شرح الوصية الكبرى [١]
أول مسألة وقع فيها الخلاف بين المسلمين هي مسألة السلوك والعمل، وقد افترق الناس فيها إلى فرق شتى، فالخوارج والمعتزلة غلوا في درجة العمل حتى جعلوا من ترك واجبًا من الواجبات اللازمة معدوم الإيمان، والمرجئة بخلاف ذلك، فقد أنقصوا من درجة العمل حتى أخرجوه من مسمى الإيمان، والصوفية غلوا في مسألة تطبيق العمل، حتى خالفوا الكتاب والسنة، أما أهل السنة فقد قالوا: إن الإيمان قول وعمل، وفي هذه الوصية الكبرى لشيخ الإسلام كلام عن الصوفية والتصوف، وقد وجهها ﵀ إلى طائفة من طوائف الصوفية.
1 / 1
حقيقة الخلاف الواقع بين المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
أما بعد:
ففي مقدمة شرحنا لهذا الكتاب نبدأ بذكر مقدمات بين يدي الشرح:
المقدمة الأولى: أن أكثر الاختلاف -بل وأكثر المخالفات- الذي يحصل بين المسلمين ليس فرعًا عن آحاد من المسائل، بل هو في الجملة فرع عن فوات الفقه؛ فإن من فاته الفقه الصحيح في الشريعة وقع في المخالفة فضلًا عن الاختلاف.
وهناك مخالفة ليست هي المقصود في هذا المقام، وهي مخالفة المعصية المحضة، فهذا باب آخر من العصيان أو الفسوق أو ما إلى ذلك، ولكن أقصد هنا بالمخالفة: المخالفة لسنة النبي ﵌، فإن الله ﷾ في كتابه عظم هدي السابقين الأولين، فقال جل وعلا: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:١١٥]، وقال ﷾: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة:١٠٠].
فلابد لطالب العلم من العناية بأصول المنهج العلمي، ولا يليق بطالب العلم أن يمضي عشر سنين أو أكثر من ذلك وهو لا يعنى إلا بجمع آحاد المسائل، وربما تمضي عليه السنوات في الدروس وهو يجمع في إحدى المسائل، وإن كان هذا علم في الأصل لا ينقص قدره، ولكنه الحصول والتحصيل، فإن هذه المسائل منثورة مبسوطة في كتب الفقه المقارن، فالحصول على مذاهب الفقهاء الأربعة أو غيرهم سهل من حيث الجمع.
إنما من حيث الترجيح من حيث منشأ الأقوال ومناطها، وأسباب الاختلاف، ودرجات الترجيح، ومتى يعزم الطالب في الجزم ومتى يقف وما إلى ذلك، هذا فقه واسع، لا بد لطالب العلم من احتماله.
1 / 2
السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيه
المقدمة الثانية: تتعلق بباب السلوك، وهذا الباب أصل في الإسلام، ولذلك كان من هدي أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل.
1 / 3
مذهب الخوارج والمعتزلة في حكم العمل ودرجته
وأول مسألة حصل فيها الخلاف بين المسلمين هي مسألة العمل، وقد وقع الخلاف فيها من وجهين:
الوجه الأول: المتمثل في حكم العمل ودرجته، وقد صار فيه مذهبان على طرفي نقيض في هذا الشأن:
المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في رتبة العمل ودرجته، حتى جعلوا من ترك واجبًا من الواجبات اللازمة في العمل قد عدم الإيمان، ويكون كافرًا عند الخوارج، وفاسقًا فسقًا مطلقًا ليس معه شيء من الإيمان عند المعتزلة.
1 / 4
مذهب المرجئة في حكم العمل ودرجته
المذهب الثاني: مذهب المرجئة، وإن كانت المرجئة ليست وجهًا واحدًا؛ بل هي جملة من الطوائف، ذكر الأشعري في مقالاته أنهم اثنتي عشرة طائفة، لكن يجمعهم جامع واحد في قدر العمل ورتبته، وهو أنهم لم يجعلوا العمل داخلًا في مسمى الإيمان.
فهذان المذهبان مذهبان منحرفان عن السنة والجماعة في تقدير مسألة العمل من حيث الحكم ومن حيث الرتبة، لا من حيث التطبيق، فإنه لم تشتغل المعتزلة بطريقة تطبيق العمل، ولم تشتغل المرجئة بطريقة تطبيق العمل، بل كانوا يتكلمون عن رتبته من حيث الديانة.
1 / 5
مذهب أهل السنة في حكم العمل ودرجته
أما أهل السنة والجماعة فذكروا أصلين شريفين في دفع قول الخوارج وفي دفع قول المرجئة، وهو أن الإيمان قول وعمل، وذكروا تحت هذه الجملة أصلين:
الأصل الأول: أن أصل الإيمان في القلب.
الأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان.
وهذا السياق عند أهل السنة والجماعة قد حكى الإجماع عليه جماعة، وهو من الظهور بمكان، وممن حكى الإجماع في هذين الأصلين شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀.
فقول السلف في هذه المسألة آحاد الطلبة والمبتدئين يعرفون أنه قول وعمل، لكن القصور عند بعضهم يكون في فقه هذين الأصلين، وهما: أن أصل الإيمان في القلب، وهو أصل متفق عليه كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية وغيره،
والأصل الثاني: أن العمل أصل في الإيمان.
ولذلك نجد أن بعض أهل السنة المتأخرين من الفقهاء ونحوهم إما أنهم زادوا في درجة الأصل الأول حتى قصروا عن إثبات الأصل الثاني، وإما أنهم زادوا في إثبات الأصل الثاني حتى قصروا عن تحقيق الأصل الأول.
وهذا لا يختص وقوعه من حيث الخطأ فيه بمنشق أو بمعارض بيّنٍ للسنة والجماعة، بل قد يدخل مثل هذا الوهم والغلط في فقه الأصول على بعض أصحاب السنة والجماعة المتأخرين أو المنتسبين إليها، وهذا معنى لطيف نبه إليه الإمام ابن تيمية ﵀، فقال ﵀: "الأصول الجامعة في عقيدة أهل السنة الجماعة -ويقول: في مذهب أهل السنة والجماعة- لا تخفى على آحاد الفقهاء، وإنما الذي يقع فيه كثير من الوهم والغلط عند بعض الفقهاء من أصحاب السنة والجماعة من المتأخرين هو فقه هذه الأصول".
إن الأصل الأول هو أن أصل الإيمان في القلب، ولكن بعده أصل آخر وهو واسطة وليس معارضًا له أو مخالفًا له، وهو أن العمل الظاهر أصل في الإيمان، ولا بد أن يقال بهذا وأن يقال بهذا، وهذا ما مضى به الإجماع -كما أسلفت- وما مضت به النصوص المتواترة، فإن النبي ﷺ قال: (بني الإسلام على خمس)، وذكر في هذه الخمس أصول العمل، فلا بد أن يقال: إن العمل أصل في الإسلام والإيمان.
