الصحافة بعد الدستور
ما انبثق نور الدستور في العالم العثماني سنة 1908 ورفع الحجر على الآراء حتى انطلقت الأقلام من عقالها، وخرج المفكرون إلى ساحة الحرية، وكانت الصحافة من مجالي بروز هذا الانقلاب في حياة الشعب، فأخذت الصحف تكتب ما كان يعز كتابته أو التطرق إليه في العهد البائد، فلبست الصحافة ثوبا زاهيا من المقالات الحرة والأقوال الصريحة والأخبار الطريفة؛ فعظم إقبال القراء عليها، وزاد انتشارها، وأقبل الكتاب والساسة ورجال الفكر على إصدار الصحف ولم يكتفوا بالجرائد اليومية أو الأسبوعية، بل أنشئوا المجلات والنشرات الدورية وسلاسل الكتب التي تفننوا في مضامينها.
يقول أحمد أمين بك، محرر جريدة «وطن» في إستانبول وأحد مؤرخي الصحافة التركية:
1
لم تمض أسابيع قليلة على إعلان الدستور حتى صعد عدد الصحف اليومية في الآستانة من 3 إلى 15، وفي الشهر الأول من العهد الدستوري بدأ في العاصمة لون جديد من الصحف الهزلية بلغت العشر، والتفت الصحفيون إلى تنويع هذه الصحف بين يومية وأسبوعية ومجلات مختصة، بل قد أفضى الأمر بأحد الكتاب إلى أن أصدر من ذلك اليوم جريدة تكاد تكون شيوعية باسم «اشتراك»، شعارها القول التركي المأثور: «إذا كان الواحد يأكل والثاني يتطلع إليه فقط عندئذ تقوم القيامة.» وكل جماعة أرادت في هذا الوضع أن تكون لها صحيفة بمثابة لسان حالها، بل قام أصحاب الأعمال والحرف الخاصة يصدرون مجلاتهم كالمعماريين والكيمائيين والأطباء والبياطرة والمحامين والممثلين والعمال والموظفين والمنفيين سابقا وطلاب الجامعة، ولكن لم يكتب لأكثر هذه الصحف الحياة، فمن عشرات الجرائد عاشت ثلاث يومية لا غير وبعض المجلات الأدبية والمصورة.
وهكذا عدت الصحافة أنشط عامل في التطور الدستوري الجديد فأحدثت تأثيرا جارفا في الرأي العام.
وكان نصيب العراق من البلاد العثمانية أن سرت إليه هذه الموجة، فهب المشتغلون بالسياسة والكتاب لإنشاء الصحف والمجلات يكتبونها باللغتين التركية والعربية، حتى بلغت هذه الصحف في بغداد وحدها في خلال سنتين خمسا وعشرين جريدة ومجلة، إلا أن صحفنا لم تسلم من الآفات التي بدت أعراضها في الصحف العثمانية قاطبة، فإن ازديادها الفاحش مع نقص الخبرة وإعواز الدربة عند محرريها جعلهم يشطون في كتاباتهم، ولا سيما في الجدل السياسي والحزبي، فظهرت في أنهرها مهاترات شخصية يندى لها الجبين، مما جعل الرجعيين يقعون على فريسة باردة فخرجوا من أوجارهم وطفقوا ينددون بحرية الصحافة التي خلعها الدستور على الأقلام غير المدربة والصحافيين الجدد الهوج. وقد بدا رد الفعل واضحا عندما نظر البرلمان العثماني في ذلك الوقت في قانون المطبوعات، فثارت في وجه الحكومة عاصفة من النقد اللاذع على هذه الحرية المتيسرة الممنوحة للصحافة.
ومن الناحية المادية لم يستطع منشئو الصحف في العراق أن ينهضوا بها على أساس مشروعات اقتصادية، كما هي الحال في الصحف الأوروبية والأمريكية والصحف المصرية في جيلنا؛ لهذا أخفق القسم الأعظم منها ولم يقو على الصمود ففارق الحياة من أول الشوط أو بعد خطوات قصار.
أصيبت الصحافة العراقية من مطلع حياتها بالأمراض الوبيلة التي تصاب بها الصحف في العالم من مخاتلة وكذب وزيغ، إلا أن هاتيك الصحف عند الأقوام تكون أقلية لا يؤبه بها بجانب الأكثرية الصحفية التي يستقيم سلوكها، فتتفوق الصحف المحترمة المفيدة على صحف المرتزقة التي تعيش طفيلية؛ لهذا لا تجد جريدة عراقية الآن علت بها السن ويرجع ميلادها إلى مطلع تاريخ صحافتنا. كما أن هذه الصحف في ظل العلم العثماني خلقتها ظروف وأوضاع وأغراض خاصة ذهبت بذهابها، وقضي عليها فور تغيير الحال، فضلا عن ندرة الصحافيين وحملة الأقلام في ذلك الطور ممن احتسبوا حياتهم للعمل الصحفي وخدمة الشعب بالقلب وما يسطرون من آراء ومبادئ.
جريدة بغداد
Halaman tidak diketahui