وتنطوي صفحة من حياة «أما» في وطنها وتبدأ صفحة جديدة في بلاد أخرى، وهي يومئذ في العشرين وصديقها اللورد في الخمسين، قسيم وسيم، خبير بالفنون والتماثيل ولا سيما تماثيل الحياة، ويعلم هو حبها لابن أخيه فيمهلها على ثقة من فعل الزمان، وفعل الفراق وفعل الحكمة الجافية في خليقة جريفيل، ويستغرب الناس مكانها من القصر فيقول لهم: إنه يحب الغناء ويحب النابغات في الغناء فهو يعد هذه الفتاة لمستقبلها في عالم الإنشاد والتمثيل، ويفتتن بها زواره فإذا هي حديث المدينة، وإذا بالملك يسعى إليها متخفيا ليظفر برؤيتها وسماع غنائها، وإذا بالملكة تدبر المفاجآت لتنظر إلى ذلك الوجه الذي يلهج به كل شريف وشريفة في البلاط، ويكسف نجمه كل نجم في تلك السماء المرصعة بالزواهر والشموس، ويقدم جيتي ملك الشعراء في زمانه، وجوبيتير سماء الأولمب في جلاله وكبريائه، فلا تفوته هذه التحفة النادرة بأرض التحف والآيات، ويكتب عنها فيقول في حماسة لم يألفها قلم ذلك الجوبيتير الوقور: «ها نحن نرى رأي العين - كاملا ومجسما في حركاته الرائعة - كل ما جاهد في تمثيله رجال الفنون في غير طائل، فهي بين واقفة أو راكعة أو جالسة أو مضطجعة أو جادة أو حزينة أو لاعبة أو مهجورة أو نادمة أو مغرية أو متوعدة أو ملتاعة القلب مفجوعة تتلو كل حركة بحركة من حركاتها الأخرى وتتولد منها، وهي تعرف كيف تلعب بطيات منديلها الواحد بما يوائم كل لمحة من الملامح، وكيف تلبسه على رأسها على مائة شكل مختلف من ملابس الرءوس» وذاك أنها تعلمت من «رومني» الذي عرفها به جريفيل كيف تحكي أشكال الآلهة وبنات الأساطير، فأحسنت في جميع المواقف إحسانا فاق تعليم المعلم وحكاية المقلد، وعرضت ذلك كله على جيتي؛ لأنه كما قالت وافق هيئة الملك في خيالها أكثر من ذلك الملك المتوج وهو يلاحقها بحبه وهي ترفض ذلك الحب الذي يتنافس فيه الملوك والخواتين. هذا وهي لا تزال على الوفاء لجريفيل تواليه بالكتب، وتتوسل إليه أن يشخص إليها وهو لا يزيد على السكوت وإرسال كتبها واحدا بعد واحد إلى عمه المتلهف على يوم النسيان والقطيعة بينها وبين ابن أخيه، ولما خطر له أن معين الصبر أوشك أن ينفد وأن أمد الوفاء قد جاوز حده خاطبها متوددا وعرض لها متغزلا فغشي عليها من ألم الصدمة، ولزمت غرفتها تبكي وتنتحب لهذا الغدر من اللورد في حق جريفيل، ويفطن الكهل المحنك إلى الموقف الدقيق فيبلغها عزمه على السفر إلى روما عسى أن تفقد محضره فتعرف قيمته لديها، وتتطرق من الاشتياق إلى قبول الغزل والتودد! فتفلح الحيلة ويجتمع غياب هاملتون وإعراض جريفيل على الفتاة المهجورة، فتسكن إلى قسمتها المحتومة في تسليم وديع لا يخلو من بعض الرضا والارتياح.
وكانت في قصر هاملتون قريبة له تستقبل ضيوفه بعد موت زوجته الأولى، فما زالت به تلومه في شأن «أما» واللوم يغريه حتى نحاها عن استقبال الضيوف وعهد بذلك إلى «أما» فأصبحت ربة داره وصاحبة بيته، ومهدت لها تلك القريبة الخرقاء سبيل التزوج به، فلما سمع أن ملكة نابولي توحي بهذا المقترح لم يستغربه، ولم يجفل لسماعه إجفال السفير العظيم من البناء بخليلته، وكان قد شاخ ووهنت نفسه فيئس من زاوج يلائمه غير هذا الزواج بمن أحبها وأنس إلى عشرتها، وأقامها مقام الزوج في كل شيء إلا في الاسم والكتابة، فعقد العزم على القران وهونه على البلاط الإنجليزي بخطاب من ملكة نابولي وعدت فيه أن تستقبل السفيرة في بلاطها، وتعاملها معاملة أترابها، وما دعا الملكة إلى كل هذا البر بأما إلا أمران أحدهما الشكر لها على رفض غرام الملك، والإعراض عن إلحافه وألطافه، والثاني حاجتها إلى صديقة في السفارة البريطانية تأسرها بفضلها، وتعتمد عليها في تمكين عرشها الذي يوشك أن تعصف به الثورة الفرنسية والمطامع النابليونية، فكان لها ما أرادت وكافأتها أما فيما بعد بإنقاذ حياتها وحياة آلها، فكان جزاء الفتاة الوضيعة خيرا من جميل الملوك.
