إهداء الكتاب
كلمة للمعربة
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة التاسعة
الحياة المرتبكة
روح الاعتدال
الفكر والاعتدال
القول والاعتدال
الواجب والاعتدال
الاعتدال والمطالب
Halaman tidak diketahui
الاعتدال والسرور
المال والاعتدال
الاعتدال وحب الظهور
الحياة العائلية والاعتدال
الكبر والاعتدال
التربية والاعتدال
خاتمة
إهداء الكتاب
كلمة للمعربة
مقدمة الطبعة الأولى
Halaman tidak diketahui
مقدمة الطبعة التاسعة
الحياة المرتبكة
روح الاعتدال
الفكر والاعتدال
القول والاعتدال
الواجب والاعتدال
الاعتدال والمطالب
الاعتدال والسرور
المال والاعتدال
الاعتدال وحب الظهور
Halaman tidak diketahui
الحياة العائلية والاعتدال
الكبر والاعتدال
التربية والاعتدال
خاتمة
روح الاعتدال
روح الاعتدال
تأليف
شارل فاجنر
ترجمة
وسيلة محمد
Halaman tidak diketahui
إهداء الكتاب
إلى ابنتي العزيزة
أنت اليوم طفلة في المهد تسرك ابتسامتي، ويكفيك حنوي، وطفلة اليوم أم الغد، فاسلمي وعيشي لتدركي من الحياة دور الأمل والعمل، وليكون لك يد في نشأة المجتمع الإنساني. إلا إنه ليعوزك دون ذلك العلم القليل، والتربية الصحيحة، والتجربة والاختبار.
والزمان قلب، والغد مجهول، فقد لا أكون إلى جانبك إذ ذاك فترجعين يا عزيزتي، إلى هذا الكتاب وهو ثمرة عقل ناضجة ونتيجة اختبار صادقة، فتؤثرين العمل بما فيه من الآراء السديدة على ما يحدو إليه نزق الشباب أو جنون الصبا، وطيش الرعونة.
أي عزيزتي، إنه ليفرح نفسي - أنى تكون - أن ترجعي إلى ما كتبه شارل وانير وأمثاله من كرام الكتاب الاجتماعيين إذا ما أعوزتك النصيحة، فإن في آرائهم ما قد ينوب عن نصيحة أم ثوت، أو والد قبر.
هذه هديتي إليك، فإن تعلمت علما صحيحا وكنت رقيقة العواطف عرفت منها كم كنت أحبك وأرغب في نفعك.
والدتك
وسيلة
14 ديسمبر سنة 1911، عيد ميلادك
كلمة للمعربة
Halaman tidak diketahui
بسم الله الرحمن الرحيم
طالعت هذا الكتاب - كما كنت أطالع غيره من الكتب الأخلاقية والاجتماعية في فترات الراحة والخلو من العمل - فلم أنته إلى آخره حتى لحظت تغييرا محسوسا في أفكاري وآمالي وتصوراتي وأعمالي، فشعرت إذ ذاك بقوة تأثير الكاتب بآرائه السديدة وروحه العالية ومراميه الشريفة في نفوس وعقول المطالعين والقراء.
هذا هو السر الذي حبب إلي إظهار هذا السفر الجليل بلغة البلاد؛ ليكون فائدة لمن يبغي من الحياة مراميها الشريفة، ويتطلع إلى جلالها الحقيقي. وقد شجعني على هذا العمل ما رأيته من إقدام بعض الآنسات الأمريكيات على نقل هذا الكتاب إلى الإنجليزية، وحفاوة أهل الولايات المتحدة ورئيسهم العظيم روزفلت بهذه المجموعة الجليلة.
ولو عنى العقلاء بأمثال هذه المنتخبات من الكتب، ونقلوها إلى لغة بلادهم لأفادوا المجتمع الذي يعيشون فيه، ولخدموا النوع الإنساني بأجمعه خدمات تذكر. أما وكل يقصر أبحاثه ومطالعاته والفائدة التي يجتنيها منها على شخصه فقط، فمن البعيد أن تصل الهيئة الاجتماعية في الزمن القريب إلى دور الاكتمال والتحسن الحقيقي الذي يتطلع إليه المصلحون.
سدد الله خطوات العاملين والعاملات إلى خير الجماعة وصلاحها، ووفق غيرهم لما فيه النفع الشامل.
مقدمة الطبعة الأولى
إذا كان المريض المحموم يتطلع دائما إلى ما يلطف عنه عناء المرض وحرارة الحمى، فكذلك النفوس المضناة من هموم هذه الحياة المرتبكة تتطلع إلى التحرر من قيودها، وتنزع إلى البساطة والاعتدال.
