وكل أماني الإنسان عبد الشهوة تنحصر في نيل ما تنصرف النفس إليه، والتزاحم على امتلاك ما في يد الغير يفتح باب الخصومة والشحناء، ويحمل على إنكار الحقوق، إن كان ما تتطلبه النفس ملكا لغير صاحبها. وما الاستئثار بملك الغير وعمل المرء على هضم حقوق سواه، والرغبة في اغتياله إلا حجة دامغة على صغر النفوس وحب الذات.
ولما كانت قيمة الأشياء تزيد وتقل على قدر زيادة وقلة فائدتها كان كل ما لا يأتي بفائدة عديم القيمة؛ وعليه فقيمة المرء بين بني جنسه ما يملك، والفقر - مع شرف النفس - عار، والغنى - وإن توفر من غير الطرق المشروعة - جاه، وهذا خطأ. والحقيقة أن قيمة الإنسان ليست فيما يملك وإنما قيمته ذاته وصفاته. ولكن أهل هذا العصر ماديون لا قيمة في أعينهم لغير الماديات؛ ولذلك هم على ضلال في معرفة أقدار الناس والاحتفاظ بكرامتهم.
ورب معترض يظن الحكم بفساد ما يدعي حضارة ورقيا تحاملا، أو رغبة في الحرص على القديم والانصراف عن كل رقي عمراني حديث. ولكن الحكمة في عدم الاعتداد بالظنون وبكل تحضر وهمي، وفي عدم الانخداع بالظواهر الكاذبة. فليس الغرض الرجوع لبداوة الماضي وخشونة الأجيال البائدة، وإنما البحث عن أدواء المجتمع الإنساني، وإظهار عيوب الحياة الاجتماعية الحالية رغبة في وجود الوسائل الملطفة لآلام الإنسان وتقويم سبل العيش؛ حتى تخف أرزاء الحياة وهمومها الجمة ويزول شيء من الاعتقاد الفاسد في تخيل السعادة والهناء بين تراكم الحاجات المادية ووفرتها؛ لأن هذا هو الباطل بكل معانيه.
وهناك آلاف من الشواهد والأدلة تؤيد القائلين بأن الرقي الصحيح حقيق بقمع النفس عن طلب السعادة من غير طريقها، وبأن التنعم ليس بالإكثار من الماديات؛ فالحضارة الحقيقية والتمدين القويم هما عيش الإنسان في بيئة تناسبه وعلى قدر ما تسمح به موارد كسبه، وابتعاده عن الظهور بما لا يسير مع حالته الحقيقية. فإذا ما ضل السبيل القويم وتنكب عن جادة الحكمة والتبصرة فكل تعب ضائع، وكل سعي يزيد الضرر ويضاعف الخطر ويضيف إلى مهام الحياة متاعب جمة، ويزيد المسائل الاجتماعية إشكالا وتعقيدا.
وليست البساطة في المعيشة مقصورة على ما مر، ولا هي من مقتضيات العيش فقط، ولكنها ضرورية لكل شيء حتى للتعليم والحرية، فكم نقل عن كبار الحكماء أن تلاشي الفاقة والجهل والظلم يكفي لتطهير المجتمع من الشرور ولصيرورة الأرض نعيما أليق بالملائكة منه بالإنسان. وقد شوهد أن زوال الفاقة لم يبدل الحال ولم يكن سببا رئيسيا للسعادة. كما أن التعليم لم يغير شكل الاجتماع، ولم يلطف الشرور المتفشية فيه، ولم تزل الأرض أرضا والسماء سماء والإنسان كما كان، ينفع ويعمل الخير ويرتكب الشرور ويقترف الآثام.