ثم ظهر نلسون في حياة أما بعد أن شاخ هاملتون، وتعاورته الأمراض ولزم الفراش في أكثر الأيام. ظهر في الشواطئ الإيطالية ينازل الفرنسيين، ويطارد سفنهم، ويحتاج في كل حركة يتحركها إلى السفارة الإنجليزية أو إلى شخص «أما»؛ لأنها هي كل شيء في البلاط، وخشي الملك سطوة الفرنسيين فمنع تموين السفن الإنجليزية، فكادت تفشل الرقابة وينطوي نلسون في غمرة الخمول، فصمدت أما لهذه الأزمة العضال، ولم تهدأ ولم تنثن حتى تغلبت بإرادة الملكة على إرادة الملك، وأسلمت الأسطول أمرا يبيحه التزود بالماء والطعام حيث شاء، فإذا كانت وقعة أبي قير مستحيلة بغير هذه المعونة، وكانت حماية الهند مستحيلة بغير وقعة أبي قير، فالدولة البريطانية مدينة لهذه المرأة بأكبر ما تدان به دولة عظيمة لفرد من الأفراد.
وانتصر نلسون فحببها فيه النصر والإشفاق، وماذا غير المجد والوطنية والرحمة يحببها في رجل مقطوع الذراع، مفقود العين، مشوه الجبين، معروق اللحم، يرجف لكل خطب يعتريه كما ترجف القصبة في الريح، وتنكأه جراحه الأليمة فإذا هو عابس السحنة، حزين أو ثائر النفس كالمجانين؟ ما كان ذلك حب شهوة، ولا حب رذيلة، ولكنه حب القلب والرأس، وحب المجد والوطن، وليس أكرم من ذلك الحب في صدور النساء.
وجاءت حادثة الفرار بالأسرة المالكة من نابولي إلى بلارم، فكان الفضل فيها أكبر الفضل لأما ثم لتمساح النيل كما كانت تسمي نلسون بعد وقعة أبي قير، وأقاما في العاصمة الجديدة إلى أن كان العود إلى لندن، فوجدت أعداءها الفرنسيين قد سبقوها بالإشاعات والأقاويل في وطنها، ونبشوا ماضيها وحاضرها وزادوا على ما علموا شيئا كثيرا من افتراء الضغينة، وكيد الخصومة، فلم يشأ البلاط الملكي أن يستقبلها، وعاشت في عزلة عن المجتمع الشريف وفي غبطة بقرب نلسون الوفي الأمين، ثم مات اللورد هاملتون، ولم يوص لها إلا بثمانمائة جنيه في العام، وماذا تصنع ثمانمائة جنيه لامرأة تعودت بذخ القصور، وعلمها البلاط القمار الذي لم تتعلمه في أزقة الفساد؟ ثم مات نلسون وهو يذكر اسم بنته الوحيدة منها، ويتركهما بعده في كفالة الوطن الشكور، ولكن الوطن الشكور سجن السفيرة التي وهبت له نصرة أبي قير عقابا لها على المطال بالدين، وألجأها إلى الأرض الفرنسية التي فضحتها، وأطلقت ألسنتها بالتقول عليها، فعاشت في مدينة كاليه ما عاشت، ثم ماتت فيها وهي تناهز الرابعة والخمسين ودفنت بها في قبر حقير بمال سيدة من المحسنات.
