حكم القتال الذي وقع بين علي ومعاوية
ثم حصل القتال بين علي ومعاوية في معركة صفين، فهل هذا القتال قتال مشروع، أم ليس قتالًا مشروعًا؟
لأهل العلم ثلاثة أقوال:
الأول: أنه ليس مشروعًا.
الثاني: أنه مشروع.
الثالث: التوقف.
أما الذين قالوا: إن هذا القتال قتال مشروع، فجميع من قال بذلك من المتقدمين لا يختلفون في أن الصواب فيه مع علي، وإن كان بعض أصحاب المذاهب من المتأخرين تكلموا بخلاف ذلك، فهذا لا يعتبر، ولم يقل أحد من المتقدمين إن الصواب مع معاوية وليس مع علي.
وأما من توقف فإنه أعرض عن الفصل في هذا المقام لتردده فيه.
وأما من قال: إنه ليس مشروعًا، فهذا يقول ابن تيمية عنه: "إنه مذهب الجمهور من أهل السنة والحديث"، فهم مع تفضيلهم لـ علي، وأنه الخليفة الرابع، وأن مخالفيه هم الطائفة الباغية، إلا أنهم لا يرون القتال مشروعًا، وهذا مذهب الإمام أحمد ﵀.
وقد بين شيخ الإسلام أن أكثر الصحابة الذين أدركوا الفتنة بين علي ومعاوية لم يشاركوا في المعركة، ويذكر في ذلك رواية عن ابن سيرين يقول ابن تيمية عنها في منهاج السنة: "إن هذا من أصح الأسانيد على وجه الأرض إلى ابن سيرين "، يقول ابن سيرين: "إنه لم يشارك في القتال بمعركة صفين من الصحابة إلا بضع وثلاثون صحابيًا"، مع أن مجموع الجيشين والعسكريين كانوا بالآلاف، فيستنتج شيخ الإسلام أن جمهور الصحابة الذين أدركوا الفتنة كانوا معرضين عن القتال، ويذكر لهذا أمثلة، من أخصهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة
وغيرهم.
فإن سعدًا اعتزل الفتنة، وكان أسامة بن زيد مواليًا لـ علي، لكنه لما وقع القتال كتب لـ علي بن أبي طالب يقول -كما في الصحيح-: (يا أبا الحسن! لو كنت في شق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره)، وهذا فقه متين، فلا يلزم من أن الإنسان مشى خطوة أن يمشي العشر الخطوات الباقية، فقد يمشي في وضوح شرعي خطوة واثنتين وثلاثًا، لكن إذا جاءت الخطوة الرابعة في أمر ليس فيه وضوح فإنه يتوقف؛ فإن المسألة ليست مسألة تبعية أن الجماعة مشوا فيمشي معهم، بل إذا جاءت الخطوة الرابعة ووجد أنه لم يطمئن إليها شرعًا فمن العقل والحكمة والدين أن يقف، وهذا ما فعله أسامة بن زيد، فقد كان مواليًا لـ علي، لكن لما ظهرت الفتنة ووصل الأمر إلى السيف، كان صريحًا، فكتب إلى علي يخبره أن ذلك ليس جبنًا ولا خوفًا ولا ترددًا في قدرك، أو تغير رأي، وإنما خطوة ما وضحت لي شرعًا، قال: (يا أبا الحسن! لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، لكن هذا أمر لم أره)، فما قال: أقلد علي بن أبي طالب، بل تعبد الله بما يعلم من الشريعة.
وكذلك سعد بن أبي وقاص مع أنه خبر القوم بعد علي اعتزل، ولم يكتف بالاعتزال في المدينة، بل ذهب في إبله في الصحراء، وجاء في الصحيح أنه كان إذا أقبل عليه أحد كره ذلك، مع أن الناس كانوا في فتنة لكن الإنسان بطبيعته بشر، وأهم شيء يكون تصرفه على علم، وأن يعرف من نفسه الاستطاعة؛ لأن من أخص شروط التكليف: القدرة والاستطاعة ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٦]، فحتى سعد ﵁ كان يكره أن يأتيه أحد، ولما أقبل إليه ابنه ورآه سعد مقبلًا -كما في الصحيح- قال: (أعوذ بالله من شر هذا الراكب)، فاعتزل الأمر اعتزالًا تامًا، مع أن سعد بن أبي وقاص هو صاحب معركة القادسية، وأول من رمى في سبيل الله بسهم، والذي لما استحرس النبي من يحرسه جاءه سعد، فقد كان إمامًا في الشجاعة والفقه والعلم، ومن السابقين والعشرة المبشرين، فقد اجتمعت فيه صفات الخلافة وليس المشاركة فحسب، ومع ذلك لما فقه أن هذه فتنة ابتعد عنها.
فالدين عظيم والشريعة عظيمة، وأنا أؤكد هذه المعاني لأنها في هذا العصر منقوصة كثيرًا، فبعض الناس إذا مشى خطوة لا يقف إلا في الخطوة المائة، هذا ليس منهجًا شرعيًا، وهدي الصحابة أنهم كانوا مقتدين بفقه القرآن الذي قال لهم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء:٣٦].
علي يعلم أن القتال مشروع، وأنت لا تعلم فلا تقاتل، ولذلك فرق بين من يرى أن العمل دين، فهذا معذور عند الله إذا كان من أهل العلم الذين يؤهلون لهذا العمل والحكم.
7 / 6