قد يقول قائل: إن النبي ﷺ قال هذا في الإسلام في حديث ابن عمر ﵄؟
فيقال: إنه فسر به الإيمان في حديث وفد عبد القيس الثابت في الصحيحين عن ابن عباس ﵄، أن وفد عبد القيس لما جاءوا قالوا: (يا رسول الله! إنا حي من ربيعة، وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، قالوا: فمرنا بأمرٍ فصل نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ...) إلى آخر الرواية في قصة وفد عبد القيس.
فهذان الأصلان ضبط بهما السلف حقيقة الإيمان في الشريعة، فهذه هي الدرجة الأولى من الاختلاف في مقام العمل، وهي درجة تتعلق برتبة العمل، وحكمه، وليس بتفسيره وتطبيقه.
ثم حدث في أثناء المائة الثانية من الهجرة النبوية العناية بمسألة تطبيق العمل، فظهرت بدايات المخالفة للسنة المأثورة عن النبي ﷺ، وكانت أوائل هذه المخالفة هي من مقارب الاجتهاد، فلا يوصف أصحابها بأنهم خارجون عن السنة والجماعة أو أنهم من أهل البدع الذين لا يضافون إلى السنة والجماعة.
1 / 6
ظهور التصوف والصوفية
كانت بداية ظهور التصوف عند بعض العباد في زمن التابعين بأوجه تحصيل العبادة، والعناية بمسألة سماع القرآن إلى وجه من المبالغة في الحال عند سماعه، حتى نقل عن جملة -وإن كان هذا النقل كثير منه التحقق من ثبوته صعب لكنه موجود في كتب الصوفية وكتب السلوك وكتب الزهد- كـ عامر بن عبد الله بن الزبير وصفوان بن سليم وعطاء السلمي وجماعة أنهم كانوا إذا قرءوا القرآن سقطوا أو غشي عليهم، وربما نقلت قصص أن فلانًا خر ميتًا أو أغمي عليه حتى عاده الناس ثلاثة أيام أو ما إلى ذلك.
هذه الأوجه حصلت، وإن كنا لا نجزم بأنها قد حصلت من زيد أو عمرو، لكنها أحوال نقلت في زمن التابعين، وقد ذكر الإمام ابن تيمية ﵀ أن الجمهور من الفقهاء يرون أن هذه حال قاصرة، ولكن ما دام أنها لم تحصل على جهة التكلف والرياء فإنهم معذورون فيها، ثم يقول: "والنبي ﷺ والسابقون الأولون لم يكن يحصل لهم ذلك لكمال أحوالهم، فهي حال قاصرة، ولكنها محتملة في الجملة إذا لم تصدر عن تكلف أو رياء، ولكنها ليست من الحال التي يقصد إلى تحصيلها أو يوصى الناس بها".
ثم زاد الأمر فيما يتعلق بمسائل التعبد إلى قدر من الانغلاق الزائد عن الدنيا، حتى ترك أصحابها كثيرًا من المباحات، ولربما زاد الأمر إلى ترك بعض المشروعات؛ كالزواج وصلة الأرحام والاختلاط بالأقارب ومصاحبة من تلزم مصاحبته وما إلى ذلك؛ وكانت هذه بداية ظهور ما سمي بالتصوف.
ثم ظهر هذا الاسم في المائة الثانية، وصار بعض هؤلاء يسمون بالصوفية، وإن كان أصحاب التاريخ ومن كتب في تاريخ العلوم قد اختلفوا كثيرًا في سبب هذا الاسم، فمنهم من قال: إنه نسبة إلى الصفاء، أو إلى الصف المقدم، أو نسبة إلى الصفة التي كان بعض الصحابة ﵃ من الفقراء يجلسون فيها، أو أوجه أخرى ذكروها، وإن كانت هذه الأوجه لا تصح على أقل أحوالها من حيث النسبة.
وأصح ما يمكن من حيث النسبة اللغوية: أن النسبة إلى الصوف وإلى لبس الصوف، وهذا العرض التاريخي ليس هو المقصود، إنما المقصود أن التصوف بدأ بهذه المظاهر من التعبد التي ليست على السنة المحضة، ولكنه قد يحتمل بعض أوجه من حيث العذر، إضافة إلى ترك كثير من المباحات، فصار الزهد والعمل بالإسلام يفسر تفسيرًا مجانبًا للسنة، ولكنه تفسير لا يأخذ انشقاقًا مطلقًا عن السنة والجماعة، بل كان أصحابه في أوائل أمرهم يعنون باتباع الكتاب والسنة، ويعظمون الدليل، ويعظمون هدي الصحابة وما إلى ذلك.
هذه هي الطبقة الأولى في بداية المخالفة في مسألة تفسير العمل في الإسلام، أو تفسير السلوك في الإسلام.
1 / 7
ظهور التصوف المنظم علميًا
ثم ظهرت الطبقة الثانية، وهي ما يمكن أن نسميها بالتصوف المنظم علميًا، فقد استعمل أصحابه تنظيمًا علميًا لتفسير السلوك والأحوال والعبادة والعمل بالإسلام، فصاروا يستعملون مصطلح البقاء والفناء كمصطلحين بينهما تقارب، ومصطلح الجمع والتفرقة، ومصطلح الصحو والسكر، ومصطلح الكشف، ومصطلح الذوق، وصاروا يرتبون المقامات: العارف من حيث الرتبة الشخصية، ويأتي دونه المريد، ومتى ينتقل المريد من كونه مريدًا إلى كونه عارفًا، والدرجات التي بين هذا وهذا، وصاروا يتكلمون في مسألة المقام والحال.
وقد تكون هذه الإشارات عند الصوفية والفرق بين المقام وبين الحال في أواخر المائة الثانية فيما يظهر من حيث الاستقراء، ثم انتشرت فيما بعد في المائة الثالثة، حيث انتظمت أكثر وصارت من المصطلحات الشائعة عند الصوفية، وصار الوصول إلى تحقيق ماهية التصوف يحتاج إلى فقه في هذه الإشارات والمصطلحات.
ولا شك أن التصوف الذي وصل إلى هذه الدرجة تصوف غير مشروع وليس على السنة، وقد أغلق باب العمل في الإسلام عن كونه بابًا مبنيًا على قواعد الفطرة وأصول العقل التي نزل الوحي موافقًا لها.
1 / 8
ظهور التصوف الفلسفي
ثم زاد الإشكال -بعد المائة الرابعة- في مسائل سلوك التصوف، فقد ظهر ما يسمى بالتصوف الفلسفي، وصار ممن يشار إليهم في هذا الباب ابن سبعين، والعفيف التلمساني، والحلاج، والسهروردي، وابن عربي في الأندلس صاحب الفتوحات وفصوص الحكم.