والاعتدال بنوع خاص لا يتقيد بالظروف والحالات التي يتطور فيها المجتمع، ولا بالنظريات الفلسفية العقيمة التي ينسبها واضعوها لحاجة الاقتصاد والتمدين والرقي الاجتماعي؛ لأن الاعتدال روح عالية تشرف على العقل والنفس وتوجههما في السبيل السوي، بدون أن تبعدهما عن العمل لما فيه رقي الفرد والجماعة، فكل من يتطلع إلى الاعتدال، ويعمل بمقتضياته فإنما يعمل حقيقة لخدمة النوع الإنساني من طريق الحق والعقل والعدل، ويبني الرقي والتمدين على آساس ثابتة ودعائم قوية لا تعبث بها عوادي الحماقة والتطرف.
وليس المراد بالاعتدال التمسك بمظاهره، وإنما العناية الحقيقية بما يرمي إليه معنى الاعتدال وروحه. وإذا لم يكن في وسع الإنسان اليوم أن يعيش على ما كان عليه الإنسان الأول من السذاجة والبساطة والاعتدال في المظاهر، فإنه يستطيع دائما أن يكون كذلك بعقله وروحه وعمله وفكره وقوله، فإن إنسان اليوم ينحدر حقيقة على مزالق تباين السبل القويمة التي سار عليها الأولون. ولكن هذا لا يمحو الإنسانية ولا يجردها من أغراضها ومقتضياتها الشريفة؛ فالحياة اليوم هي الحياة بالأمس، والغرض منها بالأمس هو الغرض الوجيه الذي يريد الإنسان تحقيقه اليوم، وإن اختلفت الوسائل التي تستعمل لذلك والسبل التي تختار لنيل هذه الأمنية.
فعدم النجاح ليس ناشئا عن اختلاف المعدات والوسائل، وإنما هو نتيجة الابتعاد عن الغرض الحقيقي والتورط في مجاهل الحياة المرتبكة. وإن ما يحول الآن بين الإنسان والحياة الحقيقية الراقية هو مما لا فائدة منه على الإطلاق، والحياة بدونه ممكنة كل الإمكان. وليس من نتائجه غير الحيلولة بين الناس وبين الحقيقة والعدل والطيبة؛ أركان الحياة ودعائم السعادة، وغير إلقاء الحجب الكثيفة بين العقل والبصيرة، وبين الهداية والحقيقة. فمن شاء أن ينظر إلى جلال الحياة وجمالها مجردين من كل ما يحجب بهاءهما، ومن رام أن يهنأ بالسعادة فعليه أن يزيح عن عينيه هذه الغشاوة، وأن يرتد عن ذلك الطريق المجهول إلى طريق الاعتدال والحق، فإنه هو وحده الذي يؤدي إلى الغرض من الحياة.
Halaman tidak diketahui
شارل وانير
باريس - مايو 1895
مقدمة الطبعة التاسعة
كتب إلي أرمان كولن صاحب المطابع الشهيرة باسمه - عقب حفلة زواج حضرها - كتابا رقيقا مؤثرا يطلب إلي فيه أن أكتب شيئا في «المعيشة البسيطة»، فألفت هذا الكتاب. وظهر فكان له شأن يذكر بين القراء، وانتشر في كل أنحاء القارة الأوربية انتشارا سريعا. ثم نقل إلى عدة لغات حية، فنقلته الآنسة «ماري لويز هندي» إلى اللغة الإنكليزية لحساب شركة المطبوعات الأمريكية «كلور» بنيويورك، وكتبت عنه الآنسة الكاتبة «جراس كنج» فصولا ضافية، كان لها أحسن وقع في تلك البلاد. واطلع عليه الرئيس روزفلت فلم يتمالك عن الكتابة إلي يقول: «إنني أنصح لقومي دائما بمطالعة سفرك الجليل.» وفي الحقيقة، إنه لم يترك فرصة تمر بغير أن ينوه فيها بذكر هذا الكتاب الاجتماعي، حتى لقد خطب خصيصا في هذا الشأن مرة «ببانجور»، وأخرى بفلادلفيا، وزاد على ذلك أن دعاني لزيارة الولايات المتحدة. وخطب في يوم 22 نوفمبر سنة 1904 بواشنجتون، وكنت حاضرا فقدمني إلى الجمهور. ولا أزال أشكر له قوله: «هذه هي المرة الأولى والأخيرة في زمن رئاستي أنتهزها فرصة لأعرف الجمهور الأمريكي بهذا الكاتب الاجتماعي القدير، وأعرض عليهم مؤلفه «الجليل»، فإنه إلى الآن لم يظهر بين كل المؤلفات الراقية ما أراه كفيلا بإفادة مواطني الفائدة التي أنتظرها من هذا الكتاب.»
