ولقد دعاني وأنا في بلاد الأناضول أحد الولاة الذين تفتخر بهم البلاد لأفطر معه، فأجبت الدعوة فرحا باستماع حديثه والجلوس إليه، فدوى المدفع والمائدة كظهر السلحفاة مما عليها من الأطعمة والأواني، فقال قائل: أرى زهيرا قليل الأكل كأن بأضراسه فلولا، فتبسمت وقلت: هذه الأضراس أرادها أخو ذبيان بقوله:
تورثن من أنهار يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
فلم يفهموا ما أردت، فشرحت لهم البيت وعرفتهم المراد، ثم قلت: كان الأحسن أن أشير إلى قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ولكن أبيت أن تشاركوني في مجدي، فضحكوا، ثم قال لي الوالي: بالله عليك يا زهير إلا ما صدقتنا، أأنت صائم حقا؟ قلت: لا والله، ولا صمت قبل اليوم في حياتي، فكاد الوالي ينفطر ضحكا، أما الحاضرون فبقوا واجمين كأن قد صب على رءوسهم طست فيه عشرون أقة من البترول، فعلمت أني مغضبهم في ليلتي، فلما انتهينا من الطعام وخرجنا إلى المكان المعد للتدخين، دنا مني أحد المعممين، وهو رجل كالجرادة له لحية كقائمة المزاد، وعينان كزيتونتين، فنظر في وجهي مليا، ثم قال لي: لم لا تصوم؟ - لا أدري. - كيف لا تدري؟ - ككل من لا يدري.
فغلب الضحك على الرجل وتنحيت أنا جانبا لكي لا يطير في وجهي رشاش من فيه، فقال: مالك تنأى عني، أغول أنا فتخافني؟ - كلا. بل فمك رائحته منتنة فلا أقدر أن أشمها ... فوالله ما أمهلني أن أتم كلامي؛ بل ولى عني غير ملتفت وراءه.
ثم قص على الوالي ما وقع له معي، فقال له الوالي: إياك أن تحرك عليك لسانه، أما إنه لينتزع السهم ويصيب المقتل.
ولقد جاءني رجل في رجاء حسبني محلا له، وكنت أشرب قليلا من الماء فنسي رجاءه وجعل يعنفني، فلم أملك الغضب، فقلت له: أمن أجل هذا أتيت الساعة أيها الفضولي؟ اخرج وإلا رميت بك من أعلى السلم إلى أسفله، فخرج ثم عاد وهو يقول - وعيناه مغرورقتان دموعا: جئتك راجيا فلا تخيب - وأبيك - رجائي، فسمعت رجاءه وصرفته عني واعدا إياه خيرا.
Halaman tidak diketahui