وليس المراد بذكر ما مر الحض على إهمال التعليم وتحصيل المعارف، ولا إيصاد أبواب دور العلم؛ بل الوثوق من أن التعليم وجميع وسائل التحضر ليست إلا ممهدات للمدنية تختلف فيها الفائدة والضرر باختلاف خلق المتحضر وسلوكه. وكذلك الحال في الحرية، فهي إما ضارة أو صالحة تبعا للظروف وطبائع القائمين بطلبها أو المتمتعين بها، وليس معناها إطلاق يد العاتي والمشاغب والطموع والفوضوي للعبث بمصالح الناس، وإقلاق سكينتهم والتشويش عليهم . •••
الحرية روح حياة راقية يتشربها المرء رويدا مع تدرج النفس في طريق الكمال. ومن مقتضياتها النظام؛ لأنه ضروري للحياة والكائنات، سواء في ذلك كل الخلائق من الإنسان والحيوان إلى ما دونهما. ولما كان النوع الإنساني أرقى هذه الأنواع فهو أشدها حاجة لدقة النظام وإحكامه. والنظام في الحقيقة قواعد عامة موضوعة يراد بها وقوف الأفراد عند حدودهم والتمتع بحقوقهم، ولكنه مع ترقي البشرية يكون من طبائع النفس الراقية ومستلزمات الضمير التي يخضع لها. فإذا بلغ المرء هذا الحد من الرقي وعرف كيف يطيع وحي ضميره، ونال منه حب نظام الهيئة الاجتماعية حتى أوجد في فؤاده وعقله سلطة قوية تحكمه وتردعه وهو صاغر منصاع لها؛ فهو الإنسان الجدير بالحرية، وما دام هذا الوازع النفساني غير موجود فليس الإنسان صالحا لهذا النوع من الحياة؛ لأنه يثمله ويهيجه ثم يدفعه إلى أسوأ مصير.
وكل من رقت حواسه ومشاعره، فخضع لحكم العقل وحب النظام يصعب عليه الخضوع للحكم المطلق، بل يستحيل عليه ذلك، كما يستحيل بقاء الجنين في أحشاء أمه متى اكتملت أيامه. ومن لم يكن أهلا لهذا الحكم فلا يدوم عليه، كما تستحيل حياة الجنين إذا وضع قبل اكتمال شهور الحمل. هذه النتائج مقررة مسلمة والبراهين عليها لا تحصر، ولكن من عيوب الإنسان تجاهله هذه القضايا البديهية مع ما لها من الأهمية والخطورة، فيجب أن يعرفها الجميع؛ إذ إنه يعسر على أي شعب أن يحصل على الديمقراطية قبل معرفتها والتشبع بروحها وإقرار كل فرد بصحة مبادئها عن اقتناع وتمييز.
ومن أهم أركان الحرية الطاعة والإذعان للنظام العام. وليس هذا من زخارف الحياة، أو من مقتضيات أميال بعض ذوي النفوذ والسلطان، ولا من صلف الحاكمين. وإنما هو قوانين عامة ذات رأس تنحني أمامه أرفع الرءوس، ويستوي أمام بطشه رائد السماء ومفترش الوضيع. وليس الغرض من هذا القول الترغيب عن الديمقراطية، بل الاهتمام بجعل الإنسان لائقا لهذا النوع من الحكم وجديرا بالحرية قبل طلبها، وإلا فإن النزوع إليها طفرة يؤدي بالشعب إلى مزالق السفه والفوضى، وإلى ما لا يمكن تلافيه من الفتنة والثورات. وإذا ما اجتلى العقل الأسباب الحقيقية التي تنشأ عنها اضطرابات ومشاكل الحياة الاجتماعية - مع تنوع عناوينها - رآها منحصرة في أمر واحد هو خلط العرض بالجوهر. •••
إن السعادة والتعليم والحرية والرقي والتمدين ليست إلا عرضا، أما جوهر الأمر فهو الاهتمام بالضمير والخلق والإرادة؛ فهي الذات وكل ما عداها أعراض كمالية لا جواهر ضرورية. ومع وفرة هذه الكماليات التي يمكن التخلي عنها فكم ترى الإنسان شديد الافتقار إلى الشيء الضروري، حتى إنه إذا ما تنبه ضميره أو استيقظ قلبه فرام تحقيق أمانيه تألم آلام الحي المقبور، ورزح تحت أعباء الأمور التافهة التي لا يسعه معها تنسم نسيم الحياة واستجلاء النور الساطع والضياء اللامع.
Halaman tidak diketahui