ولما أوشك نور النهار أن يبهت على إثر غياب الشمس؛ رأيت نعيمة لدى الباب تفتحه، وما انفتح قليلا حتى كنت أمامها، فقالت: حاذر أن يرانا أحد من الخارج.
قلت: لا تخافي. - بحياتك، لا تدعنا نطيل الوقوف هنا؛ لأني أخاف أن يباغتنا أحد. - لا تخافي. - لا تكلفني هذا الأمر مرة أخرى يا حسن؛ فإنه غير لائق بي، وإذا عرف به أحد أذوب جزعا. - لا تخافي.
أدركت أني لم أتجاوز في حديثي معها لفظتي: «لا تخافي.» ولما سكتت أوشكت أن يغلق علي. ضربت على وتر ذاكرتي فوجدته مقطوعا. استدعيت تخيلاتي فلم يلبني منها شيء فكاد ظلام الاغتمام ينسدل على ضميري. لم تعبر هنيهة حتى استدركتني نعيمة قائلة: لماذا لم تأت إلى الدار في كل هذه المدة كعادتك؟ آه، ليتني لم أزل صبيا صغيرا يا ست نعيمة، فكنت ألتقي بك كل يوم بلا إثم ولا حرج. أما الآن فأخشى أن أضعف حركة من حركاتي تفضح سرائري.
فرأيتها وقد عرتها رجفة كالعصفور بلله القطر. ثم جعلت تتلفت كأنها تبتغي أن تضيع الحديث، وشعرت أن كل ما كان لها من الجراءة السابقة في الحديث - لأن كلامها كان خلوا من معاني قلبها - قد تحول إلي فعدت أقول: نعيمة ألا تزالين تذكرين ماضي مودتنا؟ ما كان أحلاها! - ولكننا الآن قد أصبحنا فتيين، وخرجنا من عدن البساطة إلى بيداء الهيئة الاجتماعية، حيث تقيم الشريعة الأدبية حجابا متينا بيننا، حتى إذا تسلقناه لا نأمن السقوط الهائل. - ولكن هذا الحجاب إذا حال بين شخصيتينا فلا يحول بين روحينا يا نعيمة، وجل بغيتي من هذا اللقاء الذي أتوخاه أن أخبرك صريحا أن تلك المودة الصبوية التي نبتت في عدن بساطتنا أصبحت الآن دوحة حب باسقة في فؤادي، فهل تشائين أن تسقي هذه الدوحة من غيث رضاك؟
فأطرقت حياء وخجلا، ثم تلفتت وقالت: ويلي! لو رآني أحد هنا ماذا يقول؟ بربك دعنا نفترق. - على أي حال نفترق يا نعيمة. - نفترق كما اجتمعنا. - ولكني أود أن أسمع من شفتيك الشريفتين هل قلبي مخطئ؟ هل لي في ضميرك أثر يا نعيمة؟ - بربك دعنا من هذا الحديث. كيف تسألني هذا السؤال وأنت تعلم ما حداني إلى هذا اللقاء؟
وعند ذلك همت أن تقفل الباب، فتناولت يدها وقلت: إلى اللقاء. متى نلتقي؟ - لا أدري بيد أننا لا نلتقي هنا بعد. زرنا لعله يتسنى لنا أن نلتقي.
ثم خرجت وهي قفلت الباب وعدت أحس أن الأرض مرنة تحت قدمي فلا أمشي إلا يستخفني السرور، وجعلت - بعد ذلك - أذهب إلى القصر، وأجتهد أن أعرض نفسي أحيانا إلى دار الحريم؛ لكي تراني نعيمة، وأحيانا كنت أدخل إلى القصر أو أخرج منه في موعد خروج نعيمة وأمها إلى النزهة أو إلى الزيارة، فأحييها وأكلمها قليلا - ولكن بكل تحذر.
على أني لم أستطع الاستمرار على هذه الحالة فكنت أحس بشوق شديد إلى لقاء نعيمة كأن الحياة بالبعد عنها صارت عذابا لي، ولقد فكرت في أن تكون زوجة لي، ولكن صنعتي كانت تميت هذا الفكر؛ إذ أرى أن بيني وبينها بونا شاسعا لا أستطيع أن أعبره إلا بأعجوبة سماوية.
وكنت في بعض الأحيان أتخيل نفسي راقيا في سلم المعالي حتى أبلغ إلى مرتبة وزير وحاصلا على يدها، ولكن لم أكن لألبث أن أذكر ضعفي فأدرك أني أبني قصورا وعلالي في الهواء، فتصغر نفسي وتستولي علي الكآبة؛ إذ أفتكر حينئذ في مصير حبي هذا، وأسائل نفسي عما تكون نهايته وغايته. وكنت متى أغرقت في هذه الأفكار وانتهيت إلى شفا اليأس أنفض عن ضميري هذه الهواجس وأقول: «لكل وقت شأنه، فلأحب الآن وأدع المستقبل لتدبير الله.»
تقت جدا أن أجتمع بنعيمة، ولم أعد أستطيع الصبر عن لقائها وبث المستجد من وجدي لها، وعجبت كيف أنها هي صابرة عن مقابلتي إذا كانت تحبني كما أحبها؛ ولذلك كنت أتوقع يوما بعد آخر أن تشير إلي بأن ألاقيها في الملتقى السري المعهود؛ أي عند باب الحديقة الخلفي، على أن هذا التوقع كان يخيب كل يوم.
Halaman tidak diketahui