فما قارب المساء حتى كنت قد طفت تلك الخرائب عشرين مرة، وقصدت إلى باب الحديقة مثلها، ولم يشرف على تلك الخرائب من القصر سوى بعض نوافذ المطبخ ونحوه، حيث يوجد الخدم ولا أدري إن كان أحدهم قد رآني أطوف هناك، وكان كتابي معي ليدفع المظنة عني.
ولما قاربت الشمس المغيب كنت على الباب أرسل نظراتي من خصاصه، فلا أرى إلا أغصانا غضة، ولا أسمع إلا حفيف أوراقها اللطيف فكدت أنفجر مللا وسآمة، وما غربت الشمس حتى ظهرت شمس حياتي بين تلك الأغصان، ودنت إلى الباب - بكل خفة وتحذر - وفتحته، فكنت حينئذ أحس أنها تفتح باب قلبي، وشعرت أن فؤادي ينتفض جزعا، فتحت المصراع ربع فتح، فلما رأتني رجعت إلى الوراء مبغوتة جازعة كأنها لا تنتظر أن تراني، وابتسمت لي ابتسامة مقرونة بالوجل فتقدمت بغية أن أدخل فرفعت يدها قائلة: بربك. مكانك. - لماذا؟ - أخاف أن يباغتنا أحد. فابق خارج الباب وأنا من داخله؛ حتى إذا شعرت بقادم رددت الباب بسرعة واختفيت أنت في هذه الخرائب. - ليكن ما تشائين.
وحينئذ وقفت خارجا مسندا الجدار بكتفي، وهي قابضة على حاشية الباب. بقينا نحو نصف دقيقة صامتين لا نتكلم، وكل ما جال في خاطري من الكلام والآيات الغرامية في ذلك النهار غاب عن ذهني حينئذ، وشعرت أن العرق يتصبب عن جبهتي. عجيب يا عزيزي يوسف ، كيف أن دالة سني الحداثة العشر زالت في احتجاب سنة، ولم تعد لي جسارة على مفاتحة نعيمة بخطاب، وأظن أنه لو لم أكن شغوفا بها حينئذ لأمكنني أن أجتمع بها في الدار وأمام أمها بلا حرج، ولكن الحب قضى علينا بكتمه، فصرنا نتباعد دفعا للمظان.
ولما رأت نعيمة أني لم أنطق بكلمة همت أن ترد الباب قائلة ليلة سعيدة. فرجف قلبي في داخلي وقلت: بربك يا نعيمة. ما معنى هذا؟
قالت: بحياتك. دعني؛ أخاف أن يفاجئنا رقيب.
قلت: إذن لماذا أتيت ولم نتكلم كلمة قط؟ - ماذا تريد؟ قل.
فالتفت إلى ما حولي كأني ألتمس من يلقنني وازدردت ريقي فلم أعلم ماذا أقول؟ ولكن لم أعدم موضوعا تافها للحديث فقلت لها - وهي وجلة مثلي: هل تريدين رواية؟ - أرسل إن كان عندك. - أية رواية تريدين؟ - لا أدري. أرسل ما تشاء. - سأبحث لك عن الروايات البديعة. - أشكر لطفك.
والحق أقول لك يا عزيزي يوسف إننا كلينا تبادلنا هذه المخاطبة القصيرة التي لا فائدة منها ونحن لا نكاد نفهم ما نقول، ولما سكت قالت نعيمة: «بنسوار» وردت الباب فكدت أنشق من الغيظ، فناديتها بصوت خافت، فردت من وراء الباب قائلة: ماذا؟ - افتحي. - رحماك دعني؛ لئلا يرانا أحد. - لم نتكلم شيئا. - ماذا تريد أن تقول؟ - هل أراك غدا مثل هذه الساعة في هذا المكان؟ - ربما.
ورأيتها حينئذ قد ولت ظهرها ومشت متلفتة متغلغلة بين الأشجار والأنجم، فعدت ألعن نفسي وأعض أصابعي لما تولاني من الجبن حين مقابلتها. والحق أني رأيت في وجهها حينئذ من مهابة الحشمة وورع الأدب ما يعقد لسان بسمرك. عدت حزينا وأنا أعلل النفس بلقاء الغد.
وقد قضيت الليل والنهار التاليين كسابقيهما، قلق البال مقلقل الفؤاد، واستجمعت في ذاكرتي عددا عديدا من الجمل التي أبث فيها شعور قلبي وضميري وكل عواطفي لنعيمة. ولما كان المساء التالي كنت لدى باب الحديقة المعهود أنظر من خصاصه إلى داخلها. بقيت أسترق النظرات تارة وأتلفت حولي تارة أخرى، برهة طويلة لا أقدر أن أعلم مدتها ومن شدة التحديق تعب نظري وجفت مقلتاي تحت مرور النسيم.
Halaman tidak diketahui