هذه ثلاث طبقات في مسألة تفسير السلوك، فكانت الطبقة الأولى تفسيرًا يختلف عن الهدي العام المأثور عن النبي ﷺ وصحابته، ثم تحول إلى مصطلحات مولدة في الإسلام لا تستطيع أن تحاكمها إلى نصوص الكتاب والسنة، كمصطلح الكشف والذوق والوجد والبقاء والفناء؛ لأنها غير موجودة فيهما، وإذا وجد بعضها فإنه لم يوجد بنفس المفهوم الذي قصد بالاستعمال.
فإنه عند تفسيرها نجد أن مساغها عند أصحابها ليس على مساغها في لغة العرب، هذا إذا كانت مستعملة في لغة العرب، وإلا فإن بعضها ليس مستعملًا، بل هو من المصطلحات المولدة، وكما أن المتكلمين يستعملون موضوع الصفات ألفاظًا مثل: لفظ الجوهر ونحوه مما لم يكن مستعملًا عند العرب، فهؤلاء استعملوا أيضًا في تفسير العمل وكنهه وحقيقته هذه المصطلحات، وصارت هذه من الرتب التي ترقى بها وترقى إليها وما إلى ذلك.
الدرجة الثالثة في التحول، وهي آخر هذه الدرجات، وقد ظهرت عندما فسر العمل في الإسلام تفسيرًا فلسفيًا، كما أن المعرفة المتعلقة بالتطبيقات فسرت عند الجهمية والمعتزلة بأثر من أثر المتفلسفة، مما أدى عند الجهمية وأئمة المعتزلة إلى نفي الصفات، فإن هذا لم يكن شأنًا من عقل المعتزلة الذي اكتسبوه من قراءتهم لنصوص الكتاب والسنة، بل كانوا يستدلون بدليل الأعراض، ودليل الأعراض يقول عنه أبو الحسن الأشعري: "إنه دليل تلقته المعتزلة من المتفلسفة".
فهذا العقل المستعار الذي دخل على المسلمين بأثر الترجمة، دخل أثر منه فيما يتعلق بجوانب العمل.
هذا إذا أردنا أن نؤصل هذه المراحل، وإن كان يقال: إن التصوف الفلسفي لم يظهر في القرون الثلاثة ظهورًا بينًا، أما القرن الأول فهو أمر بدهي، وكذلك سلامة القرن الثاني، وإنما كانت له بدايات في أواخر القرن الثالث، لكنه جاء في القرن الرابع، ثم في القرن الخامس صار له شيوع واسع من حيث دخول هذا الأثر.
قد يقول قائل: كيف يقال: إن التصوف تأثر بالفلسفة، مع أن المتبادر إلى الذهن أن الفلسفة قضية تتعلق بالأحكام العقلية؟ فنقول: هذا الفهم فهم خاطئ؛ فإن أصحاب الفلسفة التي كانت موجودة قبل الإسلام كانوا على وجهين:
الوجه الأول: فلسفة تتعلق بالعقل وأحكامه.
الوجه الثاني: فلسفة تتعلق بالنفس وأحكامها.
فالفلسفة التي تتعلق بالعقل وأحكامه هي التي دخلت على المتكلمين في معرفة الله ومسائل الإلهيات والصفات ونحوها.
والفلسفة المتعلقة بالنفس وأحكامها هي التي دخلت على من يسمون بمتصوفة المتفلسفة، كـ السهروردي وابن عربي وابن سبعين والتلمساني وأمثال هؤلاء.
فقد كان الفلاسفة القدماء قبل الإسلام من فلاسفة اليونان أو الفرس أو الهند أو غيرهم عندهم النمط العقلاني، وعندهم النمط الرياضي النفسي؛ ولذلك سمي بعض هؤلاء بالفلاسفة كـ السهروردي صاحب نظريات الفيض والإشراق، وأمثاله.
وهذا التأصيل في أثر التصوف كما دخل على المسلمين في مسائل العمل لا بد أن يفقه من حيث اعتبار التحول الذي طرأ.
وهذه المسألة -مسألة طبقات أو درجات الصوفية- يأتي إن شاء الله القول فيها فيما بعد؛ لأن كثيرًا من أهل العلم -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - يصف بعض الصوفية بأنهم من صوفية أهل السنة أو صوفية أهل الحديث، أو صوفية أهل العلم، أو يقول: فضلاء الصوفية، أو مقتصدة الصوفية.
كما أنه في استعمال آخر يقول: غلاة الصوفية، أو من المتفلسفة، أو من المتزندقة، أو ما إلى ذلك من الاستعمالات، فهناك جملة من التقاسيم لدرجاتهم.
1 / 9
خلاصة مسألة السلوك والعمل واختلاف المسلمين فيها
هذه المقدمة الثانية تتعلق بوجه مختصر بمسألة العمل، وأن المخالفة فيه ظهرت من جهتين:
الأولى: جهة الحكم على يد الخوارج والمعتزلة وقابلتهم المرجئة.
الثانية: جهة التفسير على يد الصوفية، أي: تفسير العمل عندما انتظم التصوف بالمصطلحات.
إذًا: مسألة العمل في الإسلام بدأ الخلاف فيها من حيث حكم العمل ودرجته على يد الخوارج والمعتزلة الذين غلوا في حكمه، وقابلتهم المرجئة الذين نقصوا حكمه، وتوسط أهل السنة بأن العمل أصل في الإيمان، مع قولهم: بأن أصل الإيمان في القلب، وهذا لا يعارض هذا، بل هما أصلان مجتمعان.
ولما جاء تفسير العمل وطريقة الوصول إليه، وتهذيب النفس وتزكيتها به، بقي القول من حيث الأصل مستقرًا إلى أن جاءت المائة الثانية، فظهرت بوادر المخالفة للسنة والجماعة بأوجه من التميز عن سواد المسلمين بأوجه من التعبد، ثم تطور الأمر إلى أن ظهر التصوف المنظم بمصطلحاته التي يغلب عليها أنها مصطلحات مولدة، لا نستطيع أن نفسرها تفسيرًا نصيًا من الكتاب والسنة، ولا أن نفسرها تفسيرًا لغويًا، بل هي مصطلحات تفسر بمفاهيم اختلفت فيما بعد عند الصوفية، وصارت كل درجة من الصوفية يفسرون المصطلح بمفهوم يختلف عن الدرجة الثانية.
وننبه هنا إلى أنه لا يجوز أن يفسر المصطلح من هذه المصطلحات بوجه غالٍ، ثم يطرد أن هذا هو تفسير سائر طبقات الصوفية لهم.