هذه قصة المرأة الخاطئة أو المرأة الإلهية! قصة امرأة كان حسنها آية فنية، وكان تاريخها آية فنية أخرى، وبلغت بها الحقيقة شأو الخيال، ثم نمت فيها عبرة الرواية الإلهية، فكانت ضحية لا بد منها للعرف المرعي والأدب المصون، فلو قيل لنا بعد كل هذا أكان البلاط الإنجليزي على خطأ أم على صواب في رفضها لقلنا بل كان على صواب فيما فعل، وكان لا يقدر على غير هذا الجزاء الكنود، فإن حسنا أن يبقى للآداب المعروفة وجهها المنظور ولو شقيت في ذلك بعض النفوس، وليس الذنب فيما أصاب المرأة المظلومة ذنب البلاط، وإنما هو ذنب الزمن الذي أنشأ المسكينة على أن تكون قصة من القصص، ونسي أنها حقيقة من الحقائق، وبماذا تنتهي تلك القصة الفنية التي نسجتها حياة الحسناء العجيبة إن لم تنته بالتضحية الفاجعة، والختام العجيب؟ لقد كانت رضا الفن في حياتها ومماتها ونعيمها وشقائها! ولم تكن رضا العدل إلا في القليل من هذه المقادير، فإن ذكر لها الذاكرون خطيئتها وجماحها، فليذكروا لها منصفين إحسانها حتى ما كانت تضن بمال على فقير، وحبها لأمها حتى ما كانت تهجرها في بيئة الملوك والأمراء، وتقديسها لوطنها، حتى ما كان في زمانها من خدمة ونصرة أعظم من نصرها إياه.
جورج رومني1
أيهما خلد الآخر : رومني الذي حفظ لنا جمال السيدة الإلهية، أو السيدة الإلهية التي ألهمت المصور فنه، وملأت عينيه ببهجة الحسن، وأجرت يده بالخلق والإحسان؟ لقد وعدها هو أن يخلدها في صوره، ولم تعده هي شيئا، ولكنها خلدته على غير موعد، فلا نخشى هنا أن نقع في «مسألة الدور» أو نتهم «بعدل سليمان» إذا قسمنا الحق بينهما نصفين فقلنا: إنه هو خلدها بفنه وإنها هي خلدته بوحيها، فكان جزاؤهما من معدن واحد وعملة واحدة، فلولا صور رومني لفني الروح من جمال «أما» وبقي الشبح الذي تحفظه الصور الشمسية، أو ما يشاكلها من نقش أناس لم ينظروا إلى طلعتها باللحظ المسحور، والقلب المأخوذ، ولولا «أما» لما توفر صاحبها على رسم الملامح والوجوه، وهو الذي كان يزدري هذه الصنعة ولا يصبر على مزاولتها إلا ليعش ويدخر الثروة، ثم يتفرغ لهواه من الفن وهو تصوير البطولة وإحياء الشخوص الخيالية من قصائد الشعراء ونوادر التاريخ.
فقد كان رومني - كما كان كثير من العبقريين - يجهل أحسن ملكاته، بل يجهل أحسن مبدعاته، وطالما تردد بين الموسيقى والتصوير في مبدأ نشأته، فلم يثبت على نية التصوير بعد طول التردد إلا منقادا لقضاء الظروف غير عامد ولا متخير، ثم كان يرسم الصور الشخصية لطلابها ليعيش بأجرها وهو كاره لهذا العمل معول على تركه حين يغنيه الثراء عن أجره، ولم يدر أنه سيعيش بهذه الصور في عالم الذكرى كما عاش بها في عالم الخبز والماء! وكثيرا ما كانوا يسألونه عن أحسن صوره وأعزها عليه، فكان يذكر لهم نقوشا لا تخطر على بال ناقد ولا يذكره الآن ذاكر، وليس رومني ببدع في هذا الجهل، فإن الإنشاء الفني أبوة نفسية ولا يندر أن نرى الأب يحب من أبنائه من هو أقلهم جدارة بالحب، وأشدهم عقوقا للوالدين، فقد يعز الرجل من أبنائه من أنصبه وأحزنه وكلفه المشقة والخسارة، وقد يحسب هذه الكلفة من قيمته ويحرص عليه بقدر ما تكلف في حبه، ويصنع الفنان مثل ذلك فيحب الأثر الذي أجهده وأضناه ولا يذكر الأثر الذي جاءه عفوا بغير مجهدة، وأكثر ما يكون إحسان العبقريين فيما سهل مورده وقل عناؤه، وتأتى لهم بغير كلفة، فهو لهذا رخيص في حسابهم وهم لهذا أبعد الناس عن إنصاف ما يبدعون وتصحيح الرأي فيما يؤثرون وما يهملون.
جورج رومني.
Halaman tidak diketahui