التفريق بين السني والبدعي
قال المصنف ﵀: [وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري، وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي، وهي مسائل معروفة].
التفريق بين السني والبدعي يكون بالأصول المحكمة التي انضبط فيها الإجماع، كإثبات صفات الله ﷾، وأنه منزه عن التعطيل والتشبيه والتمثيل، وإثبات أن القرآن كلامه ﷾، وإثبات نبوة النبي ﷺ، وإثبات قدر الله ﷾، وأنه قضى مقادير الخلق وخلق أفعال العباد، وكتب مقاديرهم، وهو بكل شيء عليم، وإثبات شفاعة النبي ﷺ، وعذاب القبر ونعيمه، وإثبات عدالة الصحابة.
هذه هي الأصول التي تميز السني من البدعي، أما بعض الاجتهادات الخاصة التي عرضت، فإن هذا فقه يختلف.
ولتتضح الصورة نذكر قصة الإمام أحمد بن حنبل مع داود بن علي الأصبهاني صاحب المذهب الظاهري، وهو من كبار الأئمة فقهًا وعلمًا؛ فإنه لما ذهب إلى خراسان سألوه: هل القرآن محدث؟ فقال: محدث -هكذا تقول الرواية- لأنه وجد أنه في سياق القرآن: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء:٢].
وكان الإمام أحمد ﵀ ينهى عن هذه الكلمة، فلما جاء داود بن علي قال ابن الإمام أحمد لأبيه: هذا رجل من أهل أصبهان يستأذن عليك، قال: من هو؟ -وكان بين داود وبين ابن الإمام أحمد تلاطف- قال: داود، قال: ابن من؟ قال: ابن علي، قال: لا يدخل؛ إنه بلغني عنه أنه قال كذا وكذا.
فهذا مثال يصدق فقهه فيما يناسب حال الإمام أحمد، وهو اجتهاد وصل إليه.
وفي هذا العصر كان للشيخ ناصر الدين الألباني ﵀ بعض الاجتهاد مع بعض الناس، فلا يلزم بالضرورة أن يكون هذا منهجًا مطردًا لسائر الطلبة وسائر الناس.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ حتى في آخر غزوة، وهي غزوة تبوك، والتي نزل القرآن مفصلًا في شأنها، وقد تخلف من تخلف من الصحابة عنها، إلا أن رسول الله ﷺ لم يهجر المنافقين الذي تخلفوا عن الغزوة، لكنه هجر بعضًا من أصحابه، حتى نزل القرآن بتوبتهم، وأثنى عليهم.
ولما روجع النبي ﷺ في قتل المنافقين قال: (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، فكذلك يجب أن نقول اليوم: لا يتحدث الناس أن أهل السنة يبغي بعضهم على بعض، ويشتت بعضهم بعضًا، ويكذّب بعضهم بعضًا، ويرمي بعضهم بعضًا بالضلال والبدعة وما إلى ذلك في أمور قد يكون بعضها يحتاج إلى مراجعة، وقد يكون بعضها من يسير الاجتهاد.
[وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل أول نعمة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة].
بعض المتأخرين أصحاب السنة لما حرصوا على تمييز السني من البدعي ذكروا بعض التفاصيل التي يضيق كثير من عامة أهل السنة بل وبعض خاصتهم أن يدركوها؛ لأنها ليست من مسائل الأصول، وإن كان العلم بها علمًا فاضلا، ً وفرق بين قولك: إن العلم بها علم فاضل، وبين قولك: إنها من الأصول التي من لم يتقلدها ويعلمها ويصرح بذكرها يكون خارجًا عن السنة والجماعة.
إذًا: الأصول التي تميز هي الأصول المحكمة في صريح القرآن ومتواتر السنة، وإجماع الصدر الأول، القرون الثلاثة الفاضلة.
أما بعض التفاصيل فهذه يقع فيها الوهم أحيانًا، ويقع فيها الغلط، ويقع فيها التأخر، سواء كانت في مسائل علمية أو عملية، ولا بأس أن يسمى هذا الوهم غلطًا أو خطأً، بل لا بأس أن يسمى بدعة، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه خارجًا عن السنة والجماعة خروجًا مطلقًا؛ فإن الأئمة ﵏ لما قال حماد بن أبي سليمان مقالته لم يجعلوه من أهل البدع المطلقة، يقول الإمام ابن تيمية: "لم يكن الأئمة من أهل الكوفة وغيرهم يترددون أن هذا القول بدعة، ولكن مع ذلك لم يجعلوا حمادًا وأمثاله من الكوفيين من أهل البدع المطلقة، فضلًا عن المغلظة، أي من الخارجين عن السنة والجماعة مطلقًا".
فالمقاربة فيها عقل، وفيها حكمة، وفيها قصد إلى تحقيق الشريعة؛ لأن الله أمر بأصلين، قال سبحانه: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى:١٣] وقال معه: ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]، فكما أن طالب العلم يعنى بضبط السنة، أيضًا من تحقيق السنة وهدي السلف العناية بالاجتماع على الحق، وأن لا يتفرق الناس شيعًا مع أنهم على أصول من الحق واحدة، وإنما اختلفوا في أمر يحتمل الخلاف فيه، أو قد يقع الغلط في مثله.
وهذا الاختلاف إما في أمر يحتمل الخلاف، وهو الاجتهاد المأذون فيه، أو في أمر قد لا يكون مأذونًا بالاجتهاد فيه، لكنه نوع من ضيق المسائل الذي -كما قال أبو عبيد - قد يقع الغلط في مثله، وإذا كان أبو عبيد قد قال هذا عن مرجئة الفقهاء، مع أن قولهم كان مخالفًا لظواهر النصوص البينة، فكيف هو دون ذلك من تفاصيل المسائل التي تخفى على كثير من أهل العلم، فضلًا عن العامة.
فهذه المسائل التي يقع الغلط في مثلها، فضلًا عن المسائل التي تقبل الاجتهاد، لا ينبغي أن تكون مفرقة بين المسلمين، فضلًا عن أن تكون مفرقة بين أهل السنة بعضهم مع بعض، وإنما في الأصول المحكمة وهي الأصول التي انضبطت إجماعًا بينًا مستقرًا شائعًا عند الصحابة والأئمة.
[فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا].
هذا أصل، وهذا فقه عظيم لهدي الإسلام عمومًا، ولمن يدعي السنة خصوصًا.
4 / 9