فمثلًا: مصطلح الفناء، هذا المصطلح مقصودهم به الفناء عن وجود السوى، هذا هو الفناء إذا تكلم به ابن عربي، وأمثال ابن عربي كـ التلمساني والسهروردي وابن سبعين وابن الفارض وأمثال هؤلاء، وهو الفناء الغالي، ومنهم من يستعمل الفناء عن شهود السوى، وهذا دونه في الدرجة، وإن كان بدعة.
ومنهم من يستعمل الفناء عن إرادة السوى، أي: عن إرادة ما سوى الله، فلا يريد بعمله إلا وجه الله، وهذا المعنى -ولا أقول هذا المصطلح- يقول ابن تيمية ﵀: هو فناء أهل السنة والجماعة، وهو الفناء المعروف في كلام الأنبياء والرسل ﵈، وإن كان لفظ الفناء ليس لفظًا واردًا في كلام الله سبحانه ورسوله ﷺ.
إذًا: لا يجوز أن يحكم على وجه من الصوفية بحكم عام، أو لا يجوز أن يصدر حكم معين بدرجة ما ويجعل حكمًا مطردًا لسائر طبقات أو أوجه الصوفية، بل لكلٍ ما يخصه من الحكم.
1 / 10
أهمية الكتابة والمكاتبة
قال المصنف ﵀: [بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي ﵀ ومن نحا نحوهم، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله ﷺ، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج الخارجين عما بعث الله به رسوله ﷺ من الشرعة والمنهاج، حتى يكونوا ممن أعظم الله عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة].
باب المكاتبات باب من الفقه الذي ينبغي العناية به عند أهل العلم، وأهل الشريعة وبين خاصة المسلمين بوجه عام أيًا كان شأن هذه الخاصة إما من أصحاب السلطة والحكم والإمارة، أو من أصحاب العلم، أو من أصحاب الدعوة، أو من أصحاب الجاه عند عامة الناس.
فهو من أخص ما يصلح النفوس؛ ولذلك استعمله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد كتب النبي ﷺ إلى هرقل -كما في حديث ابن عباس في الصحيحين- كتابه المشهور، وقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ..) ونجد في هذا الكتاب من النبي ﷺ إلى هرقل حسن التأتي في المكاتب.
وقد خلق الله ﷾ الإنسان قاصرًا وناقصًا، قال ﷿: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢]، فالجهل والظلم صفتان كاملتان في الإنسان، فمتى ما حرك الإنسان إلى الجهل جهل، ومتى ما حرك إلى الظلم ظلم، فنفس الإنسان قابلة للجهل وقابلة للظلم؛ ولكن يداوى هذا الجهل بالعلم الذي بعث الله به الأنبياء، ويداوى الظلم بالعدل والقسطاس المستقيم والميزان الحق الذي أنزله الله ﷾ ليقوم الناس بالقسط.
1 / 11
أهمية الفقه والعدل في الكتابة إلى المخالفين
في مكاتبة شيخ الإسلام ﵀ يظهر حسن التأتي، فإنه وإن كان عدي بن مسافر الأموي رجلًا صوفيًا وعليه بعض المآخذ، إلا أنه رجل فاضل في الجملة، لكن أتباعه فيما بعد انحرفوا عن طريقة عدي بن مسافر إلى أوجه من البدع المغلظة، بل دخلت عليهم أصول أعظم من ذلك.
ومع ذلك عني الإمام ابن تيمية ﵀ أن يكتب هذه المكاتبة إلى الذين يقصدون إلى ضبط وتحقيق ما كان عليه الشيخ عدي بن مسافر الأموي، وينفكون عما طرأ على طريقته من الزيادات والبدع، وهذا من حسن العقل وحسن الفقه في أهل العلم، وفي هذا الإمام -أعني: شيخ الإسلام - بوجه خاص؛ لأن دعوة الناس إلى أن يتحولوا من آرائهم وما استقر عليه عامتهم وما ألفوه ونحو ذلك هذا شأن فيه استطالة، ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ما بعثهم الله به من الآيات، كما قال ﵊ كما في الصحيح: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر) ومع ذلك فإنه آمن به من آمن، وكفر به من كفر، بل لم يستجب لهم أكثر الناس، ولا سيما في وقتهم، فإذا كان كذلك فكذلك القائم بالسنة والداعي إلى الحق لا بد أن يكون فقيهًا في دعوته، فإذا لم يحصل رد بعض الخلق إلى السنة المحضة فردهم عن كثير من البدعة، ولو بقي شيء مما هو دون ذلك، فإن ذلك خير من بقائهم على البدع المستحكمة المغلظة.
ومن فقه هذا الإمام ﵀ أيضًا أنه لما تكلم عن المعتزلة -ومعلوم ما هي عقائد المعتزلة- قال: "ومع ذلك فإن بعض أئمة هؤلاء ذهبوا إلى الأنصار العجمية فدعوا أولئك العجم إلى الإسلام فأسلموا على طريقة المعتزلة، فإسلامهم على طريقة المعتزلة خير من بقائهم على الكفر المستبين".
فينبغي لطالب العلم في مكاتباته ونصحه أن يقصد إلى تقريب هذا الفهم الذي اختلط ولا سيما عند عوام المسلمين في مسائل العمل حتى غلطوا في مسائل هي أوجه من الشرك في عبادة الله عند المشاهد والقبور وما إلى ذلك، فهذه هي التي ينبغي لطالب العلم في أي بلد كان أن يقصد إلى الاهتمام بها.
أما المسائل التي لا توصل العبد إلى البدعة المغلظة فضلًا عن الشرك -والتي قد قال بها خلق من الفقهاء، أو أفتى بها جمع من المعتبرين في الفقه- فإنه وإن كانت خطأ أو كانت تخالف ظاهرًا في الكتاب والسنة فهذه ليست هي الأولى، لا نقول أنها تترك، لكن نقول: ليست هي الأولى.
فمثلًا: فرق بين القول بأن عندهم إشكالًا وهو أنه إذا أذن مؤذنهم وانتهى من الأذان صلى على النبي ﷺ بصوت يسمعه الناس، وهذا منتشر في أكثر بلاد العالم الإسلامي، فهذه المسألة من حيث الحكم لا تصل إلى مسائل البدع المغلظة، لكن إذا كان بجانب هذا المسجد مشهد من المشاهد يدعوه الناس وربما يذبحون عنده وينذرون له وما إلى ذلك، فنقول: فرق بين تصحيح المقامين.
وكما أسلفت أن من كان في المقدمة الأولى، ومن كان بصيرًا في الاختلاف ترفق بكثير من الأمور.