وقد لحظت بنفسي تأثير أقوال الرئيس المحترم في نفوس وعقول مواطنيه؛ لما رأيته من تهافتهم بعد ذلك على مطالعة كتابي هذا وانتشاره بينهم انتشارا لم يكن لغيره من المؤلفات، حتى إن الصحافة أخذت تكتب عنه المرار المتعددة، وبعضها تنقله وتنشره تباعا.
كل هذا يدل على أن الكتاب ظهر حقيقة في إبان الحاجة إليه، فقد أخذ الناس يسأمون الحياة المرتبكة، ويشعرون بحاجتهم إلى الاعتدال، وتلطيف حالات هذا الارتباك المخل بنظام العالم المقوض لأركان السعادة.
وإنني لأرجو أن يأتي هذا الكتاب بالغرض الشريف الذي كتب خصيصا من أجله، وأن يلفت الناس إلى معنى الحياة الحقيقية ومقتضياتها، والعمل لتحقيقها والابتعاد عن كل ما عداها، فإن السعادة والقوة وجمال الحياة لا تكون إلا بالبساطة والاعتدال.
شارل وانير
باريس - فبراير سنة 1905
الحياة المرتبكة
Halaman tidak diketahui
من مقتضيات المدنية الحديثة تخبط المتحضر في كل لحظة من حياته، وارتطامه في شواغل تنغص عليه عيشه، سواء في قضاء لباناته الضرورية أو في لذائذه الكمالية، فهي في ظله حتى يبدل نور الشمس بظلام الرمس.
وقد زالت البساطة من كل شي، من الفكر والعمل واللهو، وقل: من الموت أيضا. ولم يكتف الإنسان بملاشاة الحسن من مميزات الحياة، بل أضاف إليها بمحض اختياره عدة متاعب لا قبل له بها ولا طاقة عليها؛ حتى تأفف الكثيرون من شكل الحياة الحاضرة وزخرفها الخداع، وأسفوا على الماضي وبساطته لخلوه من شوائب هذا الطلاء الكاذب وأدرانه. والأدلة القوية التي تؤيد هذا القول عديدة، فمما يعاب في حضارة هذا العصر تعدد الحاجات المادية واطراد زيادتها. وقد يدفع بعضهم هذا بأن زيادة الحاجات تبع للكسب والإثراء، وهو دفع مقبول، إلا أنه غير وجيه. وهو يستند على أن الابتكار والاختراع من دلائل الرقي، وهذا صحيح؛ فليس من يعترض على الاغتسال وتنظيف الثياب وسكنى الأماكن الصحية والعناية بالغذاء وترقية المدارك. ولو اقتصرت الحضارة على هذه الأمور لكانت من الحسنات، أما وقد خلقت في عالم الاجتماع غير هذه الظواهر المستملحة، سيئات باتت عبئا على المجتمع وضررا متفشيا لا يتقى، وأصبحت من العادات ولوازم المدنية بغير حاجة تدعو إليها ولا ضرورة تحتمها، وصار لها من المكانة والأثر في النفس ما للسلطة المطلقة من السلطان على الرقيق المستعبد؛ فالنقد مقصور على أمثال هذه العادات.
ولو قيل للسالفين: إن المدنية ستصل يوما بالإنسان إلى حيث يسخر البخار والكهرباء، ويستجلي باطن البحر وأقصى السماء ويحلق في الفضاء، ويستقي من صميم الصخر، ويذلل الصعاب وينفرج أمامه ما أغلق من الأعمال الشاقة بلا كدح ولا نصب، أجل، لو أنبئ السلف بمصير الخلف لخالوا إنسان هذا العصر كأنما دخل الجنة بلا بعث ولا حساب، ولغبطوه على النعيم والسعادة؛ أمل الإنسان من يوم خلق وسؤله إلى حين يبعث. ولو أن صورة هذا العصر بما فيه من الرقي الفني مرت على أذهانهم لتوهموا أن هذا الرقي هذب أطوار الخلائق، وقلل من تزاحمهم على متاع الدنيا وزهو الحياة؛ لظنوا أن الآداب والأخلاق ربت ورقت على قدر الرقي المادي. ولكن الواقف على أسرار المجتمع الإنساني واثق من أن هذا لم يتحقق، فليس في الوجود هناء ولا سلام ولا انصراف حقيقي إلى الخير.
