97

Jam Antara Buku

ساعات بين الكتب

Genre-genre

السيدة الإلهية1

صورة اللادي هاملتون في زي عابدة باخوس إله الخمر.

ساعات بين الكتب أو ساعات بين الصور! هي على حد سواء، ففي كل صورة مجودة عبقرية ممثلة، ونفس شاخصة، وتاريخ قد يفوق التواريخ والقصص بما تضمنه من غرائب الأقدار ونوادر الأسرار، وماذا في الكتب غير ذاك؟ فإذا أملك يوما أن تقرأ الكتاب وتحادث المؤلف فقلما يملك أن تقرأ الصورة، وتساجل المصور، وكلاهما بعد ذلك في الصحائف سواء.

اليوم قائظ والشمس تقذف الأرض بالنار، والناس لائذون بالبيوت - بيوتهم لا بيوت الله! - من غضب السماء، وقد أغلقت نوافذي وجلست بيني وبين القيظ حجاب من الحجر والخشب والزجاج، فكأنني الشيخ أوى من حرارة الحياة إلى وقار السن فهو ينظر إلى القائظة المحتدمة في النفوس وبينه وبينها سور من التجارب يظلله ويحميه، وما أردأ التجارب من موصل لحرارة الحياة! وألقي بعيني إلى الكتب فكأنما هي ثراثرة على شفاهها حديث تهم أن تقذف به عند أهون إشارة، ومن الذي يؤمئ بتلك الإشارة الهينة؟ لا والله! ما اليوم يومك ولا يوم رقصاتك وصرخاتك يا مولانا نيتشه، وما اليوم يومك ولا يوم أبطالك ووعودك يا صاحبنا كارليل، وما اليوم يومك ولا يوم أرواحك ورياضاتك يا أبتا لودج! وما أراه يوم واحد من هذه الرءوس الصالحة التي تعودت أن تفرغ جعبتها في الرءوس صيفا وشتاء وبالليل وبالنهار، فدعونا مما تقولون للدنيا ومما تقوله الدنيا لكم، فليس بين الإيمان بعقولكم وبالدنيا وبين الكفر بجميع العقول وجميع الدنياوات إلا بضع درجات في ميزان الجو، ثم تتساوى الحماقة والحكمة، ويتجاور العدم والوجود.

أعرضت عن الكتب كما أعرض عنها في كل يوم من هذه الأيام القائظة، وأخذت مجموعة الصور أقلب فيها بين اليقظة والنعاس، والعيان والحلم، وفي هذه المجموعة وجوه شتى حلم بها الفن المبدع، وارتقى فيها إلى ما فوق المشهود والمأمول، وفيها تماثيل أرباب وربات يعبدها من ليس يعبد اليوم فينوس وكيوبيد وسيكي والزفير. ولكنها لا تستوقفني جميعا كما تستوقفني صورة واحدة ليست صاحبتها بربة، ولا هي بخاطر في منام، وليست إلا جسدا من الدم واللحم ومخلوقا ولده حداد في قرية خاملة من بلاد الإنجليز، وامرأة خاطئة باعت الخبز حينا ثم عاشت حتى اشتهاها أصحاب العروش والتيجان، ورآها الأستاذ «رومني» كبير المصورين الإنجليز في عصره فجن بها جنونه ودعاها «المرأة الإلهية» وهو يعلم أنها هي المرأة الخاطئة؛ لأنه رأى فيها أبدع ما صنع الله، وعلم أن شعورها بالفضيلة لم يغلب قط، وإن كانت فضيلتها قد غلبت في بعض محن الحياة، ورسم لذلك الوجه الذي قلما يشهد مثيله في هذه الدنيا ثمانين رسما أو تزيد لم يدع ربة من ربات الأقدمين، ولا حورية من حور الأساطير، ولا عروسا من عرائس الماء والآجام إلا ألبسها سمتها، وخلع عليها جمالها، فبدت فتنتها فتنة الربات والحور، وفاقت حقيقتها آمال الفن والعبقرية، وجعلت تخطر في مصنعه وكأنها سماء الأولمب كاملة بكل ما فيها من جمال الآلهة وسحر الخيال.

تلك هي «أما» كما يدعوها المقربون أو «لادي هاملتون» كما عرفها المجتمع، أو هي المرأة الإلهية وكل إلهة في القدم كما كان ينعتها رومني المفتون.

