقال: علينا أن نأخذ الأمور بهوادة ورفق. - أعتقد أن الإيمان يتطلب جدية أكثر.

تذكر قول عبد الباري عن إمام المسجد. إنها طراز نسائي غريب حقا. قالت: إنك بذرة طيبة تعد بشجرة طيبة وسوف تشكرني ذات يوم من صميم قلبك.

يا للداهية. ها هو صوت داود الناطورجي - أبيه - يتردد من جديد. ماذا تظن وماذا تدبر؟ تذكر اجتماعا ذا مغزى بركن الفردوس في الشهر السابق لزواجه. قال وهدان المتجلي القاضي المعروف بميوله الدينية: فتحية ممتازة ولكن عليك أن تتغير.

فقال عبد الباري خليل: أو أضمن حبها لك فيجيء التغيير من ناحيتها.

فتساءل هو بقلق: ألا يمكن أن يستقل كلانا بحياته؟

فقال عدلي جواد: كان عليك أن تختار فتاة من نوع آخر.

وهدان أسعد الثلاثة إذ ظفر بزوجة تملك شقة، أما عبد الباري خليل وعدلي جواد فيحلمان بالزواج منذ خمسة أعوام دون جدوى يأسا من العثور على شقة. ها هي تهدده قائلة: «سوف تشكرني ذات يوم من صميم قلبك.» قال مدافعا: إني شجرة بالفعل، لست بذرة.

فقالت باسمة: سأعتمد على الحب والعقل.

قال لنفسه إنه سعيد حقا ولكن ماذا يخبئ المستقبل؟

3

هذا أول صباح ينفرد فيه بنفسه منذ زواجه. بعد أن أوصلها بالمرسيدس السوداء إلى وزارة الصحة واعدا إياها بانتظارها الساعة الثانية بعد الظهر في نفس المكان. إنه يشعر بوحشة لغيابها ولكنه يجد أيضا نوعا من الراحة. كما ألف منذ قديم معايشة المتناقضات جنبا إلى جنب. كثيرا ما يبدو نصفين يناقض أحدهما الآخر في العواطف والآراء جميعا. ما يكربه حقا فهو الوجه الآخر من حياته الذي أخفاه عن فتحية. منه جانب تافه مثل عش الهرم الذي كان يمارس فيه نزواته. لن تحاسبه على الماضي، ولن تنسى موقفه من ماضيها أيضا الذي أغدقت عليه بسببه صفة النبل والشهامة. من السخرية بعد ذلك أنه قد ارتكب ما ارتكب من آثام من أجلها هي. ها هو يخلو إلى نفسه في مكتبته كالأيام الخالية، وها هي كتب الفلك والطبيعة والأحياء الجديدة، ولكن نفسه مشتتة. حتى في شهر العسل كشفت عن جوانب نفسها دون مجاملة. إنها تذكره بأبيها الشيخ سليمان مدرس اللغة العربية بخلاف شقيقها المنتدب مهندسا بالكويت الذي شابه في الدماثة أمه فلم لم يحدث العكس؟! إنها لا تدري شيئا عن مقته ليسري أحمد عندما علم بأنه حبيبها. في تلك الأيام المتوحشة تمنى لصديقه الموت. أطلق على صورته خيالاته المدمرة المشحونة بالفناء. وشد ما سر عندما ألقي القبض على الشاب في جنازة مصطفى النحاس. لم يعرف يسري أحمد مصطفى النحاس ولكنه اشترك في جنازته إكراما لذكرى أبيه الشيخ سليمان. وكان - لبيب - يسمع عما يجري في المعتقلات فناط أمله بأيدي الطغاة تقتلع يسري من سبيله . رغم أن حبه له لم يتبخر تماما، ورغم أنه لم ينس أنه كان أستاذه في العلوم والرياضة ومرشده في أخطر مرحلة من مراحل حياته، مرحلة الإلحاد والثورة على أبيه داود الناطورجي. صرخت الرغبة السوداء في قلبه «القتل في المعتقل أو السرطان».

في غضون أسابيع أطلق سراح يسري أحمد لمرضه. وإذا بالأشعة تكشف فيه عن سرطان في المثانة. تلقى الخبر بفزع واضطراب وحزن، وشعر أيضا براحة عميقة. وكان في إلحاده يتقزز من الإنسان باعتباره كائنا قذرا ذا إفرازات كريهة لا حصر لها، فاقتنع بأن في الإنسان من النوايا والسلوك ما يفوق الإفرازات الكريهة في قذارته. وقد زاره في رقاده الأخير. رأى الغطاء يشي بانتفاخ غريب في منطقة البطن، على حين لم يبق في الوجه الجميل سوى الجلد والعظم. ولما رآه يسري ابتسم ابتسامة خفيفة كأنما يلقى عناء حتى من التبسم، وقال بصوت ضعيف: لبيب، اقترب، إني في حاجة إلى قلب محب ...

تفجرت دموعه بإخلاص في تلك اللحظة. تذكر الماضي الحي والعواطف الجياشة والذكريات المشتركة فآمن بأن يسري كان أصدق الأصدقاء جميعا. كيف هان عليه أن يقتله؟ لقد انطلق الغدر من صميم القلب الأسود إلى المثانة. كم ازدرى نفسه، كم ازدرى البشرية جميعا! وساعده ذلك الاحتقار، بالإضافة إلى الخيبة في الحب، إلى التمادي في الاستسلام للوحش. وتبدت فتحية في تلك الأيام تمثالا للجمال والحزن. رثى لها وشمت بها. ألم تكن شريكته في جريمة القتل؟ وتأمل بقسوة وحنق استقامتها الفريدة فقال إنه لها أيضا إفرازاتها الكريهة. وبكى في جنازة يسري طويلا حتى اقتنع بأنه لا خلاص إلا بتحطيم الكون.

ها هو يصمم على القراءة فيقلب صفحات «الكون ... ذلك المجهول». ويتساءل هل في وسع الحب والزواج أن ينتشلاه من الجفاف؟ ربما. ولكن فتحية تتبدى كثيرا كأنها نذير جديد بالمتاعب. وواضح - وهو الأدهى - أنها تروم خلقه من جديد.

برجوعها إلى الفيلا حوالي الثالثة مساء دبت في الفيلا حياة جديدة. ولما دخلت الحمام عاودته خواطره الساخرة، ثم جلسا يتناولان الغداء. له طاه خبير بصنع الطعام الجيد . وهما - فتحية ولبيب - يتصفان بشهية جيدة، ولكن تناول الطعام كان من الخواص التي يتقزز منها ويطالب بسببها بتحطيم الكون. جعل يختلس إليها النظر وهو يرفع الشوكة إلى فيه ويقارن بينها وبين القطط والكلاب، حقا إن الطعام أس التعاسة البشرية. قالت: يوم مرهق بالقياس إلى العطلة.

فابتسم وقال بدوره: بدأ البحث عن شقة للمكتب.

فهتفت بسرور: جميل أن أسمع ذلك.

فحنق عليها في باطنه، ولكنه أفرخ حنقه في صدر الدجاجة الرقيق. قال: قراءة العلم متعة فريدة حقا.

فقالت بثقة: بالدين والعلم تكمل صورة الوجود ويطمئن القلب.

ولما هم بتقشير تفاحة سألته: أليست مغسولة جيدا؟ - بالصابون أيضا.

فقالت بلهجة آمرة: كلها بقشرتها.

الظاهر أن الوصايا ستمتد إلى التفاح أيضا! صدع بالأمر صامتا، فسألته: ما رأيك في زيارة ماما بعد العصر؟

فقال بسرور خفي: ليكن ذلك غدا؛ إذ إني دعوت عبد الباري ووهدان وعدلي إلى فنجان شاي مساء اليوم.

4

سر بوجودهم حوله في الشرفة سرورا لا مزيد عليه. جالستهم فتحية وحثتهم على تناول الشاي والحلوى. إنهم أبناء شارع واحد وذكريات كثيرة مشتركة، ومطلعون أيضا على دخائل أسرهم لدرجة لا يستهان بها. حتى المرحوم يسري أحمد فرضت ذكراه نفسها في سهو الحديث فمر على لسان فتحية مرورا عاديا، فارتاح لبيب وأيقن أن الماضي قد مات تماما. في أثناء الحديث قام وهدان المتجلي ليصلي العشاء في ميعادها كعادته فتوجس لبيب خيفة مجهولة. لقد امتنع عن التردد اليومي على الفردوس كيلا يهجرها وحدها عقب نهار مرهق، ولكنه بيت أن يسألها السماح بسهرة أسبوعية. وكالعادة شاع في المجلس الشكوى من الحياة اليومية، غلو الأسعار، المواصلات، التليفونات، المجاري، حتى تساءلت فتحية: ماذا تتوقعون من دولة كافرة؟

فتساءل عبد الباري خليل: هل الإيمان يجفف المياه الطافحة؟

فقالت بابتسامة متحدية: اسخر كما ينبغي لماركسي أن يسخر.

كره لبيب انعطاف الحديث إلى منعطف متفجر، ولكنه لم يدر كيف يسكت عبد الباري الذي قال: أسعد شعوب الأرض تعيش في كنف دول ملحدة.

فقالت فتحية بقوة لم تبلغ الحدة إكراما لآداب الضيافة: الإنسان بغير الله أتفه من ذرة غبار، ماذا نعرف عن هذه الشعوب؟ لا شيء في الواقع ما دامت محرومة من التعبير الصادق عن قلوبها الخاوية.

فقال عبد الباري: للبطولة والنبل ثمن. - أي بطولة وأي نبل؟ حتى المؤمنون يهبطون أحيانا إلى النفاق فيفقدون الأمل في البطولة والنبل، فما بالك بالضائعين؟

وتساءل وهدان: لماذا لا تشترك في الحديث يا لبيب؟

فبادره على الفور: زوجتي تتكلم بلسان الأسرة.

ثمة غيوم كثيرة لم تظهر بعد في الأفق. لقد بعث أبوه من قبره على غرة منه. ليتها كانت امرأة مستغرقة بالأنوثة والبيت. إنها رجل أيضا. تعاليم لا هوادة فيها، ولا بديل عن الكذب إلا بخوض معركة. وألح عليه شعوره بضعف الشخصية. ذلك الشعور القديم الذي فطن إليه بفضل نقده القاسي للذات وتضعضع ثقته بنفسه تحت ضغط إرادة أبيه الصارمة. ها هو لا يطيق الحياة بلا فتحية واستقرار الأسرة الزوجية. ولا شك أنها تحبه وستحبه أكثر ولكن يبدو أنها لا تفرط فيما تؤمن به. لقد وجد في معاشرتها معنى على حين أنه لا يجد معنى وراء ذلك. وراء ذلك خواء وعدم ورعب. فبين يديه صخرة نجاة تنتشل من الغرق وإن لم يلح شاطئ آمن للنجاة قريبا كان أو بعيدا.

عندما ذهب الأصدقاء الثلاثة قالت له: عبد الباري شيطان فكيف تتعامل معه؟

فقال بحذر: الصداقة فوق تناقضات الآراء. - الصداقة يجب أن تقوم على أساس أقوى من ذلك. - بغير تسامح تصبح الحياة غير محتملة.

فقالت بامتعاض: إنه التهاون لا التسامح. - إذا بالغنا في التدقيق فقدنا الناس أجمعين!

فتمتمت بأسف: يا له من مجتمع يكتظ بالقذارة!

أخيرا سمع رأيا يتفق معها في بلا حدود فرحب به قائلا: إني أتفق معك تماما، فما الإنسان إلا كائن ذو إفرازات كريهة ودوافع فظيعة مرعبة!

فرنت إليه بعينين دهشتين وقالت: ماذا قلت؟ عنيت بالقذارة تخلخل الإيمان، ولكنك تتحدث عن إفرازات ودوافع كأنك عدو البشر أنفسهم؟! - أعتقد أنني لم أتجاوز الحق. - لا ... لا ... معذرة إن قلت إنها نظرة غير عميقة. فما تشير إليه يمنع الإنسان من عبادة الله وغزو الفضاء.

تساءل في نفسه ألم يكن من الممكن أن يحدث ذلك بلا إفرازات كريهة ودوافع وحشية وسلوك دنيء؟! لكنه جفل من التفوه بكلمة زائدة، بل هز رأسه كالمقتنع طاويا صدره على أسراره!

5

يميل الجو إلى شيء من البرودة ليلا، فيطيب الجلوس في حجرة المعيشة الموصولة بالشرفة. وهي مأهولة بطاقم من الإسفنج المدثر بالقطيفة الزرقاء، يتوسط جوارها الأيسر دولاب من خشب الأرو يقتعد التلفزيون الملون أعلاه ويستقر الراديو أسفله. رجعا منذ قليل من زيارة الأم نظيرة هانم مفعمين بذكريات ابن خلدون فتبدت فتحية منتشية على حين كتم هو انفعالاته المتناقضة المراوحة بين الجميل والمرعب. وفي أثناء تناولهما العشاء مع نظيرة هانم أبدت المرأة جزعها من تأخر حمل كريمتها. تذاكرا ذلك باسمين وقالت فتحية: ماما دقة قديمة.

لكنه في الحقيقة متلهف على الإنجاب تلهف من يروم تحصين ذاته المزعزعة ضد المجهول والخواء، فقال: لها حق أيضا يا عزيزتي ...

فحدجته بنظرة متفحصة، فقال: يوجد الأطباء، لم لا؟

لم تعترض مما قطع بتلهفها أيضا. آنس من ذلك آية على حبها له وزوال الماضي تماما. كما وجد فيها آية على أنوثتها التي يتمنى أن تغمر «الإمام المتصلب» الكامن في أعماقها. لعلها كانت قلقة طوال الوقت ولكنها أحسنت إخفاء قلقها. هي أيضا لها أسرارها الباطنة كما أن له أسراره المرعبة. تمثلت له الظلماء وحركات الشبح اليائس والصرخة المكتومة فارتعد للذكرى.

وسألته وهي تلقي نظرة على الصور العائلية المعلقة: على فكرة أين صورة والدك؟

توجد صورة أمه الشابة، صورة نظيرة هانم، صورة الشيخ سليمان، ولكن أين صورة داود الناطورجي؟ عادت تسأل: سهو أم أنه لا توجد صور له؟

رحب بحديث لن يضطر فيه إلى الكذب فضلا عن فوائده الأخرى التي فطن إليها من اللحظة الأولى، لذلك أجاب: الحق أني لا أحب ذكراه!

فحدجته باهتمام ودهشة قائلة: إنه أبوك! - ولو. - يا للغرابة! - لا غرابة في الدنيا. - إني أتذكره جيدا، كان أشهر شخصية في حي السكاكيني، ظل محترما حتى بعد إحالته إلى المعاش بعد الثورة ، اللواء داود الناطورجي، بيت اللواء، سيارة اللواء، أنت ورثت عنه طوله وروعته، وكنت وحيده، ما زلت أتذكر منظرك وراء نعشه وأنت تجهش في البكاء ...

فقال ببرود: كنت أحبه، حتى موته لم أجد نحوه إلا حبا خالصا. - وماذا حدث بعد ذلك؟ - لقد ماتت أمي وأنا دون العاشرة فلم أعرف بعد ذلك أما أو أبا سواه، وانقض علي موته كالصاعقة، ولما انفض المأتم وآويت إلى الدار الخالية وجدتني لأول مرة وحيدا، لا أم ولا أب، فلم أصدق أنه ذهب حقا إلا في تلك اللحظة، وعند ذاك اجتاحني شعور غريب بالراحة والأمان والحرية، شعور يتناقض تماما مع حزني، ذهلت لذلك ولكني استشعرت بتمهل السرور الخفي المثلج للصدر.

فقال بوجوم: إنه رد فعل لشدة الحزن؟ - إنه أفظع من ذلك، شعرت لأول مرة بتحرري من قبضة غليظة قاسية، تخيلت هول الكارثة لو أنني استيقظت في اليوم التالي فرأيته واقفا في الصالة يمارس رياضته الصباحية ويحاسبني على تأخيري في الاستيقاظ!

جعلت تتابعه باهتمام وقلق فقال وكأنما يعنيها هي بمغزى حديثه: مع الأيام جعلت أحاسبه على معاملته الصارمة لي فيحتدم الغيظ في قلبي ويشتعل الحنق، ويتولد النفور وينتشر حتى انقلب كراهية سافرة ... - لا أصدق. - فتحية، لقد بلغ بي النفور درجة حملتني على أن أبني لنفسي مدفنا خاصا حتى لا أرقد ذات يوم إلى جانبه!

هتفت: إنه ما لا يتصوره العقل ... - وفاة والدتي في عز شبابها كانت مصيبة لم أعرف أبعادها إلا فيما بعد. - قيل إنه لم يتزوج بعدها إكراما لك ... - وهذه كارثة أخرى، فقد كرس حياته لينشئني على مثال مرسوم بدقة وصرامة، وراح يصبني في قالبه كأنني طينة لا هوية لها مستعينا بعنف لا مثيل له، هكذا تلقيت الدين وشعائره كما تلقيت كل شيء، العجيب أنه لم يقرأ كتابا في حياته، حتى دينه أخذه عن إمام جاهل اكتراه ليعلمه الإسلام ثم نقله إلي نقلا ميكانيكيا فحفظته ومارسته في جو من الفزع ...

تمتمت بحيرة: أبي هو أيضا من علمني ديني ... - كان أبوك من علماء الدين أما أبي فكان جاهلا وإرهابيا! - كنت أراك وأنت تتبعه إلى صلاة الجمعة ... - وحملني أيضا على صلاة الفجر، فكان يغلبني النعاس في الفصل، وحملني على ممارسة الرياضة البدنية كالسباحة والعدو وحمل الأثقال بالعنف نفسه، أما ولعي بالقراءة فلم يخف احتقاره له، ولكن جهله بالكتب منحني فرصة فريدة للسياحة الثقافية بعيدا عن رقابته الصارمة ...

وضحك ضحكة جافة ثم واصل: لم يكن يفوق عنفه إلا تعصبه الأعمى لأفكاره، من هذه الأفكار إيمانه بالمقاومة الطبيعية واحتقاره للدواء، ولما أصابتني نزلة معوية قرر أن يتركني لمقاومتي الذاتية، طالبته المربية بإحضار طبيب فرفض، ومضيت أهزل من الإسهال يوما بعد يوم حتى صرت كالخيال وهو لا يبالي، كان يمكن أن أفقد حياتي وأشفيت على ذلك ولكنه لم يكترث، ولما نجوت بأعجوبة قال لي بفخار: «إنك ابني حقا ولن يهزمك المرض بعد اليوم، لماذا رحلت المرحومة أمك في عز شبابها؟ لأنها كانت ضعيفة فلم ينفعها طب ولا دواء.»

انساقت فتحية إلى ضحك بلا صوت، فابتسم هو أيضا ثم قال: رغم أنفي أجبرني على الالتحاق بالكلية الحربية، لم تجد توسلاتي ولا دموعي، محتجا بأنها كلية الرجال والحكام أيضا، وأنها ستنقذني من داء القراءة الوبيل، ولولا وفاته الفجائية ...

قاطعته قائلة: لقد تساءلنا وقتها عما جعلك تترك الكلية، ولكنك لم تفد شيئا من التحاقك بكلية الحقوق! - كانت أفكاري مختلفة في ذلك الوقت، المهم أنك أنت نفسك تحديت أوامره وأنت لا تدرين!

فتساءلت بدهشة: كيف؟ - رشح لي ذات يوم عروسين هما كريمتا لواء على المعاش من أقرانه تاركا لي حرية اختيار إحداهما، ومعتبرا ذلك من ناحيته تنازلا ديمقراطيا شاذا. وكنت أحبك كما تعلمين فصارحته بذلك معتمدا على صداقته القديمة بالمرحوم والدك ولكنه انفجر غاضبا.

فقطبت أول مرة متسائلة: لماذا؟ - بحجة أنه لا ثقة له في بنات الأرامل.

فقالت باستياء: كان سيئ الظن بالنساء! - وبالرجال والحيوان والنبات والجماد، شد ما انتقد أصدقائي بلا سبب وكأنما يرغب في أن ينشئني بلا صديق سواه، وفضلا عن ذلك كله كان شديد الحرص فعاش في حدود معاشه ولم يمس مليما من دخله الوفير من عماراته، ولعل ذلك ما جعله يتمسك بالبقاء في البيت القديم بابن خلدون متعللا بأنه راسم أن يعودني على الحياة البسيطة، وأعترف بأن ذلك لم يضايقني؛ إذ إنني لم أكن أطيق الحياة بعيدا عنك ...

ساد صمت كئيب تبادلا فيه نظرات باسمة وحزينة حتى قطعت الصمت قائلة: كان شخصا غريبا ولكنه عرف في الحي بالقوة والبهاء والتدين وحب العزلة، وبالتضحية بمسراته في سبيل وحيده، الله يرحمه على أي حال، أليس عجيبا أن ينحدر من صلبه رجل مثلك آية في الكرم والاتزان وحسن الخلق؟!

ارتجف باطنه برعدة قاسية. غشي خياله الظلام الذي أخفى الوحش والفريسة، وتجسدت لعينيه نواياه القديمة بأنيابها ومخالبها. وتساءل بفتور: ألا يحق لي بعد ذلك أن أكره ذكراه؟

فقالت ضاحكة: كلا، لا تنس أنه وهبك الحياة والمال، ولكن ألم يخالط قلبك في حياته أثارة من عاطفتك الرافضة؟ - كان برمي به شديدا متواصلا، ولكني أحببته دائما، ولم يكن من الممكن أن تتسلل إلى باطني عاطفة أخرى؛ لأنه كان يعيش في باطني أيضا، في تلافيف مخي ونبضات قلبي وأحلامي، كان الخوف يكمن هناك كالديدبان ...

قالت متنهدة: كان أبي شيخا ولكنه كان ذا عقلية متفتحة، ربما كان يفضل أن يعدني للبيت، ولكنه حين آنس مني تعلقا بالتعلم سمح لي بالاستمرار فيه، دخلت الجامعة أيضا دون معارضة تذكر، وعلمني ديني أحسن تعليم فكرست حياتي للعلم باعتباره قراءة جديدة لدنيا الله ...

فقال بحذر: كثيرون ألحدوا بسبب العلم ... - لا دخل للعلم في ذلك، الإلحاد عجز عن النظر. - على أي حال كان أبي رجلا من صنف آخر، كان جاهلا ومتعجرفا وقد وجد في الشكل مبتغاه، وكان يمقت المناقشة ويقاتل التساؤل البريء، كان يلاحقني من الصباح الباكر حتى النوم بالأوامر والتعليمات والمراقبة ... - ألا يشفع له عندك حسن نيته؟

فقال بامتعاض: كلا. - أكان كذلك في حياة المرحومة والدتك؟ - ذكرياتي عن أمي قليلة، أجل كانا يختلفان كثيرا، وكانت هي عصبية مستعدة دائما للتمرد والتهديد بهجر البيت، وكان ينبغي أن أتعلم منها ولكنه نجح في استعبادي، تارة بالعنف، وتارة بإقناعي بأن أي استهانة بأوامره هي خروج عن إرادة الله المتعالي، ولو أنني تمردت عليه حقا لضمنت لنفسي حياة أفضل. - حياتك مقبولة جدا.

فقال مضمنا كلامه تنبيها لها: كانت حياتي لعنة ولكنها لم تخل من عبرة، فقد علمتني أن أتجنب الاستبداد بالغير، واحترام الآخرين فكرا وعقيدة، علمتني ألا أعتبر نفسي مقياس الخير والشر في الوجود!

وتساءل في باطنه ترى هل أحسن الدفاع عن نفسه؟!

6

مضى من الخريف ثلثاه وتشبع هواء الليل ببرودة مستقرة، من مجلسهما وراء الزجاج المغلق يرى البستاني نهارا وهو يكنس الأوراق المتساقطة، وتلوح في السماء سحائب بيضاء وهي تهدهد الشعاع الذهبي. فتحية تملأ الفيلا بحركاتها الرشيقة. ما أشد الفارق بين الكيميائية المتدينة من الأنثى الدافئة! إنه لتناقض يذكره بالتناقضات التي تمزقه. بوسعه دائما أن يهاجم أو أن يدافع عن أي رأي أو مذهب أو عقيدة، الحجج السالبة تعادل عنده الحجج الموجبة، ولكن لا أحد من أصدقائه يأخذ حديثه مأخذ الجد، فهم يعرفون تماما أن قلبه ينبض في خواء. وهو يرى في زوجته نساء كثيرات، ثمة فتحية ذات الرداء الأبيض العاملة في المعمل، وفتحية المؤمنة المتطرفة، وفتحية الفراش الباهرة، أيهن أصدق؟ فتحية الغريزة أم فتحية المؤسسات؟!

قالت له ذات مساء وكانت متجهمة: اختاروا زميلا دوني كفاءة لبعثة صيفية!

تساءل وهو يلحظ حنقها بسرور خفي: لماذا؟ - أسباب سخيفة طبعا، أهمها قرابته لأحد أعضاء مجلس الشعب. - صحتك النفسية أهم عندي من البعثة. - السكوت عن الخطأ أفحش من الخطأ، أثرت الموضوع عند المدير، وطلبت تحديد ميعاد لمقابلة وكيل الوزارة.

وعقب صمت قصير قالت مستعملة لغة الشعارات التي ينفر منها: على الحياة أن تكون جهادا متصلا.

ها هو صوت مؤسسة يعلو. الغضب الذي احتقن به وجهها هو صوت الغريزة. لعلها تمتلئ الآن بالرغبات المدمرة. باسم الدين أو العلم يمكن أن ترتكب فظائع. أسعده أن تشاركه ولو بصفة عابرة صدق الغريزة الوحشي. شرها يقربها إليه بقدر ما يبعدها تطهرها. اقتحمته ذكرى وفاة يسري أحمد. عرف وقتها أنها عاهدت نفسها على البقاء عذراء احتراما لذكراه. رفضت أيدي كثيرين. عنيدة وقادرة على الرهبنة. تربص منتظرا من بعيد. تتابعت الأعوام حتى قاربت الثلاثين من عمرها. وهي مصممة وهو صابر متصبر. إنها اليوم قلقة لتأخر الحمل كلما جاءها الطمث تجهمت. لعل حبها ليسري لا يمكن أن يتكرر ولكنه قتل غريمه وفاز أخيرا بامرأته. فعل الإنسان الأول. لدى ظهور الإنسان انعقدت عليه آمال كبار. ألم يئن الأوان لإعادة النظر؟ رائحته تفسد جو الأرض وفعاله يندى لها جبين الحيوان. ثم قرر أن يجرب حظه فمضى إلى مقابلة نظيرة هانم أمها. لم يتراجع أمام الرفض ولكنه طالب بالانفراد بها في حجرة الاستقبال التقليدية المذهبة الطاقم. إنه ليذكر تماما ما دار من حديث في أول لقاء: أتوسل إليك أن تصغي إلي. - إني مصغية. - موقفك طال وهو غير معقول. - لا أراه كذلك. - ينتظر من أساتذة الكيمياء حكمة تماثلها. - لا علاقة لذلك بالكيمياء. - كلنا سنموت. - إني متيقنة من ذلك. - لست الأولى. - ولا الأخيرة. - إني أحبك من قديم. - أشكرك. - إني أحب فتاة لا ذكرى. - هل يوجد فرق كبير؟ - أظن ذلك. - لا أظن. - لا يمكن أن تضيع حياتك في رهبنة. - لا ينقصني شيء. - لن أطالبك بالحب، فلنكل أمرنا للمعاشرة. - إنك كريم ولكنني آسفة. - لا تسدي الطريق في وجهي، دعيني أحاول وأحاول ...

في تلك الأيام لم ينتحر بفضل مكر الحياة. لم تكن الخيبة خيبة الحب وحده، ولكنها خيبة الحياة نفسها. هام بالحب كصخرة للنجاة في خواء فقد أي معنى. تعلق بأي شيء من صداقة أو دعارة أو شراب، شبع كثيرا وغاص في الكآبة أكثر. بالإصرار نال أخيرا مبتغاه. وكان فاتحة التحول عندها أن راحت تحاسبه على بقائه الطويل بلا عمل. تزوج فطار بها من ابن خلدون إلى المعادي. رضي بها بلا قلب. سرعان ما تفتح القلب وتغيرت الحياة. لكن مجلسه السعيد معها لا يخلو من توجس. إنه يخشى الإمام وصوت المؤسسة ...

7

أصبحت عادة جميلة مثل سحائب الخريف. تدثرت بالروب، كذلك هو، فالجمال عند اقتراب الشتاء يتوارى كالأزهار. كلا إنها مثل الأشجار دائمة الخضرة ما زالت تعبق بأنوثة ريانة. وجاء وعد الطبيب أخيرا منعشا للآمال. ولكن في غمرة النعومة ينبثق سؤال مثل: ما أخبار الشقة؟

ينقبض صدره ويجيب: إني أتصل بالسمسار كل يوم. - هل تنظر في مراجعك القانونية؟ - طبعا.

الكذب عادة يومية أيضا. كما تطبع في عهد أبيه. يقول وهدان المتجلي «العمل قيمة عظيمة لمن كان مثلك وزوجتك على حق». لمن كان مثلك يعني لمن لا يربطه معنى بالحياة. لعله صدق. ولكن أي جدوى في الاشتغال بقضايا المتطاحنين؟ وهي لا تصدقه تماما فرجعت تقول: أحيانا يخيل إلي أنك غير مهتم.

فيؤكد اتصاله بالسمسار. صوت أبيه يتردد من وراء القبر. إنها متوثبة دائما لصبه في القالب المنشود كأنها لم تسمع بمأساته مع أبيه. سيظل دائما وأبدا فريسة للمؤسسات. كم سعى إلى الانخراط في مؤسسة وكم فشل. طبعه أبوه بطابع الانقياد فقتل قواه الخالقة. - على فكرة لم لا تصلي؟

آه. ابتسم ولم يجب. - كنت قديما تصلي الجمعة والفجر.

هز رأسه صامتا.

قالت برقة تخفي انفعالها: ما أكثر المسلمين وما أقلهم!

أشار إلى قلبه وقال: هنا كل شيء. - كلا، كيف أقلعت عن الصلاة؟

قال ضاحكا: تمردت على أبي عقب وفاته.

فتساءلت بجزع: إلى أي مدى؟

فقال بوضوح: إني مؤمن، حسبي ذلك.

حتى متى يكذب؟ أما هي فشرعت تقول: ليتني ...

ولكنه قاطعها قائلا: كلا، أرجوك، الزمن كفيل بكل شيء.

فقالت بحرارة: ليت العمر يمتد بي حتى أشهد الله يحكم الدنيا مرة أخرى! - آمين.

هيهات أن يخطر لها أن يسري أحمد هو من قادة الإلحاد. لم يجد صعوبة في زعزعة إيمانه فقد صادف فيه متوثبا للتمرد على أبيه، كما وجده سريع الانقياد كما طبعه أبوه. أجل خاض تجربة مرعبة معذبة ثم سرعان ما وجد نفسه في كون بلا إله ولا حدود. وكان يسري رغم إلحاده ذا خلق متين، وطالما قال له: «النبل أن نعيش كما ينبغي لنا دون أمل.» وقد حفظ ذلك القول وردده كثيرا. حتى حيال أقرب الناس إليه - عبد الباري، وهدان، عدلي - أسدل على وجهه القناع. أما الحقيقة فهي أنه لم يستطع أن يلتزم بالنبل فقتل ثم ارتكب ما هو أفظع من القتل. ولم يتركه ضميره بلا عقاب. وعجب لتطفل ضميره الذي رسب في باطنه منذ العهد القديم. آية على ضعفه وجبنه. عندما يتحرر منه تماما يبلغ الصدق المنشود. سأله عبد الباري: «لماذا تركز على السلبيات؟ هذا ما يقتل أي معنى للوجود.» الحق أن إفرازات الإنسان وغرائزه هي عقدته؛ لذلك هان عليه أن يكفر بمؤسساته فيراها هياكل خاوية وهمية. إنه يطوي أسراره في صدره أما فتحية فتتحدث عن الصحابة قائلة: كانت أغلبيتهم من الشباب، ما أكثر من استشهد منهم، كانوا يعشقون الموت!

ويقول لها بعقل شارد: هكذا المؤمنون ...

الإنسان يفوق الحيوان في شهوة القتل فيقتل نفسه أيضا. وهذه الزوجة المحبوبة لا تخلو من شعرة جنون. كم تبدو مطمئنة متألقة كما يجدر بخليفة الله في أرضه. بقدر ما يسخر منها فإنه يوشك أن يحسدها. التناقض دائما وأبدا. كما مزقه أمام كل شيء. حتى الانعدام الكلي للمعنى لم يمحق متناقضاته. أما فتحية فإنها لا تردد الشعارات فحسب ولكنها تصدقها وتؤمن بها. كيف يستمر التعامل معها؟ إنه حريص جدا على ألا تتبدد سعادته وهما من الأوهام.

8

هلت بشائر الأمومة. والأبوة أيضا. صادف ذلك أوائل الشتاء وأياما ممطره. راحت فتحية تحسب الزمن وقالت: سألد في سبتمبر، شهر مناسب للولادة.

فقال بحبور: بالسلامة.

لاح في وجهها ذبول طارئ. أعقب ذلك فتور في العواطف. وهدان المتجلي أخبره أن ذلك يحدث كثيرا ولا يخلو من فائدة. قال له ساخرا: «إنه تغير له معنى ككل شيء.» اقتنع هو بأن متاعب الذرية تقع حال تخلقها في الأرحام. رمق الأمومة بأمل أن تشغل بها عن تربيته هو وتربية المجتمع الحديث. إنها جديرة بهذا الختام السعيد. هنيئا له انتزاعها من الرهبنة والجفاف. لقد فسر رهبنتها القديمة على أساس خاطئ. تذكر موقفا لا يمكن أن ينسى. ثمة تصرفات تهز النفس بنبلها حتى النفس الخاوية. احتسيا القرفة في حجرة المعيشة وهما يشاهدان مسلسلة تلفزيونية. بات البار خاويا من قوارير الويسكي. عيناها السوداوان هادئتان متعبتان. إنها سعيدة ولا شك وتؤمن بأنه نبيل أمين. ما يزعجه حقا أنها تحب «الممثل» لا الشخص الحقيقي. الممثل رجل نبيل أمين مثقف لا عيب فيه إلا أنه مؤمن سلبي كغالبية المؤمنين في هذه الأيام. لكنه ممثل، شخص آخر، ولو عرفت الشخص الحقيقي لولت تقززا. هي ليست من النوع الذي يحب الجسد وحده. ليست من النساء اللاتي يحببن اللصوص والبرمجية والقتلة. إنها تحب بروحها وجسدها معا. سلت حب يسري أحمد لتقع في حب رجل وهمي. أما هو فلم يبرح موقعه القديم. موقع العاشق الخائب. موقع المحب من جانب واحد. ما زال يغتصبها ساعة بعد أخرى ويخدعها يوما بعد يوم. لقد فقد معاني الأشياء، ولكنه طمح إلى الحب باعتباره معنى مستغنيا بذاته، وهو حريص على ألا يلحق بالأوهام. ممكن أن نجد في الحب والزواج والذرية معنى محليا يستغاث به. غاب عن التلفزيون فتذكر الموقف المثير. حين دعته إلى لقاء مفاجئ بحديقة الأمازون. عقب عدولها عن الرهبنة وقبل إعلان الخطوبة. كان سعيدا باللقاء فوق البساط الأخضر. راح يعلن خططه عن الخطوبة والزواج حتى لاحظ أنها ليست موجودة معه. فسألها: ما لك يا فتحية؟

فقالت بوجوم: كان يمكن أن تمضي الأمور في طريقها المرسوم بلا كدر. - وهي ماضية كذلك فأي كدر تقصدين؟ - إني أرفض الخداع وأمقت الكذب ولست نهازة للفرص بأي ثمن.

فقال بضراعة: لا تتركيني للحيرة.

فتريثت قليلا مكفهرة الوجه ثم قالت: يوجد في حياتي سر لا يجوز أن تجهله.

خفق قلبه وتخايل لعينيه شبح واحد. تساءل: أي سر؟

فقالت بحرارة متصاعدة: إنه مأساة ...

ثم في شيء من الاندفاع: وقعت المأساة وأنا طالبة، كنت راجعة ليلا من بيت زميلة عقب ساعات من المذاكرة، رحت أقطع حارة حمزة في طريقي إلى ابن خلدون، وإذا بأنوار الحي تنقطع فجأة فيغرق كل شيء في ظلام مخيف ...

رجع الظلام بوحشيته فتجنب ملاقاة عينيها بحذر ولم ينبس، فقالت: لن أطيل فالذكرى معذبة، هاجمني شخص في الظلام، كتم فمي، تصارعنا حتى فقدت الوعي ...

تهدج صوتها حتى سكتت، ولكنها تغلبت على ضعفها قائلة: لعلك أدركت بقية ما حدث! - يا للفظاعة!

فاه بها وهو يرتعد، فهتفت غاضبة: وحش ... حيوان ... قذر ... جبان ...

فردد غائصا في ظلمة باردة: وحش ... حيوان ... قذر ... جبان!

صمتا ليستردا أنفاسهما ... ترامقا في تعاسة، كلاهما أتعس من صاحبه. تمتم: أنت؟! يا للفظاعة!

ثم هز رأسه متسائلا: أكان لذلك علاقة برفضك الزواج؟

فقالت على الفور: أبدا، لقد اعترفت لأمي فلم يهدأ بالها حتى أصلحت كل شيء، فلم يكن ثمة ما يخيفني من الزواج.

حنى رأسه مصدقا، ولكنها تجلت أمامه في هالة وضيئة. قالت مؤكدة: كان يمكن أن يمضي كل شيء بلا أثارة من شك! - أدرك ذلك.

فقالت بصوت واضح: ولكني أرفض الكذب والخداع، فضلا عن أنك شخص جدير بالصدق!

فقال وبنيانه ينهار: فعلت ما هو جدير بك. - شكرا.

فقال مزدردا ريقه: لا يمكن الشك أن يرتقي إليك وقد ازداد احترامي لك.

فتساءلت: ألا تخلو إلى نفسك بعض الوقت؟ - لا داعي من ناحيتي لتبديد الوقت.

فهمست باسمة لأول مرة: لبيب. إنك نبيل كما اعتقدت دائما.