ومن أمثلة ذلك: مسألة تلقين الميت، فإنه قد يقول قائل: هذه بدعة، وأنا لا أقول: إن هذه لا تسمى بدعة، فإنه لو سماها أحد بدعة فهذا له وجهه وقوته، وهي ليست من السنة بلا شك، لكنها ليست من البدع المغلظة، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هي البداية في تقليل الإشكال؛ لأن هناك ما هو أكبر منها، مما يتعلق بمسائل أعظم في أصول العلم أو أصول العبادة، فلو ترك العامة عليها بعض الوقت حتى تقرب نفوسهم إلى السنة، ويرجعون إليها؛ لما كان في الأمر كبير إشكال، أي: أنها مسائل تقبل الصبر؛ لأنه نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا يرون تلقين الميت في قبره، ولذلك لما سئل ابن تيمية ﵀ عن تلقين الميت في قبره قال: "إن كثيرًا من الفقهاء حرمها، ومنهم من استحبها، ومنهم من أجازها، قال: والأمر أنها جائزة، وإن كانت ليست من السنة".
فالفقه في مراتب المخالفة للسنة من أهم ما يكون من أوجه الفقه.
ومن المعلوم أن الرسول ﷺ لم يترك أصلًا في العلم أو أصلًا في العمل خشية قريش أو مخافة الناس، أو لئلا تنكره قلوب الناس، لكن بعض المسائل التي تحتمل التأخير ترك بعض الأوجه فيها، وترك بعض العمل فيها كمسألة إعادة بناء الكعبة ونحوها، مع أنها مقصودة في هديه ﵊.
وهذا الأمر يظهر في قول النبي ﷺ لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم).
فمسألة مخافة أن تنكر قلوب العامة هذا مقصد لطالب العلم، وعامة المسلمين اليوم -وخاصة العوام- يقصدون إلى متابعة النبي ﷺ والاقتداء بهديه وسنته ﵊، ولكنهم يحتاجون إلى ترفق، ويحتاجون إلى بصيرة، ويحتاجون إلى حسن تأتي في مخاطبتهم.
على كلٍ هذا من كلام شيخ الإسلام وحسن تأتيه في هذا المقام، وهذا المنهج الذي ذكرناه لـ شيخ الإسلام في المخاطبة سواء كانت مخاطبة كتابية، أو مخاطبة لفظية، هذا المنهج لا نقول: إنه هو المطرد في كل الأحوال، ولكن يكفي أن نقول: إنه هو الأصل، وقد يخرج عنه في بعض الأحوال.
وهذا الأصل يقوم على حسن التأتي في الحروف مع عدم إنقاص الحقيقة الشرعية؛ فإن بعض الناس قد يكون عنده حسن التأتي في الحروف، ولربما زاد عن حسن التأتي إلى قدر من المجاملة، ولكن الإشكال أنه يدخل عنده المجاملة في المعنى، فيهون هذا الأصل، ويجعله بدلًا من كونه أصلًا مجمعًا عليه مسألة قد تقبل الاختلاف أو لا ينبغي التشديد فيها، أو تفريق الناس بسببها، مع أنها أصل من أصول السلف، وأصل من أصول السنة اللازمة التي درج عليها الصحابة.
فبعض الناس لا يستطيع حسن التأتي وحسن المخاطبة إلا إذا أنقص الحقيقة والمعنى، وبعض الناس لا يستطيع ضبط المعنى وجمعه إلا بشدة في اللسان، وقوة في المجادلة، ولربما استطالة بالحق على الخلق.
والمنهج الذي ذكره الله في كتابه في سير أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن كلماتهم فيها من حسن التأتي لقومهم لتقريبهم إلى الحق، فكلهم يقول: (يَا قَوْمِ)، وإبراهيم ﵇ يقول لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ﴾ [مريم:٤٢]، ويقول: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم:٤٧]، والله ﷾ لما بعث موسى وهارون ﵉ إلى فرعون قال: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه:٤٤]، فهل استلزم حسن التأتي هذا إنقاص الحقيقة الشرعية التي أمروا بها؟
الجواب: لا، وهذا هو الفقه.
لكن مع الأسف كثر اليوم من يكون رقيق اللسان لكنه ينقص الحقيقة، فهو لا يحسن التأتي إلا بإنقاص الحقيقة الشرعية حتى يخرق الأصول اللازمة، ويعذر في أمور ليست محلًا للعذر، ويفتح باب للاجتهاد في مسائل ليست محلًا للاجتهاد، وما إلى ذلك.
وبعض الناس قد يكون سليط اللسان على الناس، ولربما يستشهد ببعض الآثار أو ببعض الأحوال التي عرضت لبعض أئمة السلف.
وهذا بخلاف الأصل الذي بيناه؛ فإن الله ﷾ يقول لموسى وهارون ﵉: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه:٤٤]، وانظر إلى التعريض في قوله تعالى: (لَعَلَّهُ)، وذلك لأن النفس إذا لم تعط كلامًا حسنًا، فإنها في الغالب لا تقبله، وهذا بينٌ في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩]، فإذا كان اللسان فظًا ولو كان معه السنة لم ينفع؛ فهذا النبي ﷺ معه السنة، والله ﷾ يقول له: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩].
أما ما نجده في كلام موسى مع فرعون عندما قال له: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء:١٠٢] وهذا الكلام يظهر فيه الشدة والغلظة والبعد عن اللين، فإن هذه الحال عندما يجد الداعية امن المدعو المعاندة والمكابرة، فهنا يستعمل في حقه بعض الكلمات.
هذا هو منهج القرآن الذي ذكره الله في أهل الكتاب، وهو في أهل الإسلام المخالفين للسنة من باب أولى؛ فإنه إذا كان هو المنهج مع من كفر بالله، فمع من آمن بالله ورسوله لكن خالف السنة في مسائل يكون من باب أولى.
قال الله ﷾ مبينًا هذا المنهج: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت:٤٦] هذا هو الأصل، ثم جاء الاستثناء فقال سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت:٤٦] سواء كان المستثنى متصلًا فيكون الاستثناء بينًا، أو كان منقطعًا فإنه يفسر على وجهه؛ لأن في القرآن كلامًا للأنبياء وفي كلام السلف كلام معروف في بعض المقامات، وإذا أحصينا كم اشتد النبي ﷺ في كلامه على من خالفه لوجدنا أنها ليست بقدر مناسب للكلمات التي ترفق فيها ﵊ مع من خالفه.
وقد بين هذا المنهج شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في آخر العقيدة الواسطية مبينًا أنها مذهب السلف، فقال: "إن من طريقتهم أنهم يرون ترك الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق".