قد يظن المرء لأول لمحة أن حالتنا المعاشية أدعى للرضاء من حالة أسلافنا الغابرين، وأن المرء اليوم أكثر اطمئنانا إلى غده منه بالأمس. وليس الغرض هنا البحث عن وجود الأسباب الممهدة لهذه النتائج، بل عن حقيقة الواقع، والإجابة على هذا السؤال: «هل الإنسان سعيد اليوم؟ وهل هو أكثر ارتياحا لغده من إنسان الأمس؟» إلا أن كل من يعرف حياة المجتمع ووسائل العيش لا يتردد في الجزم باستياء الإنسان من حظه وعيشه، فليس في العالم من لم تشغله أمور الحياة ويخبله التفكر في أمر المستقبل. بل لم يمر على الإنسان - حين أزعجته فيه هذه الوساوس - كهذا العصر الذي ارتقت فيه الإنسانية، وطابت مواد الغذاء، وحسنت المساكن وصلحت الملابس.
فمغرور من يتوهم أن المعدم المعوز هو وحده من يتساءل عن العيش وسبيل الارتزاق؛ لأن الخوف من الفاقة وطارئ الغد يشعر به المكثر والمقل، ويخشاه الفقير والغني على السواء. ومن الحقائق المجهولة أن أسف المتنعم على ما لم ينل يربو على لذته بما تطيب به الحياة لسواه. ولا يضارع مخاوف الغني وجزعه من المستقبل غير ذعر الجبان وفرقه من المعارك ومواقف القتال. واهتمام المعدم بأمر غده لا يذكر بجانب غيره؛ فإن من لا تملك سوى ثوب واحد لا تتساءل عما تلبس في اليوم التالي، ومن يقتنع بكسرة الخبز لا يقتل نفسه جزعا ولا ييأس من الحصول عليها، ومن يفترش الأرض ولا يملك موطئ قدميه لا يخشى سقوط الأسعار ولا حلول الأزمات.
فمن يمعن النظر فيما ذكر، ويقارنه بما يقال من أن الحاجات المادية تزيد زيادة مطردة مع الثروة والكسب يقرر أن الجشع على قدر الغنى، وأن الاهتمام للغد يكون على قدر السعة.
وليس من الناقدين من يقدر على تحديد مخاوف الغني ومتاعبه، أو يعرف كمية هذه المتاعب ونوعها ومقدار تأثيرها، فلهذا السبب ولوجوده بين كل طبقات الهيئة الاجتماعية - على اختلافها وتفاوتها - نشأ بينها اضطراب عام وارتباك شامل لا يماثله غير ما يحدثه الطفل المدلل من عدم الاقتناع بما يغبط عليه، وعدم ارتياحه حتى إلى السعادة والنعيم. •••
وكما أن النوع البشري لم يحصل على السعادة والهناء، فكذلك هو لم يوطد دعائم السلام، ولم يعرف الهدوء والطمأنينة، وصارت كثرة حاجات الإنسان وتنوع ميوله وأهواء نفسه تحوطه بظروف تخلق الشجار، وتوجد الخصومة بينه وبين أمثاله. وفي حكم المؤكد أن الكراهية والبغضاء التي تنجم عن هذه الأسباب تكون على نسبة منعكسة مع أسبابها التافهة والخطيرة. ولو قصر التزاحم والعراك على طلب القوت الكفاف لكان الأمر نتيجة طبيعية لتنازع البقاء، وإن عد غلظة فإن للجائع المعدم شبه عذر في غلظته. ولكن النزاع ناشئ عن الطمع والأنانية والميل مع هوى النفس وشهواتها الفاسدة ومطامعها المادية. وليس من يذكر أن الجوع ساق الإنسان إلى أنواع السفالات التي يغري بها الجشع والبخل، والانصراف إلى إرضاء الشهوة، مع العلم بأن حب الذات يزداد خطورة على قدر تمكنه من النفس. فهل من ينكر بعد ذلك ازدياد الخصومات بين بني الإنسان وتشبع القلوب والأفكار بالأنانية، وهي مدعاة المشاكل والنزاع؟ وهل يجوز بعد الوقوف على هذه الحركات العدائية بين أبناء الجنس الواحد أن يتساءل امرؤ عما إذا كان الحاضر خيرا من الماضي؟ أليس في وسع الإنسان حب الخير والانصراف إليه مجردا من الغاية؟ أوليس يستطيع نيل حاجاته الضرورية بغير تعمد الشر والأذى؟ ما الذي تمتاز به المدنية الحاضرة وقد شيبت الحياة بمتاعب الماديات، ومطالب التحضر المتعددة التي لا افتقار ولا حاجة بنا إليها؟
إن الأميال المتنوعة مدعاة للأحقاد والخصومات، وكل من يقف نفسه ومواهبه على شهوات النفس يضاعفها حتى يضعف أمامها وتقوى عليه فتستعبده، وإذا ما استرقته فقد الإرادة والإحساس، ولم يعد يميز بين المليح والقبيح، فخضع لسلطان الشهوات الجائر وفسد خلقه وساء مصيره.