هكذا وهب وسام النبل والأمانة. أما كان يجدر به أن يعترف لها بدوره؟ بدا ذلك مستحيلا، كان على القاتل المغتصب أن يتوارى. الممثل يتهادى اليوم على المسرح وحده. لولا الحب والعناد ما أقدم على طلب يدها. كان حانقا عليها بقدر حبه لها. وكان يعتبرها الحقيقة الوحيدة المتاحة له. ها هو الممثل يمعن في التمثيل ويتمادى. على حين يختفي الشخص الحقيقي ويذوب في الظلام. هو الظلام القديم الذي مكن له من الحب والانتقام. كان مرفوضا معذبا، رفضته فتحية كما رفضته الحقائق. كان لقيطا ملقى في الوجود بلا أمل. وكان ينتظر خروجها من بيت صديقتها ليتبعها عن بعد. وانطفأت الأنوار فجأة وتمطى الظلام العميق. اعتقد أن الظلمة معجزة يجود بها الدهر. استيقظت شياطينه التي لم يعد يزجرها شيء. انقض على الحلم الجميل مدفوعا بالهوس والرغبة والتحرق على الانتقام. كاد يهلكها لولا أن أنقذها الإغماء. حملها إلى دهليز بيت قديم. انحصر في ذاته الهائجة ففقد الوعي بالوجود. نسي أنه مهدد بقادم من فوق أو من الخارج أو بعودة النور. ثم مضى لاهثا ذاهلا لا يصدق بالنجاة. مضى متشفيا من ذاته، من أبيه، من فريسته، من الوجود نفسه.

كانت تتابع المسلسلة مسترخية باسمة ...

9

جلسا في مجال المدفأة الكهربائية. الجو في الخارج يصرخ ويزمجر وإيقاع المطر يتتابع فوق الأشجار والنوافذ المغلقة. منظرها يستحق الرثاء. شحب لونها وغارت عيناها وانطفأ سحرها. وكان رمضان يطرق الأبواب، فقال مداعبا: سأصوم وحدي يا عزيزتي.

قرر إعلان الصيام على أن ينتهكه سرا كلما ألح عليه الجوع إيثارا للسلامة. تمتمت: الله رحمن رحيم.

اعتقد أنه نال حظوة جديرة بالتقدير، ولكنها سرعان ما سألته: ما أخبار الشقة؟

اشتعل غضبه ولكنه انكتم في أعماقه فقال: لم أوفق إلى شيء مناسب بعد.

ابتسمت ابتسامة أحنقته فقال: سيجيء كل شيء في وقته ...

لازمت الصمت، ولكن وشى منظرها بقلة الثقة فواصل: وعدت وسوف أفي ... - يبدو أنك تفعل ذلك من أجلي.

فنفس عن صدره بالصدق ولو مرة فقال: هي الحقيقة ... - ما زلت ترفض العمل؟

فقال ضاحكا: الفراغ هو أمل الأحياء المنشود. - إنك تعيش في الواقع لا في الحلم. - دخلي يمكنني من أن أعيش الحلم ...

فتساءلت بعتاب: تأخذ دون أن تعطي؟

فهتف محتجا: إني أملك عشر عمارات تخدم المئات من الأسر، وجريرة العمل أنه يشغل الإنسان عن التأمل ... - اليوم طويل وفيه متسع لأشياء كثيرة. - على أي حال لقد وعدت وأنا ملتزم بوعدي.

سكتت عنه. لا مفر من فتح المكتب. سيتظاهر بالعمل كما يتظاهر بالصوم. ربما تورط في العمل أيضا. إنها أقوى منه وهذا يثيره. غيرت ظاهره ولا يبعد أن تغير باطنه ذات يوم. ربما أدى الصلوات في أوقاتها أيضا. ربما ساقته يوما إلى الحج. الممثل يتضخم وتترامى أبعاده والشخص الحقيقي يموت. متاعب متلاحقة يعانيها من أجل الحب والحياة الزوجية. إنه أدرى الناس بضعفه وانقياده. إنه أدرى الناس بما تطبع به على عهد داود الناطورجي. هل يتاح له يوما أن يقتل الممثل؟! •••

وسألته ذات ليلة: هل يوجد شيء لا تعرفه عني.

فأجاب متوجسا: إني أعرفك تماما. - وأعتقد عادة أني أعرفك كذلك، ولكنك تبدو لي أحيانا كاللغز ...

رأى شبح تحقيق يقترب فقال: إني شخص في غاية البساطة. - أقول أحيانا لنفسي إنه يكره العمل، إنه ينهمك في القراءة، إنه لا يهتم بشي مما يهتم به الآخرون!

فرمقها بحيرة فقالت: من أنت؟ ما أنت؟ في البلد هموم وتيارات، ما موقفك منها؟

فتساءل وهو يفكر بسرعة وحذر: ألا يعيش الإنسان حياة كاملة بغير ما تسألين عنه؟ - إنسان مثلك لا بد أن يكون صاحب رأي ولو كان مفاده الكفر بجميع الآراء! - لا حديث لنا مع الأصدقاء إلا ذلك ... - ألا تعدني صديقة أيضا؟ - بلى ولكني أصون حياتنا مما يزعجها ... - أكنت دائما تعيش في نطاق ذاتك؟

فضحكت عاليا. بوسعه أن يبوح بأسرار صادقة كثيرة دون خطر. قال: لي تجارب حافلة.

فقالت بلهفة: هات ما عندك، حدثتني مرة عن رد فعل عنيف عقب وفاة أبيك؟ - أجل، رد فعل اجتاح أبي وتراثه، ولعلك تدهشين إذا عرفت أن المرحوم يسري أحمد هو أول من ساعدني على التمرد، كان وقتها يتمرد على الإيمان فنفخ في من روحه المتمردة وأشركني في قراءة كتبه، فتعرضت لأزمة غير يسيرة وتبنيت إلحادا شاملا ...

تمتمت بامتعاض: فقدت إيمانك كله؟! - كله ... وخيل إلي أني أكتشف العالم من جديد ... - أدام ذلك طويلا؟ - على فكرة، لا شيء يدوم معي طويلا في عالم الفكر، ما هو إلا طور يعقبه طور جديد، وفي أقصر وقت يتصوره العقل ...

فقالت بقلق: وهناك العواقب العملية لذلك! - هو ذلك، إني لا أحب الكذب! - وانتهيت إلى إهمال الدنيا!

فتفكر قليلا ثم قال: لا أظن، العكس تماما ما حصل، اندفعت لاكتشاف الدنيا، وملء الفراغ، عند ذاك تسلمني عدلي جواد، ففتح لي باب الديمقراطية في وقت كانت تذكر عادة مصحوبة باللعنات، فعرفت تاريخ مصر المجهول قبل الثورة، واستفزني الحماس، فطال لساني حتى استدعاني رجل الأمن بالكلية وأنذرني ... - لذاك الحد؟ - أجل لم أكن سلبيا كما تتصورين، غير أن المرحلة الديمقراطية لم تطل ولم ترسخ فسرعان ما تقدم الصفوف عبد الباري خليل ! - أعوذ بالله! - تبوأ مركز الأستاذ مني وراح يعيرني كتبا عن المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ وصراع الطبقات والجنة الموعودة.

فتمتمت ساخرة: رغم أنك وريث دخل يربو على الخمسمائة الجنيه شهريا؟! - اقتنعت تماما، ووجدت في تجاوزه طبقتي ما يشرفني أكثر ...

تزايد الاهتمام في نظرة عينيها الذابلتين، فواصل: اجتاحني الحماس للماركسية كما اجتاحني من قبل للإلحاد والديمقراطية، وإذن فأنا مريض بالاهتمام لا بعدم الاهتمام ...

فقالت بمرارة: ولكنك تتغير بسرعة مذهلة!

يا له من حكم صادق! فطن إليه بنقده المرهف للذات. سرعان ما يقع تحت سيطرة الصديق أو الكتاب. إنه ضعف ملموس محسوس طالما حمل أباه تبعته. هو الذي طبعه بسرعة الانقياد. هو الذي جعل من ذكائه أداة سلبية في خدمة التلقي وبلا طاقة على التمحيص والنقد. وقال بامتعاض: إنه الشباب والحماس ورد الفعل لخضوع طويل للأب ...

فتساءلت بقلق: ماذا حدث بعد ذلك؟ - لقد اعتقلت، وتلقيت إهانات لا تمحى ولكن ثبت عدم تورطي في أي عمل غير مشروع، فأفرج عني بخلاف عبد الباري الذي اعتقل طويلا كما تذكرين حتى اشتهر أمره في الحي ... - ثم؟ - زلزلني الاعتقال والإهانة، أكان ذلك ما كفرني بالماركسية؟ الذكرى غائمة، أما ما أذكره بوضوح فهو أنني عثرت على كتب الوجودية بلا مرشد، ولكن الكتاب كان وحده كافيا للإلقاء بي في عبث الوجود واللامعنى!

فقالت بحزن: ما أجدر رحلة تبدأ بالإلحاد أن تنتهي بالعبث ... - صدقت! - إنك قطعت في أعوام ما قطعته البشرية الضالة في عمرها كله! - صدقت أيضا ... - ثم؟

حسبه ما نفس به عن صدره وعليه الآن أن يرجع إلى التمثيل، قال: رجعت إلى الإيمان والحمد لله ... - أكان وهدان المتجلي وراء ذلك؟ - القراءة أكثر، والعناية الإلهية قبل كل شيء ...

فقالت بجدية ملفتة للنظر: من حسن الحظ أنك تزوجتني وأنت مؤمن وإلا لورطتني في علاقة غير شرعية!

يا للداهية. إنها تعني ما تقول. وتتصور العلاقات على ضوء واضح صارم حاد النصل. وأزعجه جدا أن تكون علاقته بها في الحقيقة - من وجهة نظرها على الأقل - غير شرعية. وما تمالك أن قال: يوجد ملحدون معروفون وهم في الوقت نفسه أرباب أسر!

فقالت بقوة: ما هي إلا زيجات باطلة لا يبقى عليها إلا داء التهاون المنتشر ...

فحنى رأسه موافقا أو متظاهرا بالموافقة وهو يلحق هذا السر بآثامه الخفية. حقا إن زواجه تجربة مثيرة اعترضت حياته لتهزها من الأعماق. واستطاع أن يقول بنبرة المنتصر: ها أنت ترين أنني لست عديم الاهتمام كما تصورت ... - ولكن رحلتك تركت فيك آثارا باقية ...

فتساءل بقلق: حقا؟ - مثل تهاونك في شئون دينك، وكراهيتك للعمل!

فضحك ليخفف من توتر أعصابه وقال: أخطاء محتملة ويمكن علاجها، ولعلك أنت في حاجة إلى قدر من التسامح ...

فقالت بحرارة: المسألة إيمان أولا ... - التسامح جميل أيضا. - أجمل منه أن تطابق بين إيمانك وسلوكك ...

فتمادى في كذبه وخوفه قائلا: إني ماض بعزم في هذا السبيل ...

وتساءل في باطنه هل تتمخض سعادته عن وهم زائل؟!

10

القلق يلازمه. رغم استهتاره بكافة القيم فالقلق لا يبرحه. مجلسهما الليلي يهبه شعورين متناقضين، السعادة والقلق. الشتاء يسحب أذياله وعما قليل تفتح النوافذ وتشيع البسمات في الحديقة. صحتها تبدو الآن أفضل مما كانت أول عهدها بالحبل. وهي تفضل الراديو على التلفزيون فيجاريها مرحبا بأنه لا يفصل بينهما فصلا كليا. إنه صادق في حبها ولكن لا يجمعهما إلا الكذب. من حسن الحظ أنها تصدق «الممثل» ولا تدري شيئا عن الأصل. وسوف تجيء النهاية عندما تطلع على الشخص الرابض وراء الممثل. ما زالا يتمشيان عند الأصيل خاصة بعد أن أصبح المشي ضرورة صحية لها، وهي ترتدي اليوم فساتين مرسلة، وتعد عدتها لاستقبال الوليد. وشوقه إليها يزداد ومخاوفه تزداد أيضا. شخصه الحقيقي لا يكف عن تعذيبه. إنه يعيش وحده في عزلة تامة، لا يمارس الحب ولا الزواج ولا حق له في التعبير عن ذاته. إنه كامن في أعماقه في ذل، يغلي بالحنق، ويحلم بالثورة. غارق في العبث الذي وجد فيه الحل لمتناقضاته الماضية. هو الذي أخرجه من تردده المعذب بين الإيمان والإلحاد، بين الديمقراطية والحكم المطلق، بين الماركسية والرأسمالية. هو الذي أنقذه من الهياكل الخاوية ولكنه أصابه بمرض جديد، مرض الفراغ والرعب. وفتحية لم تفصل بين الممثل والأصل فحسب ولكنها تهدد الاثنين أيضا. ألا ينقاد لها ذات يوم كما انقاد من قبل ليسري أحمد وعدلي جواد وعبد الباري خليل؟ وأي عواقب تتربص به إذا تحقق ذلك الانقياد المتوقع؟! •••

سألته باهتمام: أي مراحل حياتك تراها الأفظع؟

بعد تأمل أجاب: لعله العبث. - لماذا؟ - لأنه فراغ، والفراغ مرعب. - أوافقك تماما، أي مذهب وضعي فهو انحراف أما العبث فشلل للعقل، وإذا شل العقل فماذا يبقى من الإنسان العاقل؟!

أجاب بلا وعي: لا شيء ... - أي سخرية أن تتصور الإنسان لقيطا في الكون، تجيء به المصادفة العمياء ثم يندثر بالمصادفة أو العجز!

إنها تذكره بيأسه وهي لا تدري ولكنه يوافقها بحماس قائلا: أحسنت التصوير. - يسرني أنك تطالع كتب العلم بشغف، إنها تؤكد المعنى في كل شيء! - تماما! - حتى المتشكك يسلم بوجود معنى وإن عز عليه إدراكه. - أجل، يسلم على الأقل باحتماله ...

وتأمل قوله بقلق. وازدادت مخاوفه. وغاب عنها وقتا فلم يدر كيف تطرقت إلى موضوع الصلاة، كانت تقول: يستحسن أن تصلي وأنت صائم، ولو شهر رمضان فقط!

أليس لديها اهتمامات أخرى؟ ألا تحب أحاديث النساء؟ لم لا يقاوم؟ هل زاده شعوره بالإثم ضعفا على ضعف؟! تمتم: فكرة مقبولة ...

إنها تحكم الحصار حوله. إذا ولى رمضان فستطالبه بالاستمرار في الصلاة. وستذكره حتما بأن الصلاة لا تتفق وشرب الويسكي في ركن الفردوس. وسيجيء الحج في يوم من الأيام، سوف يتضخم الممثل ضاغطا بثقله المتصاعد فوق الشخص الحقيقي السجين. جعل يلحظها في فترات الصمت فيراها وهي تغمض عينيها إعياء أو تنظر من خلال الزجاج إلى رءوس الأشجار المتوهجة بأنوار المصابيح. حنق عليها. وحنق على داود الناطورجي أيضا. حنق على ضعفه وجبنه. عز عليه أن يتوارى في بيته تاركا الممثل الغريب يعاشر زوجته أمام عينيه ويتلقى حبها ويهبها بكل وقاحة بذرة حياة جديدة. كل ذلك يحدث أمام عينيه وهو متوار صامت مستسلم.

11

لأول مرة من أكثر من عام تخلو الفيلا من فتحية. انتقلت إلى مستشفى الولادة قبل ميعاد الوضع بأسبوع - لتوعكها المفاجئ - لتكون تحت الملاحظة الدقيقة والرعاية المتاحة. وجد نفسه وحيدا. لم يعد كما كان، ففي الربيع والصيف تكاملت شخصية الممثل وترامت أبعادها. إنه يجيد الآن تمثيل دور المؤمن والمحامي، بل إنه يسعى إلى تولي القضايا حتى لا يرمى بالخيبة. وشغل التمثيل جل حياته فلم يترك للرجل الحقيقي إلا وقتا قصيرا يمضي عادة في السخرية والمرارة والغضب. على سبيل المزاح قال له عبد الباري خليل: وراء كل عظيم امرأة!

فأحنقه ذلك جدا. إنه يشير إلى تغير أسلوب حياته ولكنه يعلم في الوقت نفسه أنه تغير ألقي عليه من الخارج قهرا بلا اقتناع ولا إرادة ولكن تحاميا للعواصف وإيثارا للسلامة وإبقاء على راحته الشخصية. ولم يخف عواطفه فقال لأصحابه: إني غاضب.

فقال عبد الباري خليل: إن تكن صادقا في عبثك فلتعتبر الأمر كله فكاهة لا بأس بها.

فقال بإصرار: ولكنني صادق بلا ريب. - ماذا يغضبك إذن؟ الضمير لا يوجد إلا في رحاب إيمان ما ...

فقال بحدة: رواسب اللاوعي لم تجتث بعد. - الرواسب هي مشكلتك.

فقال وهدان المتجلي: إني أضع الأمل في الممثل لا في الشخص، فلعله يندمج في دوره فينقلب تمثيله صدقا مع الزمن!

عند ذاك قال عدلي جواد: لا بأس مطلقا من أن تعيش الشخصين حفاظا على أسرتك وحبك!

كرر جملته مرتين ثم واصل حديثه: من من الناس حولنا يحظى بشخصية واحدة؟ نحن في مسرح كبير، الجميع ممثلون، يقولون كلاما جذابا فوق الخشبة، ويتهامسون بكلام آخر وراء الكواليس، هكذا الجميع من القاعدة حتى العلالي، فليس في حياتك شذوذ، احذر أي تصرف جنوني، دع ذلك للمجانين من زبائن النيابة والسجون، عليك بالسلوك الجدير بعبثي، ملايين يمثلون بلا فلسفة ولكن بوحي من غريزة البقاء، ويواصلون الحياة في ارتياح واستبشار وسرور!

ها هو ينفرد بنفسه ويزن تلك الأقوال بدقة. إنه الآن متحرر من ظلها. وهي طريحة الفراش بين أيدي الممرضات مشغولة بوعكتها عن المبادئ، تتأهب لاستقبال الوليد الذي ستنشئه على مثالها. أجل لقد تلقى النصيحة العملية السديدة التي تصون له حياته وسعادته. سيعيش فوق المسرح زوجا وأبا ومؤمنا ومحاميا، ويبقى وراء الكواليس ضائعا بلا معنى، قاتلا، مغتصبا، عزبا، وحيدا، ينتظر موتا سخيفا في أعقاب حياة سمجة. وكلما ترامق الشخصان - الممثل والأصل - فعليه أن يبتسم، وإن شاء فليضحك، بلا هم ولا غم، وليتذكر أنه لا يمارس شذوذا ما، وأنه يقلد الملايين في حياتهم اليومية.

12

بدا في وقت ما أن الصراع يمضي نحو مستقر، لاح الأمان أيضا في الأفق مع سحائب الخريف. وقال لنفسه إن آثامه ليست شيئا إذا قيست إلى آثام الآخرين من السادة القتلة وقطاع الطريق المتهادين فوق المسرح بين التهليل والتصفيق.

ولكن عادت فتحية فأشرقت الفيلا بنورها. عادت إلى مقعدها وانتفض الوليد بحياته الجديدة فوق حجرها. لقد سمته سليمان باسم أبيها وسوف ينشأ نشأة جديدة تقيه من وباء الانقسام وتحقق له وحدته. وتبدت سعيدة بوليدها، سعيدة أيضا بالرجل الذي أعادت خلقه من جديد. الحق أن استقراره تزعزع بحضورها. إنها نقية صادقة. رغم تزمتها، بل رغم صرامتها وعنفها. فهي نقية صادقة. إلى جانب نصاعة بياضها لاح لونه أغبر قاتما. حقا إنها ينبوع الحب والعذاب. من القلة النادرة التي لم تحترف التمثيل فرجع مضطرا إلى المقارنة بين ذاتيهما. في غيبتها ساد العقل والمنطق وسيطرت ذكرى الحب ولكن في حضورها انكشف الحب عن خدعة وفرية. هذه السيدة الجميلة الصادقة لا يمكن أن تبقى على حب قاتل مغتصب ضائع. ستقضي على العلاقة بعدم الشرعية. لا حب ثمة ولا زواج ولا أبوة في محضرها. المطاردة تعنف، اليأس يستفحل. وعجب لشأنه ولحدة انقلابه. التزعزع لا يغزوه نتيجة لضعفه وحده، ولكن بوحي الحب أيضا. الحب ذو التزام ويجفل من الخداع. هل يدمر الحب باسم الحب؟ وكأنه أزمع الدفاع عن نفسه فقال لها: من يقرأ الصحف يقتنع تماما بأن الصفوة نفسها تعيش وجهين، وأنها لا تصدق مع ذاتها إلا وهي تمارس الشر في الخفاء!

فقالت على الفور: المؤمن وحده من يعيش بوجه واحد.

سرعان ما صمم على ألا يقدم مختارا على طعن سعاته طعنة الموت. سوف يألف هذه الحياة رغم قربها، وسوف يتحرر مع الزمن من آلامها. ونسمت من الباب المفتوح نفحة خريف عذبة مختلطة بالأصوات الغامضة الصادرة عن سليمان.

ولكن حدث شيء.

انطلق فجأة وبلا مقدمات من أعماقه المترعة بالقهر والقلق.

انطلق عملاقا ثملا حرا مزهوا بحقيقته الراسخة وتأثيره المطلق. كأن صدره انشق عن ثغرة متفجرة بانفعالات طاغية غامضة لتغزو الفضاء كله. استطار خياله في نشوة من السكر الأصيل مستمدا من المجهول قدرة شاملة. رأى بنظرة خاطفة الكون ماثلا في صورة واحدة ملتحمة الأجزاء متعانقة الأبعاد تنبعث من بهائها نغمة ساحرة. في غمرة السكرة الصافية مرق بكل قواه من قفص الزمن وعلا فوق المخاوف والحذر. انغمس حتى قمة رأسه في انتصارات اللحظة الراهنة.

وبصوت غريب متهدج قال لها: فتحية، أصغي إلي، سأفضي إليك بأسرار مذهلة ...

13

الخريف مستمر في نفث أنفاسه ولكن العذاب انتهى. الحزن يغشى الوجود ولكن العذاب انتهى. إنه غارق في هدوء عميق سبق بإعصار مدمر. تقوض المسرح وتلاشى التمثيل، استرد ذاته، لا حب ثمة ولا زواج ولا سليمان ولا شعائر ولا قضايا، الجدب والوحدة ولكن العذاب انتهى. من خلال جو جنائزي قاتم أطلت عليه وجوه الأصدقاء. لتوهم رجعوا من زيارة واجبة للحي القديم. مسعى تقليدي ولكن بلا ثمرة.

قال عدلي جواد: لا يمكن فهم تصرفك. - ما أهمية ذلك؟ لكنه كان حتما من الحتم وعاصفة لا سبيل لمقاومتها. وقال وهدان: حزنها لا يوصف.

فقال عبد الباري: وغضبها كذلك.

وقال وهدان: لم تغفر لي سكوتي من أول يوم ...

رجع عدلي جواد يردد: لا يمكن فهم تصرفك؟

فقال: صعقني بلا مقدمات. لعله نوع من الجنون ...

ثم تمتم بعد قليل: ولكن لا ندم ولا أسف ...

فقال وهدان: قياسا على ما حدث يمكن أن يجد جديد لا يخطر الآن ببال أحد ...

فقال عبد الباري: قول حسن.

من ناحيته فلا ندم ولا أسف، ولا عذاب أيضا. ثمة حزن عميق ولكنه يتنفس في الزمن.

السلطان

1

من فوق قمة المقطم لاحت قمة القاهرة مثل خلايا النحل، بيوتا وعمائر متلاصقة متلاحمة، تمرق من بينها المآذن والقباب، يغطيها الأصيل بستار رمادي نعسان.

توقف السلطان نوح عن متابعة السير، التفت نحو تابعة منصور وقال: اذهب، ثم عد قبيل الفجر.

ولكن منصور لم يبرح، وقف واجما حائرا، فقال السلطان: اذهب فقد أزف ميعاد العبادة.

وأخرج منصور من عباءته بلطة يلمع الموت في نصلها. رمى بها تحت قدمي السلطان، وقال بحزن: كلفت بقتلك يا مولاي!

فرمقه السلطان بذهول فواصل الرجل: كان المتفق عليه أن أتوارى حتى يجثم الليل ثم أزحف نحوك لأطيح برأسك!

فاصفر وجه السلطان غضبا مثل الشعاع الغارب، وتساءل: من؟ - الملكة! - يا للشيطان! لها شركاء يا منصور؟ - القائد كرداش ... والوزير عقبة ... - يا للفظاعة، قصر من الرمال، عاصفة من الظلم تبغي اجتياح رجل كرس حياته للعدل! - إنه الطمع في أرزاق العباد يا مولاي!

استدار السلطان وهو يتمتم: لأنكلن بالمجرمين!

فقال منصور بانكسار: لن تستطيع الرجوع يا مولاي! - ماذا قلت؟ - عيونهم منتشرة، وخناجرهم مشهرة. - ما أحب العباد سلطانا كما يحبونني ... - لذلك دبروا مؤامرتهم ليزعموا بعد ذلك أنك اختفيت، فإذا رجعنا اكتشفوا خيانتي لهم فانقضوا علينا كالشياطين. - أنهزم تاركا رعيتي تحت رحمتهم؟ - اهرب ... اختف تماما عن الأعين، لقد تظاهرت بخيانتك لأنقذك، دعني أرجع لأبشرهم بقتلك ودفنك!

فاشتد امتقاع وجه السلطان وراح يقول: الملكة، الأفعى، الجباه التي تنحني وهي مثقلة بالنفاق والغدر، الألسنة التي تلهج بالثناء وهي تنقع بالسم، الجسد الذي يذعن للحب وهو يتراقص فوق موجة من الفسق المضمر، كيف جرى ذلك كله من وراء ظهري؟!

فقال منصور بأسى: ما أشد حزني يا مولاي! - دع الحزن فما أملك الآن سواه، وسوف تفجر الطبيعة في غشاوته شواظا من نار الغضب والانتقام. - اختف يا مولاي، اذهب إلى أقاصي الصعيد أو إلى بر الشام، إليك هذه الصرة من الذهب!

لبث السلطان جامدا وهو يتحول إلى شبح تحت أهداب الليل فقال منصور جزعا: لا وقت لديك، اهرب قبل أن يسعى إليك القدر.

فتأوه قائلا: أودع الحياة بلا دفاع، أتطوع للموت، أهيم مطاردا بلا رعية، تاركا ورائي رعية بلا سلطان، مفسحا المكان للمجاعة والأوبئة.

أكب منصور على يد مولاه فبللها بدمعه، ثم غاص في الظلام.

2

أقام السلطان نوح في أطراف المدينة فيما يلي المقابر. لم يكن يعرف وجهه إلا المقربون وقلة من الرعية الذين شاهدوه في مواكب المواسم، فتنكر ما وسعه التنكر واستثمر الذهب في تجارة الغلال، فكان يتاجر نهارا، ويعتكف ليلا ليتفكر في الانتقام من أعدائه أو ليواصل عبادته التي شغف بها أيام ملكه.

وتسربت أنباء اختفائه مثل رائحة يتعذر كتمانها. عمل المتآمرون على نشرها فمضت من لسان إلى لسان ومن حي إلى حي. وأنهاها إليه بعض عملائه من التجار. أما سمعت عما يقال من اختفاء السلطان نوح؟ الناس حيارى محزونون يتساءلون، يقال إنه كان يمضي الليل متعبدا فوق جبل المقطم، هل باغته وحش؟ هل اغتاله قاطع طريق؟ هل اعتزل في كهف مثل الرهبان؟ أما عن أحزان الملكة وحيرة الوزير والقائد فحدث ولا حرج، ليتك ترى الناس وهم يتجمهرون في الطرقات؟ ما أشد الأسى على المحبوب الغائب!

ثم أعلن النبأ بصفة رسمية فنادى به المنادون، ونصب ولي العهد - ابن السادسة - سلطانا، وعين الوزير عتبة وصيا، كما عين القائد كرداش وزيرا وقائدا.

تلقى نوح الأنباء كالمطارق فوق رأسه. سمع نعيه على كل لسان. تبخرت شخصيته في الهواء. عاشر الموت وهو حي. عجز عن دفع زحفه تماما. من مات في وعي الخلق فقد مات. هذا هو الموت الذي بدا له غامضا فيما مضى. ليست الحياة قلبا يخفق أو دما يجري ولكنها معنى يتردد في وعي الناس. وقد مات نوح. ولم يعد التفكير في الانتقام مجديا. لقد حل آخر محله فوق العرش، واغتصب غريب فراشه، وأدت رعيته ضريبة الحزن والدموع عليه. لم يعد لرجوعه معنى. سيهدم عالما أعيد بناؤه وتكوينه. وها هي الأعوام تمضي مؤكدة موته، مقوضة لدنياه، ومن الخير له أن يبذل ليله كله للعبادة، وأن يسلم للمقادير، وأن يمهد طريقه إلى أعتاب الله ورحابه.

وجاءته أنباء جديدة ذات لون داكن ضارب للصفرة. لم يكن السلطان وحده الذي اختفى، ولكن ها هو طعم الحياة يتغير، ووجهها يتجهم، يعسر ما كان يسيرا، ويمر ما كان حلوا، ويضن ما كان مبذولا، ويغلو ما كان رخيصا، والمعاملة تسوء، والشدة تضرب، والجبروت يستفحل، والظلم يغشى. ورجع الناس يتذكرون سلطانهم الفقيد، ويترحمون على عهده، ورجع نوح يشعر بالحياة تدب في أوصاله ولو في صورة ذكرى، ولكن فيضا من شائعات مدبرة اجتاح العباد بغية تشويه سمعته. قيل إنه كان مهملا، وإنه كان يتعبد على طريقة الرهبان، وإنه كان شاذا مدنسا، وإنه جن جنونا كاملا حتى دعا أهل بيته إلى عبادته. وارتاب أناس في حقيقة ما يذاع، وصدقه آخرون، وحدثت بلبلة ضاعفت من محنة الشدة والبلاء. وجزع نوح واكتأب، لقد رضي بالموت، ولكنه عانى ما هو أفتك من الموت.

3

وفي السنة الخامسة عشرة من اختفائه زاره صديق يدعى طالب. كان يلهث من الانفعال والبهجة، وسرعان ما ارتمى على أريكة وهو يقول: قلب المدينة ينبض ببعث جديد.

فسأله نوح بهدوء صار طبعه من طول التعبد: ماذا حصل لقلب المدينة؟ - ألم تعلم؟ السلطان نوح لم يمت ... - فاقتلع هدوءه اضطراب طارئ وتمتم: نوح لم يمت! - إنه حي ويسعى بين الناس ... - مستحيل يا طالب. - هي الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان! - أرأيته بنفسك؟ - أجل. - أكنت تعرف صورته من قبل؟ - طالما رأيته في الأعياد ... - ووجدته أنه هو هو؟ - بنصه وفصله! وقد تعرف عليه كثيرون ... - يا للعجب! - وسرعان ما التف حوله المظلومون ... - وماذا فعل السلطان الشاب «المتوكل»؟ - القتال محتدم بين الفريقين، بين المتوكل ونوح، وما زال رجال نوح يقاتلون في جماعات متفرقة، ولكنهم ينهكون جيش السلطان ...

فتمتم نوح في حيرة: قتال بين الأب وابنه! - الابن يزعم أن الآخر دجال دعي! - ولكن نوح يعرف أن غريمه هو ابنه ...

فقال طالب بحماس: في سبيل العدل يهون كل شيء!

4

زلزلت نفس نوح فسلته من عزلة العبادة إلى خضم الدنيا. سمع اسمه يتردد على ألسنة العباد، سمع الحناجر وهي تهتف به، وتستنجد به على ما تعاني من جور وظلم. خيل إليه برهة أنه بعث، أنه حي، أن قد مات الموت، ولكنه سرعان ما باخ وانهزم، فأدرك أن الحي رجل آخر، لعله دجال أو مجنون أو داهية، وأنه جاء ليوكد موته هو إلى أبد الآبدين.

وقال له طالب: قم بنا إلى معسكره خارج باب الفتوح لمبايعته ...

تاقت نفسه إلى رؤيته فمضيا معا في غلس الظلام حتى انضما إلى جموع لا حصر لها، ووقفا في طابور طويل، مقدمته أمام خيمة السلطان وذيله عند مشارف الصحراء. ومثل بين يديه فوجده يماثله في الطول، ولكنه أدق في البناء، تضيء عيناه بنور قوي، وتتسم قسماته بالنبل. تطامن لتقبيل يده ثم قال: نبايعك من جديد كما بايعناك أول مرة.

فقال السلطان المبعوث: فليؤيد الله المؤمنين. - ليكن النصر على يديك. - أسبق لك أن مارست القتال؟ - كنت جنديا قبل أن أصير تاجرا. - إذن تنضم إلى قواتنا.

5

قال نوح لنفسه إن الرجل سلطان حقيقي لا شك في ذلك. وبقدر ما هو سلطان بقدر ما أنا ميت. أعدمت نفسي اتقاء الموت، واتخذ هو هوية غير هويته متحديا. ولم يعد لي من أمل في الوجود إلا تحت جناحه. هذه هي لعبة الحياة والموت التي خسرت فيها حياتي. وإنه لرجل مخلص ينطلق بكل قواه وراء العدل المفقود. ينطق وجهه بالنبل والصراحة والعزم. وإن تصدق فراستي فيه فما أهمية أن يكون السلطان الحقيقي أو لا يكون؟

ونازعته نفسه إلى الرجوع إلى عزلته ولكنه سرعان ما خجل من ضعفه فقرر أن يصير جنديا في جيش السلطان وأن يجعل من الجهاد عبادته.

6

وتوثب الجيشان للقتال. وكالعادة المتبعة في تلك الأزمان تقدم القائد كرداش متحديا السلطان لنزاله. وكلما تطوع لمقاتلته فارس صرعه. وكان السلطان الجديد زعيما أكثر من مقاتلا، فخرج للقتال السلطان الحقيقي. ولم يعرفه كرداش، تبادلا ضربات عنيفة، وتمكن نوح من خصمه فجندله. ووقف فوق رأسه وهو ينزف، وقال: مت أيها الخائن، ألم تعرفني بعد؟

ورنا إليه كرداش ببصر معتم فعجز وجهه عن التعبير عن ارتياعه فغمغم: أنت! لا ... لا ...

وفاضت روحه.

والتحم الجيشان، وكان السلطان الشاب يقود جيشه بمهارة أثارت إعجاب نوح. وتواصل القتال حتى غابت الشمس وراء الأسوار، فتراجع كل فريق إلى معسكره.

7

في اليوم التالي برز السلطان الصغير من بين الصفوف مطالبا بالنزال. وخرج لنزاله فارس فدارت معركة شديدة تابعها نوح بقلب خافق. وجد نفسه يتمنى السلامة لابنه. وشعر بالإثم لتمنياته ... غشيته كآبة ثقيلة. ولما انتصر الصغير أغمض نوح عينيه كأنما يفر من عذابات هذا العالم.

واستمر السلطان الشاب في تحديه للأبطال، وتكرر انتصاره حتى قال السلطان الجديد لنوح: اخرج له فإنك فارس مدرب!

فتردد نوح غارقا في جيشانه، فقال له السلطان بنبرة آمرة: اخرج والله ناصرك.

فلم يجد نوح مفرا من الخروج.

ولم يعرف السلطان الشاب أباه، ولم يفطن إلى ما يتصارع في صدره من الانفعالات المتضاربة، وقال له بحقد: أنت قاتل كرداش، وسوف تدفع ثمن جنايتك.

والتحم الأب وابنه، الابن يندفع لقتل أبيه، والأب يتلقى ضرباته بمهارة ويفسدها بحذق متجنبا في الوقت نفسه إصابته. ولكن مهارة الابن أوقعته في مركز حرج فقد صمم ضربة قاتلة عرفت طريقها إلى مقتل أكيد فلم يجد الأب بدا من مبادرته بضربة أطارت سيفه وتركته أعزل.

توقف السلطان الشاب متوقعا الضربة القاضية، وتردد نوح، على حين هدرت الأصوات من جيش السلطان الجديد: طير رقبته!

ولكن نوح شل تماما، فهجم جنود ابنه ليحموا سلطانهم والتحم الجيشان في قتال مرير حتى غروب الشمس.

8

واستدعي نوح إلى لقاء السلطان، فسأله بجفاء: لم لم تقض على عدونا وعدوك؟

فقال نوح معتذرا: لا أقتل الأعزل يا مولاي!

فقال بغضب: بل أهدرت حقك، وأبحت دماء المئات من رجالنا!

لم يشك نوح في صدق قوله، وغاص في الحزن والكآبة!

9

وعاد الجيشان إلى الاشتباك في اليوم الثالث. وعند الظهيرة رجحت كفة السلطان الجديد، ووقع السلطان ورجاله في الأسر. ودخل الجيش المنتصر المدينة دخول الظافرين فاستقبله الخلق بحماس وسعادة.

وأمر السلطان فزج في السجن بالسلطان الشاب والملكة وكبار رجال الدولة.

واستدعى السلطان الجديد نوح وقال له: أنت أيضا ستوضع في السجن حتى يبت القاضي في أمرك ...

فتساءل نوح ذاهلا: ألا يشفع لي ما أبليت في القتال؟ - لا تشفع لك إلا براءتك!

10

هكذا جمع السجن بين الجميع وهم مكبلون بالسلاسل. وكان أول من عرف نوح تابعه القديم منصور الذي أنقذه من الغدر، والذي صار بعد ذلك حاجبا مكافأة له على جريمته الوهمية. نظر نحو سيده بذهول ثم هتف بفرح: مولاي!

فحدق الجميع به حتى عرفوه، وسرعان ما ارتعدت فرائصهم. وصاح منصور بسلطانه الشاب: هذا أبوك يا مولاي، هذا سلطان مصر الحقيقي!

وراح نوح يقلب عينيه ما بين الملكة والوصي القديم وابنه، ثم قال: أجل إني أبوك، غدر بي رجالي وأمك وأنت لا تدري.

فتمتم السلطان الشاب: أبي! - أجل، إني أبوك نوح، ضحية الخيانة والغدر. - ولم كبلوك بالسلاسل مثلنا؟ - جزاء امتناعي عن قتلك!