فالاستطالة بغير حق مسألة لا يقع فيها اشتباه، فهي لا تقع إلا عن عدو قاصدًا للمعاداة والعدوان، لكن الذي يقع فيه بعض طلبة العلم أحيانًا فيما بينهم أو في ردود بعضهم على بعض، أو حتى في ردودهم على من يخالف السنة في مسائل أنهم يستطيلون بالحق، فتجد الطالب معه حق، وهو على السنة ومخالفه على بدعة، وهو على الصواب ومخالفه على الخطأ، لكن لا تجوز الاستطالة بالحق على الخلق؛ لأن هذا يقع بسببه العدوان والفتنة، فضلًا عن عدم قبول الحق، ومقصود الأنبياء ومقصود الرسالات هو تصحيح نفوس الناس وردهم إلى الهدى والصواب.
إذًا: المنهج من حيث الأصل هو حسن التأتي في القول، وح
1 / 12
منزلة النبي ﷺ عند الله تعالى
قال المصنف ﵀: [سلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيد ولد آدم ﷺ، وأكرم الخلق على ربه، وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا].
ثبت أنه ﵊ أكرم الخلق على الله سبحانه، وأنه أول من يدخل الجنة، وأول من يستفتح، وقال ﵊: (أنا سيد ولد آدم) وجعله الله النبي الخاتم؛ ولذلك كانت أمته خير الأمم، وكان أصحابه خير الأصحاب.
ولهذا ينبغي على أتباعه ﷺ أن يكونوا على جادته وهديه من حيث أن رسالته رسالة عامة، فهي ليست رسالة خاصة بإقليم أو بقوم أو بزمان، بل رسالة مطردة لكل مكان، وصالحة لكل زمان؛ ولذلك إذا حمل الإنسان هذا العلم، فينبغي أن يكون فقيهًا في حمله، فيأتي كل بيئة من البيئات بما يناسبها من الفقه الشرعي، وهذا لا شك أن الحال فيه يختلف، فالفقه الذي كان النبي ﷺ يربي عليه أصحابه بمكة ليس هو الذي كان عليه أصحابه بالمدينة، فقد حصل بالمدينة أمور لم تحصل حين كان ﵊ بمكة، وفي عهد الخلفاء الراشدين حصلت أمور لم تكن موجودة في زمنه ﷺ، فهذا هو الفقه الشرعي الذي ينبغي لطالب العلم أن يقصد إليه.
ولذلك من كرم هذا النبي على الله -إشارة إلى أنه خاتم الأنبياء- أن الله ﷾ حينما يذكر الأنبياء في القرآن يسميهم بأسمائهم، كقوله تعالى عن موسى: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ [الشعراء:١٠] وكذلك في نداء الله لإبراهيم، وفي نداء الله لعيسى، لكن محمدًا ﷺ ما ناداه الله باسمه، إنما أخبر عنه باسمه ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح:٢٩]، لكن لم يناد الله ﷾ نبيه محمدًا على وجه النداء باسمه، وإنما ناداه باسم النبوة والرسالة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم:١]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب:١] ..
إلخ.
وهذا إشارة إلى قدر عظم نبوته وأنها النبوة الخاتمة، وإذا كان كذلك فعلى من يحمل هذا العلم أن يتخوض فيه بحق وبعدل، وإذا لم تسع نفسه أو طبعه فقد أقول كلمة يراها البعض صعبة لكني أنقلها وأنا مطمئن إليها: الزيادة من العلم عندما لا تلزمه معرفتها في عبادته تركه لهذه الزيادة أولى من دخوله فيها إذا كانت نفسه على هذا الوجه من الانغلاق، فلا يدخل في العلم حتى يربي نفسه على تزكية النفس التي هي من أخص مقاصد المرسلين؛ فإن إبراهيم ﵇ لما دعا ربه لم يطلب نبيًا يعلم الناس فقط، بل قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:١٢٩]، فتزكية النفس من أخص مقاصد الرسالات التي نزلت على أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
1 / 13
شرح الوصية الكبرى [٢]
اشتملت هذه المادة على ثلاث مسائل: الأولى: وسطية الأمة الإسلامية بين سائر الأمم، الثانية: مسألة الأصول والفروع وبيان أنها تسمية سائغة إذا ضبطت بتفسير صحيح. الثالثة: المحكم والمتشابه، فالقرآن منه محكم ومنه متشابه، والعلم والعمل منه محكم ومنه متشابه؛ فينبغي العناية بمحكم العلم والعمل دون متشابهه.
2 / 1
وسطية الأمة المسلمة بين سائر الأمم
قال المصنف ﵀: [أما بعد: فإن الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله.
وجعلهم أمة وسطًا، أي: عدلًا خيارًا، ولذلك جعلهم شهداء على الناس، هداهم لما بعث به رسله جميعهم من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم -بعد ذلك- بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم].
ابتدأ المؤلف ﵀ في مكاتبته بأصل عام، ثم دخل بعده إلى الكلام في طريقة عدي بن مسافر والتحول الذي طرأ فيها.
هذا الأصل العام الذي قد ضمنه جملته العامة هو تقرير المصنف لكون هذه الأمة هي الأمة الوسط، وأن أهل السنة والجماعة هم الوسط في فرق هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم.
تقريره لمسألة الوسطية في هذه الصفحات الأولى، وبين ﵀ المقصود عنده بهذا المنهج، فهو من حيث ابتدأ بالمكاتبة قرر مسألة الوسطية، وهذا المقصود من كلام الإمام ابن تيمية ﵀ يمكن أن نقول: إن تحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: اعتبار الوسطية من حيث العلم.
المسألة الثانية: اعتبار الوسطية من حيث العمل.
المسألة الثالثة: اعتبار الفقه لهذه الوسطية.
2 / 2
الوسطية في العلم
أما من حيث العلم فإن أصول الوسطية العلمية هي: الكتاب والسنة والإجماع؛ ولذلك لا يجوز أن يقال عن قول أنه قول وسط فصل إلا إذا انضبط أنه مبني على الكتاب والسنة والإجماع، وأما ما نزل عن رتبة الإجماع من اختلاف الأئمة واختلاف الصحابة فهذا الأصل فيه أنه على السعة، وإن كان الناس من الخاصة والعامة -كما يقول الشافعي - يربون على اتباع ما هو أقرب إلى الدليل، ثم هذا يتفاضلون فيه ويختلف نظرهم فيه.
إذًا: اعتبار الوسطية العلمية بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.
والإجماع الذي يذكر هنا هو الإجماع المنضبط الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والقرون الثلاثة الفاضلة.
أما بعد ذلك فإن الغالب على ضبط الإجماع أنه يتعذر أو يتعثر، فإن الإجماع الممكن من حيث الانضباط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، أما بعد ذلك فإن الأمة انتشرت، والفقهاء كثروا، وتأخرت وسائل الاتصال في أكثر قرون الأمة، فصار ضبط الإجماع متعذرًا في كثير من الأحوال.