إن سمو الآداب والأخلاق هو في المقدرة على قمع الشهوات وانحطاطها، وفسادها في الخنوع لمطامع النفس الأمارة بالسوء؛ فإنه يلاشي الخلق والتأدب.
Halaman tidak diketahui
وكل أماني الإنسان عبد الشهوة تنحصر في نيل ما تنصرف النفس إليه، والتزاحم على امتلاك ما في يد الغير يفتح باب الخصومة والشحناء، ويحمل على إنكار الحقوق، إن كان ما تتطلبه النفس ملكا لغير صاحبها. وما الاستئثار بملك الغير وعمل المرء على هضم حقوق سواه، والرغبة في اغتياله إلا حجة دامغة على صغر النفوس وحب الذات.
ولما كانت قيمة الأشياء تزيد وتقل على قدر زيادة وقلة فائدتها كان كل ما لا يأتي بفائدة عديم القيمة؛ وعليه فقيمة المرء بين بني جنسه ما يملك، والفقر - مع شرف النفس - عار، والغنى - وإن توفر من غير الطرق المشروعة - جاه، وهذا خطأ. والحقيقة أن قيمة الإنسان ليست فيما يملك وإنما قيمته ذاته وصفاته. ولكن أهل هذا العصر ماديون لا قيمة في أعينهم لغير الماديات؛ ولذلك هم على ضلال في معرفة أقدار الناس والاحتفاظ بكرامتهم.
ورب معترض يظن الحكم بفساد ما يدعي حضارة ورقيا تحاملا، أو رغبة في الحرص على القديم والانصراف عن كل رقي عمراني حديث. ولكن الحكمة في عدم الاعتداد بالظنون وبكل تحضر وهمي، وفي عدم الانخداع بالظواهر الكاذبة. فليس الغرض الرجوع لبداوة الماضي وخشونة الأجيال البائدة، وإنما البحث عن أدواء المجتمع الإنساني، وإظهار عيوب الحياة الاجتماعية الحالية رغبة في وجود الوسائل الملطفة لآلام الإنسان وتقويم سبل العيش؛ حتى تخف أرزاء الحياة وهمومها الجمة ويزول شيء من الاعتقاد الفاسد في تخيل السعادة والهناء بين تراكم الحاجات المادية ووفرتها؛ لأن هذا هو الباطل بكل معانيه.
وهناك آلاف من الشواهد والأدلة تؤيد القائلين بأن الرقي الصحيح حقيق بقمع النفس عن طلب السعادة من غير طريقها، وبأن التنعم ليس بالإكثار من الماديات؛ فالحضارة الحقيقية والتمدين القويم هما عيش الإنسان في بيئة تناسبه وعلى قدر ما تسمح به موارد كسبه، وابتعاده عن الظهور بما لا يسير مع حالته الحقيقية. فإذا ما ضل السبيل القويم وتنكب عن جادة الحكمة والتبصرة فكل تعب ضائع، وكل سعي يزيد الضرر ويضاعف الخطر ويضيف إلى مهام الحياة متاعب جمة، ويزيد المسائل الاجتماعية إشكالا وتعقيدا.
وليست البساطة في المعيشة مقصورة على ما مر، ولا هي من مقتضيات العيش فقط، ولكنها ضرورية لكل شيء حتى للتعليم والحرية، فكم نقل عن كبار الحكماء أن تلاشي الفاقة والجهل والظلم يكفي لتطهير المجتمع من الشرور ولصيرورة الأرض نعيما أليق بالملائكة منه بالإنسان. وقد شوهد أن زوال الفاقة لم يبدل الحال ولم يكن سببا رئيسيا للسعادة. كما أن التعليم لم يغير شكل الاجتماع، ولم يلطف الشرور المتفشية فيه، ولم تزل الأرض أرضا والسماء سماء والإنسان كما كان، ينفع ويعمل الخير ويرتكب الشرور ويقترف الآثام.