فقال الابن بتأثر: طالما حيرني ذلك! - ولكن لا مفر من الجزاء.

وراح نوح يردد عينيه بين الملكة وسائر الرجال الذين خانوه ثم قال متهكما: انعموا بعاقبة الخيانة!

وأومأ بلحيته إلى شخصه وقال: ولأنعم بعاقبة الغفلة!

أيوب

1

إنه سجن بلا قضبان. وبلا ذنب أيضا. علي من الآن فصاعدا أن أحمل جسمي بعد أن حملني خمسين عاما. حيثيات الحكم تبلورت في مرثية طبيب الأسرة صبري حسونة إذ يقول: لا مجال للخداع، سيطول بك الرقاد، الكورتيزون فعال، ولكنه لا يخلق المعجزات، المسكنات والمهدئات فعالة أيضا في مقاومة النوبات، ولكن عليك أن تتزود من الصبر، لا تتصور أن حجرة نومك زنزانة. كلا لديك الراديو والتلفزيون والجرائد والمجلات، معك الهانم وآنسة نبيلة، ووفيق مشهود له بالكفاءة، أصدقاؤك كثيرون ولن يتخلوا عنك، المهم أن تسلم بالقضاء وأن تنحي عنك العناد والحسرة، والله معك.

لست أسير حجرة فحسب. الحقيقة أنني أسير الفراش. حتى الحمام أحمل إليه كطفل. أعاني الألم على فترات ولكني أتجرع العبودية طيلة الوقت. إني محتج لحد التمرد. أضرب كفا بكف. لا أدري متى أذعن للقضاء. الصدمة شديدة تدهم النفس بعنفها وقسوتها ولامبالاتها. لماذا؟ لماذا؟ أين الحياة الثرية الحافلة؟! أين تلال الأموال الطائلة؟ أين المكانة المرموقة؟ في الخزائن والذكريات ولا شيء معي. ويجيء الأطباء من الداخل والخارج. يجمعون على حكم لا استئناف له. يناقشون الأسباب وما تراءت لي إلا ضربة عابثة، ويبقى اليأس والمفاصل المتورمة، ويتفشى اليأس والأسى. ويل لعابر العواصم الكبرى من أغلال مستحكمة. •••

حول الفراش الوثير ذي المرآتين المتقابلتين تجلس أفكار ونبيلة ووفيق. في الأعين نظرة حزينة مواسية. بؤرة تستورد العطف بعد أن كانت تصدره. لا يفارق أحد منهم الحجرة ولكن حتى متى؟ إنه رقاد يبدو ألا نهاية له. والحياة هي الحياة لا أكثر ولا أقل. قلت متجاهلا انفعالاتي الجياشة: أمر ربنا، فلنواجه الأمر بشجاعة وبساطة.

فقالت أفكار: رأيي أن نسافر إلى الخارج.

فقلت بشجاعة لا أشعر بها: لم ينصح أحد بذلك، جئنا بأكبر أخصائي عالمي وأخذ الشيء الفلاني. - لا شك توجد في الخارج استعدادات لا تتوفر هنا.

فقلت باسما: المسألة أنك تؤمنين بالخارج.

وقالت نبيلة بصوت متهدج: قلبي معك يا بابا.

الكلمة اللطيفة ممن نحب مثل الكورتيزون وأنجع. قلت: أسأل الله أن يكفيكم شر المرض.

وفيق متجهم الوجه ولكنه متمالك لأعصابه. كما ينبغي لرجال الأعمال. والولد سر أبيه. قال: ستنهض معافى، إنها محنة صبر وتصبر.

فابتسمت له فقال مستطردا: لك أن تطمئن تماما إلى سير العمل في المكتب. - طمأنينتي من هذه الناحية كاملة. - وسوف أرجع إليك عند كل خطوة. - لا يهمني من ذلك إلا أن أراك كثيرا.

فقالت أفكار: أقترح أن نتناول طعامنا هنا معا.

فقلت: الإفطار فحسب أما الطبيخ فله رائحة يعافها الإنسان إذا شبع!

وضحكت بلا سبب لأقنعهم باستعلائي على المفاصل ثم قلت: لا يمكن أن تبقوا حولي إلى الأبد، إني أكره أن أكون عبئا عليكم، فلتسر الحياة سيرتها المألوفة.

إني أستبق المتوقع والمألوف والطبيعي كما يجدر برجل مجرب في الخمسين من عمره. لن أطالب الدنيا بما ليس في دستورها. ثم إنني أحبهم.

2

هرع الزوار إلى قصري من كل ناحية. اكتظت مواقف السيارات بشارع المعتصم بجاردن سيتي. المقاولون وتجار الجملة والموزعون وأصحاب مكاتب الاستيراد والتصدير وبعض المسئولين. كنت محورا دائرا لكون هائل، فأمسيت مركزه الجامد ولو إلى حين. يقبلون الجبين ويجودون بنظرات المودة والرثاء . ثم تتضارب الأقوال: - لم يعد شيء على الطب بمستعص ... - أقرب مثل ابن أختي، اعتقدنا أن حال مفاصله مزمنة، وهو يمشي اليوم مثل جواد السباق! - كيف تكون لنا ليال قمرية والقمر غائب! - اعتبرها هدنة سترجع بعدها فارس النضال المرموق. - ولكن لا تنس أنك أهملت نصح طبيبك باستهتار غير محمود.

تمتمت: العمل والحياة ... - والصحة؟ أليس لها حق أيضا؟

فقلت متأففا: الحق أنه عقاب لا أستحقه ... - لا تعترض على قضاء الله ...

فقلت مستدركا: أحمده على أي حال. - ليكن ذلك من قلبك. - كيف لنا بإدراك حكمته! - عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.

تتابعت الشعارات الدينية من قوم لا يحفلون من الدين إلا بقشوره. أنا مثلهم أيضا. طالما نددت بإلحاد أعدائنا وأنا سكران. ما أعجب أن يتبادل أناس الأكاذيب وهم يعلمون أنهم يكذبون. الأدهى من ذلك أن بعضهم لا يفطن إلى كذبه. ولم تخدعني حرارة مودتهم. زميلنا إبراهيم جندية المشلول منذ عام من ذا يذكره اليوم؟ وقتنا - نحن رجال الأعمال - لا يتسع للوفاء. ولن أطالب الدنيا بما ليس في دستورها. إننا نقدس الوقت والنظام. وندرك تماما أبعاد حياة العمل ومقتضيات العصر. سوف يطول الرقاد. غالبا حتى النهاية. إنها الوحدة بلا صديق!

3

من جنون الحركة إلى جنون السكون، هذه هي الرحلة. اليوم بسنة كما تقول الأغنية. الآن أسمع الأغاني لأول مرة. لا استيعاب لها بعد فما زال الشعور مكتظا بالاحتجاج والضجر. لكنه سماع لا يخلو من اكتشاف على أي حال. في الماضي كنت أعطي الأغنية من انتباهي ما أعطيه الشحاذ وهو يردد شعاراته. رغم اهتمامي بالغناء في صدر الشباب. ثمة عادات جديدة مقبلة. وتدخل زكية بجسمها القصير البدين المتحدي لتنظيف الحجرة. أقول لها: افتحي النوافذ ليدخل الهواء والشمس.

نحن في أواخر الربيع، سيقبل الصيف ولكن لا مصيف ولا انتفاع بجهاز التبريد. تقول زكية: ليتني بدلك يا سيدي.

كذبة حلوة وما أكثر الأكاذيب. أشرئب بعنقي ناظرا من النافذة فأرى النيل وشاطئه الآخر. النيل يجري بسمرته الشاحبة والشمس تغطي مساحة منه ببراءتها الفضية. أراه أيضا لأول مرة . الباص النهري يتحرك حاملا القادرين على الحركة. أناس يسيرون على الشاطئ والحمام يطير أسرابا. السيارات تتتابع في حركة متصلة. كل شيء يسير إلا الشجر. طابور الجازورينا ثابت رغم شموخه ولكن دون مبالاة ولا ملل. لما أقبلت أفكار في روبها الفضي قلت لها: انقلي الساعة إلى خارج الحجرة.

رفعت من فوق حاملها الرخامي بصندوقها المذهب وبندولها المتحرك. وضع تلفزيون ناشيونال مكانها، كما جيء براديو فوق التابل دي نوي. حملت إلي الجرائد والمجلات، عربية وإنجليزية وفرنسية. إني أقرأ أيضا لأول مرة. كنت قبل ذلك متصفحا للعناوين لا تجذبني إلا أنباء السوق والأسعار والأوراق المالية. بالمقارنة النسبية فإني أسمع وأرى وأقرأ والبقية تأتي. وأحاول أن أتذكر أحيانا. رؤى قديمة لم يبق منها إلا ذكريات شاحبة. لعل أفكار نسيتها تماما. متى أقترن حقا بالحياة الجديدة؟!

العادة تحتوي «المصيبة» فتمتص حرارتها. أجل أبت الأسرة أن تصطاف هذا العام وأصمت آذانها عن سماع إلحاحي. عدا ذلك قد شغل وفيق بالمكتب ولكنه يلقاني يوميا أكثر من مرة. أفكار ونبيلة تترددان على النادي من آن لآن وتستقبلان الصديقات ولكنهما تمضيان جانبي وقتا لا يستهان به. زيارات الأصدقاء تقل يوما عن يوم. التليفون يحل محل الزيارة كثيرا. اختفى أناس تماما كأنما لم ألقهم إلا في إحدى محطات السفر. وحدي أكثر ساعات النهار والليل. أسمع، أشاهد، أقرأ، أتصبر. متى تشملني العادة بسحرها العطوف؟! متى يخلصني أنس التلفزيون والراديو والفكر من الوحشة؟ متى تعوضني عن السوق والرحلات والسهرات؟ متى أنسى عالم السحرة الحائزين لخاتم سليمان؟ متى أنسى إلهام المال المفعم بالسيادة؟ ألا يكفي أن يحظى وفيق بالحيوية والانتشار؟ ألا يكفي أن تضيء أفكار ونبيلة غشاء المجتمع الحريري وتقتنيان كل ثمين وجميل؟

عجيبة الحياة، مخيفة الحياة، محيرة الحياة ...

4

مضت الحياة الجديدة تفرض علي ذاتها كواقع يجب التسليم به. لم يفارقني الشعور بالعبودية ولكن استجابت نفسي للرؤية والسماع والقراءة، بل اكتسبت عادات التفكير والتأمل والحلم وإن ناوشتها كثيرا أحلام اليقظة. ألفت الرچيم والدواء وداويت نوبات الألم بالمسكنات والمهدئات. بات وفيق همزة الوصل بيني وبين العمل. فما زال يصدر عني الاعتماد والتوجيه. واشتد حرصي على متابعة العمل باعتباره باب الأمل الأخير.

وجاءني مرة بحساب البنك عن أموالي السائلة البالغة خمسة ملايين من الجنيهات فخطر لي أن أسأله: متى يشبع الناس من اكتناز المال؟

فأجاب وهو يرفع حاجبيه الكثيفين: لا حد للنجاح، وما قيمة الحياة بلا عمل؟

هكذا ربيته منذ الصغر. تخرج في التجارة مثلي. نجحت في تنشئته كابن رجل يعبد العمل لا كابن مليونير. وهو يسهر في كل ليلة في الهرم، ولكنه لا ينفق كالمجانين. يملك سيارة مرسيدس طراز 78، ويتكلف في الليلة عشرين جنيها ولكنه يغضب لإنفاق مليم في غير موضعه الضروري. إنه صديق ولا يخفي عني شيئا. وطالما سهرنا وشربنا معا. وقد داخلني قلق لدى أول عهده بالسهر فإني أكره التبذير وحسبنا ما تبدده أفكار ونبيلة ذات اليمين وذات اليسار. يومها قلت له: تمتع بحياتك ولكني أكره أن يبدد السفه ما يجمعه العرق والمغامرة.

فقال لي بوضوح مريح: أوافق على رأيك تماما.

وسرعان ما تبين لي «عقله». ترامى إلي أن أصدقاءه يطلقون عليه على سبيل الدعابة «النتن». لم يسرني ذلك بطبيعة الحال ولكن كان أحب إلي من أن يعرف بالمسرف أو المجنون. وحذرته مرة قائلا: النساء ... النساء!

فقال لي مطمئنا: إني أتجنب العلاقات الدائمة أما العابرة فلا ترهق عادة. - وإذا دهمك الحب؟

فقال بسخرية: إني لا أعترف بالحب.

لم آخذ قوله مأخذ الجد رغم أني لم أعرف له حبا واحدا. تزوجت أنا عن حب. أجل لم تلعب المرأة دورا في حياتي ولكني عرفت الحب. هذا الفتى جررته معي إلى ساحة العمل منذ سن المراهقة. نشأ عاشقا للعمل والمال. وأغراني قوله بأن سألته: متى تفكر في الزواج؟

فأجاب ببساطة وحسم: لن أتزوج.

فسألته مستنكرا: ألا ترغب في الذرية؟

فأجاب ببساطة: كلا. - إنه لأمر غريب يا وفيق. - لم؟ ماذا ينقصني؟ اللذة في العمل، وأختم يومي بشي من الشراب والرقص واللهو!

لا اهتمام له بشي بعد ذلك. لا السياسة ولا الدين ولا ... ولا ... إني على الأقل ذو إلمام بشكليات الدين، أما هو فقد نسي كل شيء. لعل أفكار هي الوحيدة بيننا التي ما زالت تملك نظاما من العقائد الموشاة بالخرافات. أخيرا سألته: أأنت راض عن نفسك؟

فأجاب بارتياح: نعم، العمل تاج الحياة.

5

جاءتني أفكار ساحبة نبيلة من يدها، جلستا وهي تقول: أشكو إليك ابنتك!

تساءلت باسما: جنحة أم جريمة؟

رددت عيني بينهما. صورتان متماثلتان لكن الأم أجمل. جمالها متوسط، فهي سمراء صغيرة القسمات معتدلة القامة ملفوفة الجسم. نبيلة تماثلها لولا الذقن العريض الذي استعارته مني. قالت أفكار: إني أعتبرها جريمة. - ما هي؟ - للمرة الثالثة ترفض عريسا دون حجة مقنعة.

فقالت نبيلة: هذا شأني وحدي.

فقلت برقة: أوافقك تماما، ولكن من العريس؟

فأجابت أفكار: شاب، مهندس، أبوه مستشار. - من النادي؟ - نعم. - مواصفات مقبولة ولكننا لم نسمع رأي المتهمة؟

فقالت نبيلة: لا يعجبني وكفى.

فتساءلت أفكار: ترى من يحوز إعجابك؟

فقلت بهدوء: سنعرفه في حينه. - إنها لم تعد صغيرة.

فقلت: بنت عشرين صغيرة في هذا الزمن، وهل يخشى على ابنة مليونير من البوار؟!

أفكار رغم تطبعها بالحياة العصرية ما زالت أسيرة الرواسب الماضية. تزوجتها وهي في المرحلة الثانوية، فعشنا ما لا يقل عن عشرة أعوام حياة كاتب حسابات بالأشغال بين الثامنة والسابعة. ست بيت ممتازة كانت. مخلصة مدبرة ممن خلقن ليسندن الرجال. المرأة الجديدة من صنع يدي. العصرية المولعة بالأضواء والاقتناء والقمار. أردت أن أجعل منها امرأة ثانية فأفلتت من يدي وخلقت من نفسها امرأة ثالثة. ثم تولت بنفسها صنع نبيلة. القصر يضيق بمشترياتهما على سعته. يعيشان في النادي وقد ترجع نبيلة بسيارتها بعد منتصف الليل. إني واثق فيها ثم إن يد الزمان تغمض عيني. تبدى جنون نبيلة في مساعدتها لصديقاتها الفقيرات على عهد دراستها الجامعية التي لم تتمها. لم أرفض الفكرة ولكني حرصي الطبيعي راقبها بقلق. يوما قالت لي: بابا، صديقة في حاجة ماسة إلى خمسمائة جنيه.

فزعت وقلت: الناس تحتاج إلى جنيه أو اثنين لا إلى خمسمائة، إنك بسذاجتك تجعلين من نفسك هدفا للجشع، يوجد فارق بين الشعور الإنساني وبين الكفر بقيمة المال.

فقالت بإصرار: أسرتها في حاجة ملحة؛ إذ إنها مضطرة إلى إخلاء شقة في عمارة قديمة آيلة للسقوط، وقد وعدتها بالمساعدة.

هكذا دفعت بالمشكلة في منطقة الكرامة فغلى دمي وقلت: لا تعدي بشي ليس في يدك الوفاء به، أو ارجعي إلي أولا، وتذكري أن أباك رجل لا دولة ...

أفكار أيضا ضعيفة من هذه الناحية غير أن مساعداتها تختص غالبا بأهلها الفقراء. ولم يسؤني ذلك لما فيه من حفظ كرامتنا في النهاية، ولم تخل حياتي أنا من مساعدات من هذا النوع أيضا. ولكن لزوجتي نزوات مظهرية سخيفة كما أنها تؤمن بالنذر وتتبرع لصندوق السيد البدوي أحيانا بحماقة. •••

في حياتي الجديدة أتيح لي - رغم همي الثقيل الرابض - أن أسمع وأن أرى وأن أقرأ وأن أكتشف مسرات جديدة. أتيح لي أيضا أن أفكر وأن أتذكر. لكن وجدتني أبعد ما يكون عن الرؤية الواضحة. بل وقعت في حيرة معتمة كئيبة مما جعلني أتلهف أكثر على الشفاء البعيد، أو المستحيل. وقلت لنفسي: ليس أفظع من أن يخلى بين الإنسان ونفسه.

6

رباه ... من هذا الزائر الجديد؟

نظرت نحوه بذهول وهو يقترب في خطاه الوئيدة، تسبقه نظرة مفعمة بالمودة والأسى. تغير كثيرا ولكني عرفته من أول نظرة رغم أنه تعمد أن يحجب عني اسمه. كهل يماثلني في العمر، خف وزنه ولكنه بادي الصحة، وجد عليه الصلع والنظارة الطبية. هتفت: غير معقول! دكتور جلال أبو السعود!

فتحت ذراعي وأنا أقول: كيف ظهرت من جديد على سطح الأرض؟ بالحضن والقبل!

تعانقنا وتبادلنا القبل. كان اليوم جمعة والوقت أصيلا والزمن أواخر الصيف. قدمت إليه زوجتي وابنتي وابني ثم قلت لهم: دكتور جلال أبو السعود، رفيق المولد والدراسة، كنا زميلين في الأولية والإعدادية والثانوية، دخل الطب ودخلت التجارة، كنا نذاكر معا رغم اختلاف دراستنا، جمعتنا صداقة وأفكار ...

أخذت شهيقا لأهدئ انفعالي وهم يتصافحون ثم يجلسون، وواصلت حديثي: عقب تخرجه انتقل إلى الأقاليم، تراسلنا عاما أو عامين ...

فقاطعني: خمسة أعوام ...

فتمتمت في حياء: ثم شغل كلانا بحياته ...

فقال باسما: من حسن الحظ أن الإنسان يحظى بقلب وذاكرة ... - صدقت، ولكن كيف أسعدتني بهذه الزيارة؟ - نقلت منذ قليل مديرا لمستشفى الحميات بالعباسية، ثم علمت بمرضك أول أمس من الدكتور صبري حسونة، فجئت أزورك وأصل ما انقطع ... - أهلا ... أهلا ... لا تتصور كم أني سعيد! - وددت أن ألقاك في صحة جيدة مثلي!

فقلت ضاحكا: أدامها الله عليك، أما عني فإني في سجن كما ترى وكأنما رددت إلى الحال النباتية.

فقال جادا: قد يطول ولكنه لم يعد مؤبدا، الطب يصارعه ويصرعه.

فقلت ضاحكا: رجعت قهرا إلى عصر الثقافة. - رب ضارة نافعة.

وقالت أفكار: لتكن هدنة من إرهاق مستمر.

فقال جلال: أحيانا يمر الإنسان بتجربة مرة ولكنه يذكرها فيما بعد بالخير.

فقلت باسما: كلام جميل، ما علينا، كم أنجبت من الأبناء؟ - ثلاث بنات، كبراهن متزوجة ولم تتم تعليمها. والأخريان بكلية الطب.

وأعلنت زوجتي عن رغبتها في التعرف على أسرته فالتحما في حديث جانبي سرعان ما غاب عني في انفعال طارئ. فجأة توقف كل شيء عن الحركة فيخيل إلي أنني أسمع دبيب الزمن وهو يجد في سيره. أجل الزمن يسير وهذا صوته. بل المؤكد أنه لم يتوقف لحظة عن السير فأين كان يختبئ؟ متى وكيف بلغت الخمسين، ومتى وكيف اقتلع شعر رأس جلال؟ كنا أطفالا وغلمانا وشبانا بلا شك وهذا جلال شاهد على ذلك، يا لها من انتباهة مرهقة حقا. وإذا به يسألني وقد لاحظني فيما بدا: أين أنت؟

فقلت ضاحكا: معك! - حذار من الأفكار المثبطة. - ثق من أنني في دور النقاهة منها. - يسعدني أن أسمع ذلك.

وتبادلنا نظرة طويلة، ثم خطر لي خاطر وجدت فيه مهربا من انتباهتي المزعجة فقلت: أطباء كثيرون يرفضون الترقية من أجل العيادة.

فقال بهدوء: كنت دائما طبيبا طول الوقت.

فسألته بدهشة: تعني أنك لم تفتح عيادة؟

فحنى رأسه بالإيجاب، فقلت: أعجب ما سمعت! - كيف تعجب وأنت تعرفني حق المعرفة؟ - كنت مثلك أيضا ولكنها الحياة.

فابتسم صامتا فقلت مخاطبا أسرتي المستمعة: دكتور جلال من عشاق الثقافة منذ نشأته ، آمنا معا في ماضينا بأنه أيا كان عمل الإنسان فالثقافة يجب أن تستمر كمعين دائم لإنسانيته الحقة ... وقد طبق ذلك عمليا.

عند ذاك سأله وفيق: هل العيادة تتعارض مع الثقافة؟ - أعرف أطباء لا يجدون وقتا لتصفح الصحف. - ولكنهم يؤدون خدمة إنسانية لا تقدر بثمن. - إني أؤديها في المستشفيات على خير وجه. - ولكنك لن تكون ثروة مثل زملائك؟ - المعيشة معتدلة ولكن لا ينقصها شيء هام ... ثم إن لي ثروة من نوع آخر.

فقلت له: إني أفهمك ولكن تضحيتك جسيمة.

فقال بهدوء: كانت لحظة الحسم عسيرة، ولكني اخترت ولم أندم.

فسأله وفيق بارتياب: ألم تندم حقا؟ - لماذا أندم؟ إني أقوم بواجبي الإنساني، لا ينقصني شيء، حياتي ثرية جدا، إن يكن ثمة من يرثون لي فإني أرثي لهم أكثر، ولكن معذرة أنا لم أجئ لأتحدث عن نفسي.

ولكن وفيق قال بإصرار أدركت بواعثه: ألا توافقني على أن العمل هو هدف الإنسان الأعلى؟

فابتسم. صمت مليا. ثم قال مخاطبا ابني: إنك تستدرجني إلى حديث طويل لا يتفق مع أغراض الزيارة، فدعني إلى مناجاة والدك بعد غياب ربع قرن.

فقال وفيق: أبي يهمه ولا شك أن يعرف رأيك.

فحركت رأسي موافقا وأنا ألاطم أمواج الانتباهة المزعجة. عند ذاك قال الدكتور جلال: العمل ضرورة ولكنه ليس الهدف. - إذن فما الهدف؟ - لعله التحرر من ضرورة العمل.

وحل صمت ولكن بدا من تألق عينيه أنه يمنحنا فرصة لاستيعاب قوله قبل أن يستمر فيه، وقال: مثلا، مهنة الطب ضرورة ما بقي المرض، فإذا قهرنا الأمراض امحت ضرورة الطب ... هدف الإنسان الفراغ الثري!

فقلت ضاحكا: إذن فقد حقق لي المرض الهدف المنشود!

فقال جادا: لقد أوصلك إلى الطريق الذي يجب أن تلتزمه في حالتي المرض والشفاء.

ثم التفت إلي وفيق قائلا: دعني أشرح لك رأيي، بماذا يتميز الإنسان عن الحيوان؟ بالعقل والروح، فعمله الإنساني الجدير به حقا يجب أن يكون عقليا أو روحيا، ولكن حضارته بدأت بالسعي نحو الطعام، بدأت بالصيد مثل الحيوان، تاريخ الحضارة هو تاريخ العمل. ولكنه أيضا تاريخ التحرر من العمل درجة بعد درجة، حرر يديه باختراع الآلة ومضى في ذلك السبيل الطويل حتى بلغ مرحلة المصنع الأوتوماتيكي الذي يعده بأقل عمل وأكبر فراغ، فلا تتصور أبدا أن الزراعة أو الصناعة أو تكديس المال يمكن أن تكون أهدافا في ذاتها، إنها مراحل من الضرورة يمارسها الإنسان ليبلغ حريته ويمارس إنسانيته.

إني على أي حال أكثر استعدادا لتلقي هذه الأفكار من أسرتي التي تجلي الذهول في أعينها. وتجسد الانفعال في وجه وفيق فقال: يا له من خيال! أحدثك يا دكتور عن حياتنا الواقعة فتحدثني عن حياة لن تتحقق أبدا، إني أتحدث باسم أربعة آلاف ملايين من البشر ربعهم مهدد بالمجاعة!

فقال جلال بهدوء: لا يغيب عني ذلك، إني أعرف أن العمل ضرورة حيوية، ولكني أريد أن أنبهك إلى أنه ليس الهدف، هذه الحقيقة تغيب عن كثيرين، بل تغيب عن الرسالات التي خلقت من أجل تحقيقها كالليبرالية والاشتراكية، ولكن هدف آلاف الملايين يجب أن يكون واحدا.

أردت أن أخفف من توتر الجو، وألطف من انفعال وفيق قبل أن ينسى نفسه، فضحكت عاليا وقلت: توهمت أني مريض وإذا بي سوبرمان العصر.

فقال جلال: أرجو ذلك.

فسألته: ألممت بنشاطي رغم البعد؟ - بفضل الصحف، شذرات من الأنباء عن رحلات ومعارك مع اليساريين، وتخيلت الباقي. - دعني أقرأ لك أفكارك، قلت لقد غرق في جمع المال وعبادته، نسي ولا شك أيامنا الماضية، وانحدر إلى الأمية وهو لا يدري!

فضحك وقد تورد وجهه حياء ثم قال مجاملا في الغالب: أثرت إعجابي ولكنه إعجاب لم يخل من أسف!

فتساءل وفيق: ألا يستحق الإعجاب الخالص من يصبح مليونيرا في أقل من خمس سنوات؟

هز رأسه هزة غامضة فقلت من فوري: لست غبيا كما تعلم، دعني أقرأ أفكارك مرة أخرى على ضوء فلسفتك، قلت عني لذاتك أنني ضيعت حياتي في سبيل استيراد سلع كمالية عاقبتها الحتمية تخريب الاقتصاد الوطني وخدمة الطبقة الجديدة وتعذيب عامة الشعب، ولا يمثل هذا الاستيراد إلا مزيدا من الاستعباد بخلاف العمل الإنتاجي الذي يمثل الضرورة والتحرير معا، أليس كذلك يا جلال؟

فضحك وجهه بلا صوت وركبه حرج الموافقة الصامت. عند ذاك هتف وفيق متناسيا أصول المجاملة: هذا ما يردده المخربون!

فقلت ملطفا من وقع كلامه: ليسوا وحدهم، صبرا، لكن اللوم لا يقع علينا بقدر ما يقع على من أذنوا بذلك.

فقال جلال وكأنما يستثقل نفسه: دعنا من التفصيلات، اعتبر - إذا شئت - رأيي حلما خياليا، من الناس من يأنس إلى الأحلام ليتزود بقوة يواجه بها قسوة الواقع، إنما أردت أن أهون لك من شأن الحياة التي انقطعت عنها وأزين لك الحياة التي حبست فيها، فهي ليست شرا خالصا كما قد تتوهم، ما هي إلا مرحلة عابرة إن شاء الله، ويمكن أن تجد فيها من المسرات الشيء الكثير.

فشكرت له مودته، ثم خضنا معا - باتفاق شعوري خفي لنتفادى من حدة وفيق - ذكريات مشتركة قديمة، فشرقنا وغربنا في متعة صافية ساعة نادرة من الزمان.

7

خلفت الزيارة وراءها رجة. قالت أفكار: لم أفهم كلمة واحدة مما قال هذا الرجل.

على هذا بدت منفعلة كالآخرين. وتظاهرت بالمرح وهي تتساءل: أهذا شأن أصدقائك القدامى جميعا؟!

فقالت نبيلة: إنه شخص جديد ومثير.

فسألها وفيق بحدة: ماذا تعنين؟

فقالت ساخرة: ليس جريمة أن يقول إن الحياة ليست المال فحسب!

فقال لها وفيق: دليني على فعل واحد في حياتك لا تعتمدين فيه على المال، كلامك يدل على أنك تعبدين المال، ولكنك تتنكرين لقيمته.

فقالت بعناد: إني معجبة به!

وتدخلت في الحديث قائلا: دعها وشأنها، ساءتني حدتك يا وفيق.

فقطب قائلا: إنه شيوعي حاقد. - إني أعرف صديقي خيرا منك. - من أين لك أن تعرفه بعد انقطاع ربع قرن؟ - لقد أراد أن يعزيني عن السجن. - لم تكن في حاجة إلى تعزيته. - شعر ولا شك بضيقي وكربتي. - إني أفهمه تماما يا بابا ولا تخدعني فلسفته، لقد جرب أن يثرى من المهنة ففشل، وما أكثر العفة المتولدة عن العجز!

فهتفت أفكار: صدقت، سأبخر القصر غرفة غرفة، لا يحتمل أحد أن يصير قرينه في الفقر مليونيرا من غير أن يحرقه الحسد.

فضحكت قائلا: الأفضل أن تعقلي فلسفته وتقلعي عن التبذير!

فقالت لي: أتريد أن تدعم حرصك بفلسفته؟ هيهات أن يجوز ذلك علينا!

ولما خلت الحجرة استبد بي الانفعال دون شريك. استعدت أقواله وأدمت التفكير فيها حتى قلت: لن أذوق النوم حتى أتناول المهدئ.

عاودتني الانتباهة فرجعت أنصت إلى صوت الزمن الجاري. رجعت أتساءل أين كان يختبئ. متى أنسى الكدر لأكتشف المتعة المتاحة؟ متى أسمع الأغنية فلا أسهو عن شيء من إيقاعاتها؟

8

خفت ألا يجيء جلال أبو السعود مساء الجمعة التالية فتلفت إليه. وقلت لأسرتي منبها: سأستدرجه إلى الحديث إياه، فمن كره منكم ذلك فلا يحضر.

وجاء في الميعاد فاستقبل بحرارة صادقة وكاذبة. ورحنا نتناول الشاي والحلوى. وفي أثناء ذلك نقل عينيه بين أفراد أسرتي وتساءل: ماذا قلتم عني بعد ذهابي في الجمعة الماضية؟

فقالت أفكار: كل خير يا دكتور.

فشكرها مبتسما. إنه ذكي وحساس ولذلك قلت له: إني أسعد بحديثك وهو يهمني جدا، وهم متفقون معي!

فقال ببساطة صادقة: المهم أن تنعم بمزايا حياتك المتاحة. - لدي الكثير كما تعلم ولكن يحز في نفسي الشعور بالسجن وانصراف الزملاء عن زيارتي!

فقال وفيق بحدة: إنهم أوغاد.

فقلت بعجلة: كلا يا بني، إنهم رجال أعمال.

ثم مخاطبا جلال: أنت نفسك لو كنت صاحب عيادة لما وسعك أن تزورني مرتين متتاليتين.

فقال جلال: يسرني أن تعالج أمورك بروح واقعية! - كل شيء طيب لولا إحساسي الأليم بفقد الحرية. - خيل إلي أنه هم بالكلام ثم عدل عنه فقلت له: لا تكبت الكلام فقد دعوتك لتتحدث ولأسمع.

فتساءل وهو ينطر نحو أسرتي: ونكدر صفو أعزة؟!

فقالت أفكار: تكلم يا دكتور، نريد أن نسمع مثله وأكثر.

فابتسم وقال: الأمر لله يا عبد الحميد، ماذا قلت عن الحرية؟ - تكلمت عن إحساسي الأليم بفقدها. - لكنك لم تفقد حريتك بسبب المرض! - ؟

فقال بهدوء: لكي تفقد شيئا يجب أن تملكه أولا وأنت لم تملك حريتك قط!

فضحكت قائلا: حذار من المبالغة فإنك لا تعرف ما يعنيه أن يكون الإنسان مليونيرا . - حقا؟! - كان بوسعي أن أفعل ما أشاء، أن أتغدى في روما وأتعشى في باريس إذا أردت. - أين الإرادة الحرة في ذلك؟ وراء كل فعل منها نزوة متحكمة!

تخيلت فتور أفكار وحماس نبيلة السطحي واستفزاز وفيق فلم أنظر ناحيتهم. قلت أستدرجه: بهذا المنطق نهدم فكرة الحرية من جذورها.

فقال بثقة: الحرية وهم يتراءى لخيال الإنسان العادي، وهو إنسان ميكانيكي في أغلب الأحوال. - قد يصدق كلامك على غمار الناس، ولكن يوجد أناس يمثلون القوة الفعالة المؤثرة في المجتمع.

فابتسم قائلا: اسمح لي أن أذكرك بالأشياء التي تقيد حرية الإنسان، لا لأنها مجهولة لمثلك ولكن لأننا نتناساها عادة في زحمة الحياة والغرور.

تنحنح ثم واصل: إنها تبدأ عملها في بطن الأم، بلا استئذان أو مشاورة، فتقرر لنا طولا ولونا وملامح، وأجهزة تنفس وهضم وأعصاب ذوات خواص محددة، وغرائز، وبعض الأمراض أحيانا، يتم ذلك كله قبل أن نرى نور الدنيا.

تذكرت تلك الحقائق وكأنها اكتشاف جديد، أما وفيق فقال باستهانة: نحن نسلم بذلك ولكن لا أهمية له!

فقال جلال: عندما يخرج الوليد إلى الدنيا تتسلمه أسرته، ثم تتكاتف على صبه في قالب جاهز من القيم والأذواق والتقاليد والعقائد وهو يتشكل بلا قدرة على الإدراك أو النقد أو الاختيار، أنت نفسك يا وفيق بك هل كان لك رأي في الصورة التي صورت بها؟

فتساءل بعناد: أي خطأ في ذلك؟

وقلت أنا: الوليد يتحول بذلك من حيوان إلى كائن حضاري! - نحن نناقش فكرة الحرية، تذكروا ذلك من فضلكم! - تفضل! - ثم تتلقاه المدرسة لتحكم حوله قالبا جديدا يهبه في النهاية عملا ورؤية للدنيا والأشياء، وينضم إلى المدرسة في عملها المجتمع كله ممثلا في أحزابه وجمعياته ونماذجه البارزة، الجميع طامعون في حريته ولو فعلوا ذلك باسم الحرية نفسها.

فقال وفيق بإصرار: ولكن سرعان ما يجيء حين فيعرف الشاب الاختيار والرفض بل والتمرد والثورة. - لست أنكر ذلك، ولكني أقصر حديثي الآن على القوى المتربصة بحريتنا ... ثم يجيء دور قوى جديدة خارج المجتمع، منها البيئة، وأثرها معروف في النشاط والكسل ، في القوة والضعف، في الإيجابية والسلبية.

وتريث لحظات وهو يبتسم ثم استطرد: هناك الأرض نفسها، الكرة الأرضية، فهي بجاذبيتها وحركتها تحدد له وزنا وأسلوبا في الحركة وحدودا لا يمكن تجاوزها، هناك أيضا الشمس وأشعتها وانفجاراتها الموسمية، بل هناك النظام الشمسي كله فيما نعرف من آثاره وما نجهل، ولك أن توسع تصورك حتى يشمل الكون كله ما ظهر منه وما غاب، الكون كله يؤثر في حريتنا ويكون لذلك نتائجه في سلوكنا وتصوراتنا، أما الإنسان الغافل فقد يعتقد أنه حر حرية مطلقة، أو أنه لا يؤثر فيه إلا عقدة أوديب، أو عوامل اقتصادية، ثم تجيء بعد ذلك قوى غريبة خارجة عن التصنيف المنطقي، تبدو عارضة لا معقولة، نسميها مصادفات أو ما شئت من أسماء، ولكنها مع ذلك قد تقلب الحساب رأسا على عقب في لحظة خاطفة، وهي لا حصر لها، مقابلة غير متوقعة، ضياع رسالة في البريد، حادث قطار أو سيارة، وسقوط جسم فجأة إلخ إلخ، فهل تستطيع أن تتجاهل القوى المؤثرة في حرية الإنسان وبالتالي في مصيره؟!

صمتنا صمتا ثقيلا. ثم ندت عن نبيلة ضحكة رقيقة. ضحك وفيق أيضا ضحكة باردة. تجلى حياء ناعس في وجه أفكار. قلت باهتمام حقيقي: إذن فأنت ترى يا دكتور أن الإنسان حجر أو حيوان على أحسن الفروض؟

فبادرني جادا: أبدا، إني أبعد ما يكون عن ذلك. - ولكن منطقك يسوقنا إلى ذلك؟ - إني أحصي القوى المؤثرة لكي نعد لها ما يتطلبه الدفاع من صبر ومثابرة وعلم. - كأن الحضارة أنشأها الكون لا الإنسان! - بل أنشأها الإنسان بفضل ظمئه الخالد للحرية، كما قلت، إنه لم يتحرك بإغراء اللقمة ولكن ليتحرر من الجوع، الحضارة معركة مستمرة بين الحرية والقوى المؤثرة، الآلة تحرير من عبودية السخرة، الدواء تحرير من المرض، العلم تحرير من الجهل، الطيارة تحرير من الجاذبية، السرعة تحرير من الزمن، كذلك المذاهب، فالدين تحرير للروح، الإقطاع كان تحريرا من الفوضى، الليبرالية كانت تحريرا من الإقطاع، الاشتراكية تحرير من الليبرالية، معركة مستمرة بلا نهاية ...

