293

Sharh Talwih

شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه

Genre-genre

حاصل ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن اعتبار جانب الأمر يوجب وجود المأمور به حقيقة، واعتبار كون المأمور مخاطبا مكلفا يوجب التراخي إلى حين إيجاده فاعتبرنا المعنيين فأثبتنا بالأمر آكد ما يكون من وجوه الطلب وهو الوجوب خلفا من الوجود، وقلنا بتراخي الوجوب إلى حين اختياره فإن قلت فعلى هذا يكون الأمر حقيقة في طلب الوجود وإرادته مجازا في الإيجاب قلت: نعم بحسب اللغة لكنه حقيقة شرعية في الإيجاب إذ لا وجوب إلا بالشرع فإن قلت: الكلام في مدلول صيغة الأمر بحسب اللغة، وقد صرحوا بأنه الوجوب قلت: نعم بمعنى أنه لطلب وجود الفعل وإرادته مع المنع عن النقيض، وهو إيجاب وإلزام لكنه من العباد لا يستلزم الوجود لجواز تخلف مطالبهم عن الطلب فالأمر حقيقة لغوية في الإيجاب بمعنى الإلزام وطلب الفعل وإرادته جزما، وحقيقة شرعية في الإيجاب بمعنى الطلب والحكم باستحقاق تاركه الذم والعقاب لا بمعنى إرادة وجود الفعل، والأدلة يدل بعضها على الأول وبعضها على الثاني، ولقائل أن يقول: لا نسلم أن صيغة الأمر في اللغة لإرادة المأمور به بل لطلبه، وهو لا يستلزم الإرادة بل قد يكون معها فيحصل المأمور به في أوامر الله تعالى، وقد يكون بدونها فلا يحصل، ولا قائل بالفرق بين أوامر الله تعالى وأوامر العباد في نفس مدلول اللفظ، ولا بأن أوامر الشرع مجازات لغوية، وأيضا لو كان أمر كن لطلب وجود الحادث وإرادة تكونه من غير تخلف وتراخ وكان أزليا لزم قدم الحوادث، وأيضا إذا كان أزليا لم يصح ترتبه على تعلق الإرادة بوجود الشيء على ما تنبئ عنه الآية فالأولى أن الكلام مجاز وتمثيل لسرعة التكوين من غير قول وكلام، ومنها قوله تعالى: {أفعصيت أمري} [طه:93]، أي تركت موجبه، دل على أن تارك المأمور به عاص، وكل عاص يلحقه الوعيد لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن:23]، أي ماكثا المكث الطويل، والوعيد على الترك دليل الوجود، ومنها قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات:48] ذمهم على مخالفة الأمر، وهو معنى الوجوب فإن قيل: من أين يعلم أن الوعيد والذم على ترك المأمور به، ولو سلم فمن أين يعلم الوجوب في مطلق الأمر قلنا من ترتب الوعيد والذم على نفس مخالفة الأمر المطلق. وأما دلالة الإجماع على أن موجب الأمر المطلق هو الوجوب فلاتفاق أهل العرف، واللغة على أن من يريد طلب الفعل مع المنع عن تركه يطلبه بمثل صيغة افعل فيدل على مسألة، وكذا بعد الحظر لما قلنا، وقيل: للندب كما في {وابتغوا من فضل الله} أي اطلبوا الرزق، وقيل للإباحة كما في فاصطادوا قلنا ثبت ذلك بالقرينة.

"مسألة، وكذا بعد الحظر" لما قلنا، وقيل: للندب كما في: {وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10] أي اطلبوا الرزق، وقيل للإباحة كما في فاصطادوا قلنا ثبت ذلك بالقرينة، أي الندب والإباحة في الآيتين ثبتا بالقرينة فإن الابتغاء والاصطياد إنما أمر بهما لحق العباد ومنفعتهم فلا ينبغي أن يثبتا على وجه تنقلب المنفعة مضرة بأن يجب عليهم

"مسألة: وإن أريد به الإباحة أو الندب فاستعارة عند البعض، والجامع جواز الفعل لا إطلاق اسم الكلي على البعض؛ لأن الإباحة مباينة للوجوب لا جزؤه". اعلم أن الأمر إذا كان حقيقة في الوجوب فإذا أريد به الإباحة أو الندب يكون بطريق المجاز لا محالة؛ لأنه أريد به غير ما وضع له فقد ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى في هذه المسألة اختلافا فعند الكرخي والجصاص مجاز فيهما، وعند البعض حقيقة، وقد اختار فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا. وتأويله أن المجاز في اصطلاحه لفظ أريد به معنى خارج عن الموضوع له فأما إذا أريد به جزاء الموضوع له فإنه لا يسميه مجازا بل يسميه حقيقة قاصرة، والذي يدل على هذا الاصطلاح قوله في هذا الموضوع أن معنى

...................................................................... ..........................

أنه لطلب الفعل جزما وهو الوجوب، وأيضا لم يزل العلماء يستدلون بصيغة الأمر على الوجوب من غير نكير، وهذا القدر كاف في إثبات مدلولات الألفاظ.

قوله: "مسألة" اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في موجب الأمر بالشيء بعد حظره، وتحريمه فالمختار أنه أيضا للوجوب بالدلالة المذكورة فإنها لا تفرق بين الواردة بعد الحظر وغيره، ولقائل أن يقول الدلائل المذكورة إنما هي في الأمر المطلق والورود بعد الحظر قرينة على أن المقصود رفع التحريم؛ لأنه المتبادر إلى الفهم، وهو حاصل بالإباحة، والوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل، وقيل للندب كالأمر بطلب الرزق، وكسب المعيشة بعد الانصراف عن الجمعة، وعن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشيء، وإن لم تشتره، وقيل: للإباحة كالأمر بالاصطياد بعد الإحلال، وأجيب بأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية لجواز أن يثبت الندب والإباحة في الآيتين بمعونة القرينة، وهي أن مثل الكسب والاصطياد إنما شرع حقا للعبد فلو وجب لصار حقا لله تعالى عليه فيعود على موضوعه بالنقض، وذكر الإمام السرخسي أن قوله تعالى: {وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10] للإيجاب لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "طلب الكسب بعد الصلاة هو الفريضة بعد الفريضة"، وتلا قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} [الجمعة:10] الآية، واعلم أن المشهور في كتب الأصول أن الأمر المطلق بعد الحظر للإباحة عند الأكثرين، وللوجوب عند البعض، وذهب البعض إلى التوقف، وليس القول بكونه للندب مما ذهب إليه البعض، ولا نزاع في الحمل على ما يقتضيه المقام عند انضمام القرينة.

Halaman 294