وليس المراد بذكر ما مر الحض على إهمال التعليم وتحصيل المعارف، ولا إيصاد أبواب دور العلم؛ بل الوثوق من أن التعليم وجميع وسائل التحضر ليست إلا ممهدات للمدنية تختلف فيها الفائدة والضرر باختلاف خلق المتحضر وسلوكه. وكذلك الحال في الحرية، فهي إما ضارة أو صالحة تبعا للظروف وطبائع القائمين بطلبها أو المتمتعين بها، وليس معناها إطلاق يد العاتي والمشاغب والطموع والفوضوي للعبث بمصالح الناس، وإقلاق سكينتهم والتشويش عليهم . •••
الحرية روح حياة راقية يتشربها المرء رويدا مع تدرج النفس في طريق الكمال. ومن مقتضياتها النظام؛ لأنه ضروري للحياة والكائنات، سواء في ذلك كل الخلائق من الإنسان والحيوان إلى ما دونهما. ولما كان النوع الإنساني أرقى هذه الأنواع فهو أشدها حاجة لدقة النظام وإحكامه. والنظام في الحقيقة قواعد عامة موضوعة يراد بها وقوف الأفراد عند حدودهم والتمتع بحقوقهم، ولكنه مع ترقي البشرية يكون من طبائع النفس الراقية ومستلزمات الضمير التي يخضع لها. فإذا بلغ المرء هذا الحد من الرقي وعرف كيف يطيع وحي ضميره، ونال منه حب نظام الهيئة الاجتماعية حتى أوجد في فؤاده وعقله سلطة قوية تحكمه وتردعه وهو صاغر منصاع لها؛ فهو الإنسان الجدير بالحرية، وما دام هذا الوازع النفساني غير موجود فليس الإنسان صالحا لهذا النوع من الحياة؛ لأنه يثمله ويهيجه ثم يدفعه إلى أسوأ مصير.
وكل من رقت حواسه ومشاعره، فخضع لحكم العقل وحب النظام يصعب عليه الخضوع للحكم المطلق، بل يستحيل عليه ذلك، كما يستحيل بقاء الجنين في أحشاء أمه متى اكتملت أيامه. ومن لم يكن أهلا لهذا الحكم فلا يدوم عليه، كما تستحيل حياة الجنين إذا وضع قبل اكتمال شهور الحمل. هذه النتائج مقررة مسلمة والبراهين عليها لا تحصر، ولكن من عيوب الإنسان تجاهله هذه القضايا البديهية مع ما لها من الأهمية والخطورة، فيجب أن يعرفها الجميع؛ إذ إنه يعسر على أي شعب أن يحصل على الديمقراطية قبل معرفتها والتشبع بروحها وإقرار كل فرد بصحة مبادئها عن اقتناع وتمييز.
ومن أهم أركان الحرية الطاعة والإذعان للنظام العام. وليس هذا من زخارف الحياة، أو من مقتضيات أميال بعض ذوي النفوذ والسلطان، ولا من صلف الحاكمين. وإنما هو قوانين عامة ذات رأس تنحني أمامه أرفع الرءوس، ويستوي أمام بطشه رائد السماء ومفترش الوضيع. وليس الغرض من هذا القول الترغيب عن الديمقراطية، بل الاهتمام بجعل الإنسان لائقا لهذا النوع من الحكم وجديرا بالحرية قبل طلبها، وإلا فإن النزوع إليها طفرة يؤدي بالشعب إلى مزالق السفه والفوضى، وإلى ما لا يمكن تلافيه من الفتنة والثورات. وإذا ما اجتلى العقل الأسباب الحقيقية التي تنشأ عنها اضطرابات ومشاكل الحياة الاجتماعية - مع تنوع عناوينها - رآها منحصرة في أمر واحد هو خلط العرض بالجوهر. •••
إن السعادة والتعليم والحرية والرقي والتمدين ليست إلا عرضا، أما جوهر الأمر فهو الاهتمام بالضمير والخلق والإرادة؛ فهي الذات وكل ما عداها أعراض كمالية لا جواهر ضرورية. ومع وفرة هذه الكماليات التي يمكن التخلي عنها فكم ترى الإنسان شديد الافتقار إلى الشيء الضروري، حتى إنه إذا ما تنبه ضميره أو استيقظ قلبه فرام تحقيق أمانيه تألم آلام الحي المقبور، ورزح تحت أعباء الأمور التافهة التي لا يسعه معها تنسم نسيم الحياة واستجلاء النور الساطع والضياء اللامع.