وتفكر قليلا ونحن نتابعه بعواطفنا المتناقضة ثم قال: المأساة، ولعلها ليست بمأساة، أنه ما من جديد يجد إلا ويجيء معه بقدر من الحرية وقدر من الاستعباد الجديد، فالآلة تحرر اليد وقد تأسر الروح، السلع الجديدة تشبع وتمتع وقد تحجب عن الإنسان مصيره، الإقطاع حرر من قطاع الطرق وفرض الرق، الليبرالية حررت المواطن من الحكم المطلق وجاءت بالاستغلال الاقتصادي، الاشتراكية حررت الإنسان من الاستغلال وسيطرت عليه بالبيروقراطية أو الدكتاتورية، ولذلك فلا نهاية للمعركة ولا للابتكارات ولا للمذاهب حتى يظفر الإنسان بحريته الكاملة ويصبح قولا وفعلا سيد مصيره، لذلك علينا دائما وأبدا أن نكون مع كل جديد بقدر ما يعد من حرية، وأن نكون على استعداد للتخلي عنه كلما جد جديد أفضل أو رجحت كفته السالبة.

ونقل ضوء عينيه بين وجوهنا ثم ابتسم بارتياح ومضى يتساءل: ولكن ما دور الفرد - كفرد - في هذه المعركة لكي يحرر إرادته ويحسن الاختيار؟

وبعد لحظات من الصمت أجاب: عليه أن يقتنع بأن «الذاتية» هي سبيل العبودية، وأن الموضوعية هي سبيل الحرية، الاختيار الحر يقوم على الموضوعية، وإلا أذعنا إلى غريزة ونحن نتوهم أننا نمارس عاطفة، أو سايرنا عاطفة ونحن نعتقد أننا نلبي العقل، ولكي يحدث الانسجام والتوازن بين الغرائز والعواطف والعقل فلا بد من تربية الإرادة تربية تبلغ بها ذروة القوة، وبكل إنسان سليم من الصبر ما يستطيع به أن يربي إرادته ويتغلب على ضعفها وتراخيها، في الإنسان قوة كامنة تضارع قوة الذرة.

وأغمض عينيه قليلا ثم فتحهما قائلا: أتذكر النظرة الذاتية للكون التي جعلتنا نتصور أننا مركزه؟ أتذكر النظرة الذاتية للمجتمع التي تغريك بالدفاع عن طبقتك وأنت تتخيل أنك تدافع عن الإنسانية؟ أتذكر النظرة الذاتية إلى المرأة التي تدفعك إلى الإيمان بسيادة الرجل وأنت تعتقد أنك تبشر بطبيعة الأشياء؟ اتجه نحو الموضوعية متحررا من أي عبودية، عند ذاك تمارس الاختيار الحر، وتمضي في سبيل السيادة الحقيقية، وتقترب خطوة خطوة من طريق الأشواق الأبدية المضنون به على غير الأحرار.

9

قالت أفكار وهي تتثاءب: أكون مجنونة لو حضرت مجلسه بعد الليلة.

وقالت نبيلة: إنه مثير ولكنه سيتقلب مضجرا.

وقال لي وفيق: إنه مجنون فيما أرى، ما رأيك بصراحة؟

فقلت متظاهرا بالمرح: لم يعد لي من تسلية سواه.

فقال بحنق: لقد أجنه الفشل، كان الله في عونك.

أثارني حديثه لدرجة لم أقدرها. لم تكن لتحدث في ظروف أخرى. عدت أسمع صوت الزمن. فيما مضى كنت شريكه في الاطلاع والفكر. اليوم أصبحت مجرد مستمع ذاهل. ماذا أكون وماذا تكون أسرتي؟ أحرار أم عبيد؟ بدا السؤال مضحكا. السوق، المكتب، النقود، الثرثرة، التحف، القمار. هل أمضي من المرض إلى احتقار الذات والأهل؟ ترى هل يمكن تربية الإرادة؟ هل يمكن تربية الإرادة بالإرادة؟ التغيير أهم من القراءة والرؤية والسماع. إني أسمع وأرى وأقرأ ولكن ما جدوى ذلك؟ هل يجاوز التسلية العابرة وقتل الوقت؟

وامتعضت امتعاضا شديدا. عز علي قلقي واضطرابي. بوسعي أن أنسى ما سمعت، أن أقطع الصلة الجديدة، أن أهزأ منه. ولكن وراء السطح المحتدم قبعت لهفة تتشوق إلى عودته. لقد جلا الصدأ عن نفسي وبعث الشخص القديم. - ألا يعد صوته إغاثة للمريض من وحدته؟

10

انفعلت انفعالا سعيدا متجددا بزيارات جلال أبو السعود الدورية. وسعدت بصفة خاصة لانفرادي به بعد أن أضربت الأسرة عن شهود مجالسنا. وعاصرنا الخريف بجوه المنعش، وشمائله العذبة، وألوانه البيضاء، ونفثاته الموحية، فهو ربيع وطننا بلا شريك، ولدى أول زيارة انفرادية قلت له دون حذر من رقباء: والله زمان!

فألقى نظرة على الحجرة الخالية وتمتم ضاحكا: هرب المستمعون! - هذا أفضل.

فقال بأسى: يندر أن يطيب حديثي لأحد ولكني لا أكف عن الكلام.

ذلك ما أعده من حسن حظي. إنه يتحدث عن تجربة شخصية حميمة، عن معركة يخوضها بكل قوته، وبتصميم رائع على تحدي اليأس.

وذات مرة قلت له: أتذكر الحكمة التي قرأناها معا في ماضينا «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»؟

فحنى رأسه الأصلع بالإيجاب فقلت: أحاديثك المثيرة أعادتها إلى وعيي.

فقال باهتمام: أعتقد أننا فهمناها على غير حقيقتها. - لكنها واضحة تماما. - لا أوافقك، يجب أن تكون دعوة للموت في هذه الحياة التي نحياها!

فقلت ضاحكا: فال الله ولا فالك.

فقال جادا: لن يعزينا انتباه ما بعد الموت عن الغفلة الطويلة في حياتنا.

ففكرت في قوله تمشيا مع رغبتي في المشاركة ونبذ دور المستمع السلبي، أما هو فمضى يقول: علينا أن نموت في هذه الحياة. - لا أتصورك قائلا أبدا. - في عنق كل منا جريمة قتل عليه أن يرتكبها.

فقلت لأقنعه بأنني بت أفهمه: تعني أن يقتل نفسه! - إذا وفق إلى قتل نفسه المستعبدة تحرر ووهب الانتباه! •••

وفي زيارة أخرى بادرني بسؤال عجيب: أتذكر نفسك التي آختني في عهدنا القديم؟

فقلت من فوري: طبعا. - أشك في ذلك، كان شخصا آخر تماما، في خلاياه وشكله ووزنه وفكره ورؤيته. - إني أتذكره على أي حال كلما أردت ذلك. - أشك في أنك تتذكره تماما، ولقد تتابع عليك مئات الأشخاص المختلفين لا يكاد يجمعهم إلا اسم «عبد الحميد حسني».

فقلت وأنا لا أدري مقصده: هذا طبيعي جدا. - الطبيعي أن يكون الإنسان «أنا» واحدا. - وهو كذلك بمعنى من المعاني.

فابتسم لحيرتي ثم قال: انتبهت ذات يوم - وكنت في أول الطريق - إلى تعدد شخصياتي، فسجلت بعضها في مذكرة اليوميات.

قاطعته متسائلا: لك يوميات؟ - نعم هذا ضروري جدا لمن يروم النجاح، المهم، اليك ما سجلته على قدر ما أذكره، وهو يوم واحد: (1)

في الصباح الباكر، نزاع حاد مع زوجتي بسبب المصروف، اتهام مني لها بالإسراف واتهام منها لي بالجهل. رميتها بالتمرد فرمتني بالرجعية، الحالة النفسية انفعال غضب ... ذاتية ... كذب ... ميل إلى الاستبداد ... خوف من المستقبل بلا أساس ... إرادة مشلولة ... عقل أسير ... عاطفة عمياء ... عاطفة في قبضة غريزة ... (2)

قبيل الغداء بمستشفى ميت غمر، حديث مع زميلة طبيبة مولدة شكت إلي زوجها وعقده، ظهر في «أنا» جديد، حديث مني عن الرجل والمرأة في ضوء حقوق الإنسان، شعارات عصرية مبهرة، الحال النفسية هادئ مرتب الأفكار ... كذاب لإرضاء الزميلة ... خائف من تهمة التخلف ... خيالات جنسية عارية ... (3)

العصر، في حجر الأطباء، بروز «أنا وطني» مائة في المائة، حملة على الاعتداء الثلاثي، تأييد للثورة في محنتها، دفاع عن حكمها الدكتاتوري، تبرير الدفاع بأن لقمة العيش أهم من الحرية لدى تسعين في المائة من الشعب، الحال النفسية خوف من الغازات الجوية، كذب فيما يتعلق بالحرية، العقل مكبوت، الإرادة مفقودة، تمزق بين حب الوطن ورفض أسلوب الحكم. (4)

المساء في النادي مع زميل منحدر من أسرة إقطاعية، تبلور «أنا» رابع، تصريح مني بأن الغزو وإن يكن شرا في ذاته فلن يخلو من خير إذا حررنا من عصابة الضباط، موافقة على رأي الزميل بأن الحكم البريطاني كان أفضل من حكم الثورة، الحال النفسية كذب ونفاق وخوف وتمزق وحزن عميق.

وهكذا يا عزيزي، كل أنا شخص جديد في عواطفه وأقواله وأفكاره ورؤيته للحقيقة، فالإنسان مفقود الوحدة فريسة للكذب والخوف، لذلك يعيش إنسانا بلا إنسانية ...

فقلت منفعلا غاية الانفعال: على هذا الأساس فإن الفرد في الواقع شعب كامل! - نطقت بالصواب ... ولكن لا بد من التسجيل لتتجسد الحقائق، لا تعتمد على التذكر، فهو وهم كالحرية المزعومة وكالصديق المزعوم، وعندما تتجسد الحقائق يعبئ الإنسان إرادته لتغيير ذاته، ولخلق الانسجام والتوافق بين الغريزة والعاطفة والعقل، ليؤدي كل وظيفته الطبيعية بلا كبت ولا طغيان على الآخرين ...

فسألت باهتمام شديد: هل تكفي الإرادة لإحداث هذه المعجزة؟

فقال بهدوء: ثمة شرط أساسي، أن يحدد الإنسان لنفسه غاية عليا! - لا يخلو إنسان من غاية. - وهم جديد يا عزيزي عبد الحميد، الغالبية العظمى من البشر لا تعرف لها غاية عليا، أجل لكل أنا غاية قريبة، وهي غايات متضاربة تخضع لميكانيكية الحياة اليومية، ولا بأس بها ولا ضرر منها إذا هيمنت عليها غاية عليا، ولا وحدة للإنسان إلا بهذه الغاية المنشودة!

فسألته بشغف: وما هذه الغاية يا ترى؟ - عليك أن تجيب على السؤال بنفسك، لقد اجتهدت من جانبي واخترت الحرية كما قلت لك.

فكرت فلم اقتنع وقلت: الإنسان يتميز بالعقل فيجب أن تكون الحقيقة هي غايته العليا.

فقال باسما: لا اختلاف بيننا في الواقع، ألم أقل إن الحرية والحقيقة الموضوعية شيء واحد؟ ألم أقل إن الذاتية هي العقبة الكئود في سبيل الحرية؟ فالعقل الحر وحده هو القادر على معرفة الحقائق.

فقلت وكأنما أخاطب نفسي هذه المرة: يلزمني اطلاع كثير وتفكير أكثر.

الأهم أن تبدأ فورا بتربية الإرادة، فلا اطلاع ولا تفكير بلا إرادة، إن ضعيف الإرادة يطلع ويفكر أيضا ولكنه يتشتت في أحلام اليقظة، انتهز فرصة السجن فهي نادرة خاصة لرجل مثلك، والطريق ليس باليسير، هو قضاء كامل على حياة زائفة ممتدة طولا وعرضا وعمقا، هو اختيار كلمة أو سلوك أو اختيار على ضوء غاية عليا محددة، وستواجه به أهوالا لا تخطر بالبال، وتطالب بتضحيات لا حصر لها ولا حد، بدءا من تعاملك مع أسرتك وزملائك وانتهاء إلى مواقفك من النظم والدولة والطبيعة وما وراء الطبيعة.

وشملنا صمت غير قصير، ثم ابتسمت في حيرتي وسألته: هل وصلت؟

فأجاب بنبرة محايدة: كلا، ولكني أحرز نجاحا يوما بعد يوم.

ثم متسائلا في أسى: وما قيمة وصول فرد واحد أو عدة أفراد بين آلاف الملايين من البشر؟ - دعنا من الخيال. - ولكن لا قيمة لخلاص تحظى به قلة.

فقلت له على سبيل التعزية: قد يحدث التطور المعجزة.

فقال بازدراء: التطور الحقيقي لا يجيء إلا من الداخل.

فقلت ضاحكا: ستمحى المجموعة الشمسية قبل أن يحقق آلاف الملايين التطور الذي تحلم به.

فقال محتجا: لم يوجد شيء عبثا.

فسألته استجابة لخاطرة طارئة: هل تفكر في نشر يومياتك؟

فحنى رأسه موافقا، فسألته: متى؟ - لم أحدد الوقت بعد، سأنشرها عندما يسعني أن أحدد الوقت بحرية. - ماذا تعني؟

فقال باسما: عليك أن تفهم ما أعني بنفسك، ولا أهمية لذلك.

فلم أشأ مضايقته. وخطر لي خاطر فقلت: يذكرني طريقك بالتصوف؟

فقال بسرعة: كلا، التصوف أرستقراطي وطريقي شعبي، التصوف مقاماته التوبة والفقر والتقوى والتواكل ... إلخ، أما طريقي فمقاماته في الحرية والثقافة والعلم والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والحزبية والعقيدة، التصوف يجعل من الشيطان العدو الحقيقي للإنسان أما الطريق فعدوه يشمل الفقر والجهل والمرض والاستغلال والطغيان والكذب والخوف ...

فضحكت وقلت: لعلك تعدني ضمن الأعداء؟

فضحك مثلي ولاذ بالصمت.

11

أول عهدي بالمرض نشدت التوافق مع الواقع، وقهر الضجر بالرؤية والسمع والقراءة، أي بالتسلية والمتعة والفكر. أجل فكرت كثيرا ولكنه كان تفكيرا يستهدف جلاء الحقائق وتذكر الوقائع ولا غاية وراء ذلك. وباقتحام جلال أبو السعود لحياتي انبثق منها تفاعل كيماوي ولع بالتغيير وحلم به قبل كل شيء. لم آخذه مأخذ الجد من بادئ الأمر فلم أخش عواقبه، وتصورت أنني سأتخلى عنه عند لوح الخطر. ولكن فكرة التغيير مضت تلاعبني لعب القط بالفأر، بهرتني مثل نجمة الصباح. وعقدت مقارنات خيالية بين أسرتي وبين حلم جلال فشعرت بما يشبه الغثيان. إنهم ثمرة حياتي وتربيتي لعنت الشجرة والثمرة. وساءلت نفسي في قلق محموم: أأنا جاد حقا؟!

أولئك المولعون بالتحف والثرثرة والمال ولع الأطفال بالحلوى كيف أحادثهم عن غاية عليا؟!

وهتفت بضيق شديد: أيتها الحياة المحيرة، لا أدري أينا ضحية لصاحبه.

وكلما ألح علي الأرق تساءلت: أأنا جاد حقا؟! •••

وفي زيارة لجلال أقدمت على خطوة جديدة وهامة، بعد تردد معذب طويل كنا نطرق باب الشتاء، وقد أمطرت السماء مطرة خفيفة واحدة قلت لجلال: فليسامحك الله على ما فعلت بي.

فضحك قائلا: لا تخجل تواضعي!

فرمقته بتحد وقلت: أريد أن أطلع على يومياتك.

فرفع منكبيه استهانة وقال: أكثرها لا يختلف عن يومياتك التي لم تدون، الأفضل أن تسجل ذكرياتك! - ألم تقل إن التذكر وهم؟ - ولكن الوهم ينقشع بتربية الإرادة. - ولم تضن بها؟ - لدي أسباب، وقد أطلعك عليها في ظروف أخرى.

لم ألح عليه أكثر. وركزت على النية التي أنتويها. قلت: يخيل إلي أنني راغب في دخول تجربتك!

فثقبني بنظرة جامعة بين الحذر واللهفة ثم تمتم: حقا؟

فقلت مبادرا: أنا لا أكذب أبدا.

وسرعان ما تذكرت حديثه عن الكذب والخوف فقهقهت على رغمي وقلت كالمعتذر: في الأقل فيما يتعلق بهذه الرغبة!

لم تغض نظرة الحذر من عينيه فتساءلت: لم تشك في؟

فقال بهدوء: هذه الرغبة تسبق عادة برغبة أخرى. - ما هي؟ - أن تعترف بخبايا حياتك التي تؤرقك.

فهتفت من فوري: هذا ما يلح علي، هذا ما صارعته حتى صرعني.

فقال بارتياح: انتظرت طويلا أن أسمع منك ذلك حتى كدت أيأس منك، أشهر مرت وأنا أنتظر! - لم أتصور أن يكون للاعتراف كل هذه الأهمية. - بل إنه يقطع بأنك دخلت التجربة وأنت لا تدري وأن إرادتك بدأت تعمل ...

فشملني سرور صبياني أما هو فواصل: كنا شابين مجتهدين فقيرين، هدفهما عمل يوفر الرزق. وثقافة تثري الحياة، ماذا حدث بعد ذلك؟

قلت بلا تردد: توظفت، تزوجت، أنجبت، واصلت حياتي الثقافية، حققت الحلم كما ترى ...

لم يعلق بكلمة فقلت: ثم قدمت استقالتي من الوظيفة.

لزم صمته دون دهشة أو تساؤل فأدركت أنه يأبى مساعدتي ليتوكد من صدق رغبتي. قلت: الحقيقة أنني اضطررت إلى الاستقالة.

لم يتأثر حياد وجهه فقلت: كنت مراجعا بحسابات الأشغال، وكان مقاولا ممن يتعاملون مع الوزارة، ندت عنه كلمة فوجدتني أمام إغراء لم يعرض لي من قبل، اقتلعني من مستقر حياتي، اكتشفت أنني أنطوي على رغبات أخرى غير الثقافة والسعادة البريئة، ثمة حياة أفضل، ترددت طويلا ثم مددت يدي، وكان لي منطقي أيضا المستمد من مناخ فاسد، وتوهمت أنني أطبقه بحرية كاملة.

حولت عيني إلى الأمام وقلت: الانحدار لا يعرف التوقف، فاحت الرائحة، لا أطيل عليك، اضطروني إلى تقديم استقالتي على سبيل العطف ...

عطفت إليه عيني فكأنما لا يسمع ما يقال، قلت: وجدتني مهددا بالجوع فكدت أجن لولا أن ألحقني المقاول بمكتبه.

هل أكتفي بهذا القدر؟ ماذا يعني عن التراجع؟ وساد الصمت حتى قال بلا اكتراث: عرفت قبلك مشقة الصدق.

كأنما يقرأ أفكاري. وقلت مستهترا: اعترضتني أزمة لعينة ... (ثم بعد صمت) ... عشق المقاول راقصة أجنبية، لم يكن من الميسور في ذلك الوقت أن تمد إقامتها في مصر ما لم تتزوج من مصري ... (ثم بعد صمت) ... قبلت أن أتزوج منها سرا نظير هبة مالية محترمة.

شعرت بإعياء فطال صمتي حتى تساءل: بتلك الهبة فتحت مكتب الاستيراد؟

فقلت بنبرة مرهقة: بدأت بالتهريب نظرا لتشدد القوانين في تلك الأيام، ثم فتحت المكتب بعد ذلك، ثم انفجر النجاح بعد الانفتاح حتى بلغت ثروتي السائلة خمسة ملايين من الجنيهات.

شملنا صمت ثقيل فوجدت تعزية في صفحة وجهه الذي لم يخرج عن حياده التام. وقال بهدوء: أشياء تحدث كثيرا ما تحدث، أما الاعتراف بها فلا يحدث أبدا.

فتمتمت: إنها نسافة مثل الديناميت ... - الديناميت لا يهم من يرغب في دخول التجربة، وسوف تجد في يومياتي خطايا كثيرة. - هل تأذن الآن في اطلاعي عليها؟ - لا علاقة بين هذا وذاك، ستجدها بين يديك في الوقت المناسب لا قبل ذلك ...

فشبكت يدي في بعضهما وقلت: أخاف على أسرتي من قرارات قد أتخذها يوما فيرونها جنونية.

فقال باسما: عندما تصبح قادرا على اتخاذها فلن تزعجك المخاوف. - يجب أن أصمد حتى النهاية. - في الإنسان قوى لا حدود لها، ثق من ذلك.

فقلت متأسفا: مرضي يشككني أحيانا في قيمة رغبتي، أريد أن أختبر نفسي وأنا صحيح معافى ... - تفكير تستحق من أجله الثقة ولكن المرض وحده لم يكن ليغيرك ...

فداخلني ارتياح وسألته: أمن الصواب أن أسألك الإرشاد عند الضرورة؟ - كان لي مرشد أيضا، المعاونة هامة وضرورية. - فازددت ارتياحا ثم خطر لي خاطر فسألته: هل نجحت مع أسرتك؟ - لدرجة كبيرة، لا تنس أن النساء تستغرقهن الغايات اليومية، ولكنهن في النهاية يشاركن الرجال في أعماقهن الإنسانية. - أظن أنه يجب أن أربي نفسي أولا قبل أن أكر عليهم؟

فهز رأسه نفيا وقال: من الضروري أن تسبقهم بالرغبة والخطوات الأولى، ثم عليك أن تشركهم في التجربة، فالمقاومة الأولى مهمة جدا باعتبارها مقويا لا غنى لك عنه، ثم يجيء التعاون المثمر، تذكر دائما أن عملنا تعاوني وليس فرديا.

فتمتمت في حيرة: إنهم في واد بعيد ... بعيد ... - انتشلهم من الفراغ وادفعهم إلى العمل، هذه هي الخطوة الأولى ...

فتساءلت في دهشة: أنسيت ما قلت مرارا عن التحرر من العمل؟

فقال بوضوح: نحن في مرحلة العمل، ولن نتحرر من العمل إلا بالعمل، والفراغ المنشود هو الفراغ المثمر الحافل بالعمل الإنساني، وقد أقنعت زوجتي - وهي تماثل زوجتك في تعليمها - بالعمل عضوا في جمعية رعاية الأيتام، ابنتي الكبرى ست ومربية وهو عمل، أما الأخريان فستكونان طبيتين. - المشكلة العسيرة هي وفيق فهو يعتقد أن عمله غاية الغايات.

فقال بأسى: إذا اعتبرنا العمل نشاطا منتجا لخدمة الفرد والجماعة فوفيق عاطل بلا عمل، الأدهى من ذلك أنه يقوم بنشاط مخرب، وهو أشبه بتجار الحبوب المخدرة القاتلة!

بذلك كشف عن رأيه في عملي أنا أيضا فليس وفيق إلا امتدادا لي. أخذت لحد الفزع ولكني قلت: أمره هين رغم ذلك. - كيف؟ - إني صاحب المال، وأستطيع إرغامه على التحول إلى النشاط الإنتاجي!

فهتف: احذف «الإرغام» من قاموسك، لا تتبع طريق الحكام الذين يمهدون للديمقراطية بمناهج دكتاتورية، أو يحققون العدل بالظلم، إنه طريق سهل لأنه يقوم على القوة لا التربية.

وصمتنا ولكننا واصلنا تبادل الأفكار بالنظرات حتى اقتحمني خاطر كما يقتحم القذى فقلت: سوف ألقى من المجتمع حرجا أشد!

فوافقني بهزة خفيفة من رأسه فقلت: طالما عددت من العمد المرضي عنها.

فقال بوضوح: لن يتيسر لك السير إلا بقهر الكذب والخوف.

12

مضى الشتاء وأنا أحاول لأول مرة الكتابة، كتابة المذكرات. لم أكن أتذكر إلا المعالم التي لا تنسى وهي قليلة، ولكن التداعي استنقذ من العدم كهوفا مطمورة. وعن سياستي مع أسرتي فقد دأبت على عرض آراء صديقي وكأنما أقصد تسليتهم ليس إلا. وأجاريهم في اتهامه بالخبل ولكني أقول أحيانا: حقا إنه مخبول ولكن خبله لا خطر منه، ثم إنه لا يخلو من حكمة، أليس من المهم أن يقوي الإنسان إرادته ليحظى بحريته الحقيقية؟ وأليس العمل المنتج خيرا من النشاط الانتهازي؟! - وأثنى جلال على منهجي، ووصفه بأنه منهج «تسللي» ذو أثر فعال مع التكرار والصبر، والإصرار حيال ضجر الآخرين.

وقلت له يوما بشأن مذكراتي: لم أستطع حتى الآن تسجيل واقعة زواجي من الراقصة الأجنبية!

فقال بامتعاض: يسوءني أن أسمع ذلك، إن كذبة واحدة تقوض البنيان من أساسه. - لا يعلم به إلا ثلاثة، المرأة وقد طلقت من زمن وغادرت البلاد، أما أنا والمقاول فلنا مصلحة واحدة في إخفائها، وهي كفيلة إذا عرفت بالقضاء علي في الأسرة والمجتمع. - التسجيل مهم لتربيتك أنت، أما النشر فلا أهمية عاجلة له. - قد تطلع عليه الأسرة بعد وفاتي؟ - إذا نجحت في تغيير الأسرة قرأتها بعين جديدة لا خوف عليك منها.

بدأت - رغم اهتمامي الظاهر - كمن يمارس تسلية ممتازة في سجنه ولكنها مضت تنشب في أناملها الناعمة بلا توقف.

13

في ليلة من ليالي الشتاء الملتحمة بالربيع استمعت إلى ألحان شرقية قديمة بعمق وتركيز اكتسبتهما أخيرا ثم أطفأت النور مستقبلا نوما مريحا. كانت أفكار ونبيلة ووفيق في الخارج كالعادة وسرعان ما استغرقت في النوم. ولكنني انتبهت من نومي مكللا بشعور بأنني لم أنم إلا قليلا وأن الصباح ما زال بعيدا. طالعتني ظلمة مكثفة بالستائر المسدلة فأغمضت عيني غير أنني سرعان ما فتحتهما استجابة لصوت غريب يشبه الحفيف. تخايل لعيني شبح إلى يمين الباب فتساءلت: أفكار؟

لكنه لم يرد ولم يتحرك. عجبت لرؤيته رغم الظلمة الكثيفة، حملقت فيه متلقيا دفقة من القلق والخوف. مددت يدي نحو ظهر الفراش حتى عثرت على زر الجرس ثم ضغطت عليه طويلا وقد ضاعف عجزي من خوفي. سيسمع الخدم، وعسى أن يكون وفيق قد رجع. ولما طال الانتظار تسللت يدي الأخرى نحو زر الأباجورة وضغطت مجازفا بالمواجهة ولكن المصباح لم يضيء. هل احتاط الشبح وقطع التيار الكهربائي؟ أخرجني الخوف من صمتي فتساءلت: من أنت؟

ثم مستمرا بصمته. - ماذا تريد؟ ليس في الحجرة نقود!

وإذا بشبح ثان يتراءى لي إلى يمينه أطول منه بقبضة يد. اندفعت صارخا مناديا وفيق ولكن صوتي لم يخرج. لعله الخوف أو الشلل. وسيطر اليأس. وإذا بثالث يقف إلى يمين الثاني على مبعدة مترين من مقدم السرير، وإذا برابع يتجلى رغم الظلمة وهو أضخم الأربعة وأطولهم. امتلأت بوحدتي وعجزي ويأسي المطلق. تساءلت باستسلام: ماذا تريدون؟

فجاءني صوت خيل إلى أنني لا أسمعه لأول مرة يقول: من حفر حفرة لأخيه ...

فقلت بحرارة: أي حفرة؟! إني طريح الفراش منذ حوالي العام ...

فقال الصوت بغضب: كففت عن الحركة لا التآمر! - والله لا أدري لقولك معنى ...

فقال بحدة: لا تدع البراءة وأنت عريق في الإجرام.

ووثبوا وثبة واحدة. اثنان إلى يميني ويساري، والآخران فوق الفراش. أيقنت بالهلاك فتوترت أعصابي لأقصى حد. قبض الأولان على ذراعي فاندفعت أقاومهما بعنف لأخلص ذراعي، متوقعا في الوقت نفسه هجمة من الأمام. ووقع الهجوم فاستمددت من اليأس قوة. خلصت ذراعي ورحت أضرب كيفما اتفق في جميع الجهات وأتلقى من اللكمات ما لا يعد. ازددت عنفا، ثم بلغت الرغبة في الحياة ذروتها فطرحت عن صدري الرجلين وتبادلت مع الآخرين ضربا لا يعرف الهوادة. وسقط رجلا الفراش على الأرض، ولكن كيف سقطا؟ تبين لي أنني دفعتهما بقدمي!

ذهلت من الفرح رغم كربتي واجتاحني الشعور بالشفاء من العجز.

ازددت قوة وثقة حتى استطعت الوثوب إلى الأرض. وقفت أقاتل بقدرة كالإلهام بعد حدوث المعجزة، ووضح أنهم أضعف مما تصورت وأنهم عزل من السلاح. تقهقروا نحو الباب وأنا أتعقبهم باللكمات الصادقات حتى بلغنا الصالة الخارجية. ودوت صرخاتي الغاضبة وهم يولون الفرار.

14

شع الضوء فبهر عيني.

وقفت مذهولا بين أفراد الأسرة والخدم. هتفت نبيلة: شفيت يا بابا!

وتمتم وفيق: كابوس! ولكن شكرا له!

وقالت أفكار: علينا باستدعاء الطبيب في الحال!

رجعت إلى الفراش ماشيا في حذر، وشملتني مع الذهول فرحة طاغية، وجعلت أقول: لا أصدق ولا أتصور!

وقهقهت أفكار متسائلة: ماذا رأيت في نومك؟!

15

جمعنا لأول مرة بهو الاستقبال. قلت: أكد لي الدكتور صبري حسونة أنه كان يتوقع لي الشفاء.

فقال جلال أبو السعود: أنا لا أصدقه تماما.

ثم حدثته بالتفصيل عن الحلم فأوله بأنه ترجمة حرفية لآلام الشفاء. - تأويل معقول فيما أرى ...

فقلت بإصرار: أعتقد أن الحلم هو كل شيء.

فتفكر قليلا ثم قال: بين الحقيقة والخرافة خيط رفيع، فاحذر أن تقصفه.

فتساءلت: ألا تؤمن؟

فقاطعني: أود أن تركز على إرادتك الحرة.

فقلت له بإصرار: الأمر يتعلق بآمال الإنسان في الحياة وما وراء الحياة.

فقال بهدوء: طريقنا منهج ينتفع به المنتمي واللامنتمي على السواء. - طالما قنع إيماني بالقشور وأريد أن أعيد النظر في موقفي.

فقال باسما: وهي وحدة حتمية إلى إعادة النظر بعد تنقيته من العبودية والذاتية.

فقلت برجاء: أرجو ألا تضجر مني. - سأنتفع بك بقدر ما تنتفع بي.

وخطر لي خاطر فقهقهت قائلا: أسرتي سعيدة بشفائي، ولكنها لا تدري شيئا عما ينتظرها من متاعب.

فضحك قائلا: العبرة بالخواتيم!

وكنت فريسة للقلق مما بدا أثره في حركات يدي ونبرات صوتي. ولحظت أنه يرنو إلى يدي بعمق فقلت كالمعتذر: إنه ما يسبق الميلاد ...

قرار في ضوء البرق

1

مصرع عصمت البطراوي أشد الجرائم إثارة في زمن مضى. بادرت إلى فيلته بعمارة النيل في صحبة كبار رجال الأمن، استجابة لبلاغ ورد لنا من ابنه الشاب الجامعي أمين البطراوي. وجدنا السياسي العجوز منطرحا فوق مقعد كبير بحجرة الاستقبال والدم ما زال ينزف من رأسه وقد تحول إلى جثة هامدة.

هكذا انتهى الجبار الذي أدمن الكاريكاتور المصري تقديم شخصه - إبان عهده - في صورة سفاح ذي صلعة على هيئة بحيرة من الدم. لم يكن ثمة أثر لمقاومة، ولم يسمع الخدم حركة ولا صوتا، فقد قتل غدرا وهو سابح في هدوء الشيخوخة، وهذه أداة القتل ملقاة على حجره ملوثة بدمه، تمثال برنزي لرياضي إغريقي، وبالتدقيق في التنقيب عثرت على زرار فوق السجادة وراء المقعد مباشرة. زرار لبني ذي مركز ضارب للسواد. ولما كانت زراير بدلة الفقيد كاملة العدد فقد احتفظت بالزرار بعناية.

يبدو أن الجريمة ارتكبت في الساعة الحادية عشرة أو بعدها بقليل، وبالفيلا وقتذاك الطاهي والسفرجي ومدبرة البيت؛ إذ إن الرجل أرمل منذ سنوات. وقد تلفنوا بالخبر إلى أمين في النادي الذي أبلغنا من فوره. وكان من عادة الرجل أن يغادر مسكنه في التاسعة صباحا فيمضي ماشيا إلى كازينو الشاطئ، حيث يلبث ساعة ثم يرجع ماشيا أيضا. وهو يدخل المسكن بمفتاح خاص فلا يشعر به أحد غالبا، وهو ما حدث صباح اليوم. غير أنه قابل المدبرة في حجرة الجلوس وقال لها: «يبدو أن أمين ذهب إلى النادي»؟

فأجابت بالإيجاب فأمرها بإعداد فنجانين من القهوة وذهب. استنتجت المدبرة أنه رجع بصحبة ضيف، ودهشت لذلك؛ إذ إنه لم يحدث من قبل، وهو يمضي أمسياته في النادي مع القلة الباقية من أصدقائه القدامى المعروفين. وجميعهم قد جاوزوا السبعين أو شارفوا الثمانين. ولما ذهب السفرجي بالقهوة إلى حجرة الاستقبال رأى سيده قتيلا فصرخ معلنا الجريمة لأول مرة.

إذن قد ارتكبت الجريمة بسرعة نادرة وجرأة متهورة ثم تسلل القاتل خارجا. وبالبحث أيضا تبين أنه لم يسرق شيئا، لا من الرجل ولا من المسكن. وقال لي رئيسي همسا: القاتل من معارف الفقيد.

فوافقت من فوري فقال: طريقة القتل تقتضي قوة فلنستبعد الأصدقاء القدامى فضلا عن سخف التصور لأكثر من سبب.

فوافقت من فوري أيضا.

فاتجه نحو أمين البطراوي وسأله: من في تصورك يمكن أن يصطحب المرحوم إلى هنا؟ - لا أحد فيما أعتقد. - ألا يزور البيت أحد من خارجه؟ - أصدقاؤه القدامى في ظروف نادرة مثل المرض أو الولائم. عدا ذلك فهم يتلاقون في النادي مساء كل يوم تقريبا. - وغير أولئك، أليس لك أنت أصدقاء أيضا؟ - بلى، لي صديقان حميمان وزميلان في كلية الحقوق لكنهما لا يدخلان البيت إلا بصحبتي وفضلا عن ذلك، فنحن نتلاقى عادة في النادي.

تكلم بلهجة رافضة كل الرفض للشك فيهما، فسألته: هل يعرفهما المرحوم؟ - قدمتهما له بطبيعة الحال ورآهما أكثر من مرة معي هنا. - هلا حدثتني عن ميولهما السياسية؟ - جلال حمزة وطني لا لون حزبيا له، ولكنه رافض. - رافض؟ - أعني ينتقد كل شيء! - الآخر؟ - علي فؤاد ...

وتردد قليلا ثم قال: ديمقراطي ... - البلد كله ديمقراطي.

لكنه لم يزد على ذلك شيئا فحدجني الرئيس بنظرة خاصة فحواها الاهتمام بهذا الجانب. وعندما خلوت إليه، عقب التحقيق مع الخدم الذي لم يسفر عن شيء، قلت: السياسي المعتزل لا يقتل بسبب السياسة.

فقال بغموض: احذر القواعد، والآن حدثني عن برنامج تحرياتك.

فأجبت من فوري: ثمة أماكن هامة مثل كازينو الشاطئ، النادي، بواب العمارة، حتى الأصدقاء القدامى لا أحذفهم من برنامجي.

2

أما البواب فلم يشهد عودة عصمت البطراوي وبالتالي فإنه لم ير من كان بصحبته. وذهبت إلى كازينو الشاطئ حوالي الثانية بعد الظهر ومعي صورتان لجلال حمزة وعلي فؤاد حصلت عليهما من أمين البطراوي مع عنوان سكنهما. في الكازينو ساءلت المدير والجرسون بشير وماسح الأحذية حسونة. كان الخبر قد طار إلى الكازينو، ولاحظت أن بشير كان أشد الجميع تأثرا به، ثم علمت منه أن الفقيد هو الذي ألحقه بالعمل. ووافتني معلومات لا بأس بها. فعلي فؤاد وجلال حمزة معروفان لدى بشير وحسونة. - علي فؤاد من زبائن الكازينو، يمر بنا كل صباح تقريبا في هذا الوقت من العطلة.

وقال بشير: وأحيانا كان يتبادل التحية مع عصمت البطراوي، وفي هذا الصباح بالذات تصادف قيامهما في وقت واحد فغادرا الكازينو متصاحبين.

تحركت غريزة المطاردة وطالبته بإعادة الشهادة غير أن حسونة قال: كنت في ذلك الوقت راجعا من مشوار فرأيت الأستاذ علي فؤاد وهو يودع المرحوم ويمضي إلى كشك السجائر. - لعله لحق به بعد ذلك؟ - لم أر شيئا فقد دخلت من فوري الكازينو.

ولكن شهادة بياع السجائر كانت قاطعة فقد شهد بأن علي فؤاد سار في اتجاه مضاد لطريق البطراوي المتجه نحو الجسر، وفضلا عن ذلك فقد قال عن عصمت البطراوي: وقد لمحته من موقفي وهو يلتقي عن بعد بشخص ما سار بصحبته.

