وعليه فستكون وقفا لخدمة العموم وصوالحهم، اشتراكية بمعنى أن للجميع حق الاشتراك في تحريرها وإبداء آرائهم فيها مهما تناقضت المبادئ واختلفت المرامي في خدمة الشعب، اشتراكية بمعنى حقولها مفلوحة ومفتوحة لبذور أقلام الأدباء وبنات أفكارهم؛ فهي إذن كالبستان يمكن أن تزرع بها طماطم وباذنجان وقرنابيط وفجل وعرموط، إن الطماطمة تختلف عن الباذنجان، والباذنجان يختلف عن القرنابيط ... إلخ. ولكن هذا الاختلاف لا يهم، ما زال كله نافعا لغذاء الإنسان وضروريا لقوته وحياته.
وقال عن اشتراكية الجريدة:
إن مبدئي ومشربي مثلا يختلفان في كثير من الأمور عن مبدأ الرحال بك ومشربه، ومع ذلك فقد اتفقنا على إصدار سينما الحياة بلا تردد، ماذا يهمني إذا كان الرحال يخالفني رأيا ومبدأ، وماذا يهم الرحال إذا كنت أخالفه كذلك، فله حقله ولي حقلي، له إمضاؤه ولي إمضائي، فما صدر بتوقيعه فهو له، وما صدر بتوقيعي فهو لي.
ومن مفارقات جريدة «سينما الحياة» أن شريك «الكناس» الرحال كان يكتب ويترجم فيها بجانب كناساته مقالات جدية وعويصة عن «التطور الاقتصادي» و«ذهنية الماضي»، وكله من مراجع تقدمية في الكتب والمجلات.
ولم تعمر «سينما الحياة» طويلا؛ إذ أوعزت الدائرة الرسمية التي يشتغل فيها صاحباها بأن يكفا عن نشرها.
حاول الكاتب بعد سنين مزاولة الصحافة الأسبوعية، فنشر جريدة جديدة باسم «الناقد» برزت للقراء يوم 6 أيار «مايو» سنة 1936، ولكنه في هذه المرة مال إلى الجد بجانب فصول الهزل، واحتوت جريدته مقالات ترمي إلى الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وعني بأبواب فيها للمسرح والسينما ونقدهما، ثم سئم الصحافي هذه الحياة وفضل عليها التوظف في الحكومة، فتوقفت جريدته في 26 شباط (فبراير) سنة 1939.
حبزبوز
وقد نبغ في العراق في الفترة بين الحربين العالميتين كاتب فكه منتقد نادر المثال عرف بتوقيع «حبزبوز»، وهي محرفة عن «أ. حبزبز» أي أحمد حبزبز «أحد المتبطلين المشهورين في الجيل الماضي»، وأستميحكم عذرا إذا ذكرت أنني اكتشفت مواهب هذا الكاتب؛ فقد كان «نوري ثابت» من رجال التعليم جمعتني به مجالس الأصدقاء مرات عديدة، فوجدته خفيف الروح مليح النكتة، ثم قرأت في جريدة «الكرخ» لصاحبها الشاعر العامي «عبود الكرخي» وصفا رائعا لمجالس نساء بغداد من الطبقة الشعبية ذوات العقلية المحافظة والطابع العامي، فسألت صاحب الجريدة عن الكاتب المتستر وراء توقيع «خجه خان»، فعلمت منه أنه صاحبنا «ثابت»، ولم يكن يحوم حول السياسة، إنما هو قاصر همه على النقد الاجتماعي بأسلوبه الخاص، فلما أنشأت جريدتي «البلاد» سنة 1929 دعوته لكتابة باب «الهزل والتفكهة» في الجريدة، وأطلقت لقلمه الحرية الكاملة وبمسئوليتي طبعا، وأغريته بثمن حسن لمقالاته في سوق الصحافة في العراق، فاستعظم أول وهلة أن يكتب يوميا مقالا هزليا في جريدة سياسية، كما لم يتوسم بعض أصدقائه وإخوانه له نجاحا في هذه المهمة، ولكنني أصررت على رأيي فاندفع يكتب من العدد الأول من جريدة «البلاد» وصدر الصحيفة رحب في تقبل ما يريد أن يكتب مع اقتراح الموضوع عليه أحيانا، فلم ينقض عليه في هذه الكتابة شهر واحد حتى شغل القراء وحظي باستحسان واشتهر في المحافل، بحيث قال فيه الزعيم السياسي ياسين الهاشمي: «إنه خير من يصف أخلاق المجتمع وأهله وصفا فيه الإجادة كلها والعبرة البالغة.»
وما مرت أسابيع إلا وعدت وظيفته على حرية فكره وصراحته في النقد، فأنذرته دائرته الرسمية، فانقطع عن الكتابة بضعة أيام ثم عاودها باسم قلمي «أ. حبزبوز»، وبهذا عرف ونبه ذكره في بلده.
وحبزبوز كاتب خفيف الظل، أسلوبه محبب إلى النفوس، تمازجه تعابير دارجة عند الدهماء، مطعمة بالأمثال السائرة على ألسنة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتحليها حكايات ونوادر مما يتناقله الجمهور من «عهد العثمانيين»، ويختزن الكاتب في ذاكرته منها محصولا وافرا.
Halaman tidak diketahui