Halaman tidak diketahui
فمن الواجب تجريد الحياة من الأعباء الباطلة، وتحريرها من هذا الرق وتمييز مواضع الأمور وأهميتها، والاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة لرقي النوع البشري هي العناية بتهذيب الروح والخلق.
وكما أن فائدة المصباح لا تقوم بحسن زخرفه ودقة صناعته، ولا بنفاسة معدنه، بل بمقدار ضوئه وسطعانه، فكذلك لا يجوز تعيين مرتبة الإنسان وقدر قدره بما ملكت يداه، ولا بسعة عيشه، ولا ببسطة جاهه لا، ولا بطول باعه في العلميات أو الفنيات فإنما المرء بخلقه وأدبه.
ومع أن صور الحياة تختلف باختلاف الأزمان وتفاوت العقول، فأي عاقل ينكر خطر الانتقال الفجائي من طور إلى طور، أم من يقول: إن الاعتدال سيء المغبة، أو إن خطته هي غير خطة الإصلاح المؤدية إلى الغاية الشريفة؟
روح الاعتدال
يتوهم الناس أن للاعتدال دلائل ظاهرة تدل عليه، كعدم التأنق في الملبس واختيار المسكن البسيط وما أشبه ذلك. ولكن هذا الظن فاسد وباطل، وإننا لنربأ بالناقد البصير أن يمر به غني متبجل في مركبته ومتوسط حال ماش على قدميه ومعدم يتعثر بأسماله البالية؛ فيبادر إلى تقرير حكمه في كل من الثلاثة مستندا على هذه الظواهر؛ قد يجوز أن يكون ذلك الغني المترفه - رغما عن بسطة الرزق وسمو المركز الاجتماعي ومظاهر الجاه والثروة - معتدلا في أمره ليس عبدا للمال ولا أسيرا لحب الظهور. وقد يجوز أن يكون الرجل المتوسط قانعا بما في يده، لا يغبط الغني ولا يحسده على عزه وجاهه، ولا يحتقر الفقير لحاجته ولا يزدريه لعوزه. كما أنه يتأتى أن يكون ذلك الفقير المعدم طموحا لما لا يتفق مع فاقته، غير ميال للعمل عدوا للقناعة يمني نفسه بالسعة، وهو عائش في ظل الخمول والبطالة.
فمن أبعد الناس عن الاعتدال السائل الذي يعتاش من التسول وهو قادر على العمل والارتزاق، وذلك المجامل الذي يقول ما لا يعتقد إرضاء لمحدثه واستدرارا لماله، وذلك الطفيلي المتملق الذي يعيش على موائد مقربيه المخدوعين في أمره؛ فأولئك وجودهم عالة على الغير، وحياتهم عبء على المجتمع. ولو فحصت نياتهم وأفكارهم لعرفت أن أمانيهم تنحصر في الظفر بما يستطاع مما يتنعم به الغني الممتع. وفي عداد هؤلاء الممقوتين الطموع ومن لا مبدأ له والمذبذب والبخيل والمتكبر والمتقلب.
وليس الاعتدال صفة تختص بها طبقة من الناس دون سواها، كما أن المظاهر ليست من مميزاته والدلائل عليه. فهو موجود في كل طبقات المجتمع الإنساني على السواء، ويظهر على صور مختلفة وأشكال متباينة. وليس المراد بهذا القول عدم وجود أدلة ظاهرة تدل عليه، أو مميزات خاصة يعرف بها؛ إذ جل القصد من هذا التوكيد النجاة من الخلط بين الأعراض الباطلة والجواهر الحقيقية؛ فالاعتدال روح لا مادة، والإنسان المعتدل هو الذي ينحصر اهتمامه في أن يكون إنسانا «بكل معنى الكلمة» فيتكمل بكل صفات الرجولة ليكون رجلا لا أكثر ولا أقل. وليس هذا يسيرا ينال ولا صعبا يستحيل كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، على أنه لا يتأتى تحقيقه إلا إذا ارتبطت الإرادة والعمل بنواميس الاجتماع، وطابقت مشيئة الخالق وحكمته في خلق الإنسان ووجوده. ومعنى هذا أن تقف الخلائق عند الحد المعين لكل منها، وأن تكون لما خلقت له فقط، فيبقى الطير طيرا والحجر حجرا والإنسان إنسانا، فلا يصير ثعلبا محتالا ولا يمسخ وحشا ضاريا.