وعرضت عليه صورة جلال حمزة ولكنه قال: لم أتبينه ولم أعن بالنظر إليه ...

أما عن جلال حمزة فهو لا يغشى الكازينو إلا في النادر. ولكنه جاء الكازينو منذ قليل.

كان مضطربا، وهو الذي أبلغنا بخبر الجريمة، وسألنا إن كان الفقيد صحب أحدا معه، فأفضينا إليه بما قلناه الآن.

وساءلت نفسي: أكان جلال يحقق إسهاما منه في الكشف عن قاتل والد صديقه؟ أم كان وراء ذلك باعث آخر؟

وانتقلت إلى النادي، وبسؤال أصدقاء أمين البطراوي من الأعضاء عرفت كيف تلقى الشاب الخبر. ومتى جاء علي فؤاد للقاء أمين في الساعة الثانية عشرة فعرف بالخبر، وكيف جاء جلال حمزة في منتصف الواحدة تقريبا فدهمه الخبر. وسألت: هل من عادتهما المجيء إلى النادي في موعد محدد؟

فكان الجواب ألا ميعاد محددا لهما في ذلك وأنهما قد يتخلفان بعض الأيام. وبرجوعي إلى مكتبي تلقيت من مساعدي تحرياته عن الميول السياسية للشابين ولكني لم أقتنع بالباعث السياسي أصلا كما قلت لرئيسي.

3

كان علي فؤاد يقيم في شقة متوسطة بالجيزة مع أسرته. وقد فتشنا الشقة ولم نعثر على شيء ذي بال. حتى الكتب لا مغزى لها فقد كان طالبا بكلية الحقوق وكان طبيعيا أن تحوي مكتبته كتب الاقتصاد على اختلاف مذاهبها. عن علاقته بأمين سألته، وعن معرفته بأبيه. عن عقيدته السياسية فلم ينكرها وقال باسما: إنها معروفة كالاسم والسن؟ - شوهدت وأنت تغادر الكازينو بصحبة الفقيد هذا الصباح؟ - هذا حق، ولكني ودعته على بعد خطوات من الباب. - أين ذهبت بعد ذلك؟ - إلى كشك السجائر. ثم قابلت صديقا ثم ذهبت إلى النادي. - قيل إن البطراوي قابل شخصا آخر في طريقه، هل اتفق لك أن رأيته؟ - كلا. سرت في الطريق المضاد. - قيل إنك أحد اثنين يزوران مسكن الفقيد في أي وقت؟ - غير صحيح. ولكني أزور المسكن بصحبة صديقي أمين. - أكنت تحب عصمت البطراوي؟ - لم أكرهه على أي حال. - أليس المتوقع أن تكرهه بسبب ميولك السياسية؟! - لم يعد الرجل إلا ذكرى، فضلا عن أنني كنت أنظر إليه بعين مودة لعلاقتي الوثيقة بأمين. - متى قابلت صديقك جلال حمزة هذا الصباح؟ - لحق بي في النادي في الواحدة أو قبل ذلك.

كان واضحا هادئا ولم أجد ما يحملني على الشك فيه.

4

وكان جلال حمزة يقيم في شقة صغيرة بعابدين وحده. إذ إن أهله مقيمون في بني سويف. وعندما علم بأمر التفتيش استاء وتساءل محتجا: لماذا؟

من أول نظرة أدركت أنه مهزوز الشخصية ولكني توفرت بكل همة للتفتيش. وبوجه خاص الملابس. وفي الحمام رأيت بدلة بيضاء منقوعة في طشت غسيل. وبفحص الزارير وجدت زرارا ناقصا. وبمضاهاته بالزرار الذي عثرت عليه في حجرة استقبال البطراوي وجدته مطابقا. اقتحمني شعور بالفوز: متى نقعت هذه البدلة؟ - أمس. - ترى هل خامره شك؟! - تنقص زرارا. - ربما. - مثل هذا الزرار.

وأريته الزرار. قطب في عصبية وقال: توجد آلاف منها في السوق، وهي نفس زراير بدلتي الأخرى! - هذا حق، وقد وجدت هذا الزرار وراء مقعد عصمت البطراوي.

فتساءل بحدة: هل تتهمني ؟ - معاذ الله، متى بدأت صداقتك مع ابن القتيل؟ - منذ عشرة أعوام. - عرفت القتيل؟ - قدمني إليه. - ولكنك كنت تعرفه من قبل؟ - ماذا تعني؟ - كل الناس كانت تعرفه. - طبعا.

لعلك كنت من المعجبين به؟ - كلا. - صديقك يعرف ذلك؟ - نعم. - إذن كنت من أعدائه؟ - أجل! - قلت عنه مرة إنه المدرسة التي تخرج فيها كل من استبد بهذا الشعب أو نكل به. - من قال ذلك؟ - لنا تحرياتنا. - على أي حال فهذا رأيي حقا.

وتساءلت مصطنعا الثقة في نبرتي: هل رأيت الرجل صباح اليوم؟

تردد لحظات ثم قال: نعم، على مبعدة غير قصيرة من كازينو الشاطئ ... صافحته، سايرته أمتارا ثم استأذنت منصرفا إلى طريقي. - رآك أناس من رجال الكازينو؟ - ربما.

وقلت مغامرا: ورآك بواب العمارة؟

فقال بحدة: غير ممكن، لقد تركته قبل ذلك بمسافة طويلة!

تمنيت أن يسهو فيقع فيقول مثلا إن البواب لم يكن موجودا، ولكنه فيما بدا لي حاذق أو صادق. والحق - ورغم كل شيء - قوي الشك فيه عندي. سألته: مضت ساعتان أو أكثر بين مقابلتك للرجل وذهابك إلى النادي، كيف مضيتهما؟ - عادة أتسكع، وأحب مشاهدة صيد السمك. - في ذلك الوقت قتل البطراوي ...

فقال بحنق: ليرحمه الله. - كيف فسرت الجريمة لدى علمك بها؟ - لم أجد سببا واحدا يبررها. - ألم يخطر ببالك أن يكون وراءها سرقة؟ - قطب قليلا ثم قال: السرقة لا تحدث عادة في النهار. - القتل نفسه حدث ... - فلم يحر جوابا، فقلت: إذن اتجه تفكيرك نحو السياسة! - لم أقل ذلك، ولا هو بمعقول. - لماذا؟ - لا يفكر أحد في اغتيال سياسي معتزل. - حتى لدى من عاش دهرا وهو يحلم بقتله؟ - من هذا؟ - كثيرون جدا تمنوا ذلك.

فصمت وقد بدا عليه إنهاك فقلت: أستأذنك الآن في استعارة البدلة المنقوعة بعض الوقت.

فحدجني بذهول ثم تمالك نفسه فقال منفعلا: خذني إذا شئت داخلها!

5

وبينا كنت أحاور شكوكي في جلال حمزة دهمني خبر من شأنه أنه يقلب الموقف رأسا على عقب. عرفنا أنه اكتشفت وصية للمرحوم، يوصي فيها بثلث ثروته للجرسون بشير. ومن فوري أبلغت رئيسي. ومن عجب أنه لم يسر. قال بفتور: جرسون! أله نشاط سياسي؟!

من تغير نبرات الصوت أدركت أن «شيئا ما» يدبر وراء الكواليس، ولكني قلت: إني ماض للتحقيق.

فقال بامتعاض: أخشى أن نخوض علاقات شخصية وأخلاقية ...

إني لم أفهم لغة رئيسي. لقد أدركت أن ثمة رغبة لاستغلال الجريمة استغلالا سياسيا، لأسباب سياسية لا تخفى. تجاهلت ذلك. وسرعان ما استدعيت بشير واستجوبته بكل دقة. علما بأن تواجده في الكازينو ساعة ارتكاب الجريمة أمر مؤكد. ومنه علمت أن أمه هي التي استشفعت بعصمت البطراوي ليلحقه بعمله في الكازينو، عمل ممتاز ووفير الربح. وزرت الأم في حجرتها الوحيدة بعزبة العجوزة. عجوز جاوزت الستين ولكن وجهها يشي بأصل جميل. ونجحت في استدراجها للاعتراف بحقيقة مذهلة، وهي أن بشير ابن غير شرعي للبطراوي، وأن الفقيد علم بالحقيقة في حينها. ولم نعثر على شبهة أو قرينة تدين الأم أو ابنها. ولما عرضت نتيجة التحقيق على رئيسي تهلل وجهه، وسرعان ما أمرني بالانصراف. تخيلت ما يدور في الحجرة المغلقة من اتصالات تليفونية وتدبيرات جهنمية. وتسلمت الموضوع إدارة أخرى. وإذا ببيان يعلن في الصحف مصورا مقتل البطراوي كجريمة سياسية متهما جماعة متطرفة، وذلك من خلال حملة إعلامية موجهة بضراوة نحو تلك الجماعة، وسبق ذلك حادث غريب وهو القبض على علي فؤاد ضمن عشرات من الأفراد الأبرياء، تابعت ذلك كله بكآبة شديدة وفي تأزم عنيف رغم بعدي عنه كلية، وقلت لرئيسي: ما زال اتهام جلال حمزة هو الراجح عندي.

فصاح بي وبغضب متسائلا: أبينك وبينه ثأر قديم؟

فقلت بوضوح: إنه مجنون أو نصف مجنون، إني أعرف هذا النوع جيدا.

فصاح بي: لم يعد الموضوع من اختصاصك.

6

قررت أن أرجع البدلة إلى جلال حمزة بنفسي. الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. نما إلى علمي ما يلقاه المقبوض عليهم من ألوان التنكيل والتعذيب حتى حدث ما يعد كارثة. كارثة بكل معنى الكلمة. طويت نفسي على آلامها وذهبت إلى مسكن جلال حمزة ... استقبلني بوجه أنهكه الإرهاق فبدا مثل شبح. تظاهرت أمامه بالمرح وقلت: دعني أرد إليك بدلتك مصحوبة بالاعتذار!

وترامقنا في جو مشحون بالتوتر. ثم تساءلت: ألا تدري أنني شككت فيك من أول نظرة؟

فتساءل ببلاهة: أول نظرة؟ - كما يوجد حب من أول نظرة يوجد شك من أول نظرة.

فقال بسخرية: إنك رجل ملهم! - وها هي الحوادث تؤكد خطأ ظني. - فصمت، فقلت: حسبنا أن المجرم الحقيقي قد اعترف، طبعا علمت بذلك؟ - مثل جميع قراء الصحف. - إنه صديقك. - شخص لا يمكن أن يقتل. - القتل أبسط مما تتصور.

فتردد قليلا ثم تساءل: ثمة إشاعة متطايرة تقول إنه وبعض زملائه قد قتلوا وهم يحاولون الهرب.

كنت قد عرفت ذلك ولكني قلت: لا أستبعد أن تقع حوادث من هذا النوع.

وساد الصمت وعدنا للترامق في توتر حتى قلت بهدوء وبدافع من مجازفة لا تقاوم: أصارحك بأنني ما زلت أومن بأنك القاتل.

تضاعف توتره وثار غضبه، فقلت متماديا في الانتقام منه ومن نفسي ومن الدولة: أتخيل ما حصل على الوجه الآتي: قابلت عصمت البطراوي بعد أن تركه الشهيد علي فؤاد، تصافحتما، سايرته منجذبا إلى قطعة من التاريخ المثير، لعلك صحبته إلى البيت بزعم إدراك أمين قبل ذهابه إلى النادي. دخلتما الشقة دون أن ينتبه لكما أحد، مضى الرجل ليسأل عن ابنه ثم رجع، قتلته ثم تسللت خارجا، رجعت إلى مسكنك، خلعت ملابسك، نقعت البدلة من الفطنة، ثم ذهبت إلى النادي لتتشمم الأخبار، ثم إلى الكازينو لترى إن كان أحد رآك في صحبة الرجل، ما رأيك؟

صاح جلال بسخرية وهو ينتفض رغم ذلك: برافو! - تتظاهر بغير ما في باطنك، إنك ضعيف هزيل، وها أنت تشهد مصرع عشرات الأبرياء بسببك، إلى متى تحتمل ذلك؟

فصاح بسخرية: افترضني بلا ضمير مثل حكومتك العريقة.

فرمقته بازدراء وقلت: إنك مطمئن الآن في حماية الحكومة، تعلم أنها لا تستطيع أن تتهمك وإلا اعترفت بقتل العشرات بلا جريرة. - فكرة جميلة، مجرم يجد حمايته في ظل حكومة أوغل منه في الإجرام.

وبغتة تلاشت سخريته وكأنما جفت حيويته وخمد. انتقلنا إلى جو مشحون بيأس الاعتراف.

سألته بهدوء: أليس تصوري صحيحا؟

فصمت صمت الموافقة والتسليم، إنه يلتمس قطرة من العزاء، سألته: أكنت تضمر الرغبة في قتله؟

هز رأسه نفيا فسألته: متى انبثقت في وعيك فكرة القتل؟ - لم يتكلم ولكنه ضرب يده بالأخرى ضربة سريعة واحدة فترجمتها متسائلا: فجأة!

تكلم بصوت ضعيف: وأنا أنصرف من الحجرة ... قمت وليس في ذهني إلا الذهاب، مضيت من وراء مقعده، تركز بصري في صلعته، انتفض جسمي بغتة، اجتاحتني فكرة القتل.

عدنا للترامق. مرق فجأة من حال الاستسلام. برقت عيناه بجنون، صاح: أتحداك أن تعلن اعترافي! ما أنت إلا وغد مثلهم!

غضبت بدوري. كورت قبضتي في وجهه مقاوما رغبة مرعبة في تحطيمه، صمت. - جبان كذاب ... تعال إلى مكتبي واعترف رسميا ولترين ما أفعل ...

اندفع يضحك بجنون حتى تصورت أنه فقد ذاته فغادرت مسكنه مشتت الخاطر ممزق القلب.

7

بلغ بي التهور في التفكير حد مناقشة فكرة قتل جلال حمزة متحديا كافة العواقب. ولكني سرعان ما اقتنعت بسخف الفكرة، فالمهم حقا هو كشف النقاب عن جريمة الحكومة. ولم يطل بي التفكير إذ اقتحم جلال حمزة حجرتي ذات صباح مجللا بالانهيار الكامل. أدركت في الحال أنه - حتى رغم جنونه إن صح أنه مجنون - يشاركني في امتلاك ضمير معذب. وسرعان ما أملى علي اعترافه ثم وقع عليه بإمضائه. ألقيت القبض عليه ورحت أفكر في الأمر. إني أعرف تماما خطورة ما أنا مقدم عليه. إنه لا يهدد مستقبلي فقط ولكنه يهدد حياتي أيضا. وإذا بقوة عنيفة تتفشى في وعيي خليقة بأن أتحدى بها الجبال. من خلال لحظة مقدسة رحبت بالاستشهاد وغرست بذرته في نفسي لينمو شجرة خضراء وهلاكا أصفر. إنها لحظة لا تنسى تحتوي الإرادة مثل إلهام خالد. وفي الحال قصدت رئيسي وقدمت له الاعتراف. مضى يقرأ بهدوء أول الأمر. ثم أخذ وجهه يصفر وشفتاه تتشنجان. ثقبني بنظرة مقت ثم هتف: إنه مجنون بلا أدنى شك!

فقلت بهدوء: فلتر النيابة فيه رأيها!

فصرخ: إنك مجنون مثله!

ثم بنبرة وعيد: إذا تسرب النبأ فستكون أنت المسئول عن ذلك!

وأمرني بالانصراف بعد أن أعطاني مفتاحا للخروج من الأزمة. وفي الحال اتصلت بصحفي أعرفه من صحفيي المعارضة، وذهبت إلى بيتي مرتاح البال لأول مرة منذ مصرع عصمت البطراوي. •••

لم يكن مفر، عقب انفجار الخبر في الرأي العام، من التحقيق مع جلال حمزة، وقد حول إلى الطبيب الشرعي الذي قرر جنونه فأودع في مصحة الأمراض العقلية. وشككت صحف المعارضة في القرار الطبي، وحملت على الحكومة حملة صادقة. ونما إلي أن أمرا يدبر لي في الخفاء فلم أجد بدا من الأخذ بنصيحة الأصدقاء، فقدمت استقالتي، وسافرت للعمل في خارج القطر.

أسرة أناخ عليها الدهر

وجدتني في فناء ترب مكتظ بالآدميين والضوضاء. مربع الأضلاع مسقوف بسماء متلبدة بالسحب الداكنة. تتلاصق على أضلاعه الحجرات وتفوح في جوه البارد روائح البصل والثوم والفول النابت والطعمية. أمام كل حجرة تقرفصت امرأة أمام كانون أو وابور غاز وانتشر فوق أديمه المليء بالحفر والنفايات أطفال يلعبون. اتجهت الأعين نحوي وكأنما تتساءل عما جاء بهذا الأفندي إلى ربعهم العتيق. ملت نحو أقرب امرأة وقلت: صباح الخير أين أجد ست وجدية جلال؟

فأشارت بيدها المغطاة بقفاز من الخضرة نحو امرأة في الركن الأيسر من الضلع المتوسط وهي تسأل بتطفل: من حضرتك؟ وماذا تريد منها؟

فشكرتها متجاهلا تطفلها وشققت طريقي متجنبا الحفر حتى وقفت أمام المرأة متسائلا: ست وجدية جلال؟

فرفعت إلي وجها بارز العظام مدبوغا بالتعاسة والكبر محدقة في بعينين كليلتين وهي تهمس: أنا وجدية.

فقلت برقة: مندوب وزارة الأوقاف.

نهضت بنشاط طارئ لا يناسب هزالها، ثم دخلت الحجرة وهي تقول بصوت بالغ المودة: تفضل.

أول ما طالعني وجه شاب مفرط البدانة، واضح العته، يرسل نظرات بلهاء ويبتسم للاشيء. تربع فوق كنبة قديمة لا أثاث في الحجرة سواها باستثناء سحارة سوداء وحصيرة متهرئة. قالت: لا مؤاخذة، لا يوجد كرسي، تفضل بالجلوس على الكنبة.

قال الشاب بعجلة: لا ... ارجع إلى أمك خديجة العرة!

نهرته الست وقالت لي آسفة: أنت سيد من يفهم ويعذر.

فقلت بهدوء: لقد تلقت الوزارة طلبك فأرسلتني للتحري كالمتبع.

فتساءلت بلهفة : متى تقررون لي إعانة؟ - كل شيء بمشيئة الله، أتعيشان وحدكما؟ - معنا الله، وهذا الابن الذي بقي لي كما ترى. - أله عمل؟

قال الشاب: يا مغفل، ألم تعرف أن أولاد الملوك لا يعملون!

فصاحت به المرأة: لا تفضحنا (ثم ملتفته إلي) ... أكرر العذر وربنا يكرمك، لا عمل له، يمضي على باب الله فيطعمه المحسنون، وأنا لا مورد لي إلا الملاليم التي تجيئني من بيع النابت. - في الطلب أنكم أسرة كريمة أناخ عليها الدهر؟ - كنا كذلك، وضاع كل شيء.

ونشجت باكية فقال الشاب الأبله: تريد أن تعتدي على أمي يا حمار.

لم ألتفت إليه، ولم أتأثر بالدموع من طول ما خالطت الأسر التي أناخ عليها الدهر، قلت: أعطني فكرة عن حياتك السابقة.

قالت وهي تجفف دموعها بطرف شالها الرث: كان أبي بياع حلاوة طحينية وكان زوجي موظفا. - اسمه ووظيفته؟

ترددت ترددا لم يغب عني بحكم خبرتي ثم قالت: مضى زمن طويل. - لا بأس، أخبريني. - كان موظف بدار الكتب. - اسمه من فضلك؟ - ترددت مرة أخرى ثم قالت: غريب عدنان. - أين كان مسكنك؟ - في باب الخلق، لا أذكر رقمه. ولكن كانت بأسفله صيدلية.

ثم بصوت مليء بالأسى: صحتي تسوء يوما بعد يوم، ارحموني يرحمكم الله.

فصاح ابنها وهو يشير نحوي: هذا الرجل لص، رأيت بدلته على رجل ديوث.

غادرت المكان مسرعا فبلغت شارع السد بباب الشعرية ونظرات النساء ما زالت راسبة في أعماقي. دلتني الزيارة على مراجعي. هناك شيخ حارة السد، دار الكتب، وبيت باب الخلق. وملت إلى دكان شيخ الحارة فوجدته لحسن الحظ جالسا إلى مكتبه القديم تحت صورة الملك. سلمت عليه ثم قدمت إليه بطاقة العمل فرحب بي فقلت: تفضل علي بما تعلم عن ست وجدية جلال المقيمة بالربع 21 بحارة السد.

فقال بعدم اكتراث: علمي عنها قليل، لكنها على حياء بخلاف بقية السكان. - أهي أصلا من سكان الربع؟ - لا ... أقامت فيه منذ سنوات، وهي لولا ابنها المعتوه ...

فقاطعته باسما: عرفته، من أين له هذا القدر المخيف من الدهن؟ - يأكل في كل مكان ، ولكن فيه شيء لله! - تؤمن بذلك؟ - واسمع، منذ شهر رأيته يبول في وسط الطريق فزجرته فدعا علي، أتعرف ماذا أصابني؟ - خير إن شاء الله؟ - أبدا، أصبت في نفسي الأسبوع بفتق ... ولكن هل تنوي الوزارة مدها بإعانة؟ - ربما. - جميع جاراتها على مثل حالها من الفقر. - للأسف الوزارة تقصر المعونة على الأسر التي أناخ عليها الدهر، أما الفقراء فهيهات أن يشبعهم إلا وزارة أوقاف أمريكا! •••

قصدت دار الكتب لأسأل عن غريب عدنان في إدارة المستخدمين، فأحالني المدير على أقدم موظف في الدار بأرشيف الكتب يدعى الشيخ فرغل بهنس. قدمت نفسي وشرحت له مهمتي ثم قلت: قيل لي إنك خير من يحدثني عن المرحوم غريب عدنان.

رفع الرجل حاجبيه وقال: يا لله ... سبحان من يبعث الماضي بعد موت ... كان - غفر الله له - مأساة وعبرة!

وطلب القهوة لي ثم واصل حديثه: كان مترجما بالدار، شهادته الأصلية البكالوريا، ولكنه سافر إلى فرنسا على حساب أبيه فرجع بشهادة ما أو بلا شهادة ولكن شهد له بإتقان العربية والفرنسية.

وصمت لحظات ليجمع أشتات ذكريات ثم قال: كان أيضا ميسور الحال، ذا مرتب حسن وبيت مكون من عدة أدوار، وعرف بسعة اطلاعه، وكان بوسعه أن يفيد من علمه ترجمة أو تعريبا ولكن الشيطان دفع به إلى أحضان موضة انتشرت في تلك الأيام، أتعرف ماذا كانت تلك الموضة؟

فهززت رأسي نفيا، فقال: موضة الإلحاد والعياذ بالله، قرر أن يكون حر التفكير مثل فلان وعلان ممن أحدثوا بإلحادهم ضجة ونالوا عنها شهرة فكانت الكارثة. - كيف؟ - نشر كتابا عن الدين المقارن ردد فيه عن الإسلام ما يتقوله المستشرقون المتعصبون! - أعطني مثالا. - لم أقرأه، ولا أتذكره، ولكني أعرف تماما أن كتابه لم يحدث ضجة ولا أنشأ شهرة، ولكن أدخله السجن وأفقده الوظيفة. - لم لم ينج كما نجا آخرون؟ - كان وراء الآخرين أحزابهم ولم يكن وراءه إلا الشيطان. - ومات في السجن؟ - أبدا، خرج بعد انقضاء المدة، عاش على ريع بيته عيشة ليست يسيرة، ثم مات بالكبد، وقيل إن الخمر كانت وراء وفاته. - وماذا تعرف عن أسرته؟ - لا شيء يذكر سوى أنه كان صاحب زوجة وأولاد، لم تتجدد علاقتي به بعد الإفراج عنه، لقد قطعته بلا أسف منذ لحقت به لعنة الكفر.

أدركت لم ترددت ست وجدية قبل اضطرارها إلى ذكر اسمه. على أي حال لقد ورثت أسرته البيت، فكيف تدهور بها الحال إلى الربع 21، وأين بقية الأولاد؟ •••

ها هو البيت وها هي الصيدلية. بيت مكون من أربعة أدوار، كل دور شقة واحدة. بيت متوسط الدرجة ولكنه محترم، فضلا عن أنه يعد قصرا بالقياس إلى ربع السد. جلت جولة استكشافية بالكواء والبدال والفران والصيدلي، فاهتديت إلى بغيتي في ساكن الدور الثاني، أما الباقون فسكان جدد. كان موظفا على المعاش يدعى محمد الصياد. استضافني بحذر، ولما علم بمهمتي أدلى إلي بما عنده من ذكريات. قال: غفر الله لغريب عدنان، ولكن ما ذنب زوجته وأولاده؟

ثم أجاب على تساؤله: هي حكمة ربنا على أي حال.

سألته باهتمام: ماذا حصل للأسرة بعد وفاته؟ - الأم كانت ست عاقلة ومدبرة، وجدت نفسها مسئولة عن تربية أربعة ذكور وأنثى، فقررت أن تبيع بيتا ورثوه لتنفقه على تعليمهم، وهي صفقة رابحة على أي حال، وحال يقف أحدهم على قدميه تزول المتاعب. - تفكير سليم، ولكن أين ذهب الأولاد؟ - صبرك، الابن الأكبر وهو في نهاية مرحلته العليا قتل في مظاهرة على عهد إسماعيل صدقي.

انتظرت وأنا أفكر في صحيفة التحريات التي ستعرض على لجنة الخيرات المنتمية في النهاية إلى حكم راهن يستند إلى انقلاب ملكي! قال الرجل: الابن الثاني قامر بمصروفات المدرسة فخسرها ثم انتحر!

هززت رأسي في أسى: ثم وجدت البنت عريسا لقطة، غاية في نضج العمر والمال فلم يكلف الأم شيئا يذكر، ولكنها بعد أعوام من الزواج هربت مع خمار يوناني، ويقال إنه هربها معه إلى بلاد اليونان، أرأيت؟

وبعد صمت قال: لم يحتمل الابن الثالث الصدمة فاختفى ولم يعثر له على أثر. - هكذا لم يبق لها إلا المعتوه. - ثم تدهور الحال إلى الحضيض! •••

اجتمعت لجنة الخيرات برئاسة مديرها وعضوية نخبة من كبار الموظفين على حين توليت أنا سكرتيريتها. عرضت ما لدي من تحريات وتقررت - كالعادة - إعانات ما بين الجنيه والثلاثة جنيهات. ولما جاء دور طلب ست وجدية رحت أقرأ التحريات في صمت ثقيل حتى فرغت. وضح لي الأثر العميق الذي تركه التقرير. كان مفتي الوزارة أول المتكلمين، تمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقال مدير الإدارة العامة: أي أسرة هذه الأسرة!

فقال مدير الإدارة القانونية: أسرة جمعت ما بين الإلحاد والانحراف والتمرد والفسق والانحلال.

فقال المفتي: أسرة لم يبرأ من العيب فيها إلا معتوه.

فقال مدير الإدارة القانونية: والعته عيب أيضا غير أنه لا مسئولية عليه.

ونظرت إلى رئيس اللجنة متسائلا: هل أوقع بالرفض؟

فقال الرئيس يخاطب الأعضاء: دعونا من الأسرة وانظروا في مقدمة الطلب، فهي سيدة تعيسة الحظ قد أناخ عليها الدهر.

فتساءل المفتي بغضب: كيف نبرئها وهي البؤرة التي ترعرعت فيها كافة الموبقات؟

فقال الرئيس برقة: ألا تعتبر أيضا ضحية؟

فهتف المفتي: لا ... لا ... لا ... أبعدوا عنا هذا الطلب، عشرات الأسر أحق منها بالإعانة!

وساد صمت اعتبر موافقة، فمضيت أوقع بالرفض. عند ذاك دق جرس التليفون فتناول الرئيس السماعة: أهلا سعادة الوكيل. - ... - حقا؟ الطلب خال من أي توصية. - ... - تسمح لي سعادتك بمقابلة دقيقة واحدة؟ - ... - شكرا يا فندم.

قام الرئيس وهو يقول لنا: الجلسة لم تفض، عن إذنكم. •••

غاب دقائق معدودة ثم رجع إلى مكانه وهو يقول: علينا أن نعيد النظر في طلب ست وجدية جلال.

فقال المفتي بحدة: لقد انتهينا منه يا سعادة الرئيس.

وتساءل مدير الإدارة القانونية: أهي رغبة سعادة الباشا الوكيل؟

فأجاب الرئيس بوضوح: أجل.

وكان للمفتي مكانة في الحزب الحاكم لا تقل عن مكانة الوكيل إن لم تزد، فقال بصوت جهير: لن أتراجع عن الرفض!

فقال رئيس اللجنة: ثمة توصية من شيخ مشايخ الطرق الصوفية!

فصاح المفتي: ولو!

فقال الرئيس متسائلا: أترى من تكون وجدية جلال يا فضيلة المفتي؟

فتساءل المفتي ساخرا: شجرة الدر؟ أم كليوباطرة؟!

فقال الرئيس: إنها حفيدة إسماعيل الماوردي، العارف بالله، شملنا الله ببركاته!

وهتف مدير الإدارة القانونية: سبحانك ربي، لك في كل شيء حكمة وعبرة!

لم ينبس المفتي بكلمة وساد صمت الاستسلام والرضا. أجل والرضا.

الظلام القديم

ليلة لا تنسى.

تأخر بهم الوقت في صحراء العباسية في ليلة من ليالي الخريف. لعبوا الكرة، ربحوا جولة وخسروا الأخرى. تشاجروا، انصرف الفريقان إلا ثلاثة، علي وممتاز وإسماعيل. لبثوا حتى يصفى الحساب ويتم الصلح وتصفو النفوس، من شدة التأثر أغمي على إسماعيل، ارتبكا لذلك غاية الارتباك، قاما له بتنفس صناعي، وعندما عاد إلى وعيه كان الليل قد هبط بجلاله ولا مبالاته فأحدق بهم الظلام.

كانت ليلة من ليالي الخريف، استقرت في سقفها السحب، فلا نجم واحد في السماء، ولا شعاع يتسرب إلى المكان. ساحة مترامية ولكنها محاطة بمرتفعات شتى على رأسها المقطم بشموخه، تتعاون جميعا على حجب أضواء المدينة. غرقوا في ظلمة عميقة وشاملة لم يجربوها من قبل، ظلمة أصيلة نقية مسيطرة طمست على الحواس ونفذت إلى أعماق الوعي. اختفى الوجود. تلاشت أشباحهم، استوى أن تحملق الأعين أو تغمض، استولى العدم على الكون.

قال ممتاز: سرقنا الوقت.

فقال إسماعيل: أنا المسئول.

فقال علي: إني أرى الظلام لأول مرة. - فلنمض نحو المدينة قبل أن يدركنا الهوس.

ولكن أين طريق المدينة؟ شعروا باختناق ... رغم جريان الهواء ورطوبته شعروا باختناق، وشعور آخر طوقهم هو أنهم مكبلون في زنزانة. - أين طريق المدينة؟ - لقد فقدنا الإحساس بالاتجاه. - اختفى المكان.

قال ممتاز ساخرا: نسينا أن نحضر معنا بوصلة. - ومعها عود ثقاب. - ولا صوت لإنسان!

صمتوا في حيرة، ولكن الصوت كان أنسهم الوحيد وآخر ما بقي لديهم من علاقات الحياة فعاد إسماعيل يقول: المدينة على مسيرة نصف ساعة. - أجل ولكن أين اتجاه المدينة؟ - قد نوغل صوب الجبل الأحمر فتنقطع منا الأنفاس بلا جدوى. - نسير مقدار نصف ساعة بلا زيادة. - لكننا فقدنا الزمان كما فقدنا المكان! - والسير نحو هضبة وابور المياه شديد الخطورة لوعورة الأرض وانتشار مساقط القمامة.

ونفخ إسماعيل. وضيعهم الصمت مرة أخرى. وسرعان ما قال ممتاز: رغم القلق والقرف فإني أشعر بالجوع.

فقال إسماعيل: وأنا عطشان، لم تبق معنا برتقالة واحدة. - ما زلنا نرتدي ملابس اللعب والجو رطيب، هل نتجمد هكذا إلى الأبد؟! - عسى أن تنجلي السماء عن فرجة يطل منها نجم. - أو يمر إنسان معه بطارية. - فلنتماسك بالأيدي خشية أن يضل أحدنا.

وتماسكوا بالأيدي وهم يضحكون بفتور، وهتف إسماعيل: هذه هي نتيجة الشجار! - الشجار كان نتيجة اللعب الرديء. - أنت مغرور! - يا للحماقة، هل نرجع مرة أخرى؟! - وضحكوا، عاد الصمت المخيف. قال علي: فلنفكر. لم يبق معنا إلا التفكير. - عظيم، فلنفكر. - السؤال الأساسي هو كيف نهتدي إلى طريقنا في مثل هذا الظلام؟

ولما لم يجدوا جوابا جاهزا هربوا من التفكير فقال إسماعيل: ما تصورت أبدا أن الظلام له هذه القوة. - كيف عاش أجدادنا الأولون قبل اكتشاف النار؟! - كانت لهم غرائز خاصة بهم. - نحن عميان بلا عصا ولا مرشد! - ألم نتفق على أن نفكر خيرا من هذا الهذيان؟ - رجعوا مكرهين إلى الصمت حتى هتف إسماعيل: نصرخ بأعلى أصواتنا لعل أحدا من أهل النجدة يسمعنا. - وإذا سمعنا أحد من قطاع الطرق؟! - أو ذئب؟ - أو أيقظ صراخنا حية رقطاء؟

فقال إسماعيل بنفاد صبر: سحبت الاقتراح.

وعادوا إلى الصمت والتفكير فغرقوا في العدم مليا حتى قال ممتاز: أرى أن الصراخ ضرورة لتحقيق هدف آخر. - ما الهدف الآخر؟ - نرسل صيحة ثم نرصد الصوت فنحدد موقع الجبل، بذلك تتضح الجهات الأربع! - فكرة غير مجدية، فليس الجبل وحده هو ما يرجع الصدى، هناك الهضبة، وسور الغابة، وجدار مقابر الشهداء. - اللعنة!

ورجع ممتاز يقول بإصرار: ليذهب كل منا في ناحية ومن يظفر بالمدينة فعليه أن يرسل بعثة للإنقاذ. - ثمة احتمال أن نسير جميعا في النواحي الخاطئة. - وهب أحدنا وصل ألا يلزمه بعد ذلك تجميع نفر من الأصدقاء والحصول على بطاريات؟ - أنتظر حتى مطلع الفجر؟ - أو أن تنحسر السحب عن بزوغ النجوم أو القمر! - أي يوم هذا من أيام الشهر العربي؟ - أعتقد أننا في الربع الأول منه. - أضغاث أحلام، علينا أن نفعل شيئا.

ومضى الضيق يضيق أكثر وأكثر، والاختناق يطبق عليهم بقبضة حديدية، حتى هتف ممتاز: ما ألعن الصمت! - نحن نفكر. - لم لا نعتبرها تجربة مسلية؟ - والإرهاق والجوع والعطش؟! - انتظروا الفرج. إنه يجيء بغتة. - بل ليس لنا إلا الاعتماد على أنفسنا.

ونفخ ممتاز بغضب وقال: فليسر كل منا في اتجاه وليكن ما يكون. - أليس الأفضل أن نبقى معا؟

وقال إسماعيل: أنا لا أطيق الظلام وحدي.

فقال ممتاز بإصرار: ابقيا إذا شئتما أما أنا فإني ماض. - أية ناحية؟

فضحك على رغمه وقال: إنه السير، أما الناحية فقد ابتلعها الظلام. - جهد ضائع. - هو خير من الانتظار.

وسحب يديه من أيديهما وهو يقول: أستودعكما الله.

مضى بلا صوت، لم يدريا في أية ناحية ذهب، شدت يد إسماعيل على يد صاحبه، وتمتم: إنه عنيد. - ولكن الانتظار غير محتمل. - عليه اللعنة، هو المسئول الأول، وها هو يتركنا مثل شيطان. - لنسأل الله أن يسدد خطاه إلى الطريق الصحيح. - وما أهمية ذلك؟ سنبقى هنا حتى مطلع الصبح. - أليس من الأوفق أن نفعل مثله؟

فصاح بعصبية: كلا! - تمالك أعصابك. - فلتذهب أعصابي إلى الجحيم!

واسترسل في هياجه فصاح: ما أنتم إلا لعنة من اللعنات، هذه هي الحقيقة. - لا تثرني أكثر من ذلك. - ألا تريد أن تعترف؟ من المسئول عن الهزيمة؟ - أنرجع إلى ذلك؟ أليس حسبنا ما نحن فيه؟ - ذلك ما أدى بنا إلى هذا الموقف. - اسمع، فلنسر أو فلنصمت. - لا هذا ولا ذاك! - بل هذا أو ذاك. - تريد أن تستغل ضعفي فتفرض علي إرادتك؟ - بت أحسد الذي ذهب. - ماذا تعني؟ - لن نجني من الانتظار إلا الشجار.

فشد على يده كالمستغيث، فقال علي: تعال معي، فرصة النجاة ستهبط درجة، ولكنها لن تنعدم.

وتأبط ذراعه، وحمله على المشي معه وهو يقول: أي شيء خير من الانتظار.

وتحديا الظلام القديم الذي فقد سلطانه منذ اكتشاف النار.

الرسالة

في البدء كان الخوف.

حلق الشارب واللحية. استبدل بالجلباب والجبة بدلة. سمى شخصه الجديد «سالم عبد التواب» بدلا من عليش الباجوري الذي عرف به دهرا. ابتاع أرضا وبنى بيتا فأقام في شقة وأجر تسعا . تجنب الاختلاط بالناس ما وسعه التجنب. عاوده الخوف من الزوايا والأركان، من الظلمة والضوء، من الهواء المشحون بأنفاس الخلق. يحذر نفسه من القضاء والمصادفة وسوء الحظ، فعند ذاك يستقر سهم الموت في قلبه، وتتلاشى الحياة في غيبوبة المجهول. قوة القانون الصلدة قضت عليه بالإعدام، وكلفت الجلادين بالتنفيذ، فلم تبق إلا الضربة القاضية. في سبيل النجاة اقتلع شخصه من جذوره، من الماء والحيوان والشجر. وتعز عليه الطمأنينة إلا في غيبة الأحلام والكوابيس. هكذا تتواصل المطاردة جيلا بعد جيل، تدفعها قوة عمياء مقدسة. ••• - اذهب والله معك. - والغربة في بلاد الغربة؟!

