ولم نعلم من كلام شكسبير أنه كان مطلعا على كتب دينه وأنه يكاد يستظهر أسفار العهدين القديم والجديد بحروفها، ولكننا نعلم هذا من أسلوبه ومن تركيب عباراته لأنه يشبه تركيب الجمل في نصوص الترجمتين: ترجمة القرن السادس عشر التي ظهرت قبل مولده بخمس سنوات، وترجمة القرن السابع عشر التي ظهرت قبل وفاته بعشر سنوات، واطلاعه على هذه النصوص اطلاع من يفهم ويحفظ ويضع الشاهد الموافق في مكان الحاجة إليه. •••
ونحن إذا قلنا بعد هذه التقديرات إننا نعلم القليل عن عقيدة شكسبير على سبيل اليقين، فقد قلنا الكثير عن طبيعة الرجل وتكون مزاجه، وهما سبب السؤال عن عقيدته يوم كان الناس يقذفون بعقائدهم في وجه من يسأل عنها ومن لا يسأل، وناهيك بزمن كان يتوسط النهضة بمنازعاتها في الدين والعلم والسياسة، ويفتتح الثورة التي ثلت العروش وطاحت برؤوس الملوك في وطنه وإلى جوار وطنه وفي العالم الجديد بين أبناء جلدته ومن عاش معهم من ورثة النهضة والإصلاح.
في ذلك الزمن كان صاحب المعتقد يأخذ بتلابيب الناس ليعلنهم برأيه ويقسرهم عليه، وها هنا رجل يعرف من دعوات زمنه وعيوب أهله ما يجهله الكثيرون ويكتب ما لم يكتبه أحد قبله ولا بعده عن طبائع الناس وحقائق الحياة، ونسأل عن عقيدته فنبحث عنها في طوايا كتبه ولا نعلم منها غير القليل من طريق الظن والتقدير.
لو كان لا يعلم ولا يعمل لأمكن أن يقال إنه جاهل لا يدري ما حوله، ولما احتاج أحد في أمره إلى سؤال.
ولكنه يعلم ويعمل، فإن جهلنا اليقين من عقيدته فليس اليقين من تكوين مزاجه بمجهول: إنه مزاج رجل يعرف رسالته فيعكف عليها، ويفرغ للجد والدأب في أدائها على وجهها.
إنه رجل يغلب فيه مزاج الحكيم المتأمل على مزاج الثائر الغيور، وشفيعه إلى وجدانه وضميره أنه ينظر إلى جانب هنا وجانب هناك، وأنه لا يرى بينهما موقع الفصل بين الخير والشر ولا قضية الحياة والموت في مشكلات الماضي والحاضر، ومن ورائها مشكلات الغد المجهول.
وندع المفاضلة بين المزاجين لموضعها من كتب الأخلاق وعلم السلوك، ونكتفي هنا بأن نقول إن الفضل لأحدهما على الآخر لا يطرد على إطلاقه في كل قضية وكل آونة، فرب قضية تكون فيها الحكمة جبنا لا يغتفر، ورب قضية في آونة أخرى تكون فيها الحكمة فريضة لا هوادة فيها، ومناط الفصل بين المزاجين في هذه السيرة أن نسأل من يطالبون الشاعر بمزاج غير مزاجه ويوجبون عليه حمل السلاح غيورا ثائرا: في أي جانب يريدون منه أن يحمل سلاحه؟
لقد كان موقفه بين الجوانب موقف المؤمن الذي لا تؤويه حظيرة من حظائرها، وكان يؤمن بعظمة الله وعظمة هذا الكون الذي تغيب أسراره في سمائه وأرضه عن فلسفة الحكيم ومعرفة العليم، وكان يأخذ على كل نحلة من نحل العصر مواضع الهدة فيها، ولا يبرئ إحداها من سوء المغبة ولا ينوط حسن المغبة بسواها، ففي أي جانب منها يحمل سلاحه وإلى أي جانب منها يسدد ذلك السلاح؟
إنه صنع في حياته ما كان عليه أن يصنعه لو أنه عاد إلى الحياة بعد ثلاثمائة سنة، وهذه المئات الثلاث من دورات الفلك هي مسافة السبق بين وعي العبقرية الخالد ووعي السالف العابر الذي يغمره غبار المعركة فترميه ضجة هنا وتتلقاه صيحة هناك، وتنقضي حملته ولما ينكشف للمعركة غبار. •••
ويبدو أن قوام هذا المزاج الناجح الرضي كان صفة لا يظن لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على كسب النجاح والرضا، وهي صفة العزوف.
Halaman tidak diketahui