قلت: هذا لا يركن إليه، ولبيت من ورق اللعب أحكم منه أسا وأبقى على مر الحدثان، وقلت: الثراء والجاه وكل شيء في ساعة يقضيها أمام الأستاذ.
قال: ها أنت موجود. علمه اللغة العربية وحفظه أخبار الأوائل، وروه الشعر وهذا يكفيه.
قلت: كيف تريد أن يتعلم العربية بعد هذا العمر؟ وأنا لا أدعي العلم بها وقد تجاوزت الستين! وهب أنه فاق فيها الأوائل والأواخر أيكون ذلك مغنيا له عن سواه؟ روض بالعلوم العصرية نفسه وذوقه طعم الحضارة، ومل به عن هذه العادات والنحل. فأصر الوالد على عناده وترك ولده وشأنه؛ فكان يمشي في المدينة حاملا مسدسه معوجا طربوشه مشيرا بذراعيه.
فلما نال العثمانيون الدستور وذهب زمان الاستبداد، قابل جماعة من رجال الأمن ابن ذلك الصديق ليلا وهو يتمايل سكرا، فأرادوا أخذه إلى منزل أبيه، فأجابهم برميات من مسدسه جرحت أحد أولئك الرجال وكادت تذهب بحياته، فأخذ إلى السجن قسرا ولم يرض أن يؤخذ إلى دار أبيه طوعا، وانطلق أبوه يرجو الناس أن يفكوا له ابنه من وثاقه، فلم يجد الرجاء، فلما استوفى مدته خرج صاغرا ممتهنا، فتوعد أباه بالقتل إن لم يعطه ما يريد من المال، وبقي أبوه في بيته لا يوطأ له بساط، ولا يقرع باب، ولقد رآه بعض الناس ذات يوم ماشيا على قدميه وفي يده عريضة يطلب فيها إلى الحكومة أن تقيله من بعض ما لها عليه من المال، فقال له من التقى به: أين العربة يا سعادة الأمير؟ كيف يخرج مثلك ماشيا في هذا الوحل تحت هذه الأمطار؟ - العربة باعها ابني ورهن ضياعي وهرب وتركني، لا أدري أيا عصفت به الرياح.
أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان
تعود الغربيون أن يكذب بعضهم على بعض في اليوم الأول من شهر أبريل، وهو كذب ليس وراءه نفع، ولا يختارونه خشية من شر، وما يريدون بذلك إلا مداعبة ومزاحا، على أنني لا أعلم ممن تورثوا هذه العادة، ولا كيف انتهت إليهم وبقيت إلى زماننا الذي طوى عجائب القدماء، وأكثر حماقاتهم هذه غوايات أقلع عنها أهل الوقار من الغربيين، ولم يستمر على ضلالها غير فئة قليلة من العامة والأحداث.
وإني لأكاد أذهب في تعليل هذا الكذب مذهبا لا أدري أهو الحق أم ظن أنا أظنه وحدي، إخال أن أهل الغرب لما علموا أن الكذب عيب من العيوب التي لا تواطن المروءة في قلب؛ أنفوا تعوده وحرموه في إيمانهم، وإذ كانت النفوس مفطورة على البسط بما هو محظور، رأوا أن يجعلوا لهم يوما يكذبون فيه؛ لكي ينيلوا الأنفس مشتهاها، وعلى هذا جرى أهل النسك والعبادة في كل دين، فإن الصائمين الذين عافوا ما يلذ في أفواههم واستعاضوا عنها بلذات النفوس، يغيرون عاداتهم ويبدلونها أحيانا، فإذا كان وقت الإفطار جاءوا بما لذ وطاب من مأكل ومشرب، وزينوا موائدهم بأنواع الفاكهة والنقل.
أما رمضان فله أكذوبة يتخذها أكثر المرزئين في ذممهم، فلقد يهون عليهم أن يكذبوا ولا يهون عليهم أن يقولوا نحن مفطرون، يملئون بطونهم في بيوتهم ويخرجون إلى الأسواق بأيديهم المسابح من أجود المرجان والكهرباء (الكهرمان)، ومن البلور ومن العود ومن العنبر، يلوحون بها إذا أشاروا، ومنهم من ينتهرك إذا دانيته وفي يدك سيكارة، ويقول لك: إذا كنت لا تؤمن فدع من يؤمنون يعبدون ربهم ولا تكدر عليهم صفو العبادة، وإذا ساوم أحدا على شيء يريد أن يشتريه منه علا صياحه وازرق وجهه وحملق بعينيه، وجعل يقول له: هذا يوم صوم وأنا رجل يجهدني الإمساك عن القهوة والدخان، فإذا زين لك الشيطان أن تملأ رأسي بكثرة كلامك، ضربت بك الأرض وأنزلت عليك المصائب.
مالك يا أخا الزهد تزهق الأرواح وتستنفد الصبر، وما لنا نحن وزهدك. سواء علينا طرت به حتى جعلت أخمصيك على هامة زحل، أم هويت به إلى حيث يهوي الكاذبون.
في البلاد العثمانية كل المسلمين صائمون. كانت الحكومة المستبدة تسجن المفطر إلى أن يأتي اليوم الثالث من عيد الفطر، وكان أكثر المفطرين يدعون الصوم ويحسنون تقليد الصائمين، حتى لقد بلغ أمر الكذب أن يضرب المفطر في بيته من يدخن بجانبه سيكارته، وقد خرجت بها ذات يوم في رمضان وراء أمر عرض أريد قضاءه، فلما ركبت الترامواي رأيت جماعة من الأجانب على رءوسهم القبعات وبأفواههم سيكاراتهم والناس ينظرون إليهم شزرا، ولا يقدر أحد منهم أن يخاطب أولئك الأجانب بكلمة تسوءه، وكانت علبة سيكاراتي معي، فنسيت أن اليوم من أيام رمضان؛ فأخرجت سيكارة جعلتها في فمي، وأقمت أنتظر أن يمد إلي أحد الجالسين شيئا أشعلها به. فمشت في عيون الركب، وجعل بعضهم يغمز بعضا مشيرا إلي بلحظه، ففطنت لموضع خطائي، وقلت أداويه لكم أيها الكاذبون بالكذب، ثم وثبت من مكاني بغتة كمن تذكر شيئا كان نسيه وقلت: لعن الله الشيطان، كدت والله أدخن سيكاراتي وأنقض صومي، ونظرت إلى رجل جالس على يميني، وقلت مؤنبا له: كذا يا أخي تراني أهم بما يفسد علي صومي ولا تنبهني إلى ما كاد يفرط مني عن غير عمد، وأنت تعلم أن الدين يقضي علينا بالنصح لمن سها، وأن لا يعرض إلا عمن تولى، فابتسمت الثغور وسري عن القوم.
Halaman tidak diketahui