في كل مكان ثمة حياة تتدفق وهي مقدسة مثل الموت! •••

في البدء كان الخوف.

ولكن لا دوام لحال. الشروق والغروب، تلاحم المعاملات وتبادل التحيات، والتنفس والخفقان، أحلام اليقظة وأحلام المنام، كل أولئك من شأنه أن يلطف التوتر، ويستأنس الشوارد، ويحل عادة في محل عادة، يوهم بأن الأمور ستمضي غدا كما مضيت أمس. ثم أليس لكل أجل كتاب؟ وأن تستسلم للمقادر أخف من أن تشقى دوما بعذاب الخوف، وأن تعيش يومك خير من أن تعاني هولا لم يجئ بعد؟ لذلك مضى يختلف إلى المقهى ويجالس الجيران ويلاطف السكان. من يخطر له أن ينعطف إلى هذه الحارة المنزوية؟ من ينقب في صحراء عن حبة رمل مضرجة بالدماء؟ ويفكر جادا في المشاركة في المقهى، أن يحظى بنعمة الحب والزواج والإنجاب. أن يمارس الحياة بما يليق بالحياة، وأن يطالبهما بما هو حق للإنسان.

وتتم المشاركة، وتقوى أسس المعيشة، ثم يتقدم إلى الشيخ الحلبي طالبا يد كريمته. - من هو سالم عبد التواب؟ من هو عبد التواب؟! - لا غبار عليه كرجل عرفناه أعواما. - إنه مقطوع من شجرة! - أي مخلوق يتسلسل في النهاية إلى آدم وحواء. - ألا تخشى أن يظهر لأحفادك ذات يوم أعمام من الليمان؟ - في كل سلالة مجرمون وما يهمني إلا الرجل نفسه! •••

اقترن سالم عبد التواب من عظيمة كريمة الشيخ الحلبي، وراح ينجب البنين والبنات. استقر قلبه في أمان شامل أو شبه أمان، فهو يمارس الحياة ، والأعمار بيد الله وحده.

أجل تناوشه أحيانا أفكار معتمة، يخاف ما تفرضه حياته الزوجية من اتساع، سيلزم مرات بمغادرة الحارة، سيمضي إلى السوق أو المدرسة، ولكن ألا يجيء الموت مع السلامة كما يجيء مع الخطر؟! •••

وتلقى ذات يوم رسالة. «جاء الأجل!»

غفل من الإمضاء وليس بها إلا هذه الجملة. واردة من حي السيدة كما يقر بذلك خاتم البريد. اقشعر بدنه برعدة خوف شاملة. وتفجر الرعب من مكامنه. جاء الأجل، هل عرف في النهاية مخبؤه بين البيت والمقهى والأولاد؟ ولكن مهلا، لم أراد المجهول أن ينذره؟ لم لم ينقض عليه وهو غافل في نعمة العسل؟ لماذا يعرض انتقامه للفشل؟ لماذا يعرض نفسه وهدفه إلى يقظة قاتلة؟ لماذا يهبه فرصة للنجاة؟ أم يريد وقد تمكن منه أن يعذبه؟

جاء الأجل.

ما العمل؟ ما الطريق؟ هل يفشي السر القديم إلى أهله فينفخ فيهم حياة جديدة مليئة بالفوضى والشغب؟ هل يلجأ إلى الشرطة وإن جره ذلك إلى الاعتراف بجريمة أكبر؟ أم يكتفي بالحذر وبالمسدس الذي لا يفارقه؟ وأيا ما كان الأمر فقد تعكر صفو الحياة، واربد ماء البحيرة الرائق بقنبلة أعماق متفجرة.

رجع الخوف كما كان في البدء. إنه لا يغادر البيت إلا لضرورة ملحة. يتفحص الوجوه بريبة دائما، يراقب الرائح والغادي، يتحسس بكوعه مسدسه، يختلس نظرات الحنان والأسى من زوجته وأبنائه. •••

مرة قال له شريكه في المقهى وهو يشير بذقنه إلى رجل جالس غير بعيد: كلفني أن أسألك إن كان عندك شقة خالية.

رأى رجلا بدينا غليظ الأشداق ذا جبهة متحدية يستقر في عباءة فضفاضة، فقال بقلق: ليس من حارتنا! - بياع فراريج ومستعد لدفع الخلو. - واضح أن البيت مسكون. - ترامى إليه أن شقة ستخلو قريبا. - كيف عرف ذلك؟ - من أدراني أنا؟! - لقد اتفقت مع ساكن جديد، أتعرف الرجل؟ - عرفته في سهرة عند السمرائي ثم جر الكلام بعضه بعضا.

وذهب الشريك يخبر الرجل بنتيجة مسعاه، ومضى هو يقيسه طولا وعرضا. توقع أن يصرف النظر عن موضوعه، ولكنه قام بخفة لا تناسب بدانته وقدم نحوه فجلس وهو يقول: الطيبون للطيبات.

فجعل ينظر إليه ببلاهة فقال الرجل: محسوبك كريم البرجواني، تحت الأمر فاطلب ما تشاء.

فقال بحسم: العفو، سبق مني وعد شرف. - جميل أن يحافظ الإنسان على عهده.

تجنب سالم تشجيعه ولو بابتسامة ولكن الرجل قال: ما قيمة النقود؟ ما هي إلا عصافير!

ونهض الرجل وهو يقول: لكننا على أي حال أصبحنا صديقين.

وأتبعه عينيه وهو يمضي عن الحارة، وراح يتساءل ترى هل يعرف الكتابة؟ أهو كاتب الجملة أم إنه وحش مجهول رابض وراءه!

ودعي يوما إلى شهود ذكر ببيت جار. فراعه أن يرى كريم البرجواني جالسا بين المدعوين. ماذا أقحمه على الحارة بهذه القوة. ورآه وهو ينضم إلى حلقة الذكر فيغوص في موجاتها المتلاطمة الراقصة ويسبح حتى بح صوته، ثم تهاوى في الختام فوق الحصيرة فاقد الوعي مثل ثور ذبيح. قال لنفسه إن خوفه من هذا الرجل غباء مطلق، فما هو من قريته، ولا هو من الصعاليك الذين يؤجرون للقتل. ولكن الرسالة نذير جاد وخطير، ليست دعاية مازح! •••

وعندما كان مدعوا للعشاء على مائدة حميه قال له الشيخ: رجل يريد الشقة التي ستخلو أول الشهر. - من يا مولاي؟ - يدعى كريم البرجواني. - فارتعد سالم وسأل حماه: تعرفه؟ - كلا ... استشفع بي دون معرفة سابقة. - سبق أن رفضت طلبه. - لم؟ - منظره لا يوحي بالثقة! - أنت وشأنك ولكني وجدته شهما وطيبا!

الرجل يتعقبه. إنه يريده هو لا الشقة، ولكن لم حذره بالرسالة؟ أيوجد وراءه مطارده القديم؟! كلا. ما الأمر إلا دعابة. له منافسون وكارهون، فالحياة لا تخلو من ذلك أبدا. أحدهم يبغي إزعاجه أو السخرية من أحمق. أراد أن يلقي نظرة جديدة على الرسالة ولكنه لم يجدها في جيبه الداخلي، فتش عنها في مظانها جميعا ولكنه لم يعثر لها على أثر. ذهب إلى الكواء وفتش جيوب البدلة يظن أنه نسيها فيها ولكنه لم يعثر لها على أثر. أين اختفت؟ هل امتدت لها يد خفية؟ وتحرى الأمر مع عظيمة زوجته ولكنها قالت: لم يطرق ساعي البريد بابنا قط.

ولكنه تسلم الرسالة منه في الخارج. ولا بأس من أن يتوكد منه بنفسه. ولكن الرجل لا يتذكر شيئا على الإطلاق. إنه يقرأ ويوزع ولا يتذكر. هل كان حلما مما يرى النائم؟ أم هل جاء دور عقله ليشك فيه! مرة وحيدة توهم أنه ابتاع صفيحة سمن، ثم سرعان ما كشف توهمه! وأرجعه إلى حلم رآه ونسيه في جملة مشاغله. ذاك وهم سرعان ما كشفه أما الرسالة فكأنما يشعر بمسها ويقرأ حروفها، كانت حقيقة لا شك فيها. وما اختفاؤها الغريب إلا نذير جديد. •••

وكان يغادر بيته ليؤدي صلاة العيد، فتح الباب فرأى شبحا. عرف وجه كريم البرجواني على الضوء الخافت المتسرب من ألق النجوم في ظلمة الفجر. تراجع خطوة ... أخرج مسدسه. شعر بألم حاد. أطلق الرصاص وهو يغوص في الغيبوبة.

ما عرف - بالإضافة إلى ما سبق - إنما جاء على لسان كريم البرجواني في التحقيق، قال ذهبت لأداء صلاة العيد في الزاوية، ولما مررت ببيت المرحوم سالم عبد التواب فتح الباب وظهر الرجل، أردت أن أحييه فإذا به يصوب نحوي مسدسه، خفت على حياتي، وبدفعة غير إرادية ركلته بسرعة فأصابت منه مقتلا على حين انطلقت رصاصة قتلت صبي الفران.

الشفق

كانت تعتريني في صباي فترات كآبة ثقيلة. أعزف عن الأهل، أعتزل في حجرة، أكره الطعام، وأحيانا أبكي، بلا سبب واضح على الإطلاق. عرضت على أكثر من طبيب، جربت عقاقير كثيرة، بلا نتيجة. وقال أحد الأصدقاء لوالدي: اعرضه على خالد جلال الطبيب النفسي.

وكنا نسمع عن الطب النفسي لأول مرة، فأعلن أبي عن ريبته فقال الصديق: إنه طب معترف به في جميع أنحاء العالم، ولكن مدة العلاج طويلة، ربما امتدت إلى عام أو أكثر، كما إن تكاليفه بالتالي باهظة! - وتفكر أبي طويلا ولكنه بإزاء مرض غامض عنيد قرر استشارة خالد جلال. ولما كان عمله كتاجر أصواف في أسيوط يمنعه من إقامة طويلة بالقاهرة ... فقد قال لي: ستقيم عند عمتك ليسهل عليك التردد على الطبيب، وعلى أي حال كان في نيتي أن أرسلك إليها لتواصل تعليمك.

وزرنا الطبيب. كان في ذلك الوقت شابا بهي الطلعة، دمث الأخلاق، جلي الاعتداد بنفسه وعلمه. وقد أصغى باهتمام بحضور أبي، ثم حدد لي يومين في الأسبوع لزيارته، وقال: المهم المثابرة والصبر، لست طفلا، والسعادة قيمة لا يجوز الاستهانة بها.

انضممت إلى أسرة عمتي عضوا جديدا بها. عضو لاقى ترحيبا حارا لثراء أبي وكرمه. ومضيت أتردد على الطبيب، وأحضر جلساته العجيبة. بدا لي العلاج في أول الأمر فضولا لا جدية فيه، ثم أخذت أضيق به وأتذمر في مرارة متواصلة، حتى قلت يوما لعمتي: لا أريد أن أذهب.

فقالت عمتي بقلق: والدك؟!

فقال زوج عمتي وكان موظفا بشركة الكهرباء: لا ذنب للعلاج ولكن حياتك مملة، لماذا لا تشارك في «الشعلة» نادي حينا الرياضي؟

واشتركت في النادي، ورحت أتدرب على الكرة والسباحة، ولم أنقطع عن العلاج.

وبرعت في الكرة كما برعت في السباحة. تحسنت صحتي البدنية، واشتدت عضلاتي، وارتفعت روحي المعنوية في المباريات المحلية، وثمل رأسي بالهتاف والإعجاب. وانقطعت عن زيارة خالد جلال، وزايلتني نوبات الكآبة، وصرت ولدا سعيدا بكل معنى الكلمة. واستقبلت المرحلة الجديدة من التعليم بفؤاد جديد. ولما كنت قد أدمنت الثناء من خلال تفوقي الرياضي فقد أصررت على التفوق في الدراسة لأنعم بالإعجاب على المدى. وانتقلت من نصر إلى نصر، ومن بهجة إلى بهجة، وتناسيت مرضي، فلم يخطر لي ببال إلا في لحظات نادرة من لحظات الوحدة والفراغ، عند ذاك كان يخيل إلي أنه رابض في مكان ما، وأنه يتحين فرصة للانقضاض، ولكنها كانت لحظات نادرة جدا ومتباعدة جدا، وسحابة أو سحابتان لا يمكن أن تعكر صفو سماء صافية.

وفي أثناء دراستي بمدرسة التجارة اكتشفت زهيدة ابنة عمتي. أجل كنا نعيش في مسكن واحد، ولكنني نظرت إليها ذات يوم ونحن منفردان فخيل إلي أنني أكتشفها من جديد. لم أر من قبل ذلك تلك النظرة الساجية العذبة، ولا ذلك الجسد الناضج المتناسق، وتبادلنا نظرات جديدة تماما فتورد وجهها وارتبكت، وانبعث من أعماق شعور متوثب حار وبهيج وطموح إلى غير حد. ولد الحب في تلك اللحظة في مهده الذهبي فباركه الحياء والمكر الحسن والحلم المبدع، وسرعان ما أعلنت خطبتنا.

تخرجت في مدرسة التجارة، اشتغلت مساعدا لأبي في أسيوط، ثم حللت محله عقب وفاته في نهاية العام، ثم خضت تجربتي مع السوق والزواج في عام واحد، والحق لقد أحببت العمل كما أحببت الزواج، وأصررت كعادتي على النجاح، وحذرت نفسي دائما من الفراغ ومن تذكر الماضي، وأنجبت ذرية كثيرة فكنت كل عام أستقبل وليدا جديدا، وزخرت حياتي بالتجارة والحب والأبوة.

واندلعت نيران الحرب العظمى فانفتحت أمامي أبواب جديدة للأرباح الأسطورية. انهمكت في عمل لدرجة فاقت كل تقدير. وما لبثت أن أنشأت متجرا ضخما للصوف في القاهرة، وانتقلت أنا وأسرتي إلى العاصمة، ثم شيدت قصرا، ورسخت قدماي في دنيا الثراء والجاه، حتى انتخبت رئيسا للغرفة التجارية.

وجاءني ذات يوم خالد جلال للشراء، صار كهلا وقورا وما زال محافظا على بهاء طلعته. عرفته ولكنه لم يعرفني. صافحته وأنا أقول: سعادتك لا تذكرني!

وحكيت له تجربتي معه وهو يتابعني مبتسما، ثم سألني: وكيف حال الصحة؟

فقلت له بثقة: عال والحمد لله.

فقال لي بهدوء: الشفاء بيد المريض في أغلب الأحوال.

وجعلت نفسي في خدمته حتى غادر المحل راضيا شاكرا. ورغما عني تسللت إلي ذكريات قديمة استقبلتها بنفور، حتى خيل إلي لحظة عابرة أن عدوي القديم رابض غير بعيد. لم تكن إلا لحظة عابرة بالغة السخف، أما ما كان يضايقني كثيرا فحملة كاريكاتور الصحافة على أغنياء الحرب وتصويرهم لهم في صورة قطاع الطرق، يا لهم من أوغاد حسودين! وهل ينجح الإنسان إلا بالجهد والعرق؟!

وكان كلما أتم ابن من أبنائي تعليمه أشركته في العمل، ولكني استأثرت بعقد الصفقات الكبيرة، والقيام بالرحلات التجارية الهامة، وكان أبنائي مثلا طيبة للبر والحذق، وقدوة تجارية في المثابرة وتقديس العمل والمال.

وبتقدم الأيام والعمر أرخيت قبضتي رويدا عن بعض التبعات، وحملتها الأبناء المجدين. لماذا فعلت ذلك رغم هيامي بالعمل والنشاط؟ ربما لأني أردت ألا يفاجأ الأبناء يوما بمسئوليات لم يتدربوا على ممارستها، وربما لأنني طرقت أبواب الشيخوخة ولم تعد الطاقة تسعف كما أسعفت في الماضي، وربما لتسرب قطرات من الضجر إلى زوايا نفسي. وظفرت بشيء من الفراغ سمح لي بالانطلاق بالسيارة ساعتين كل يوم في الخلوات أو الطريق الصحراوي منفردا بنفسي أو بصحبة زوجتي. وفي تلك الأوقات المريحة عاودني شعوري القديم بالعدو الرابض فطاردني التوجس من جديد.

وذهبت إلى خالد جلال. بات شيخا مجلل الشعر بالشيب يواري عينيه وراء نظارة طبية كحلية اللون. وذكرته بنفسي للمرة الثانية في حياتي، فرفع حاجبيه وهو يبتسم، فبادرته دفعا لأي شماتة: المسألة من قبيل الاحتياط.

فقال بهدوء: الوقاية خير من العلاج. - لعله توجد الآن عقاقير للوقاية بدلا من الجلسات الطويلة. - لا بد من الجلسات، لا بد من الصبر.

فقلت ضاحكا: لم يعد في العمر بقية كافية! - اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ... - ولكن عملي لا يسمح لي بأن أهرش ظهري! - آسف، إني على استعداد لأعطيك ما عندي.

فشكرته وقلت وأنا أقوم للانصراف: سأفكر في الأمر.

رجعت وأنا أفكر، لا صبر لي على الجلسات ولا وقت. وقد يسيء ترددي على عيادته إلى سمعتي وأنا رجل سمعته في السوق تساوي مليونا من الجنيهات. وسرعان ما قررت حذف الموضوع من رأسي. ولما اشتد بي الضجر خطرت لي فكرة غاية في الإبداع. قلت لزوجتي: لقد انقضى العمر بين ثلاثة أماكن محددة تفوح منها رائحة الصوف، وقد أتممت رسالتي، وأكرمني الله بأبناء هم زينة السوق، فما رأيك في أن تتأبطي ذراعي ونمضي لرحلة طويلة حول العالم؟

أخذت زوجتي التي أمضت عمرها بين السراي وبيوت الجيران، القانعة السعيدة بكل ما حولها، وقالت بخوف: حول العالم؟

فقلت بحماس: أجل، أوروبا ... أمريكا ... الجبال ... البحيرات ... الناس ...

فقالت بفتور: أريد أن أحقق حلمي الصيف القادم بالحج إلى بيت الله. - ليكن ذلك في العام المقبل!

كلا، إنها لا تريد ولا تحب. ولا داعي لإزعاجها. ولأقم بالرحلة منفردا. وقمت بالرحلة في أبهة لا تتاح إلا لأصحاب الملايين. وفي مدينة نابلي شعرت بعدوي القديم يتحرك. تمطى حتى صار شبحا ثم تجسد وحشا . ترى هل أعتزل في حجرة وأنشج في البكاء؟! وفي شدة اليأس تعلقت بفتاة صغيرة في السابعة عشرة، وكانت شهرتي كمليونير تنتشر من حولي. فتصيدني أبوها البستاني وأسرته فوقعت كذبابة في خيط العنكبوت. وتزوجت منها، وواصلت الرحلة، ونجوت من المخاوف. غمرتها بالهدايا، أغدقت على أسرتها، سبقتني أنباء مغامرتي إلى مصر، وانقلبت بين يوم وليلة حديث الناس والصحافة؛ عريس في الخامسة والستين عروس في السادسة عشرة. ملكة جمال ... مصاصة دماء ... ثروة مهددة بالفناء. انكسر قلب زوجتي، وتجمع أبنائي في اتحاد مضاد للدفاع عني في الظاهر، ودفاعا عن الثروة المهددة في الواقع. وجن جنوني فقررت أن أعصف بهم. وإذا بهم يقيمون دعوى بطلب الحجر علي! وفي المحكمة شرحت تشريحا بلا رحمة، فارق السن، الأموال التي نثرتها يمينا وشمالا ثم فضحوا مرضي القديم باعتباره نوعا من المرض النفسي والجنون أهمل حتى استفحل. بت ويا للأسف مسألة عامة تناقش، المجالس والمقاهي والغرز والصحافة، تجلى الحقد المكبوت من قديم على نجاحي. اتهمت بالسفه. تدهور الشيخوخة، الجنون، اتهمني المتدينون بأنني ألقى جزاء استغلالي للعباد في أيام الحرب، وقال الشيوعيون إنني رجل طبيعي جدا ولكنني رأسمالي بلا زيادة ولا نقصان. ودعي خالد للإدلاء بشهادته فكانت شهادته حاسمة في إدانتي. اعترف بأنني مصاب بمرض نفسي منذ صباي، وأن حياتي لم تكن إلا سلسلة من المحاولات اليائسة للهروب من المرض ومن العلاج. وقد سألته المحكمة: وهل يتيسر نجاحه التجاري لمريض نفسي؟

فأجاب خالد جلال: يتيسر له النجاح في التجارة، بل في العلم، بل في الحكم، إنما العبرة بالنتائج!

وبلغت المأساة ذروتها فصدر حكم بالحجر علي. هكذا انتهت حياة النضال والكفاح والمجد. وسرعان ما ساءت العلاقات بيني وبين زوجتي الصغيرة حتى اضطررت إلى تطليقها، واعتزلت في حجرتي، مقطع الأواصر بأسرتي، أمضغ الكآبة وأبكي كالأطفال. ورغم موجدتي على خالد جلال لم أجد بدا من اللجوء إليه. وقد بادرني: معذرة، ما كان يمكن أن أشهد بغير ما شهدت به.

فتجاهلت ملاحظته وقلت: الحال سيئة جدا. - أعلم ذلك ولكن الشفاء مأمول.

فغمغمت: الأمر لله !

فابتسم مشجعا وقال: لو أذعنت من الأول ما صادفك شيء سيئ، ولعلك لا تتصور أنني كنت سأنصحك بفعل ما فعلت، أنصحك بالرياضة والعمل والزواج.

فقلت بفتور: ولكني فعلت ذلك كله. - هذا حق، ولكنك تفعله بروح أخرى. هذا هو كل شيء.

اللقاء

تجلت القاهرة لعينيه آية في الأضواء والبهجة الصخب. إنه يفد إليها لأول مرة وعما قليل بعد أربعة أيام على وجه التحديد - يلحق به أبوه، ليقوما بأهم زيارة في حياته، زيارة السيد عبد الرحمن فاضل لطلب يد كريمته. أبوه يراه كفئا للبنت الجميلة، فهو زراعي ومرب للعجول، وذو مال، وفضلا عن ذلك فأبوه مزارع أصيل، وصديق للسيد عبد الرحمن فاضل وجار قديم له في القرية قبل أن يهجرها الرجل إلى المدينة، وقد أعجبته البنت ليلة لمحها في الاحتفال بالمولد النبوي بالقرية، وبارك أبوه إعجابه وتمنى له الخير في رحاب آل فاضل، بادر بالانتقال إلى الهرم، دار حول فيلا آل فاضل، تملى طرازها العربي العريق، تملاها بإعجاب ووجد، وتلقى دفقة من أحلام الورد ... سار في المدينة ساعات مستكشفا ثم آوى إلى مقهى الأمراء أسفل الفندق، إنه فتى يحسن تربية العجول، ويحب الغناء ويستحق أحيانا الملامة، جلس في المقهى تائها في أحلام متشابكة حتى انتبه إلى جذبة نظرة مجهولة تناجيه بلطفها الخفي.

التفت فرأى رجلا يتطلع نحوه باهتمام في الأربعين لعله، ربعة واضح القسمات، يتميز بسيما السجود في جبينه وشامة في ثغرة ذقنه. ولما تلاقت عيناهما دنا بكرسيه من مجلسه وقال: لا مؤاخذة، كلانا وحيد، تلعب عشرة؟

كان قد ضاق بوحدته فابتسم مرحبا، صفق الرجل طالبا النرد وهو يقول: محسوبك جبريل الصغير من رجال الأعمال. - تشرفنا، فؤاد صاوي، مزارع.

لعبا بمهارة وسماحة. في أثناء ذلك عرف الرجل على وجه التقريب أسباب وفود الفتى إلى القاهرة. ولما أزف موعد الغداء دعاه الفتى مجاملة، ولكن الرجل قبل الدعوة، ثم دعا الفتى إلى العشاء فلم يجد بدا من القبول. ذهب به الرجل إلى تافرنا. هكذا انزلق إلى صداقة جديدة بلا أسف. اعترف بأن ثمة تجاذبا قويا يدنيه من الرجل ويدني الرجل منه، هذه الأمور تحدث، لم لا؟ تناولا شاورمة وسلطة خضراء ونبيذا أحمر. بعث النبيذ الدفء والإلهام، في جو بارد ورذاذ متقطع تعلن عن حباته اللؤلؤية المنسابة فوق زجاج النافذة ... وثرثرا طويلا فيما يشبه الطرب. ثم زقزقت عصافير النشوة في القلب، فانسابت الأهواء من طرف اللسان كسلسبيل السماء. قال جبريل: إني رجل غني والحمد لله وكثير الذرية. - حالي رضا، أسوأ، ما فيها أني أعشق العجل وأنا أربيه فيبقى منه في القلب أسى بعد بيعه.

فقال جبريل ضاحكا: إنك من أهل الخطوة خطوة، أما البهجة الحقيقية ففي المغامرة والطفرة! - ما عملك على وجه التحديد؟ - المغامرة. - زدني إيضاحا. - صبرا، حتى متى تبقى في القاهرة؟ - لمدة ثلاثة أيام أخر. - ألم تسمع عن يوم بألف سنة؟

وتكلم عن رحلة تستغرق يومين يجني من ورائها ثروة صغيرة، فسأله فؤاد: ألا يعرضني ذلك لقبضة القانون؟ - لا خوف على صاحب السمعة الطيبة والصحيفة البيضاء من السوابق!

وحدثه عن سيدنا موسى وهجرته الأولى من مصر، ثم قال: لولا ذلك ما صار نبيا!

فضحك فؤاد وقال بتوتر وشى باهتمامه، وقال: ولكني سأصير مهربا! - لا تنخدع بالأسماء.

شجعه بمثال سيدنا يونس وجوف الحوت، فقال فؤاد بلسان متعثر من الشراب: إنه السجن وليس الحوت!

فعاد يذكره بسيدنا يوسف وكيف أفضى به السجن إلى الوزارة، ثم قال مداعبا: الدولة تستورد فتسمى ذلك تجارة خارجية، فإذا حاكاها فرد سمت ذلك تهريبا.

ومضى به إلى ملهى لوك الليلي ... شربا مزيدا من الخمر. شاهد رقصة شرقية من أفراح.

أعجب الفتى بالراقصة، طالبه جبريل بتأجيل ذلك إلى ما بعد الرحلة.

قام فؤاد بالرحلة. رجع عند ظهر اليوم التالي. ربح من ورائها ما يربحه عادة في عام من بيع العجول. احتفلا بالنجاح في لوك. قال فؤاد: بوسعي الآن أن أبتاع شبكة فاخرة ونادرة.

فقال جبريل ملاطفا: والبقية تأتي.

فتمتم فؤاد بحرارة: أفراح ... - عظيم، أهي من طراز عروسك؟ - كلا. - هذا أفضل فعليك أن تشبع من أشياء كثيرة قبل أن تهب حياتك للعروس.

وبنفوذه جاءه جبريل بالراقصة ثم غادرهما إلى مكتب مدير الملهى. استحضر فؤاد لهما الشراب وهام في السمر. وهيأ له السكر أن أفراح بحيرة زمردية في مركزها نافورة تنفث السعادة. ولكن اقتحم المجلس ظل ثقيل. رجل متهور سكران يزعم أنه صاحب حق أقدم. سرعان ما تطايرت الكئوس فوق المنضدة محطمة ... وتأرجحت الشموع المتلألئة في الأركان بفعل اللكمات المتبادلة. انسحبت أفراح وجلة مثل حية عقب معركة خاسرة، وجاء جبريل مهرولا وهو يصيح: ولا حركة ولا كلمة!

ثبت أنه مسموع الكلمة، تأبط ذراعه ومضى به وهو يجفف له دما يسيل من ثنيتيه ... أسعفه في صيدلية.

اقترح عليه أن يوصله إلى الفندق، ولكن فؤاد قال: ما زلت مصمما. - هه؟ - أفراح؟ - ليكن ذلك في ليلة أخرى. - ليلتي هذه فرصتي الأخيرة.

مضى جبريل الصغير نحو تليفون الصيدلية وهو يتمتم: لك ما تشاء!

استقبل والده في محطة مصر. استقلا تاكسي مضى بهما إلى الفندق، لحظ الرجل ابنه ثم تساءل: شفتك متورمة؟

فأجاب وهو مستعد لذلك: وقف التاكسي فجأة أول يوم لي هنا فارتطمت بحافة المقعد الأمام! - أظنها بسيطة؟ - وممكن نؤجل اللقاء. - كلا، وقت عبد الرحمن فاضل مشغول دائما ... زرت مصلحة المساحة كما كلفتك؟

أجاب بحرج: شغلني الحادث، كان وجهي كله متورما.

فصمت الرجل في ضيق.

جلس بجانب أبيه في حجرة الاستقبال بفيلا الهرم. بدا متوتر الأعصاب فهمس له أبوه: تكلم بطلاقة لتحوز الثقة.

وأزيحت الستارة. برز من ورائها الرجل في عباءة بنية. برأس كبير مغطى بطاقية من الصوف الأبيض. نهضا لاستقباله وسرعان ما أصيب فؤاد بدهشة غير متوقعة. دهشة بلغت حد الذهول وجاوزته. خيل إليه أنه يرى جبريل الصغير نفسه ... حتى صوته تردد وهو يقول: أهلا ... أهلا، كيف حالك يا شيخ صاوي؟ - بخير ما دمت بخير يا بيه، هذا ابني فؤاد.

وتمت المصافحة دون أن تبدر من عبد الرحمن فاضل بادرة واحدة تنم عن رؤيته للشاب قبل ذلك. حدق فيه بذهول. ساوره الشك. لعلها صورة أخرى! لعله مجرد شبه وليس تماثلا. ولكنه هو هو. كلا طبعا. إنه توهم وأثر من الليلة الماضية. من يقطع في ذلك برأي قاطع؟!

ونظر السيد إلى فؤاد وقال ببساطة: أذكر طفولته.

فقال الشاب بحنان: تلك الأيام الطيبة لا تنسى!

هو جبريل الصغير، كلا، هذا رجل آخر جاد ووقور ولا أثر للافتعال في حركاته. ما أحوجه إلى صفاء الذهن. ما زالت بقية من الخمر في معدته لم تهضم بعد. وقال الأب مخاطبا السيد: لعلك بخير وعافية. - الأمور تسير بعون الله، ولكن يندر أن نعثر على مخلوق جدير بالثقة. - هذه هي المشكلة! - وكما عرفتني فأنا لا أقرر البطش إلا عند الضرورة القصوى! - نبل عرف عنك منذ القدم! - والوسطاء ألعن، ولكن هل يسعني أن أقوم بكل شيء بنفسي؟ - غير معقول ولو كان ممكنا! - حتى خطر لي مرة أن أصفي عملي وأرجع إلى القرية. - يسعدنا رجوعك ولكن بلا قهر!

فقال متأسفا: الأولاد متعلقون بالمدينة.

وفجأة التفت نحو فؤاد متسائلا: ما لك يا بني؟

فتراجع فؤاد إلى أعماقه وقال: لا شيء يا سيدي. - ولكنك تنظر إلي نظرات غريبة!

فتشجع فؤاد لعله ينجو من عذاب حيرته. - الحق ... الحق ... ألك توأم يا سعادة البيه؟

ضحك الرجل وهتف الشيخ صاوي: يا لجهلك يا فؤاد ... الدنيا كلها تعلم أن البيه وحيد أبويه.

وسأله عبد الرحمن فاضل: أعرفت شخصا يماثلني لهذه الدرجة؟ - أجل ... ولكن لعلي واهم!

وقال الأب مجاملا: عبد الرحمن بك لا مثيل له!

ولكن السيد سأل فؤاد: من هو ذلك الشخص؟ - يدعى جبريل الصغير وهو من رجال الأعمال.

فهتف عبد الرحمن فاضل: عليه اللعنة! لم يقل أحد قبلك إن بيننا أي شبه.

فتساءل الأب بقلق: ما لعينيك يا فؤاد!

وتمتم فؤاد حائرا: أعترف بأني مخطئ!

فالتفت عبد الرحمن فاضل نحو الشيخ صاوي وقال: كيف نسيته تماما يا شيخ صاوي؟ (ثم ضاحكا) كانت لك به علاقة لا تذكر بخير، أنسيت؟ الرجل الذي كان يعمل عندي ثم طردته بعد ضبطه متلبسا باختلاس؟

تورد وجه الشيخ صاوي وقال: اللعنة ... الآن أتذكره.

فرجع عبد الرحمن فاضل إلى فؤاد متسائلا: أيدعي أنه صاحب أعمال؟ فماذا أكون أنا؟ ما هو إلا نصاب. مهرب. قواد، كيف عرفته يا بني؟!

تلاشى فؤاد في حمأة الهجوم، اضطرب لدرجة أن اختفى التماثل بين الرجلين. وبادر الشيخ صاوي يقول مدافعا عن ابنه: لم يعش في القاهرة أكثر من أربعة أيام.

لبث عبد الرحمن ينظر إلى فؤاد منتظرا الجواب على سؤاله، فقال فؤاد: عرفته معرفة سطحية في مقهى الأمراء. تبادلنا حديثا عابرا ثم افترقنا.

تنهد الشيخ صاوي في ارتياح. فكر فؤاد بأن أباه مذنب مثله وإلا فما معنى علاقته القديمة بجبريل الصغير؟ أما السيد عبد الرحمن فاضل فقال للشاب بهدوء مريب: الصدق أولى بالشرفاء! - أقسم ...

ولكنه قاطعه: ولا تقسم بالله باطلا!

اصفر وجه فؤاد. لاح شبح الفشل لعيني الشيخ صاوي. استمسك الشيخ بآخر خيط للأمل وقال: اللعنة على جبريل وسيرته. ما من أجل ذلك جئنا، ألم يحدثك الشيخ مندور عن دوافع زيارتنا يا عبد الرحمن بيه؟ فؤاد ولد طيب!

فقال عبد الرحمن فاضل بالهدوء نفسه: كلا ...

تلاقت عينا فؤاد بعيني السيد فومضت الحقيقة حتى أعمته. وقال السيد ببرود: ليس بالولد الطيب ولكنه مهرب، فاسق، معربد ...

هتف الشيخ الصاوي: يا ألطاف الله!

خيم صمت معذب. تجسدت الإهانة كما تجسد اليأس من الخطوبة ... كيف يتكلم الرجل بهذه الثقة؟!

من وحي استنتاج أم من وحي الوقائع؟ أله عين دائمة ترصد حركات جبريل فرصدته هو ضمنا؟!

وهل هو تماثل أو تشابه أم لا هذا ولا ذاك؟!

وتساءل الأب في أسى: أليس لديك ما تدافع به عن نفسك؟

فتمرد فؤاد على وضعه وقال لأبيه: أهنت يا أبي بما فيه الكفاية ويستحسن الآن أن نذهب!

فقال عبد الرحمن فاضل بصلابة: أنت المهان وأنت المهين!

ثم التفت إلى الأب قائلا بنبرة لينة: آسف يا شيخ صاوي.

غادرا الفيلا صامتين يتجنبان الكلام، يتجنب أحدهما الآخر، يغوصان في حيرة بلا قرار ويشعر كلاهما بالذنب.

الجبل

1 (كهف فوق سطح المقطم. إلى اليسار ممر يبدأ من نقطة عند حافة الكهف اليسرى ويمتد فوق السطح إلى الخارج. إلى اليمين ممر يبدأ من نقطة عند حافة الكهف اليمنى وينحدر نحو الخارج موحيا بالامتداد حتى سفح الجبل.) (الكهف مظلم. ثمة أشباح. يد شبح تشعل المصباح المدلى من سقف الكهف. يتضح المنظر. يوجد رجل بالملابس البلدية مقيد اليدين والقدمين جالسا على الجهة اليسرى من الأرض وأمامه من الناحية المواجهة خمسة من الشبان جالسين على الأرض أيضا يرتدون القمصان والبنطلونات.) (يتوسطهم عساف بمركز الرياسة. إلى يمينه إسماعيل وحلمي. إلى يساره رمزي وحسني.)

الرجل المقيد (في حال فزع) :

انقضضتم علي في الظلام وأنا راجع فتوهمتكم لصوصا، وها أنا أرى أنكم أبناء من حارتي، أنت عساف، أنت إسماعيل، أنت حلمي، أنت رمزي، وأنت حسني، جيران وأبناء جيران، ما معنى ذلك؟ لماذا فعلتم بي ما فعلتم؟!

عساف :

جئنا بك لنحاكمك.

الرجل (وقد امتزج الفزع بالدهشة) :

قلت تحاكمونني؟

عساف :

نعم.

الرجل :

ما أنا بالمجرم.

عساف :

إنك مجرم.

الرجل :

وما أنتم بالقضاة.

عساف :

نحن قضاة كما ترى.

الرجل :

إن كنتم تريدون نقودا ...

عساف (مقاطعا) :

لسنا لصوصا!

الرجل :

ولست مجرما.

عساف :

إنك مجرم وتعلم أنك مجرم.

الرجل :

حذار يا أبنائي من الخطأ، القانون لا يغفل، ولا يفلت أحد من العقاب.

عساف :

نشكر لك نصيحتك التي لا حاجة بنا لها.

الرجل :

إنكم شبان، الحياة أمامكم طويلة وعريضة، ولستم قضاة.

عساف :

نحن قضاة ما دام العدل لا يجد من يقيمه.

الرجل :

إن كنتم قضاة فأين الدفاع؟

عساف :

ما جدوى الدفاع وجريمتك جارية على كل لسان.

الرجل :

إنني أقرأ الحكم في أعينكم متجسدا.

عساف :

وسبق أن حكم عليك كل متعامل معك.

الرجل :

أمثالي يملئون الأسواق.

عساف :

سيجيئون تباعا.

الرجل :

ليس ذنبي ولكنه الزمن.

عساف :

بل هو الجشع.

