إن أول جريدة أهلية أو شعبية عرفتها عاصمتنا سميت «بغداد» أنشأها فرع «حزب الاتحاد والترقي» العثماني، الذي قام بالانقلاب الدستوري لتكون لسانه، وعهد بإدارة سياستها إلى رئيس هذا الفرع مراد بك سليمان أخي الفريق محمود شوكت باشا أحد رجال الانقلاب المذكور، صدرت ثلاث مرات في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، ورأس تحرير قسمها العربي معروف الرصافي، وكتب فيها الأدباء البارزون عندئذ كالزهاوي وفهمي المدرس ويوسف غنيمة وكاظم الدجيلي، وانبرت تروج سياسة الحزب الحاكم، وتبث الأفكار المؤيدة للانقلاب الدستوري.
برز عددها الأول في 6 آب (أغسطس) سنة 1908 وكتب في ديباجتها أنها «جريدة سياسية علمية أدبية أسبوعية واسطة لنشر أفكار جمعية الاتحاد والترقي»، وعرفت بأنها أقوى جريدة في أيامها؛ حتى إن منتقد «الصحافة البغدادية» قال: «إن جريدة بغداد أحسن الجرائد التي ظهرت في بلدنا إلى ذلك الموعد (سنة 1911)، سواء من حيث الفكرة والمواضيع أو حسن التعبير، وقد نشرت مقالات حرة رفيعة المستوى مستقيمة المسلك نافعة للألفة والوطن، منقحة العبارة، مهذبة الألفاظ؛ مما جعلها في مقدمة صحف بغداد ومثالا يحتذى من بعدها .»
2
غير أن جريدة بغداد بعد أن ضعف الحزب الحاكم أخذت بالتضاؤل وتركها محررها العربي، فقرر الحزب إيقافها في سنتها الثانية، مع أنها في ازدهارها كانت من أوسع الصحف انتشارا، حتى ليذكر أنها ضربت الرقم القياسي في سعة الذيوع عندما وصفت حادثة 31 آذار الرجعية المعروفة في إسطنبول، وحركة الإنقاذ التي أعقبتها والتي قضت على الحكم الحميدي، وكان يقود حركة الإنقاذ محمود شوكت باشا. وقد بلغت نسخها المبيعة ذلك اليوم ثلاثة آلاف، بينما لم يكن في تلك الأيام يعلو أكبر عدد لأية جريدة عراقية مقروءة على ألف نسخة، والبقية تنحدر إلى خمسمائة فما دون ذلك.
ثم كثرت الصحف التي وصلت إلى تسع وستين جريدة وعشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية، ولم تكن بين الصحف يومية غير جريدة «بغداد» هذه في بعض أشهرها، وجريدتي «الزهور» و«صدى الإسلام» في سني الحرب العالمية الأولى. أما البقية فتنشر في الغالب مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
ويظهر أن الحكومة العثمانية بعد أن طغى سيل الصحف لديها ورأت اضطراب حياة أكثرها من الناحيتين المادية والأدبية، وضاقت ذرعا بالصحفيين الأجرئاء عمدت إلى طريقة لتصفية الصحف، فصدر أمر وزارة الداخلية في الآستانة سنة 1911 بأن الجرائد التي أخذ امتيازها ولم تنشر حتى 5 آذار (مارس) من تلك السنة، أو نشر بضعة أعداد منها ثم احتجبت إلى هذا التاريخ تلغى امتيازاتها. وهكذا قضى وزير الداخلية التركي بشطبة قلم على ثماني وثلاثين جريدة، فلم يبق في مدينة السلام غير خمس جرائد، بينها «الزوراء» الرسمية ومجلتان.
وقد وجد المفكرون العراقيون ورجال السياسة في الصحافة معوانا لهم على الدعاية لآرائهم، فكانت صحفهم في خلال الحكم العثماني تؤيد السلطة أو تقارعها، وتتحزب لهذا الحزب أو خصمه، ولكن الظاهرة التي تلفت نظر المتفحص وتدل على معان كبيرة أن أغلب صحف العراق في ذلك الزمن كانت معارضة للحزب الحاكم، ولم يقف بجانب هذا الحزب غير جريدتين. أما بقية الصحف في بغداد والبصرة والموصل فكانت تروج لسياسة «حزب الحرية والائتلاف» المعارض «لحزب الاتحاد والترقي»، أو أن تعبر هذه الصحف عن انتفاض الشعب تحت نير الحاكم الغريب ومحاولته الإفلات، وبينها جرائد دعت للفكرة القومية ومهدت للنهضة العربية بلسان صريح وإيمان قويم.
ويسجل تاريخ الصحافة في زمن الحكم الغابر مواقف مشهودة في هذا الميدان، كما أن الصراع كان عنيفا بين بعض الصحافيين والوالي، ومرجع الشكوى وزارة الداخلية في الآستانة، وقد انتصر في بعض الحادثات الصحافي العراقي على الوالي التركي الذي كثيرا ما تذرع بسلطان دكتاتوري مخيف، كما أن روح التمرد من الظلم ومحاسبة المسئولين تغلغل في الصحف في تلك الحقبة.
ولعل صحف الفكاهة والهزل على قلتها قد قامت بدور أعمق تأثيرا في هذا المجال، وإن كان النقد الساخر ينقلب عادة - في العراق وفي الشرق العربي عامة - إلى السب والقذف، فتغدو أقلام الكاتبين مقاريض أعراض وأبواق تشنيع، مما أدى في قضايا عديدة بالصحافيين إلى أقفاص الاتهام في المحاكم ودفع بهم إلى أعمال السجون.
وبديهي عندما نستعرض تاريخ الصحافة في قطر من الأقطار في محاضرات كهذه، لا يمكن أن نسرد أسماء جميع الصحف وأحوالها، ولا سيما إذا كانت الواحدة لا تعيش أكثر من بضعة أعداد أو بضعة أشهر، كما هي حال صحفنا في العهد العثماني، بحيث صارت «اللازمة» لإحدى مجلاتنا العلمية عندما تقرظ جريدة جديدة أن تختم كلمتها بالدعاء لها بالحياة؛ لئلا تكون كغيرها تلتمع ولا تلبث أن تختفي بسرعة، فخليق بنا أن نبحث الجرائد ذات الشخصية والأثر في مجتمعها.
Halaman tidak diketahui