تعود صاحب لي كلما رأى صورها التي عندي أن يقول: طوبى لنلسون؟ إني أريد أن أحسده فلا أدري أعلى هذه الحبيبة أحسده أم على تلك العظمة التي أصبح بها في الخالدين ؟ إن الرجل لسعيد، ولكني لا أعلم أسعيد هو بالنصر في عالم الحرب، أم سعيد بالنصر في عالم الغرام؟ ولو أننا سألنا نلسون لأجاب وأغنانا عن التخمين، فما كانت العظمة لنلسون ولا لغيره إلا تكاليف وفروضا يشقى بها المكلفون، وما كان المجد إلا صخبا لجوجا لا نوم فيه ولا سكون، وإن لم يخل من أمانيه وأحلامه، فإن كانت سعادة في المجد فهي سعادة قلب لا سعادة رءوس وأكاليل، ولن يسعد قلب بغير عطف ولن يكمل عطف بغير حب جميل.

وانظر إلى وجه القدر! إني إخاله يومض ويبتسم ونحن نذكر السعادة والسعداء، وما يضحك القدر من أحد ضحكه من السعداء ومن يهبون السعادة! فهذه المرأة التي ولدت في كوخ الحداد وعاشت بعد ذلك في قصور الإمارة، وهذه المرأة التي وهبت نلسون من النعيم ما لم تهبه الأساطيل ولم ييسره النصر المبين بعد النصر المبين، وهذه المرأة التي تحدث العالم بجمالها كما يتحدث بظواهر السماء وطوالع الأفلاك، وهذه المرأة التي حسدتها النبيلة والماهنة، ونفست عليها العفيفة والفاجرة، وتمنت حظوظها الطموحة والقانعة، وهذه المرأة التي ذاقت حلاوة الشرف ورويت بكأس العار - هذه المرأة التي عرفت كل ما تعرفه حواء في حياتها - هل في بنات حواء من شقيت أشد من شقائها، وابتليت آلم من بلائها وذرفت أكثر من دموعها؟ قليل فيما نظن، فقد سقاها الدهر بكأسيه، لا بل سقاها بكأسه! فما نعلم لهذا الدهر الضنين إلا كأسا واحدة يملأها للسعداء وللأشقياء، فلا يزال الشقي يتحسس فيها طعم السعادة، ولا يزال السعيد يجرع منها طعم الشقاء.

حياة لو خلقتها قصة لكانت غريبة، وجمال لو أبدعه مصور لكان طيفا موهوما، فكأنما ولدت هذه المرأة لتتخذها الحقيقة معجزة لغرائبها، تقر لها غرائب الأكاذيب وبدائع الأوهام، ثم جزتها على ذلك جزاء الحقيقة في كل زمان، وهل جزاء الحقائق إلا صدمة الجد وسخرية الخيبة ومرارة الرجاء المضاع؟

بنت حداد فقير نزلت لندن في الخامسة عشرة فتناهبتها الفاقة والرذيلة، ثم عثر بها نبيل من أجلاف النبلاء، فاحتملها إلى قصره في الريف تسقيه الخمر ويباهي بها على مائدة الشراب ثم هو يهينها ويسومها العسف فتخضع للعسف وتصبر على الهوان، ثم هي على صبرها وطاعتها جامحة النفس تتفزز بالحياة، وتهجم على المخاطر، وتروض الخيل العصية لا يجرؤ على ركوبها أشجع الفرسان، ويلقاها هناك سيد مهذب على شيء من العلم والذوق يسمى «جريفيل» فإذا هي مأخوذة بأدبه ومجاملته، مبهورة بظرفه وكياسته، مصغية إليه في دهشة الطفل الغرير تستمع إلى نصحه، وتجهد نفسها في إرضائه واحتذاء مثال المرأة الحسناء في نظره، ويغضب عليها النبيل الريفي فتلجأ إلى جريفيل في لندن، فيقوم لها مقام المعلم الصارم العسير، ويجلب لها المهذبين ويحاسبها على الهفوة، ويعتد الإحسان إلى الفقراء من هفواتها! ويتلقى سورة إعجابها وحبها بفتور الكيس الذي يغتفر الجريمة الصامتة، ولا يغتفر السورة الناطقة! وتنقضي على ذلك سنوات أربع وهو يزيدها تزمتا وجفاء، وهي تزيده حبا ووفاء، وتلد له بنتا فتقر بها عينها ويزور لها وجهه، ويبدو له أن يتزلف إلى عمه الغني فيبيعها إياه؛ ليكتب له العم الغني ميراثه وتأبى هي الفراق، ثم ترضى به حين يخدعها جريفيل ويفهمها أنه يستعين بها على قضاء مأربه عند عمه، وأنه يرسلها معه إلى إيطاليا لتتم هنالك فن الغناء وتستوي على المسارح نجما ساطعا ينتفع بماله ويستمتع بضيائه، وتقبل هي هذه الخدعة، فتبرح لندن على أمل اللقاء القريب، فإذا هي مع أمها التي لا تفارقها في قصر اللورد هاملتون سفير الجلالة البريطانية في بلاط نابولي وعم ذلك الحبيب الشريف!

Halaman tidak diketahui