الرجل :

وما عقوبتي في تقديركم؟

عساف :

القتل!

الرجل (صارخا) :

القتل!

عساف :

رجوعك يعني هلاكنا.

الرجل (متوسلا) :

أقسم لكم ...

عساف (مقاطعا) :

طالما حلفت كذبا بالطلاق!

الرجل :

الرحمة!

عساف :

قتلك رحمة بالعباد. (يقفون وهو يرتعد. يحمله أربعة. الخامس يحمل خمس عصي غليظة ويتبعهم نحو اليسار. الرجل طيلة الوقت يستغيث.) (إظلام.)

2 (إضاءة.) (يرجعون متجهمي الوجوه. تمر فترة صمت في وجوم ثم يبدأ حسني الكلام وهو أسوأهم حالا.)

حسني :

أن تقتل إنسانا عمل فظيع حقا، لن أنسى نظرة عينيه ولا جمود الموت الناطق بالفناء، لا تعرف الحياة على حقيقتها إلا لحظة الموت، الحق لقد مت معه ... (صمت. حسني يجفف عرقه.)

حسني :

معذرة فإنها المرة الأولى.

رمزي :

نحن مثلك.

عساف (متغلبا على وجومه) :

هل انهرتم وانتهيتم؟

رمزي وإسماعيل وحلمي :

كلا ... كلا ... كلا ...

عساف (مخاطبا حسني) :

إني مثلك تماما يا حسني ولكن علينا أن نحترف ضبط النفس ...

حسني :

تلزمنا أعصاب من فولاذ وقلوب لا تخفق!

عساف :

علينا أن نتذكر دائما الظلم وأن نثق تماما بقوة العادة، وقد تناقشنا طويلا، واقتنعنا بكل قلوبنا، وتعاهدنا على عمل لا رجوع فيه، إنها رسالة، والرسالة وقودها العذاب ...

حلمي :

هذا ما ارتضيناه بوعي كامل ...

عساف :

واعتياد الظلم أفظع من اعتياد القتل.

حسني :

الظلم والقتل، كلاهما فظيع.

إسماعيل :

لتغفر لنا نوايانا الطيبة.

عساف :

تذكروا أننا شرفاء ورحماء.

حسني :

ولكننا لن نعرف الابتسام.

عساف :

لنكن شهداء.

رمزي :

لنكن شهداء.

عساف (بنبرة جديدة) :

علينا أن ننسى الجبل إذا رجعنا إلى الحارة.

حلمي :

نمارس حياتنا مثل بقية الناس.

إسماعيل :

ونتساءل عن سر اختفاء عم فرجل مع الآخرين.

عساف :

ونلعن اللصوص ونعطف على أولاده.

حسني :

أولاده! إنهم مظلومون مثلنا.

عساف (بخشونة) :

نحن قضاة لا محامون، والتاريخ نهر طويل يتدفق بالدم المسفوك تسعة أعشره من دماء الأبرياء.

عساف (يتحرك نحو اليمين وهو يقول) :

لا تنسوا أن دماءنا ستلتحم بدمائه البريئة ذات يوم. (يذهبون واحدا في إثر واحد.) (إظلام.)

3

الكهف - عساف - إسماعيل - رمزي - حسني

عساف :

لندع لحلمي أن يوفق في مهمته.

إسماعيل :

فكرة طيبة، المجرم زير نساء، سرعان ما يقتنع بأنه قادم على سهرة طيبة.

رمزي :

ستهتز الحارة هذه المرة حتى الأعماق.

عساف :

سيؤمنون بأنه سفاح خطير.

رمزي :

لن يعطفوا على جلاديهم.

إسماعيل :

من أسف أن الخوف سيجتاح الجميع.

حسني :

وربما فطنوا عاجلا إلى نوعية المختفين.

عساف :

لعله أنفع لرسالتنا.

حسني :

في تلك الحال يخشى على الأبرياء من سوء الظن.

عساف :

الأبرياء لا خوف عليهم.

حسني :

قد يتعرضون للأذى .

عساف :

أشعر أنك لم تبرأ بعد من ضعفك.

حسني :

ألا ترى أني أعمل مثلكم؟

عساف :

أعني القلب، فقد يستقل عن اليد واللسان!

رمزي :

اطمئن إليه كما تطمئن إلى نفسك. (تترامى نحنحة آتية من الخارج. يدخل حلمي يتبعه رجل في ملابس بلدية فاخرة. الرجل يدهش لرؤيته الآخرين ويتوقف عن التقدم.)

الرجل (مخاطبا حلمي) :

ما معنى هذا؟ (ينقضون عليه بسرعة وإحكام يطرحونه أرضا. يقيدون قدميه وذراعيه وهو يقاوم عبثا. يجلسونه مكان الضحية السابقة وهو ينظر إليهم في فزع.)

الرجل :

ما معنى هذا يا أبنائي؟ محال أن تكونوا لصوصا!

حلمي :

صدقت، ستعرف كل شيء.

عساف :

لسنا لصوصا كما قلت، نحن قضاة نحاكم مجرمي حارتنا.

الرجل (برعب) :

قضاة ... محاكمة ... مجرمون!

عساف :

كما ترى ... وقد سبقك إلى هنا عم فرجل.

الرجل :

ماذا فعلتم به؟

عساف (مشيرا إلى اليسار) :

إنه مدفون في الجبل.

الرجل :

ألا تخافون القانون؟

عساف :

نحن رجال القانون الأسمى، دافع عن نفسك.

الرجل (بفزع) :

أنا في عرضكم ... خذوا ما تشاءون!

عساف :

دافع عن نفسك.

الرجل (بضراعة) :

صبركم، فكروا قليلا، فيم أختلف عن أي مالك في مصر؟ ماذا يجديكم قتلي؟

عساف :

ينقص الظالمين واحدا.

الرجل :

الأمر أكبر من ذلك، فكروا قليلا، لنتفاهم، تجعلون من أنفسكم قتلة بلا ثمرة حقيقية.

عساف :

لديك أقوال أخرى؟

الرجل :

ماذا أقول؟ ماذا يمكن أن يقال؟ ستبقى المشكلة، إنها أكبر مني ومنكم، قد يوجد حل ولكنه ليس في القتل. (يقفون. أربعة يحملونه إلى سطح الجبل، يتبعهم الخامس بالعصى.) (إظلام.)

4 (إضاءة.) (يرجعون بوجوه متجهمة. نلاحظ أيضا أنهم أملك لأنفسهم من المرة الأولى. أما حسني فقد انتحي جانبا على حال واضحة من السوء. أربعتهم يلاحظونه بقلق، خاصة عساف.) (صمت.)

عساف :

لا يمكن أن تمضي الأمور على هذا النحو. (صمت.)

عساف :

إني أتساءل متى تبرأ من ضعفك!

حسني :

يستحوذ علي إحساس غريب، لعله المرض.

عساف :

كلا، إنه أدهى وأمر.

حسني (بنبرة اعترافية) :

أخي عساف، ينبغي أن أصارحك بأن دفاع الرجل أقنعني! (فترة صمت.)

عساف :

ما شاء الله، وإذن فالرجل هو المظلوم لا أهل حارتنا!

حسني :

لا أعني ذلك، إنما أعني أن قتله لن يحل المشكلة.

عساف :

اتفق رأينا فيما سبق على نقيض ذلك!

حسني (منفعلا) :

سنمضي من جريمة إلى جريمة، سنحترف الإجرام ونحن لا ندري، بت أشعر بالمرض.

عساف :

إنك مريض حقا، مريض الإرادة والروح.

حسني (بعصبية) :

العكس هو الصحيح!

عساف :

حقا؟ كلامك يعني أنك سليم وأننا المرضى؟ (صمت.)

حلمي (لحسني) :

أهذا ما تعنيه؟

رمزي (لحسني) :

ماذا تقترح؟

عساف :

بكل بساطة إنه يمهد للانسحاب.

حسني :

كلا ... أقترح أن نعدل جميعا عن خطتنا.

عساف :

عن احتراف الإجرام. (صمت.)

عساف :

لا فائدة ترجى من مواصلة المناقشة، امكث قليلا في هواء الليل النقي، استرخ في هدوء، ثم نستأنف الحوار. (حسني يتردد قليلا ثم يذهب ناحية اليمين ويخرج. يتبادلون النظرات.)

عساف :

ما رأيكم؟

حلمي :

سوف يثوب إلى رشده.

إسماعيل :

إني لا أشك في إخلاصه.

عساف :

وإني لا أشك في إخلاصه، ولكن الضعف غزاه، ويجب أن نخشى عواقبه ضعفه.

رمزي :

لعله من الخير له ولنا أن ينسحب.

عساف :

إنه حل قد يسفر عن عواقب وخيمة.

إسماعيل :

لن يصلح رفيقا لنا.

عساف :

أوافقك تماما، ولكن ما الخطوة التالية؟

رمزي :

نعفيه من العمل.

عساف :

من يضمن لنا سكوته؟

إسماعيل :

لا شك في إخلاصه.

حلمي :

وكشف الأمر يودي به كما يودي بنا.

عساف :

الضعف قد يؤدي إلى التهور أكثر مما تؤدي إليه القوة! (صمت.)

إسماعيل :

احتمال بعيد جدا.

عساف :

وهل نضع أرواحنا ورسالتنا تحت رحمة الظروف؟

رمزي :

لدي اقترح آخر، أن يقتصر عمله على استدراج المجرمين.

عساف :

لن يغير ذلك من واقع الأمر شيئا.

إسماعيل :

فلنجرب، لست متشائما.

عساف :

دعوني أختبره. (عساف يخرج ناحية حسني. إسماعيل وحلمي ورمزي يتبادلون النظرات في حيرة واضحة.)

إسماعيل :

الصبر، سينتهي الصراع إلى خير.

رمزي :

لعله.

حلمي :

صدري منقبض. (يرجع عساف متثاقل الخطوات. يجلس القرفصاء دافنا وجهه بين ركبتيه. ينظرون نحوه بقلق واستطلاع.)

إسماعيل :

ماذا وراءك؟ (صمت.)

رمزي :

يبدو أنك لم تقنعه؟ (صمت.)

حلمي :

تكلم يا عساف، لا تسلط علينا الهواجس. (يذهب إسماعيل إلى الخارج. تترامى منه آهة فزع. يرجع منفعلا نحو عساف.)

إسماعيل :

لقد خنقته! (يضطرب رمزي وحلمي. يهرعان إلى الخارج. يرجعان أشد اضطرابا.)

إسماعيل :

من يصدق؟

رمزي :

إنه قرار انفرادي ما كان ينبغي أن يتخذ دون الرجوع إلينا.

حلمي :

نحن نتدهور وننتحر.

عساف (رافعا وجها متقلصا من الحزن) :

الألم يمزقني.

إسماعيل (بحدة) :

هيهات أن يرده ذلك إلى الحياة.

عساف :

لم يدع لي فرصة الاختيار.

إسماعيل :

نحن نعمل كوحدة لا تتجزأ فلم انفردت بالقرار؟

عساف :

لقد تحملت عنكم الألم وحدي.

إسماعيل :

لقد قضيت علينا بألم لا يمحى.

عساف :

أقدمت على الجريمة دفاعا عنكم وعني وعن الرسالة، إني صريع الحزن والألم.

إسماعيل :

إنك قاس فوق ما تصورت.

عساف :

الرحمة وحدها هي التي تحركنا.

إسماعيل :

يا للعجب! كيف طاوعتك يداك؟! (عساف يدفن وجهه بين يديه. صمت.) (إظلام.)

5 (إضاءة.) (عساف، إسماعيل، حلمي، وجوههم جادة ولكن يبدو أن ذكرى حسني قد جرفتها الأحداث.)

حلمي :

لم يعد للحارة من حديث إلا حديث السفاح الخفي.

عساف :

عظيم.

إسماعيل :

أهلي يتساءلون أين أمضي بعض الليالي حتى الفجر!

عساف :

إنه سؤال يتردد في بيتي أيضا ويثير متاعب.

إسماعيل :

لذلك يتولاني شعور أحيانا بأنني مطارد.

حلمي :

وقد يربط قوم بين غيابنا واختفاء الضحايا!

عساف :

لقد اخترنا وسلمنا بالمصير المحتمل. ••• (يدخل رمزي متأبطا ذراع كهل. يدهش الرجل ويدهش كذلك عساف وإسماعيل وحلمي.)

الكهل :

أين نحن؟ (رمزي يدفعه فيوقعه. يتعاونون على تكبيله رغم مقاومته وصراخه. يتبادلون النظرات في صمت.)

الكهل :

خدعتني يا رمزي، ماذا أرى؟ أنتم لصوص؟!

عساف :

لنحمله إلى الخارج حتى نتشاور. (يمضون به إلى اليسار ثم يرجعون.)

عساف (لرمزي) :

إنه ليس من كنا ننتظر ولا هو من المدانين.

رمزي :

لكنه لا يختلف عنهم في شيء.

عساف :

ما جريمته؟ (صمت.)

حلمي :

المسألة بصراحة أنه نجح في أن يكون خطيب البنت التي يحبها رمزي.

عساف :

كيف تقحمنا في شئونك الخاصة؟

رمزي :

إنه كهل وهي فتاة في السادسة عشرة، استغل فقرها، وفضلا عن ذلك فهو فاسق بدليل مجيئه معي جريا وراء سهرة محرمة.

عساف :

مسألة شخصية.

رمزي :

بل إنه استغلالي دنيء للضعفاء.

عساف :

قد تكون البنت آثرته باختيارها.

حلمي :

لا نملك دليلا ضده، ثم إنها مسألة خاصة.

رمزي :

لها صفة عامة في رأيي.

عساف :

لا يمكن أن نقتل لمثل هذه الأسباب.

حلمي :

أتفق معك.

إسماعيل :

وأنا كذلك.

رمزي :

هل نطلق سراحه ليفشي سرنا؟

عساف :

للأسف لا مفر من قتله، ولكننا لن نقتله، فلسنا مجرمين.

رمزي :

إنك تلقي ألغازا؟

عساف :

إني واضح تماما، عليك وحدك أن تقتله، وعليك وحدك أن تدفنه. (رمزي ينظر نحو إسماعيل وحلمي ولكنهما يوافقان صامتين. أخيرا يتناول عصاه ويندفع نحو اليسار.)

عساف :

سيصبح منذ الآن مجرما.

حلمي :

أجل.

إسماعيل :

الحق أننا شركاء له في جريمته.

عساف :

ماذا؟

إسماعيل :

ها هو بريء يقتل بموافقتنا واقتراحنا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟!

عساف :

هل عندك حل أوفق؟ (إسماعيل يصمت.)

عساف (لحلمي) :

هل عندك أنت؟

حلمي :

كلا.

عساف :

هل من سبيل لإنقاذ شرفنا؟

إسماعيل :

لن تنقذه قوة في الأرض.

عساف :

بل توجد وسيلة لإنقاذه!

إسماعيل :

حقا!

عساف :

أن نعاقب المجرم بما يستحق.

إسماعيل (فزعا) :

تقتله كما قتلت حسني؟

عساف (ساخرا) :

إنما أشير إلى الطريق الصواب ولكما الاختيار.

إسماعيل :

إنه فوق ما نستطيع.

عساف :

كونا مجرمين إذن.

حلمي :

لننس الأمر كله.

عساف :

هيهات!

حلمي :

لا مفر من ذلك.

عساف :

إنه الضعف يغزونا مرة أخرى.

إسماعيل :

أصبحت الحياة كريهة.

حلمي :

لننس الأمر ولنواصل السير، أصبحت الحياة كريهة حقا.

عساف :

لقد جردتنا هذه الجريمة من شرفنا. (يرجع رمزي غاض البصر. يقف مستندا إلى الجدار. يسود صمت.) (إظلام.)

6 (إضاءة.) (عساف، إسماعيل، حلمي، رمزي أمام ضحية جديدة مكبلة بالحبال. عند رأس الممر الأيمن خارج الكهف تقف فتاة متنصتة.)

عساف :

انتهي التحقيق فلنحمله. (يحملونه ناحية اليمين مثل كل مرة سابقة.) (الفتاة تدخل الكهف بحذر، متوارية وراء الجدار تصرخ فزعة وتقع مغميا عليها.) (يرجع الشبان الأربعة فزعين وبأيديهم العصي. عساف يركع إلى جانب الفتاة على حين يجري الآخرون نحو المخرج الأيمن.)

عساف (بحنان) :

هبة ... حبيبتي ... ماذا جاء بك؟ (يربت على خدها. يرجع الشبان.)

إسماعيل :

لا يوجد أحد، كيف جاءت؟!

عساف (للفتاة) :

هبة ... هبة ... أفيقي!

رمزي :

ماذا جاء بها؟ (تأخذ الفتاة في الإفاقة. تنقل عينيها بين الوجوه. تتذكر تقف فزعة.)

هبة (لعساف) :

ابعد عني، إنك قاتل، كلكم قتلة.

عساف :

مهلا، لسنا قتلة، اهدئي حتى أطمئن عليك.

هبة :

لا تمسني ... ابعد!

عساف :

مهلا ... كيف جئت إلى هنا؟

هبة :

إنه حظي، لأعرفك على حقيقتك، أنت قاتل؟!

عساف :

سأشرح لك كل شيء.

هبة :

لقد رأيت بعيني ... رأيت القتل والدم.

عساف :

ماذا جاء بك يا هبة؟

هبة :

كنت عمياء، لاحظت تغيبك ليلة بعد أخرى، ظننت ... المهم أنني تبعتك.

عساف :

يا لسوء الحظ!

هبة :

يا للقتل والدم والوحشية. (تتحول لتذهب، يقف رمزي في طريقها.)

هبة :

دعني أذهب! (يتبادلون النظرات.)

حلمي :

غير ممكن.

إسماعيل :

هذا مفهوم تماما.

هبة :

فيم تفكرون؟

رمزي :

لا يمكن أن تذهبي، هذه هي الحقيقة الأليمة!

هبة :

ماذا تعني؟

إسماعيل :

حقيقة أليمة حقا.

حلمي :

أي لعبة قذرة دامية!

رمزي (لعساف) :

تكلم يا عساف. (عساف يئن صامتا.)

رمزي :

لا حيلة لنا.

هبة :

ماذا تريد؟

رمزي :

لن ترجعي أبدا.

هبة (وهي في رعب متزايد) :

ماذا تقصد؟ (تنظر نحو عساف فيزداد منها قربا.)

عساف :

دعوا المسألة لي.

رمزي :

أوضح!

عساف :

يلزمني وقت للتفكير.

رمزي :

الأمر واضح جدا ولعلك لم تنس مصرع حسني! (عساف ينظر إلى رمزي بقهر.)

رمزي :

تكلم يا عساف.

عساف (بانفعال) :

لا.

رمزي :

لا؟! ماذا تعني؟!

عساف :

قلت لا!

رمزي :

أتريد أن تضحي بنا من أجل حبيبتك؟ (هبة تقترب أيضا من عساف.)

رمزي :

إنها بريئة، سيئة الحظ، ولكن لا مفر من قتلها! (هبة تصرخ فزعة.)

رمزي :

عليك أن تقتلها وعليك أن تدفنها.

إسماعيل :

يجب أن ينتهي هذا العذاب.

حلمي :

لقد حلت بنا اللعنة.

رمزي :

إنها مهمتك يا عساف.

هبة (لعساف) :

أنت تقتلني؟

عساف :

كلا ... لن يمسك سوء.

رمزي :

هل تعني ما تقول؟

عساف (بتحد) :

كما تسمع وترى.

رمزي :

ها أنت تنكشف على حقيقتك.

عساف :

لن يمسها سوء وأنا حي.

رمزي (للآخرين) :

لنتخذ قرارا.

إسماعيل :

صبرك.

رمزي :

حتى متى؟

عساف :

اعتمدوا علي، إنها مشكلتي وسأجد لها الحل المناسب.

رمزي :

إنه قرار غير قابل للتأجيل.

عساف :

نهرب معا، أنا وهي ...

رمزي :

وتتخلى عن الرسالة وعنا؟

عساف :

إنه الحل الوحيد.

رمزي :

بل يوجد حل آخر، أن تقتلها وتدفنها بنفسك. (ثم ينظر رمزي إلى إسماعيل وحلمي محتدا ويقول.)

رمزي :

تكلما ... ما معنى الخرس في موقف البيان؟

حلمي :

الحقيقة واضحة.

إسماعيل :

هذا حق.

رمزي :

إنه قرار إجماعي.

عساف :

إنه المستحيل!

رمزي :

نعفيك من التنفيذ ونقوم نحن. (هبة تصرخ متعلقة بعساف.)

عساف :

لن يتم هذا وأنا حي.

رمزي (منقضا علية بعصاه) :

إذن يتم وأنت ميت. (يتبادلان الضرب. يسقط رمزي. هبة تندفع نحو اليمين هاربة. حلمي يتبعها بعصاه. يندفع عساف في أثر حلمي فيعترضه إسماعيل ولكنه يقتله وينطلق خارجا.) (إظلام.)

7 (إضاءة.) (يرجع عساف حاملا هبة بين يديه. يضعها على الأرض. ينظر إليها حزينا.)

عساف :

عندما يتجاوز الشعور بالألم حده يفقد الإحساس بذاته. لذلك فإني هادئ وسعيد. لولا أن الوقت غير مناسب لغنيت ورقصت. الوداع لكل شيء طيب أو قبيح. ولتسعفني سعادتي على دفن الحبيبة والزملاء والأمل. وأقول لأي هاتف بأنني لن أعترف ولن أنتحر. في سطح الجبل الغائص في الظلام متسع للتخبط الجنوني الثمل. امض أيها الشبح متلقيا الخلاء بخلاء أشد، مستعذبا التحدي بلا عون ولا هدف، مستشرفا ضربات المجهول ومفاجآت الغيب، مستعذبا الألم والسخرية وذكريات الأحلام الجميلة.

الشيطان يعظ

مسرحية في فصل واحد

مستوحاة من «مدينة النحاس»

ألف ليلة وليلة

1 (حجرة ذات أسلوب مغربي يتصدرها ديوان يجلس عليه موسى بن نصير.) (يدخل حاجب، ينحني تحية.)

الحجاب :

مولاي الأمير، قد وصل الأمير طالب بن سهل مندوب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان. (موسى يقف ثم يتجه نحو الباب. يدخل الأمير طالب بن سهل على حين ينسحب الحاجب. يلتقيان بالأحضان وسط الحجرة.)

موسى بن نصير :

أهلا وسهلا ومرحبا برسول أمير المؤمنين.

طالب بن سهل :

أهلا بكم أيها الأمير موسى بن نصير، وإليك أحمل سلام مولانا الخليفة. (يجلسان على الديوان جنبا لجنب.)

موسى بن نصير :

أطال الله بقاء مولانا للإسلام والمسلمين.

طالب بن سهل :

تبلغنا أنباء طيبة عن المغرب.

موسى بن نصير :

إنه يقبس أنواره من المشرق بفضل الله العظيم وحكمة خليفتنا.

طالب بن سهل :

إنك أمير حائز الرضا فليتم الله نعمته عليك. (طالب بن سهل يصمت قليلا ثم يواصل.)

طالب بن سهل :

معي إليك رغبة لأمير المؤمنين.

موسى بن نصير :

إني رهن إشارة مولانا الخليفة.

طالب بن سهل :

إنه يريد قمقما من قماقم العفاريت! (موسى بن نصير يؤخذ بما سمع فيتطلع إلى محدثه صامتا.)

طالب بن سهل :

في مجلس سمر جرى الحديث إلى ذكر العفاريت العصاة حبيسي القماقم فتاقت نفس مولانا إلى امتلاك أحدها ليرى بعينه ويسمع بأذنه ويقتنع بعقله.

موسى بن نصير :

رغبة مولانا واجبة علي، ولكن ماذا أملك لتحقيقها؟

طالب بن سهل :

قيل من ضمن ما قيل إنه توجد قماقم من قديم الزمان في صحرائكم.

موسى بن نصير :

أشهد الله على أنني لا أعلم عنها إلا السماع والظن. ولكن ثمة رجلا طاعنا في السن يعد أخبر الناس بصحرائنا، حاضرها وماضيها، فضلا عما حباه الله به من حكمة، فلنرسل في طلبه. (موسى بن نصير يصفق يدا على يد، يدخل الحاجب. على حين يهبط الظلام.)

2 (إضاءة.) (موسى بن نصير وطالب بن سهل. يدخل الحاجب.)

الحاجب :

الشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي. (ينسحب الحاجب. يدخل الشيخ. عجوز وقور. يرفع يديه تحية. يشير له ابن نصير بالجلوس فيجلس على وسادة بين أيديهما.)

موسى بن نصير :

مرحبا بالشيخ المبارك.

عبد الصمد (حانيا رأسه) :

عظم الله المرسل ورسوله.

موسى بن نصير :

إنك يا شيخ عبد الصمد رجل الصحراء دون منازع.

عبد الصمد :

هي حياتي ومماتي أيها الأمير.

موسى بن نصير :

لك علم ولا شك بما يقال عن قماقم العفاريت بها!

عبد الصمد (باهتمام) :

هذا ما توكده لنا الكتب القديمة.

طالب بن سهل :

في أي موقع من مواقعها؟

عبد الصمد :

يقال إنها مستقرة في قعر بحيرة بمدينة النحاس.

طالب بن سهل :

وما مدينة النحاس؟

عبد الصمد :

مدينة قديمة، يقال إنها ازدهرت قبل التاريخ المعروف بعشرين ألف سنة، لا يعلم عنها أكثر من ذلك، لم يذهب إليها أحد ولم يجئ منها أحد، قد تكون حقيقة وقد تكون خرافة.

طالب بن سهل :

ألم يسع ساع إلى اكتشافها؟

عبد الصمد :

ذاك ما يفوق طاقات الفرد والجماعة.

موسى بن نصير :

مولانا الخليفة يرغب في الحصول على قمقم من قماقمها!

عبد الصمد (يصمت متفكرا ثم يقول) :

رغبة مولانا على الرأس والعين، ولكن الله أمرنا بالشورى، ومن يمد سلطانه بقوة القرآن فليس به حاجة إلى قوة العفاريت!

طالب بن سهل :

اقتضت حكمته أن يسخرها في خدمة الإسلام والمسلمين.

عبد الصمد :

إنها مهمة شاقة حقا أيها الأمير، فعلينا أولا أن نكتشف موقع فارس من نحاس إذا فركت يده أشارت إلى مكان المدينة.

موسى بن نصير :

ستجد مني كل عون.

عبد الصمد :

نحتاج إلى قافلة كاملة ومؤن، وقوة وسلاح، وحذر ودهاء، فلعل المدينة، ما زالت على قيد الحياة، ولعلها تستطيع التصدي للغرباء، بل لعل حاكمها قد سخر عفريتا لخدمته. (موسى بن نصير وطالب بن سهل يتبادلان النظر برهة.)

طالب بن سهل :

لو كان لديهم عفريت مسخر لتسلطوا به على العالم.

موسى بن نصير :

سأشرع من فوري لإعداد الحملة وسأكون على رأسها.

طالب بن سهل :

ولن أتخلف عنها.

عبد الصمد :

فليسدد الله خطانا وليجنبنا الضلال. (يهبط الظلام.)

3 (إضاءة.) (مدخل مدينة النحاس. موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي.) (ينظرون إلى الداخل وقد لفه ظلام الفجر.)

موسى بن نصير :

يا لها من رحلة خيالية في مشقتها، لقد أرهقت الجند والجمال.

طالب بن سهل :

لم يصادفنا حولها حي.

موسى بن نصير :

اصبر، سوف ينقشع الظلام وتشرق الشمس.

طالب بن سهل :

أليس غريبا أنه لا يوجد حارس واحد في مدخل المدينة؟

عبد الصمد :

لعل عزلتها الكاملة أغنتها عن الحراس.

طالب بن سهل :

لم أعرف صمتا كهذا الصمت.

عبد الصمد :

أهو صمت النوم؟

طالب بن سهل :

ألا ينبح فيها كلب أو يصيح ديك؟

موسى بن نصير :

ترى أين موقع البحيرة ؟

عبد الصمد :

ناحية المشرق غير بعيد من المدخل. (يأخذ الظلام في الانقشاع ويتجلى رويدا داخل المدينة. ميدان مكتظ بالناس، في عمقه قصر، تقوم على دائرة محيطة الحوانيت وتتفرع عنه الطرقات. الرجال الثلاثة يتراجعون في حذر.)

موسى بن نصير :

متى جاءوا؟ هل نستدعي الجنود؟

طالب بن سهل :

انظر جيدا، إنهم لا يتحركون.

عبد الصمد :

أجل.

طالب بن سهل :

لا حركة، لا صوت، إنهم أصنام.

موسى بن نصير :

هذه وجوه آدمية لا تماثيل.

طالب بن سهل :

صدقت، هل يتحركون فجأة؟

موسى بن نصير :

انظر إلى هيآتهم، كأنهم تجمدوا بغتة، توجد امرأة على عرش، حولها حراس وحجاب، الجمهور منه من تجمد وهو يرقص أو وهو يهتف، هذه المرأة تجمدت وهي تزغرد، هذا الرجل تجمد وهو يصفق.

عبد الصمد :

ليس في وسع حي أن يتجمد بهذا الكمال، ألا تطرف له عين؟

موسى بن نصير :

أترى أنه الموت؟

عبد الصمد :

إني أشم رائحته.

موسى بن نصير :

وكيف لميت ألا يتهاوى ويتغير؟

طالب بن سهل :

وأين بقية السكان؟ ألا يجيء شرطي أو عابر سبيل؟

عبد الصمد :

سأقدم على مغامرة، بسم الله الرحمن الرحيم (ثم رافعا صوته) ... يا هوه ... يا عباد الله ... (صمت.)

موسى بن نصير :

لا استجابة على الإطلاق.

طالب بن سهل :

نحن حيال لغز.

عبد الصمد :

لله ملك السموات والأرض.

طالب بن سهل :

لا بد من اكتشاف الحقيقة ... اتبعاني ... (يتقدم، يتقدمون في حذر، يلمسون المتجمدين، يشقون طريقهم بينهم حتى عرش المرأة.)

موسى بن نصير :

هؤلاء بشر وليسوا بتماثيل.

عبد الصمد :

أموات، ولكن أي موت؟

طالب بن سهل (مركزا بصره على المرأة) :

يا لها من امرأة جميلة.

موسى بن نصير :

قصر جميل وحوانيت ثرية، متى وكيف تخلت عنها الحياة؟

طالب بن سهل :

كيف حافظت على أشكالها وتوازنها، ما أجمل هذه المرأة!

عبد الصمد :

قد يطول بنا الموقف، وهيهات أن نجد لهذا اللغز حلا، وقد نعود فيما بعد إلى هنا، أما الآن فلا يجوز أن ننسى مهمتنا.

موسى بن نصير (متحركا وراء عبد الصمد) :

صدقت. (ثم ينظر خلفه إلى طالب بن سهل.)

موسى بن نصير :

هلم أيها الأمير، هلم إلى البحيرة، احذر أن تقع في شراك وهم. (يهبط الظلام.)

4 (إضاءة.) (موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد، يرمون بالشباك في بحيرة ويسحبونها في دأب وصبر. تخرج شبكة عبد الصمد وفيها قمقم.)

موسى :

الله أكبر.

طالب بن سهل :

قادر على كل شيء.

عبد الصمد :

يسبح له الإنس والجن وكل حي وجماد.

موسى :

قمقم صغير لا يتصور الإنسان أنه يحبس في بطنه هذه القوة اللانهائية.

عبد الصمد :

انظر إلى هذا المفتاح الصغير الملصق بعنقه، إذا دعك خرج العفريت وأصبح طوع أمرنا.

موسى بن نصير :

هل نقدم على التجربة؟

عبد الصمد :

لا أنصح بذلك ولكننا نحاول الاتصال به.

موسى بن نصير :

على الأقل ليتوكد لنا وجوده.

عبد الصمد (يقرب إلى فمه عنق القمقم) :

أيها السجين، تكلم بحق الله المتعال.

صوت الجن :

أخيرا وبعد عشرين ألف سنة من عذاب السجن.

عبد الصمد :

من قضى عليك به؟ (صمت.)

صوت الجن :

ارتكبت معصية رآها ماسة بشرفه.

طالب بن سهل :

ستحمل إلى أحكم الناس طرا مولانا الخليفة.

صوت الجن :

كفاني عذابا، أخرجني من القمقم أحقق لك ما تشاء نظير وعد بإطلاق سراحي.

طالب بن سهل :

سيقضي الخليفة في أمرك بما هو قاض.

صوت الجن :

أصغوا إلي، إذا أخرجتموني وجدتم في خدمتكم قوة لا يقف أمامها بشر، بوسعي أن أجعل الخليفة نفسه عبدا لكم، لا تضيعوا فرصة لا تعوض لإنسان مرتين.

موسى بن نصير :

عليك اللعنة، ما زلت عاكفا على الشر.

صوت الجن :

ألا تحبون أن تسودوا الدنيا ومن فيها؟

موسى بن نصير :

ملكك اللعين أخرج أبانا من الجنة فهيهات أن تخرجنا من الدين!

عبد الصمد :

ألك علم سابق بمدينة النحاس؟

صوت الجن :

كيف لا وأنا الذي قضيت عليها بالموت المسحور.

موسى بن نصير :

إذن هي مدينة ميتة؟

صوت الجن :

تلقت ميتتها المسحورة منذ حوالي عشرين ألف سنة.

طالب بن سهل :

عشرون ألف سنة؟! كأنما ماتت لساعتها، ولكن لم قضيت عليها بما قضيت؟

صوت الجن :

وقع قمقمي بين يدي الملكة ضمن صيد لها أصابه صياد القصر، ولمست يدها مفتاح القمقم وهي تقلبه فخرجت لها، وسرعان ما أدركت مدى القوة التي أذعنت لها، ثم وعدتني بإطلاق سراحي إذا حققت لها ما تشاء، وإذا بها تتمادى في غيها حتى الكفر، ولما كنت عفريتا مؤمنا بالله رغم معصيتي فقد غضبت وأنزلت بها الميتة المسحورة التي تبقيها على حالها لا تتغير عبرة للمعتبرين، نابذا وعدها لي بالتحرر، هكذا ماتت المدينة ورجعت رغم إرادتي إلى البحيرة.

عبد الصمد :

سوف نخبر مولانا الخليفة بتضحيتك في سبيل الله وستكون خير تمهيدا للإفراج عنك.

صوت الجن :

طال انتظاري للعفو والرحمة.

طالب بن سهل :

لكن من يثبت لنا صدقك؟

صوت الجن :

بوسعي أن أجعل المدينة شاهدا على صدقي.

طالب بن سهل :

كيف؟

صوت الجن :

بوسعي أن ألغي سحر الموت عنها نهارا فتشهد بعينيك ساعاتها الأخيرة.

موسى بن نصير :

ألا يصيبنا سوء إذا عثروا علينا؟

صوت الجن :

كانت مدينة عظيمة تموج بألوان البشر من الوافدين.

موسى بن نصير :

وكيف نفهم لغتها أو تفهم لغتنا؟

صوت الجن :

هذا علي هين.

طالب بن سهل (بحماس) :

لا بد من خوض هذه التجربة المثيرة، افعل أيها العفريت.

صوت الجن :

إليكم آخر نهار من حياة المدينة، من طلوع الشمس حتى مغيبها. (يهبط الظلام.)

5 (إضاءة.) (موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد، يقفون ناحية من الميدان غير بعيد من مدخل المدينة. يتابعون ما يحدث هنا وهناك وقد يعلقون عليه. ومنظر النهار يبدأ والميدان خال إلا من شرطي يتقلد سيفه، ويتفقد الحوانيت. يمر عابر ثم آخر. يقبل التجار فيفتحون حوانيتهم ثم يقبل الزبائن نساء ورجالا وشبانا وتدب الحياة وتتصاعد.)

موسى بن نصير (ذاهلا) :

أيها الأموات.

طالب بن سهل (متأملا) :

كما كنتم وكما نحن تكونون.

عبد الصمد :

أموات لا يخطر لهم الموت ببال. (من حانوت قريب تترامى أصوات. فتاة تقلب بين يديها أقمشة، وشاب أيضا يفعل مثلها.)

التاجر (للفتاة) :

إنه فاخر ومناسب وسيكون عليك فتنة للناظرين.

الفتاة :

سأشهد به حفل زفاف في الشهر القادم، أرني أجمل ما عندك.

التاجر :

إليك هذا الثوب وهو بخمسمائة.

الفتاة :

الأسعار ترتفع بجنون.

الشاب :

لكي تغطي أرباح الجشعين من التجار والحاشية!

التاجر (للشاب) :

من أجل طول ألسنتكم ضاقت عنكم السجون!

الشاب :

لن يبقى خارج الأسوار إلا العبيد.

صوت الجن (للرجال الثلاثة) :

لم يحظ بالسيادة في المدينة سوى الملكة والحاشية ورجال الأمن والتجار، وقد استعبدوا الشعب واستغلوه، ولما سقط القمقم بين يدي الملكة قررت أن تستعبد جميع قبائل الأرض.

موسى بن نصير :

الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام فأنقذ كرامة البشر. (يقبل شاب فتعترض سبيله فتاة جميلة ثم تتبعه مغازلة إياه وهو يمتنع ويتدلل.)

الفتاة :

كيف تسير وحدك يا جميل؟

الشاب :

هذا وقت عمل أليس لديك ما يشغلك؟

الفتاة :

ما يشغلني شيء عنك، تعال إلى نزهة وكأس عند البحيرة.

الشاب (مسرعا) :

إن لم تنصرفي ناديت الشرطة!

عبد الصمد (للقمقم الذي أخفاه في عباءته) :

ما معنى هذا؟

صوت الجن :

كان للنساء المقام الأول في المدينة وبخاصة في عهد الملكة ترمزين وكانت الفتاة هي التي تخطب عريسها وهي التي تغازل الفتى وهي التي تتمتع بحريتها الجنسية بخلاف الشاب.

طالب بن سهل (ضاحكا) :

إذن لم تخل المدينة من طرائف مفيدة!

موسى بن نصير (باسما) :

انتظر خيرا أيها الأمير فأنت الذي تمثل الشباب بيننا! (تقترب متسولة من الرجال الثلاثة في جلبابها الرث.)