إذًا: الإجماع المنضبط هو إجماع القرون الثلاثة الفاضلة، فإذا انضبط إجماعًا فإنه يكون قولًا لازمًا تحرم مخالفته بمقتضى الأدلة الشرعية.
2 / 3
الوسطية في العمل
ذلك باعتبار فقه الإجماع وفقه الدليل من الكتاب والسنة لتطبيق العمل عليه، فحينما يقال: إن هذه الأمة هي الأمة الوسط في علمها، فهي الوسط في عملها.
فعليه: يكون ميزان العمل في الإسلام هو ما مضى به الكتاب والسنة والإجماع، وأما أوجه العمل التي هي اجتهاد لبعض الفقهاء فهذه مبنية على السعة.
وأما أوجه العمل التي هي حادثة في الإسلام، فهذه لا ينبغي أن يبقى الناس على إلفها، وعليه يمكن أن نقول: إن العمل القائم في حال المسلمين ولا سيما في حال عامتهم اليوم ثلاثة أقسام:
الأول: عمل مبني على الإجماع، أي: معلوم بالإجماع كالصلوات الخمس، فهذا عمل مجمع عليه بين المسلمين فضلًا عن دلالة الكتاب والسنة عليه.
الثاني: عمل هو وجه من الاجتهاد لبعض الفقهاء، وهو إما عمل يتعلق ببعض العبادات المحكمة كالصلاة، مثل بعض الحركات في الصلاة كرفع اليدين وعدم رفعهما وكإشارة الأصبع في التشهد أو عدمها، وكوضع اليدين على الصدر أو عدم ذلك، وكالتورك وعدمه وما إلى ذلك.
أو أعمال منفكة عن عبادة معينة تقع بوحدها.
فأوجه العمل فيه بين الفقهاء الأصل فيه أنه على السعة ما دام أن هذا الخلاف خلاف معروف وتقدم معتبر.
الثالث: عمل مبتدع في الإسلام، وهذا هو الذي ينبغي أن يصرف الشأن في تصحيح أمر المسلمين فيه.
أما الوجه الثاني فلست أرى أنه من الحكمة أن يكثر مجادلة الناس فيما هو منه، حتى ولو كان المجادل يرى أن ما جادل به هو الأقرب إلى الدليل، فإن هذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن هذا الأقرب للدليل إنما هو من حيث نظره، وقد لا يكون الأمر كذلك.
الأمر الثاني: أن من مضى على تقليد إمام معتبر يمكن أن ينبه إلى الأمر باختصار، وليس بوجه من الإلزام، أو أنه إذا لم يرجع عن ذلك فقد ترك السنة والجماعة أو ترك طريقة السلف أو ما إلى ذلك.
فما كان من الخلاف المعتبر المحقق فإن شأنه على الاحتمال، إنما الذي يصرف العامة عنه ويحذرون منه هو العمل المبتدع في الإسلام، الذي لم يذكره أئمة الفقهاء فضلًا عن وروده في الكتاب والسنة، وهذا أحواله متدرجة بوجه من البدعة الحادثة، ثم إلى بدعة مغلظة، ثم إلى وجه من الشرك، أو ما يقتضي مخالفة أصول الملة مما يقع عند القبور، وإن كنت أقول: إنه ليس بالضرورة أن كلَّ ما يقع عند القبور يكون شركًا، فقد يقع عند القبور ما هو من الشرك الأكبر، وقد يقع عندها ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عندها ما هو من البدع، وقد يقع عندها ما هو من أقوال الفقهاء الشاذة.
فمثلًا: فيما يتعلق بالدعاء عند القبر، هناك رأي لبعض الفقهاء أنه يستحب أو يجوز أن يدعو الإنسان لنفسه عند القبر، لكن هذا القول قول شاذ يخالف مذهب جماهير الفقهاء المتقدمين، وكأنه يخالف إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إنما تبناه بعض أصحاب الفقهاء المتأخرين، فهذا من شاذ الأمر.
ولذلك نص بعض المحققين على أن هذا وإن جوزه بعض الفقهاء المتأخرين إلا أنه بدعة؛ لأنه لا معنى للدعاء عند القبر، وإنما الذي جاء به التخصيص هو الدعاء للميت صاحب القبر، أما دعاء الإنسان الزائر لنفسه فليس كذلك.
وقد يفعل عند القبر ما هو من البدع، كبعض الحركات والأحوال، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأصغر، وقد يقع عنده ما هو من الشرك الأكبر، وإن كان الفاعل له قد لا يكون عليمًا بهذا.
ولهذا تعميم الأحكام على ما يقع عند القبور ليس له وجه، وكذلك وصف الأعيان بصفة مجملة، هذه ينبغي أن تبقى على إجمالها، أحيانًا يقول البعض: فلان قبوري، وهذه الكلمة كلمة مجملة، قد يكون المقصود منها أنه يغفل عما هو من الشرك الأصغر، أو ما هو من الشرك الأكبر، أو ما إلى ذلك.
إذًا: تصحيح ما عليه أحوال المسلمين اليوم من الأخطاء في مسائل التعبد ولا سيما ما يقع عند القبور والمشاهد التي بعضها صحيح وبعضها مكذوب، هذا لا بد أن يكون أولًا بالحكمة والاعتدال؛ تقريبًا للسنة ودعوة إلى النصوص وإلى صريح النصوص القاضية والملزمة للمؤمنين بترك هذه المنكرات وهذه المبتدعات.
وأن يكون باعتدال، وليس بما يحرك النفوس الجاهلة إلى التعصب لما هي عليه من الجهل.
2 / 4
مسألة الأصول والفروع والفرق بينهما
المسألة الثالثة: هي فقه الفرق بين الأصول والفروع والمحكم والمتشابه.
الأصول والفروع هذه التسمية من حيث الاصطلاح تسمية شائعة في كلام الأصوليين، وفي كلام المتكلمين، وفي كلام الفقهاء بعامة، وهم يعنون بذلك أن الدين ينقسم إلى أصول وفروع.
وهذه التسمية لا شك أنها تسمية متأخرة، أي: أنها لم تظهر زمن النبوة ثم الصحابة ثم زمن الأئمة المتقدمين، بل بدأت بدايات من المصطلحات لما بدأ الاصطلاح وكثر، فتجد في كلام الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام أنه يسمي بعض المسائل فيقول: ما هو من الأصول في الدين وما هو من الفروع فيه، فاستعمل مصطلح الأصول ومصطلح الفروع.
هذا المثال هو تمثيل بـ أبي عبيد، وهو رد على ما يقوله بعض المتأخرين من أن هذه تسمية مبتدعة على سائر مقاصدها.
