وفيما عدا هذا القرائن يرى بعض المعقبين أنه كان بابويا لأنه كان يغمز أتباع البروتستانتية في رواياته الفكاهية ويعرضهم على صورة من صور السخرية والاستخفاف، كما يلوح من صورة سيرناثنائيل في رواية «عناء الحب الضائع»، وصورة سير أوليڨر مارتكست في رواية «كما تهوى» وفي صورة سير هوج إيفانز في رواية «الليلة الثانية عشرة» إذ يقول: «لست سياسيا، وإني لأوثر أن أكون براونيا على أن أكون في زمرة السياسة!»
والبراونيون هم أتباع روبرت براون الذي كان ينكر قوامة الأساقفة، ويخول كل طائفة متعبدة أن تنشئ معبدها حيث شاءت وتختار له الوعاظ والقساوسة مستقلين عن أحبار الكنيسة ورؤساء الدولة.
إلا أن الشاعر كان يلقي على ألسنة أبطاله ما يناسبهم من القول على حسب الموقف أو على حسب مدار الحوار، وقد جعل الملك جون يقول لبندلف رسول البابا إنه لا يسمح للإيطاليين برئاسة الدين تحت سلطانه المستمد من السماء، ولما قال له فيليب ملك فرنسا: إنك تجدف أيها الأخ! أجابه معرضا بالرشوة والفساد في الوصايا البابوية!
وليس لشكسبير رأي في مذهب المتطهرين ولا في مذهب الإنسانيين على غير هذا المثال الذي يتبعه في إملاء الآراء على ألسنة المتكلمين حسب مواقفهم وأدوارهم في الروايات، وإنما المرجع إلى قرائن الرأي إن كانت فيها قرينة من لهجة الخطاب يحس منها القارئ أنه مفرغ في قالب الموافقة والارتياح أو مفروض على المؤلف بمقتضى المقام على حكم الحوار.
إلا أن قرائن الآراء في كلامه على مذهب المتطهرين ومذهب الإنسانيين لا تحتاج إلى عناء كبير في الموازنة والاستنتاج؛ لأنها غير مقصورة على المواقف في بعض الروايات، بل هي قرائن مجتمعة نستمدها من عمله كله ومن حياته كلها، ومما قاله على لسان غيره ومما لا حاجة به إلى قول.
فهو لا يذكر المتطهرين بأسمائهم ولا يذكر مذهبهم باسمه، ولكنه ينعتهم بصفاتهم ويومئ إلى مبادئهم وتقاليدهم، ويكاد يستدعيهم إلى المسرح ليطردهم منه على عجل مشيعين بنظرات الضجر والاستخفاف، ولا حاجة إلى هذه الأقوال المعترضة لاستخلاص رأي الشاعر في هذا المذهب وفي غلاة أتباعه من أبناء عصره، فإن الرجل الذي يدين بمذهب المتطهرين أو ينظر إليه نظرة العطف والإغضاء لا يقضي حياته في المسرح بين قراءة وتمثيل وتأليف وإدارة وإشراف، ولا يستطيع التوفيق يوما واحدا بين رسالة حياته ورسالة القوم الذين يتحرجون من رؤية المسرح بين أسوار المدينة ويلحقونه بالحانة والماخور وبؤرة الفساد.
ولم يذكر الشاعر مذهب الإنسانيين باسمه، ولكنه ذكر الإنسانية وآدابها في مواطن متفرقة تنصرف إلى معناها في مذهب الإنسانيين، وقال في رواية «هنري الرابع»: «لو كان لي ألف ولد لعلمتهم أول مبادئ الإنسانية.» وتحدث في رواية «هملت» عن الذين يحاكون الإنسانية محاكاة بغيضة، وقال في مواقف السخط برواية «عبد الله»: «إنني آوي إلى مسلاخ القرد بديلا من هذه الإنسانية ...» وجأر بصيحة كهذه الصيحة في رواية تيمون.
على أن الشاعر في غنى عن كلام يقوله بلسانه أو لسان غيره لنعلم منه أنه «إنساني» في عقيدته وتفكيره، فإنه يؤمن بكل ما احتواه المذهب من عقيدة أو فكرة إذا آمن بإحياء الفنون والإقبال على الحياة وعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وهو من ثم أكبر من مؤمن بالمذهب وأكبر من مستجيب فيه إلى دعوة السابقين إليه: هو ركن من أركان النهضة الإنسانية يقيمها بعمله وسيرته وإن لم يشرحها بحجته وبيانه، وهو ظاهرة من ظواهر هذه النهضة قد أظهره في عصره ما أظهرها في عصرها، وتقاس به كما يقاس بها في تفصيل مقدماتها وأطوارها.
ونرى أن النهضة الإنسانية تقاس به قبل أن يقاس بها؛ لأنه يحتويها ولا تحتويه كله في عقيدته وتفكيره، ولأنه يمضي معها إلى حدودها الصالحة ولا يجاوزها إلى ما وراءها، وهو القائل بلسان هملت: «إن في السماء والأرض أمورا أعظم مما تحمل به فلسفتك يا هوراشيو ...» وهو الذي بلغ بالإنسانية إلى قرارها حيث يتمنى الإنسان أن يستبدل بها مسلاخ القرد، وحيث يصبح الإنسان إنسانا زائفا بالمشابهة والمحاكاة.
وهكذا يصدق طبعه في موقفه من فلسفة الإنسانيين كما صدق طبعه في مواقفه من مذاهب المتطهرين والبابويين والمنشقين والبروتستانت أو المحتجين على اختلاف الدعاة وأسباب الاجتماع، فهي كلها في ميزانه بأقدارها وأثقالها، وليس هو بالحائر المضطرب بين كفتيها، وهو يلمح ما يؤخذ عليها ويردد هذه المآخذ بألسنة خصومها، ولا يلزم من ترديدها أن يقرها على علاتها ، ولكنه يلقيها بلسان غيره عن علم بها ثم لا يفوته أن يميز بين لبابها وقشورها.
Halaman tidak diketahui