المتسولة (للرجال الثلاثة) :

أعطوني مما أعطاكم الإله، أريد مأوى ورجلا وعبدا ومورد رزق ثابت.

طالب بن سهل :

فليرزقك الذي خلقك.

المتسولة (غاضبة) :

عليكم اللعنة. (يقبل رجل مريض يتوكأ على ذراع زوجه.)

المريض (للرجال الثلاثة) :

أين الطريق إلى المستشفى؟

موسى بن نصير :

نحن غرباء لم نعرف مدينتكم بعد، شفاك الإله.

المريض :

غرباء! إنكم أصل المصائب، تجيئون إلينا من أطراف الأرض حاملين أمراضكم معكم، فتسرقون نقودنا وتعطوننا أمراضكم. (يبصق ثم يذهب.) ••• (يقدم موكب رجل غني. عبيد يحملون هودجه، وعبيد يتقدمون موكبه وهم يوسعون له طريقا بين الناس بالعنف.)

شابة (لزميل يتأبط ذراعها) :

هذا سلوكهم، ماذا يفعلون غدا وقد سخروا العفريت لخدمتهم ؟

صوت الجن (للرجال الثلاثة) :

أعترف لكم بأن هذا القول وأشباهه أثرت في إذ إنني كنت أنتمي إلى شعب العفاريت المضطهدين. (رجل عجوز يقف ناحية من الميدان.)

العجوز الضرير :

من يسمع كلمة تنفعه؟ من يسمع كلمة تنفعه؟ (يقبل عليه نساء ورجال ذوو مظهر حسن وهم يتغامزون.)

امرأة (للعجوز) :

ماذا عندك مما ينفع الناس؟

العجوز الضرير :

إني أعمى ...

امرأة (مقاطعة) :

هذا واضح.

العجوز الضرير :

ولكني أرى خيرا منكم. (ضحك.)

العجوز الضرير :

أرى أشياء جميلة غير الشراء والربح والفسق والسكر وامتلاك العبيد.

كهل وجيه :

يا لك من أعمى!

العجوز الضرير :

وأرى الموت أقرب إليكم من أجسادكم.

أصوات :

عليك اللعنة. (يقترب الشرطي فيضع يده على منكب الضرير.)

العجوز الضرير :

من أنت؟

الشرطي :

شرطي، ماذا تقول؟

العجوز الضرير (في خوف) :

أقول لهم إن خدمة الملكة ترمزين أهم من الربح وامتلاك العبيد.

الشرطي (بخشونة) :

اذهب لحال سبيلك، مولاتنا الملكة ليست في حاجة إلى أحد. (يخرج حاجب من باب مكتوب أعلاه «العدل أساس الملك».)

الحاجب :

محكمة! (يتوجه كثيرون نحو المحكمة ويقفون على مبعدة. يخرج شرطي سائقا أمامه رجلا معصوب العينين يئن بصوت مسموع فيدفعه بعيدا عنه ثم يخاطب الجمهور.)

الشرطي :

ادعى هذا الرجل أنه توجد نجوم لا ترى بالعين فحكم عليه بفقأ عينيه. (يدخل الشرطي ثم يجيء بشاب يسير مفرجا الجمهور.)

الشرطي :

هذا الشاب طالب بمساواة الرجال بالنساء فقضي عليه بالإخصاء. (ضحك.) (يدخل الشرطي ثم يرجع بنعش محمول. ثم يخاطب الجمهور.)

الشرطي :

هذه جثة مجرم، احتج جهرا على تسخير جلالة الملكة للعفريت. (ثم يرجع وهو يقول.)

الشرطي :

وفي الغد البقية فإلى الغد ...

عبد الصمد (للقمقم) :

أهلكت المدينة كلها؟

صوت الجن :

نعم.

عبد الصمد :

وما ذنب هذا الشعب التعيس؟

صوت الجن :

قررت إهلاك الظالمين بظلمهم والآخرين بنفاقهم وجبنهم.

عبد الصمد :

ألم توجد بينهم مقاومة؟

صوت الجن :

بلى، منهم من قتل، ومنهم من هاجر فنجا. (صوت طبل يجيء من ناحية القصر الملكي، الأنظار تتجه نحو القصر. يخرج الحاجب الأكبر محوطا بحرس ثم يمضي حتى يقف في وسط الميدان. يلتف الجمهور حوله. حتى التجار يغادرون حوانيتهم. يقترب من الجمع موسى بن نصير وطالب بن سهل وعبد الصمد.) (صمت.)

الحاجب الأكبر :

إعلان هام من حضرة صاحبة الجلالة الملكة ترمزين إلى شعبها الوفي الأمين. (صمت.)

بناء على ما تيسر لنا من قوة لا نهائية بفضل تسخيرنا لقوة الجن في خدمة شعبنا وتحقيق السيادة على الأرض.

وبناء على نيتنا الصادقة في ممارسة هذه القوة بالحكمة والعدل ومراعاة سعادة شعبنا بصفة خاصة وشعوب والأرض بصفة عامة، فقد تفضل الإله المعبود فأضفى رضاه عنا، وأصدر قراره بالنزول لنا عن عرشه فوق الأرض.

وإطاعة لقراره المقدس يتعين علينا أن نصبح المعبود الأوحد في الأرض، وحق على شعبنا أن يعبدنا وأن يقدم لنا القرابين في الأعياد الدينية.

وبهذه المناسبة المقدسة فإني أدعو شعبي لشهود حفل التتويج الإلهي في هذا الميدان عند غروب الشمس. (صمت.)

الحاجب الأكبر (يهتف) :

لتحيا الإلهة ترمزين. (أصوات الحراس وبعض المتجمهرين: لتحي الإلهة ترمزين.) (الحاجب الأكبر والحراس يرجعون إلى القصر.)

موسى بن نصير :

أعوذ بالله الواحد الأحد.

عبد الصمد :

قتل الإنسان ما أكفره.

طالب بن سهل :

كيف اختبأ الفجر البشع وراء ذلك الوجه الجميل! •••

وجيه (لزميل له) :

كان الإله يتخذ من الأصنام رموزا له وها هو أخيرا يتخذ رمزا حيا جميلا.

الزميل :

فلتحل بنا البركات. •••

تاجر (لزميل له) :

من يصدق أنني حلمت بهذه المعجزة ليلة أمس؟

الزميل :

إنك رجل ذو قلب نقي. (يتجمع نفر من الشباب نساء ورجالا على مبعدة يسيرة من الرجال الثلاثة.)

شاب :

متى وكيف قرر الإله ألا يعبد في الأرض؟

شاب ثان :

ماذا يحدث لنا بعد موت المعبودة الجديدة؟

شابة :

في الحق نحن مدعوون لعبادة العفريت المسخر.

موسى بن نصير (غير متمالك نفسه من الدخول في حوارهم) :

أيها الناس إنه كفر وإنه لا إله إلا الله.

الشاب الأول (لموسى) :

ماذا قلت أيها الغريب؟

موسى بن نصير (محتدا) :

قلت إنه كفر ولا يجوز أن يضلكم عن إيمانكم.

الشاب الثاني (لموسى) :

صه ... لا يخلو المكان من آذان وعيون ... هلم إلى الحقول لنستمع إليك في أمان.

طالب بن سهل (يمسك بذراع موسى بن نصير ويقول) :

إياك أن تذهب معهم أيها الأمير.

موسى بن نصير :

السكوت على الكفر كفر.

طالب بن سهل :

لقد مضى على الحوار عشرون ألف سنة.

موسى بن نصير (يذهب قائلا) :

سأغير الماضي كما أغير المستقبل. (يذهبون.)

طالب بن سهل :

لقد زج بنفسه في متاعب ماض انقضى منذ عشرين ألف سنة.

عبد الصمد :

نحن ملتحمون به الآن ولا ندري كيف يتعامل معنا.

طالب بن سهل :

كأنني في حلم.

عبد الصمد :

إنه حلم في باطن حلم! (صوت موسيقى من ناحية القصر.) (يخرج موسيقي ومنشد يتبعهما عبيد يحملون دنان الخمر.) (يملئون الكئوس ... يقدمونها للناس.)

خادم :

نخب المعبودة.

خادم ثان :

اشرب واطرب وتمتع بحياتك.

خادم ثالث :

الدنيا قبلة وكأس. (أناس يقبلون على الشراب ويشيع الطرب.) ••• (يذهب السقاة وهم يوزعون الخمر. تترامى أصوات موسيقى شعبية، يظهر فريق جديد من طريق جانبي يدل مظهره على أنه يمثل «سيرك» ويعلن عنه. يتقدمه مناد يتبعه بلياتشو ورجال أقوياء مصارعون وحاملو أثقال.)

المنادي :

بشرى ... بشرى. (الناس يلتفتون نحو المنادي.)

المنادي :

السيرك الكبير يشارك في أفراح الشعب لمناسبة تتويج معبوده الجديد بعرض خاص هذه الليلة، برنامج حافل لم يسبق له مثيل، إليكم بعض النمر المختارة.

مصارعة حرة بين أسد جائع وبين رجل من أهل مدينتنا ثبتت خيانته في مطالبته بتحرير العبيد. عرض نماذج من مجانين ممتازين نساء ورجالا سبق أن تولوا مناصب هامة في الدولة.

حرق رجل وهو حي لاعتراضه على عبادة الملكة ترمزين.

رجل وامرأة يعرضان قواهما الجنسية العجيبة.

ساحر السيرك يتنبأ لأي زبون عن مستقبله.

نشيد جديد عن الأبطال الذين بنوا مدينتنا سيدة الدنيا. (الناس تتابع الإعلان، وعند نهاية كل مقطع يتصاعد الهتاف.)

طالب بن سهل (ساخرا) :

واأسفاه ... لن يسعدنا الحظ بمشاهدة هذا العرض الحافل.

عبد الصمد (باسما) :

من يدري؟ قد ينجح الأمير موسى في تغيير الماضي! (ضجة تجيء من طريق جانبي. تتقدم الجماعة المتمردة على رأسها موسى بن نصير وقد أحاط بهم جنود شاكو السلاح يسوقونهم نحو القصر .)

طالب بن سهل (بجزع) :

اكتشفت السلطة أمرهم، ما العمل؟ أخاف أن يصيب أميرنا سوء؟

عبد الصمد (محاولا تهدئته) :

هل تستطيع يد هالكة منذ عشرين ألف سنة أن تؤذي إنسانا من زماننا؟

طالب بن سهل :

محتمل أن يؤثر سحر قديم في أحدنا، أليس كذلك؟

عبد الصمد (للقمقم) :

أثمة خوف حقا على صاحبنا؟

صوت الجن :

إني لا أعلم الغيب.

عبد الصمد :

لكنهم أموات يعيدون تمثيل أحداث وقعت وبلا زيادة.

صوت الجن :

أضاف صاحبكم بتدخله حدثا جديدا.

طالب بن سهل :

أرجعهم إلى ما كانوا عليه قبل أن تمتد يد بسوء إلى الأمير.

صوت الجن :

هذا ما أعجز عنه وهيهات أن يتكرر قراري قبل اللحظة التي وقع فيها.

طالب بن سهل :

يا للفظاعة، لن أتردد عن التدخل لدى أول فرصة.

صوت الجن :

إنها حياتك فافعل ما تشاء.

طالب بن سهل (لعبد الصمد) :

لعلك تعرف قراءة الطالع؟ (تسمع السؤال امرأة مارة فتقف ثم تقترب من عبد الصمد.)

المرأة :

أود أن تقرأ لي طالعي. (سرعان ما يتجمهر أناس حوله مستطلعين.)

عبد الصمد :

لست عرافا.

المرأة :

سمعتك تقرأ لصاحبك طالعه.

عبد الصمد :

ما سمعت من ذلك شيئا.

رجل :

بل سمعتك. لماذا تضن علينا بقدرتك؟ (المتجمعون يلحون في غضب.)

طالب بن سهل :

اقبل، قل ما يحلو لك، وأنقذنا من غضبهم.

عبد الصمد :

عظيم ... عم تسألون؟

المرأة :

الذي في بطني أنثى أم ذكر؟

عبد الصمد :

ذكر ... أبشري.

المرأة (بفزع) :

أتسخر مني أيها الدجال؟!

عبد الصمد (هامسا لطالب بن سهل) :

نسيت ورب الكعبة.

شاب (لعبد الصمد) :

ألا سبيل إلى مقاومة العفريت؟

عبد الصمد :

لا تنس أنه يعمل في خدمة إنسان!

الشاب (بحماس) :

بلى، سيظل الإنسان هو الأقوى.

كهل :

ما علاج الخوف من الموت؟

عبد الصمد :

الموت نفسه. (غضب من الكهل وضحك من الجمهور.)

فتاة :

متى يزول الظلم؟

عبد الصمد :

بعد ساعات.

الفتاة :

ماذا تعني؟

عبد الصمد :

ليس عندي زيادة.

رجل :

قضيتي هل أكسبها؟

عبد الصمد :

لن يكسبها خصمك!

الرجل: إني أسأل عما يخصني.

عبد الصمد :

ليس عندي زيادة.

امرأة هزيلة :

متى أشفى من مرضي؟

عبد الصمد :

قبل حلول المساء.

المرأة :

ما أحلى كلامك لو يتحقق. (يمر الشرطي فيفترق الناس.)

طالب بن سهل :

كاد يغلبني الضحك.

عبد الصمد :

ما أعجب أن تحاور أمواتا!

طالب بن سهل :

من موقعنا هذا ينكشف لنا الغيب طيلة هذه التجربة الفريدة.

عبد الصمد :

حتى ذلك لا نستطيع أن نجزم به.

طالب بن سهل :

نحن أحياء وهم أموات.

عبد الصمد :

حسن أن تقول ذلك لنطمئن على أميرنا لكن لا تنس أنهم الآن أحياء وأننا لم نولد بعد.

طالب بن سهل :

أود أن أفعل شيئا لإنقاذ موسى. (من القصر يخرج رئيس الشرطة يتبعه حرس. تنصب منصة في الميدان.)

حاجب :

الشرطة تحاكم المتمردين تمهيدا لإحالتهم على المحكمة. (الجمهور يهرع للمشاهدة.) (رئيس الشرطة يجلس على المنصة. يقدم أمامه مجموعة المتمردين وعلى رأسهم موسى بن نصير.)

طالب بن سهل :

ها هو الأمير، لن يمسه أحد بسوء وأنا حي.

عبدالصمد: تمهل ... ولنتابع الماضي وهو يحاكم المستقبل.

رئيس الشرطة (للمتمردين) :

إنكم شباب أرعن، لا إله لكم، وجهركم بالشر يغني عن مساءلتكم، ستمثلون غدا صباحا أمام القاضي في المحكمة. (رئيس الشرطة يلتفت نحو موسى بن نصير ويقول):

رئيس الشرطة :

ماذا أوجدك بين هؤلاء الشبان وأنت كهل، ما كنت أتصور أن الكهول قابلون للعدوى بأمراض الشباب، ما اسمك؟

موسى بن نصير :

موسى بن نصير.

رئيس الشرطة :

أي اسم هذا؟

موسى بن نصير :

هذا اسمي وأدعى به في الشرق والغرب.

رئيس الشرطة :

إنك تستحق بسببه السجن، أأنت غريب؟

موسى بن نصير :

نعم.

رئيس الشرطة :

من أي البلاد؟

موسي بن نصير :

من بلاد المغرب.

رئيس الشرطة :

لا علم لي بها. أنت كاذب، جاسوس وكاذب، ما عملك؟

موسى بن نصير :

أمير المغرب.

رئيس الشرطة :

لن ينفعك ادعاء الجنون.

موسى بن نصير :

إني أعرف أكثر منك بعشرين ألف سنة.

رئيس الشرطة :

لن ينفعك ادعاء الجنون، إنك متهم بترويج أفكار مستوردة لإفساد شبابنا.

موسى بن نصير :

ما قلت لهم إلا الحق وهو أنه لا إله إلا الله.

رئيس الشرطة :

ها أنت تعترف بكفرك على الملأ فما أنت إلا جاسوس يروج للكفر.

موسى بن نصير :

سوف يحل بكم العقاب بعد ساعات ولا خلاص لكم إلا باتباع قولي.

رئيس الشرطة :

سنرى من الذي سيحل به العقاب، سأفصل رأسك عن جسدك بيدي هذه صباح الغد. (للجنود)

أعيدوهم إلى السجن. (الجنود يسوقون المتهمين إلى القصر.) ••• (يجيء رجلان وقوران، يقفان على مقربة من طالب بن سهل وعبد الصمد دون أن يفطنا إلى وجودهما.)

الأول :

سيدي الأستاذ نحن في ورطة.

الثاني :

لكل مشكلة مفتاح.

الأول :

قضينا العمر ونحن ندرس لأجيال من طلاب العلم فلسفة تبجل الإله وقدرته، وتحلل الإنسان وفناءه، فكيف يكون موقفنا اليوم أيها الزميل؟

الثاني :

نقول في ترمزين ما قلناه في الإله.

الأول :

وكيف تفسر تناقضنا بين اليوم والأمس؟

الثاني :

رأى الإله بقدرته اللانهائية أن يرفع الملكة إلى مرتبة الألوهية.

الأول :

ولماذا ينزل الإله عن سلطانه لبشر فان؟

الثاني :

لم تعد فانية.

الأول :

وإن أدركها الموت؟

الثاني :

أعتقد أننا سنسبقها إليه.

الأول :

ومحتمل أن تسبقنا هي.

الثاني :

نقول إن حكمة الإله لا تناقش.

الأول :

وإذا تمادوا في المناقشة؟

الثاني :

نستعين بالشرطة فهي البرهان الأخير لمن لا يقتنع.

الأول (ضاحكا) :

الآن شرحت صدري، والآن نستطيع أن نعد الخطبة التي سنلقيها عند الغروب. (يذهبان.)

طالب بن سهل (متعجبا) :

حتى أهل العلم!

عبد الصمد :

يؤسفني أيها الأمير أن أذكرك بأن دار الإسلام لا تخلو من أمثالهم.

طالب بن سهل (دهشا) :

أأنت من شيعة علي بن أبي طالب؟

عبد الصمد :

إني من شيعة الحق ورزقي على الواحد الأحد. ••• (يقترب نفر من الشرطة من موقف طالب بن سهل وعبد الصمد.)

الشرطي (لعبد الصمد) :

أنت العراف؟

عبد الصمد :

ما أنا بعراف.

الشرطي :

ترامى خبرك إلى جلالة الملك فقررت أن تسمعك. أبشر بحظك السعيد واتبعني. (يتردد عبد الصمد ولكن الجنود تدفعه صوب القصر.)

طالب بن سهل :

لم يبق سواي، أصبحت وحيدا في هذه المدينة الميتة، ترى بأي حال تنتهي هذه المغامرة؟ ••• (ما يكاد يتم قوله حتى تقترب منه امرأة كهلة حسنة المنظر.)

المرأة :

أبشر أيها الشاب السعيد.

طالب بن سهل :

ماذا وراءك يا سيدة؟

المرأة :

اتبعني إلى حظك السعيد.

طالب بن سهل :

أي حظ سعيد؟

المرأة :

لقد رأتك الملكة ترمزين من نافذة قصرها!

طالب بن سهل (بذهول) :

الملكة ترمزين!

المرأة :

وهي تدعوك إلى حظك السعيد، اتبعني. (تسير المرأة فيتبعها طالب بن سهل منفعلا بصورة واضحة.) (يهبط الظلام.)

6 (إضاءة.) (بهو العرش. الملكة ترمزين جالسة فوق العرش. حجاب. حراس.) (تدخل المرأة.)

المرأة (تنحني) :

مولاتي، إنه ينتظر.

الملكة :

أذنت له. (الملكة تشير إلى الحجاب والحراس فينسحبون. يدخل طالب بن سهل. ينحني تحية.) (الملكة تبتسم. تشير إلى مقعد قريب فيجلس عليه تمعن فيه النظر بإعجاب لا تحاول إخفاءه. طالب يبادلها النظر بتأثر.)

ترمزين :

العين أصدق رسول وأخلص دليل.

طالب بن سهل :

هي كذلك يا مولاتي.

ترمزين :

حدثني عن نفسك.

طالب بن سهل :

اسمي طالب بن سهل.

ترمزين :

غريب مثل صاحبيك؟

طالب بن سهل :

ومن بلاد بعيدة.

ترمزين :

ما كنت أتصور أنه يوجد غريب بصورتك وقوامك.

طالب بن سهل :

الغرباء مثل رعاياك يسعون ويحبون ويموتون.

ترمزين :

لا تجدف إنك استثناء، ما عملك؟

طالب بن سهل :

تاجر.

ترمزين :

تاجر وعراف وجاسوس ... ماذا جمعكم؟

طالب بن سهل :

لقد تورط صاحبنا دون قصد سيئ.

ترمزين :

لا تدافع عن مجرم، ولكن لندع هذا الحديث جانبا، قلت إنك تاجر، التاجر شخص ممتاز ومفيد، ولكن موضعك الحقيقي بين الحجاب أو الحراس.

طالب بن سهل :

ما أنبل نواياك يا مولاتي!

ترمزين :

نحن النساء ننتظر قدرنا منذ البلوغ، وصدقني فإنك أول رجل في حياتي.

طالب بن سهل :

من السعادة يا مولاتي ما يعز على الأحلام.

ترمزين (باسمة) :

فيك جرأة محببة، ما من شاب في موقفك إلا ويبدي الخجل والتمنع، أما أنت فتجاهر بسعادتك بلا تردد، أصارحك بأنه يعجبني الشاب المتحلي بأحوال النساء!

طالب بن سهل (مداريا ابتسامة) :

أخرجني الانبهار من الحياء.

ترمزين :

بالصدق والصراحة هل تبادلني عواطفي؟

طالب بن سهل :

أجل ... أجل يا مولاتي، ومنذ قديم.

ترمزين :

حقا؟ لعلك رأيتني في احتفال البحيرة؟

طالب بن سهل :

رأيت جمالك في خلوده.

ترمزين :

رأيتك من نافذتي، من نظرة عابرة، دلتني على أغنيتي المفضلة.

طالب بن سهل :

ليهنأ كل محب بحبه إكراما لحبنا.

ترمزين :

ولكن تجيء المتاعب في أعقاب الحب!

طالب بن سهل :

المتاعب؟

ترمزين :

اختيار غريب لرئاسة الحرس قرار مثير للاستياء. (صمت.)

ترمزين :

وزواجي من بشر عقب جلوسي على عرش الآلهة مستحيل، ولكنك ستكون أقرب إلي من أنفاسي المترددة.

طالب بن سهل (بنبرة غلبها الحزن) :

ستصفو لنا الأيام.

ترمزين :

وجهك ينطق بالأسى على حين يلهج لسانك بالسعادة.

طالب بن سهل :

إني أتساءل هل يسعد إنسان حقا بحب إلهة؟

ترمزين :

بين يديك سأظل امرأة!

طالب بن سهل :

قلبي يتوجس خيفة.

ترمزين :

يا له من قلب ساذج.

طالب بن سهل :

لم يحدث ذلك لبشر من قبل.

ترمزين :

كأنما يداخلك شك في قدرتي؟

طالب بن سهل :

إني بشر وأتمنى ألا تتخلى حبيبتي عن بشريتها.

ترمزين :

لدي من القوة ما أستطيع أن أطير به مدينة في الفضاء.

طالب بن سهل :

قوة عفريت مذنب.

ترمزين :

القوة هي القوة بصرف النظر عن مصدرها، ماذا يملك الإله أكثر من ذلك؟

طالب بن سهل :

يملك القوة ومصدرها والمسيطر عليها.

ترمزين :

إنك تذكرني بأقوال الخونة!

طالب بن سهل :

ما أنا إلا محب يحب حبه ويحرص عليه.

ترمزين :

ستجد أن لا أصل لمخاوفك وأوهامك.

طالب بن سهل :

أتوسل إليك أن ترجعي عن قرارك قبل فوات الفرصة.

ترمزين :

أرجع؟

طالب بن سهل :

أتوسل إليك، من أجل حبنا، من أجل سعادتنا.

ترمزين :

سنكون أقدر على الاستمتاع بها من جميع البشر.

طالب بن سهل :

إنها تجربة تنذر بالهلاك.

ترمزين :

الهلاك؟! ماذا قلت؟

طالب بن سهل :

ارحمي قلبي وحبي.

ترمزين :

ما أعجب الحب، لو نطق غيرك بما نطقت به لفصلت رأسه عن جسده.

طالب بن سهل :

ابقي امرأة لا إلهة.

ترمزين :

ستجدني امرأة وقتما تشاء.

طالب بن سهل (بحرارة) :

أصغي إلي باسم الحب، صدقي قلبا يهيم بحبك، فالحب يلهمه الصواب، أقول إن الهلاك معلق فوق رأسك فتجنبيه، خذي الحب ودعي الموت، استجيبي لي لعل معجزة تقع.

ترمزين (ضاحكة) :

أيها الرعديد المحبوب، ستشهد التتويج بنفسك، ثم نرجع لنصنع من حبنا الأعاجيب.

طالب بن سهل (بأسى) :

لن نذوق من الحب قطرة واحدة.

ترمزين (بحدة) :

إنك تحدث عن الموت كأنه حقيقة واقعة.

طالب بن سهل :

لقد رأيته بعيني!

ترمزين (ساخرة) :

أأنت عراف أم تاجر؟

طالب بن سهل :

أنا محب والمحب يرى ما لا يراه الآخرون.

ترمزين :

كفى، لن ننتهي إلى اتفاق، تعلق بمخاوفك حتى تنقشع في ليلتنا السعيدة، حسبنا ما ضاع في نقاش عقيم، إني أنتظر صاحبك العراف الذي أجلت لقاءه لهفتي عليك، لنسمع صوت الغيب الصادق. (تصفق. يدخل حاجب.)

ترمزين :

إلي بالعراف. (الحاجب يذهب. عبد الصمد يدخل. يرفع يديه تحية. يلمح طالب بن سهل ولكنه يتجاهله. يجلس عندما تشير إليه الملكة بالجلوس.)

ترمزين (لعبد الصمد) :

أبلغتني عيوني المنتشرة في كل مكان عن قدرتك.

عبد الصمد :

ما أنا إلا عبد.

ترمزين :

لدي أسئلة عن الغيب قبل أن يسفر لي عن وجهه عند المغيب.

عبد الصمد :

ما أنا إلا عبد.

ترمزين :

تواضع محمود، أجبني يا رجل هل يوجد متمردون آخرون غير الذين قبض عليهم اليوم؟

عبد الصمد :

التمرد كامن في القلوب، جهر به البعض فقبض عليهم، وأخفاه الآخرون وراء أقنعتهم الكاذبة.

ترمزين (بحدة) :

ماذا قلت؟

عبد الصمد :

أقول ما يخطر لي وإن شئت سكت.

ترمزين :

ألا يؤمن بي أحد؟

عبد الصمد :

حتى الشيطان في قمقمه يعبد الإله.

ترمزين :

خيبت ظني بك.

عبد الصمد :

حذار من قرارك، سينفجر لعنة مدمرة على الأرض.

ترمزين :

وما مصير ترمزين؟

عبد الصمد :

مصيرك بيدك.

ترمزين :

إني أحب الحياة.

عبد الصمد :

ما عليك إلا أن تحبيها بصدق.

ترمزين :

أحبها وأحب الحب.

عبد الصمد :

إذن تراجعي عن الموت.

ترمزين :

إني أدرك ما ترمي إليه.

عبد الصمد :

ستهلكين عند مغيب الشمس.

ترمزين :

أعلم يقينا أنك كاذب، أتدري ماذا يصيبك إذا نجوت؟

عبد الصمد :

إذا نجوت من الموت فأرسليني إليه. (طالب بن سهل يرفع يده مستأذنا في الكلام.)

ترمزين :

تكلم يا طالب.

طالب بن سهل :

مولاتي، هذا الرجل يتكلم بثقة، وقد راهن على صدقه بحياته.

ترمزين :

إني أملك قوة لا تقاوم.

عبد الصمد :

عفريتك عبد للإله، سيغضب لإلهه فيتخلى عنك ولو فقد آخر أمل في تحرره.

طالب بن سهل :

سوف يدمرك فوق عرش الألوهية.

ترمزين (غاضبة) :

الآن وضح الحق، ما أنت يا طالب إلا نسيج في مؤامرة، مثل هذا العراف الكاذب، ومثل صاحبكم الذي قبض عليه وهو يؤلب شعبي علي (ترمزين تصفق. يدخل حاجب.)

ترمزين :

أحضروا الجاسوس.

ترمزين (للرجلين) :

إنكم تخافون القوة المسخرة أن تذل شعوبكم، ولكني سأعتلي بها عرش الألوهية وأسود الأرض، الحب نفسه يا طالب لن يغريني بخيانة مدينتي المقدسة. (يحضر موسى بن نصير ويسمع آخرة خطابها ثم يقف.)

ترمزين (تلتفت إلى موسى بن نصير غاضبة) :

ها هو الجاسوس الذي سيفصل رأسه عن جسده غدا. (ثم ملتفتة إلى طالب بن سهل)

أما أنت فإنك شر الثلاثة لقد اتخذ أحدهما من الجاسوسية وسيلة إلى هدفه، ومارس الثاني الدجل، أما أنت فأهنت الحب المقدس، أنزلته من علياء سمائه وجعلته خدعة دنيئة.

طالب بن سهل (بحرارة وأسى) :

أقسم بربي إنني أحبك من كل قلبي، وإنني أتحدى الماضي والواقع لأنقذك من العدم!

ترمزين :

هيهات أن أصدقك!

موسى بن نصير (منفعلا) :

الوقت يقترب بسرعة مخيفة، وإذا أردنا أن نخوض التجربة المتاحة النادرة وهي تغيير الماضي فما علينا إلا أن نكاشفها بالحقيقة. (صمت.)

موسى بن نصير (للملكة) :

أيتها الملكة ... إنك في الحقيقة ميتة قد شبع منك العدم.

ترمزين (تضحك ساخرة) :

أيها الضال المضلل، بلغني أنك تدعي الجنون، ولكنك ستنال جزاءك غداة الغد، أنت أنت الميت لا ترمزين.

موسى بن نصير :

إنك ميتة منذ عشرين ألف سنة!

ترمزين (مغرقة في الضحك) :

خوفكم من قوتي أذهب عقولكم، فلتذهب إلى الجحيم ولتبق ترمزين ومدينتها إلى الأبد.

عبد الصمد :

ما أشق أن تقنع حيا بأنه ميت.

طالب بن سهل :

مولاتي، أعيرينا أذنك لتسمعي قصة مدينتك.

ترمزين :

أيها المخادع الكذاب هل تشاركهما جنونهما؟ هل تراني ميتة أيضا؟

طالب بن سهل :

لقد اكتشفنا المدينة وما بها إلا جثث أهلها: ولما استخرجنا العفريت من البحيرة اعترف لنا بأنه هو الذي أنزل بها الموت المسحور جزاء كفرها، ولكي يثبت لنا صدقه أوقف سحره نهارا واحدا هو هذا النهار الذي يقترب من نهايته، هكذا دبت فيكم حياة كالحلم لا تلبث أن تنقشع، وسوف يدرككم الفناء كما أدرككم أول مرة.

ترمزين :

يا للدجل والكذب والخداع!

عبد الصمد :

اعدلي عن قرارك توهب لك الحياة من جديد.

طالب بن سهل :

هي الحقيقة يا مولاتي، صدقينا قبل فوات الفرصة النادرة.

ترمزين :

أيها الجواسيس الحقراء الحاقدون على عظمة مدينتي الموعودة!

موسى بن نصير :

عن أي عظمة تتحدثين؟ ما هي إلا عظمة ذاتك ورجالك، إنك تذلين شعبك كما تذلين الغرباء، حتى أصحاب العقول والإلهام جعلت منهم عبيدا ودمى، انظري، ها هو المستقبل يتجسد أمام عينيك ويعدك بمعجزة فاستجيبي له، فمن لم يفقه لغة المستقبل دمره الحاضر.

ترمزين (تخرج القمقم من تحت وسادة) :

أيها العفريت. اقذف بالحقيقة في وجوه هؤلاء الجواسيس. (صمت)

ترمزين (مقطبة) :

أيها العفريت. (صمت.)

ترمزين (ثائرة) :

فهمت ... ما أنتم إلا سحرة، تسلطتم على لسان العفريت، ولكني ما زلت مالكته، وسوف يتحرر من سحركم حال قتلكم.

طالب بن سهل :

حبيبتي لا تهدري فرصة لا يجود بها الزمان أبدا، أمامنا فرصة للحب ولخلق معجزة يفيد منها عالمنا الحي، اقنعي بإنسانيتك وفيها الكفاية من المجد، أطلقي سراح العفريت فما يجوز أن يملكه فرد به ضعف، حرري شعبك، احترمي عقل الإنسان وقلبه، المجد لمن يخدم لا لمن يستخدم، ولنحظ بعد بأغنية الحب الخالدة فلا خالد في الدنيا إلا أنغامها.

ترمزين :

لا يوجد في الأحياء من يستطيع خداعي.

عبد الصمد (للقمقم) :

كاشفها أنت بالحقيقة، دعنا نشهد المعجزة! (صمت.)

صوت العفريت :

مولاتي ترمزين.

ترمزين (بدهشة وسرور) :

أخيرا تكلمت!

صوت العفريت :

إني رهن إشارة منك.

ترمزين :

أيها العفريت ما رأيك فيما قال هؤلاء؟

طالب بن سهل :

نحن راضون بحكمه ولكن عليك أن تفقهي قوله.

ترمزين (للقمقم) :

ما رأيك فيما قال هؤلاء؟ (صمت.)

صوت العفريت :

إنك حية بل سيدة الأحياء. (ترمزين تضحك في سرور وشماتة.)

عبد الصمد :

أيها العفريت، ألم تهلك المدينة وصاحبتها منذ عشرين ألف سنة؟

صوت العفريت :

كذبت أيها الجاسوس!

ترمزين :

يا للنصر. (تصفق يدخل حاجب. تأمره بإحضار الجنود.)

صوت العفريت :

لا يجوز أن تعدمي أحدا منهم قبل التتويج. (يدخل الجنود.)

ترمزين :

خذوا الجواسيس إلى السجن وآتوني برءوسهم لدى عودتي من التتويج. (تقف. تقترب من طالب وهو ضمن المقبوض عليهم.)

ترمزين (لطالب بن سهل) :

سوء الحظ لم يدركك وحدك يا طالب.

طالب بن سهل :

إني سيئ الحظ ما في ذلك من شك.

ترمزين :

لا مجد بلا ثمن. (تشير إلى الجنود فيمضون بهم)

ترمزين (محدثة نفسها في أسى) :

ولكن ما أفدح الثمن! (يهبط الظلام.)

7 (إضاءة.) (الميدان.) (حراس ... الجمهور يتطلع نحو العرش. موسيقى يتخللها هتاف كالهدير. طبول يعقبها صمت شامل.) (يظهر موكب الملكة ترمزين خارجا من القصر في هالة بالغة من الكمال والجمال.) (هتاف يستمر حتى تجلس على العرش.) (تشير الملكة إلى كبير الحجاب.) (يتقدم كبير الحجاب ويلقي خطبته): «أيتها الملكة المجيدة ترمزين، سيدة عالمي الأحياء والأموات. ودعي آخر لحظة من حياة البشر الفانية، وتبوئي عرش الألوهية الخالد، دمت لنا وللأرض إلهة خالدة.» (فجأة يرعد انفجار مروع يعقبه ظلام.)

8 (إضاءة.) (المنظر الأول. منظر الميدان والجثث المتجمدة. موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد.) (موسى وعبد الصمد ينظران فيما حولهما، طالب مستغرق في النظر إلى ترمزين.)

عبد الصمد :

مدينة الموت.

موسى بن نصير :

مدينة الحلم.

طالب بن سهل :

مدينة الحب المستحيل.

عبد الصمد (منفعلا للقمقم) :

خدعتنا أيها العفريت، ما زال قلبك ينبض بالشر!

صوت العفريت :

أبيت أن أضيف إلى ذنوبي ذنبا جديدا.

عبد الصمد :

أي ذنب في هداية امرأة ضالة إلى الصواب.

صوت العفريت :

لو فعلت لتعذر علي إهلاكها، ولبعثت إلى الوجود مدينة ملعونة هلكت بظلمها لتواصل حياة غريبة متأخرة عن دنياها عشرين ألف سنة، ولعمري إن ذلك شر من الموت نفسه.

موسى بن نصير :

حجة مقبولة فيما أرى، فما يهلك لظلم لا يحق بعثه.

صوت العفريت :

حسبنا أن الثائرين قد هاجروا فنجوا ثم جاء عالمكم من ذراريهم.

عبد الصمد (باسما) :

يبدو أنه قد اندس بينهم نفر من المنافقين والجبناء ... فما أبعد دنيانا عن الكمال!

موسى بن نصير (ملتفتا نحو طالب بن سهل) :

أفق أيها الأمير فلا جدوى من التعلق بحب زمان مضى.

صوت العفريت :

لقد كفرت عن ذنبي، أطلقوا سراحي أيها الرجال الصالحون.

موسى بن نصير :

عليك أن تقنع بذلك مولانا عبد الملك بن مروان.

صوت العفريت :

صدقوني لا يجوز أن يملك قوتي إلا حكيم.

موسى بن نصير :

خليفتنا أحكم الحكماء.

صوت العفريت :

لا يخلو من أهواء البشر وضعفهم، ألا ترون كيف يرد على حجج معارضيه بالسيف المسلول؟ (يتبادلون النظر في صمت.)

موسى بن نصير (للقمقم) :

إنك قوة لو استغلت للخير لجعلت من دنيانا جنة.

صوت العفريت :

ما تسلط علي فرد إلا جعل مني نعمة له ولمن يحب ونقمة على الملايين، صدقوني ما أحدث عفريت منا شرا إلا تنفيذا لمشيئة إنسان. (يتبادلون النظر مرة أخرى.)

عبد الصمد :

لنطلق سراحه.

طالب بن سهل :

هل أخيب في مهمتي كما خبت في حبي؟!

عبد الصمد :

لا تتحمل مسئولية ستسأل عنها أمام رب العالمين.

صوت العفريت :

قل لمولاك من يحكم بالإيمان فلا حاجة به إلى الشيطان.

عبد الصمد :

انطلق أيها العفريت فلقد نطقت بالحق.

Halaman tidak diketahui