2 / 5
مذهب ابن تيمية في مسألة الأصول والفروع
الإمام ابن تيمية ﵀ عندما تكلم في مسألة الأصول والفروع تكلم فيها على وجهين:
الوجه الأول: يذكر هذا التقسيم وهذه التسمية مقرًا لها، وهذا مقتضى الشرع والعقل.
الوجه الثاني: يذكر هذا التقسيم معارضًا له، ولكن مقصوده بالمعارضة ليس الاصطلاح، إنما مقصوده بالمعارضة الحد الذي ذكره بعض أئمة المعتزلة، ومن نقل عنهم من المتكلمة الصفاتية لما قالوا: إن الأصول هي العلميات، والفروع هي العمليات، فهذا غلط؛ لأنه يستلزم أن تكون الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان من الفروع، وهذا خطأ؛ لأن مذهب السلف درج على أن العمل أصل في الإيمان.
أو معارضة لقول بعضهم: إن الأصول هي المسائل المعلومة بدليل السمع ودليل العقل، والفروع هي المسائل المعلومة بدليل السمع وحده، فإن هذا أيضًا حد غير صحيح؛ فإن هناك مسائل أصول لا تعرف إلا بدليل السمع، ككتابة الله ﷾ لمقادير خلقه؛ فإنه لولا خبر الله ورسوله بها لما كان لأحد أن يبتدع بأن الله كتب مقادير الخلق، وكنزوله ﷾ إلى سماء الدنيا؛ فإنه لولا خبر النبي ﷺ لما كان لأحد أن يصل بعقله إلى أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا.
بخلاف بعض الصفات التي يشهد العقل بها ابتداء، ككونه ﷾ سميعًا بصيرًا حيًا قديرًا، فإن هذه مسائل تعرف بالشرع وتعرف بالعقل، وإن كانت المسائل المعروفة بالسمع إذا ورد السمع بها فإن العقل لا يعارضها.
إذًا: القول بأن الإمام ابن تيمية ﵀ رد تقسيم الدين إلى أصول وفروع أو أنكره هذا غير صحيح، بل في كلام شيخ الإسلام استعمال قديم للأصول والفروع، وهذا مقتضى العقل والشرع؛ لأن مسائل الشرع ليست وجهًا واحدًا، وكلمة (فروع) ليس فيها إنتقاص لشيء من مسائل الشريعة؛ بل إن النبي ﵌ قد قال ما هو مقارب لهذا المعنى، فقد قال ﵊ كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) والشاهد ما تفرد به مسلم من قوله ﵊: (فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فإذا كان الشارع عبر بهذا التعبير واستعمل هذا اللفظ؛ فلفظ الأصول والفروع ليس بعيدًا عن مثل هذا المقصود، فهو لا يوجب النقص.
2 / 6
الوجه السائغ لتسمية (الأصول والفروع)
بعض الكتاب يقول: إنه قد يفهم بعض العامة أو حدثاء العهد بالإسلام أن الفروع ليست لازمة في الإسلام.
فنقول: هذا الفهم ليس بالضرورة أنه يقع عند العامة وبعض حدثاء العهد بالإسلام، بل كون العامة وحدثاء العهد بالإسلام يعرفون أن الإسلام فيه ما هو أصل وفيه ما هو دون ذلك، وأن من يفرط في الفرع لا ينبغي له أن يفرط في الأصل، ويفهمون أن أصول الإسلام هذه عزم يجب المحافظة عليها، ولا تغلب النفس على تركها، وأن هذه الفروع شأنها دون ذلك، مع كون بعضها واجبًا وبعضها مستحبًا ..
هذا الفهم هو عين الحكمة وعين الفطرة البشرية، بخلاف ما إذا قلت للناس: إن الإسلام جميعه من أوله إلى آخره أصل، فهذا ليس عدلًا ولا حكمة، فإن من ترك إماطة الأذى عن الطريق، ليس كمن ترك الصلوات الخمس، ومن فاتته تكبيرة الإحرام ليس كمن ترك صلاة الجماعة، ومن صلى منفردًا ليس كمن أخر الصلاة حتى خرج وقتها، ومن أخر الصلاة حتى خرج وقتها ليس كمن ترك الصلاة بالكلية، فالأصل أن الناس يعرفون أن دينهم منه ما هو ركن تركه قد يكون ردة وكفرًا، ومنه ما هو واجب تركه فسق، وقد ذكر الله سبحانه هذا في كتابه، فقال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات:٧] فلما ذكر الإيمان ذكره واحدًا، ولما ذكر ما يخالف هذا الإيمان أو ما ينقصه قال: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات:٧].
فمسألة الأصول والفروع هذه تسمية واسعة إذا ما ضبطت بتفسير صحيح، فقيل: الأصول هي ما أجمع عليها الصحابة والأئمة في مسائل العلم والعمل، والفروع هي ما دون ذلك.
ففي العقل والشرع أن المسائل أحد وجهين:
إما مسألة مجمع عليها، وإما مسألة مختلف فيها.
فإذا رددنا مسائل الشريعة إلى القرون الثلاثة الفاضلة استطعنا أن نصل إلى أن هذه المسألة في القرون الثلاثة إما أن تكون مسألة مجمعًا عليها، وإما أن تكون مسألة قد اختلف فيها الصحابة والأئمة.
فما كان من المسائل المجمع عليها فهو أصل قدره على اللزوم، سواء كان الإجماع بوجه علمي، أو وجه عملي، فقد يكون إجماعًا علميًا، كأن يجمعوا على كون هذا العمل مستحبًا، فعندما أجمعوا على كونه مستحبًا هل صار فعله واجبًا، أم أنه انعقد الإجماع على استحبابه؟ انعقد الإجماع على استحبابه، فلا يجوز لأحد أن يأتي بعد ذلك فيقول: إنه مباح وليس مستحبًا، فيخفضه، ولا يسع أحدًا بعد ذلك أن يقول: إنه واجب، فيرفعه عن قدره السابق.
فالمستحب من حيث الفعل يتعلق بفروع الشريعة، ولكن من حيث الجهة العلمية فيه يتعلق بمسألة الأصول، فمن أنكر أن هذا مشروع، كمن أنكر شريعة السواك، فإن إنكاره لهذا يتعلق بمسائل التصديق لأحاديث النبي ﷺ.
أما إذا جئت إلى المستحبات من حيث التطبيق لها، بل وإلى كثير من الواجبات من حيث التطبيق لها، فهذه لا نسميها أصولًا، بل هي من باب الفروع، ولذلك قد يكون الشيء من جهته العلمية أصلًا، ومن جهته العملية التطبيقية فرعًا، وقد يكون الشيء من جهته العلمية والعملية أصلًا، وهذا كالصلاة؛ فإنها من جهة التصديق بوجوبها أصل، ومن جهة إقامتها هي أصل أيضًا.
2 / 7