كلا، إنها لا تريد ولا تحب. ولا داعي لإزعاجها. ولأقم بالرحلة منفردا. وقمت بالرحلة في أبهة لا تتاح إلا لأصحاب الملايين. وفي مدينة نابلي شعرت بعدوي القديم يتحرك. تمطى حتى صار شبحا ثم تجسد وحشا . ترى هل أعتزل في حجرة وأنشج في البكاء؟! وفي شدة اليأس تعلقت بفتاة صغيرة في السابعة عشرة، وكانت شهرتي كمليونير تنتشر من حولي. فتصيدني أبوها البستاني وأسرته فوقعت كذبابة في خيط العنكبوت. وتزوجت منها، وواصلت الرحلة، ونجوت من المخاوف. غمرتها بالهدايا، أغدقت على أسرتها، سبقتني أنباء مغامرتي إلى مصر، وانقلبت بين يوم وليلة حديث الناس والصحافة؛ عريس في الخامسة والستين عروس في السادسة عشرة. ملكة جمال ... مصاصة دماء ... ثروة مهددة بالفناء. انكسر قلب زوجتي، وتجمع أبنائي في اتحاد مضاد للدفاع عني في الظاهر، ودفاعا عن الثروة المهددة في الواقع. وجن جنوني فقررت أن أعصف بهم. وإذا بهم يقيمون دعوى بطلب الحجر علي! وفي المحكمة شرحت تشريحا بلا رحمة، فارق السن، الأموال التي نثرتها يمينا وشمالا ثم فضحوا مرضي القديم باعتباره نوعا من المرض النفسي والجنون أهمل حتى استفحل. بت ويا للأسف مسألة عامة تناقش، المجالس والمقاهي والغرز والصحافة، تجلى الحقد المكبوت من قديم على نجاحي. اتهمت بالسفه. تدهور الشيخوخة، الجنون، اتهمني المتدينون بأنني ألقى جزاء استغلالي للعباد في أيام الحرب، وقال الشيوعيون إنني رجل طبيعي جدا ولكنني رأسمالي بلا زيادة ولا نقصان. ودعي خالد للإدلاء بشهادته فكانت شهادته حاسمة في إدانتي. اعترف بأنني مصاب بمرض نفسي منذ صباي، وأن حياتي لم تكن إلا سلسلة من المحاولات اليائسة للهروب من المرض ومن العلاج. وقد سألته المحكمة: وهل يتيسر نجاحه التجاري لمريض نفسي؟
فأجاب خالد جلال: يتيسر له النجاح في التجارة، بل في العلم، بل في الحكم، إنما العبرة بالنتائج!
وبلغت المأساة ذروتها فصدر حكم بالحجر علي. هكذا انتهت حياة النضال والكفاح والمجد. وسرعان ما ساءت العلاقات بيني وبين زوجتي الصغيرة حتى اضطررت إلى تطليقها، واعتزلت في حجرتي، مقطع الأواصر بأسرتي، أمضغ الكآبة وأبكي كالأطفال. ورغم موجدتي على خالد جلال لم أجد بدا من اللجوء إليه. وقد بادرني: معذرة، ما كان يمكن أن أشهد بغير ما شهدت به.
فتجاهلت ملاحظته وقلت: الحال سيئة جدا. - أعلم ذلك ولكن الشفاء مأمول.
فغمغمت: الأمر لله !
فابتسم مشجعا وقال: لو أذعنت من الأول ما صادفك شيء سيئ، ولعلك لا تتصور أنني كنت سأنصحك بفعل ما فعلت، أنصحك بالرياضة والعمل والزواج.
فقلت بفتور: ولكني فعلت ذلك كله. - هذا حق، ولكنك تفعله بروح أخرى. هذا هو كل شيء.
اللقاء
تجلت القاهرة لعينيه آية في الأضواء والبهجة الصخب. إنه يفد إليها لأول مرة وعما قليل بعد أربعة أيام على وجه التحديد - يلحق به أبوه، ليقوما بأهم زيارة في حياته، زيارة السيد عبد الرحمن فاضل لطلب يد كريمته. أبوه يراه كفئا للبنت الجميلة، فهو زراعي ومرب للعجول، وذو مال، وفضلا عن ذلك فأبوه مزارع أصيل، وصديق للسيد عبد الرحمن فاضل وجار قديم له في القرية قبل أن يهجرها الرجل إلى المدينة، وقد أعجبته البنت ليلة لمحها في الاحتفال بالمولد النبوي بالقرية، وبارك أبوه إعجابه وتمنى له الخير في رحاب آل فاضل، بادر بالانتقال إلى الهرم، دار حول فيلا آل فاضل، تملى طرازها العربي العريق، تملاها بإعجاب ووجد، وتلقى دفقة من أحلام الورد ... سار في المدينة ساعات مستكشفا ثم آوى إلى مقهى الأمراء أسفل الفندق، إنه فتى يحسن تربية العجول، ويحب الغناء ويستحق أحيانا الملامة، جلس في المقهى تائها في أحلام متشابكة حتى انتبه إلى جذبة نظرة مجهولة تناجيه بلطفها الخفي.
التفت فرأى رجلا يتطلع نحوه باهتمام في الأربعين لعله، ربعة واضح القسمات، يتميز بسيما السجود في جبينه وشامة في ثغرة ذقنه. ولما تلاقت عيناهما دنا بكرسيه من مجلسه وقال: لا مؤاخذة، كلانا وحيد، تلعب عشرة؟
Halaman tidak diketahui