الحياة عبارة عن اتحاد المادة بالقوة وعملهما معا، غير أن بعض الماديين قد ذهلوا عن ماهية الحياة. ولما كانت رغبة الإنسان واهتمامه منصرفين إلى زيادة قيمة الحياة والسمو بها إلى الأوج الأعلى، فلا يمكن تشبيه الوجود بالمادة الأولى الأساسية لكل شيء. وليس الغرض ماهية الوجود، بل نتيجته ومؤداه. كما أن العبرة ليست بمادة الأثر الثمين، ولكن بما فيه من إحكام وإبداع. والمواد تختلف اختلافا نوعيا؛ فمنها الذهب والرخام والخشب والتراب، ومع أن للذهب قيمة ثمينة فقد يسيء صانع في صنعة ما يصوغه منه فيحط من قيمته، ويوفق آخر إلى عمل أثر خالد من التراب، لا يقدر له ثمن ولا تجد له قيمة. فالحكمة إذن في صوغ حياة الإنسان وتنسيقها؛ لتكون في أجمل وأجل مظاهرها الصادقة التي ترفع قيمتها وتشرف قدرها.
ومن الصفات المحسنة ذات الاعتبار في جميع الأزمنة وسائر الأمكنة العدل والحب والحقيقة والحرية والإحساس والشعور، وهذه الصفات تلائم كل أفراد الهيئة الاجتماعية على اختلاف الطبقات في كل العصور، وليس من المحال اعتيادها والتطبع بها مهما اختلفت درجات الناس في التربية والتهذيب. ومن هذا نعرف أن قيمة الرجل ليست بماله ولا بمميزاته الشخصية، بل بصفاته وبالكمالات التي عني لها، فالعبرة بالصفة الحقيقية لا بالرونق الظاهر.
ومن البديهي أنه لا يمكن الوصول إلى هذه الغاية بدون جهد وتعب؛ لأن روح الاعتدال ليست مما يتوارث، ولكنها جعالة جهاد طويل وثمرة سعي متواصل.
Halaman tidak diketahui
يحاول الناس استخراج القواعد من مجموع الأحوال المتغايرة، ولكن كم يلزم من الزمن والتجاريب والتعب والعناء لتقرير حقيقة صغيرة في كلمات مسطورة؟
هذا هو حالهم في أمر التربية الأخلاقية، فكم يخلطون ويتطوحون ويبحثون ويجربون فيضلون شأوهم ويتيهون عنه. ولعل الإنسان مع توالي العمل والتحقق من كل شيء بالغ من معرفة أسرار الحياة وحل رموز المشاكل، حيث يستطيع استنتاج القاعدة العامة والقانون الأساسي للنظام؛ وهو «عمل الواجب». وكل ساع إلى غير هذا الغرض العام عابث بالقصد من الحياة، وقاض على نفسه بالخروج من عالم الأحياء العاملين، وما هو في الوجود إلا الحي الميت، لا شأن له ولا قيمة. وممن يهملون هذا الغرض الشريف الأناني والطماع والبهيمي عبد الشهوة؛ أولئك الذين يعبثون بحياتهم عبث الزارع بزرعه إذا حصده قبل أن يثمر وينضج. أما من يضحي حياته في سبيل الكمال فإنه يحييها ويرقيها ويربحها ربحا.
والقواعد الأخلاقية التي تظهر شاذة لصغار العقول وقصار المدارك، وتلوح لهم من الوسائل المضعفة من النشاط المقوضة لأركان الحياة، لم يشاهدوها إلا معكوسة، ولم ينظروا إليها إلا بمنظار أسود؛ لأن كل المبادئ السامية ترمي إلى رقي الحياة وإلى إعداد النفس للكمالات. ولهذا ترى النزر الأعمى المضلل يحوم حول نقطة واحدة؛ وهي الحرص على الراحة والحياة المادية. وهذا يخالف كل التعاليم الصحيحة العالية؛ لأنها تدفع الإنسان لبذل الحياة، واحتمال النصب في سبيل استثمار المجهودات النفسية، وترقية الروح للتكمل بجليل الصفات.
وعلى قدر الجهد الذي يبذله الإنسان لنفعه وخيره الخاص يكون مقدار تمسكه بالمبادئ التي تعب في اكتسابها، واقتنع بسموها وتحقق صلاحها. وعلى قدر تمسكه بها تكون قيمته الأخلاقية ومركزه الأدبي. ثم يسير في طريق الحياة وله وجهة معروفة وخطة مرسومة، واثقا من نفسه بعد طول التردد والشك، عالما بمجاري الأمور والأحوال بعد الجهل والتخبط، فيستطيع إذ ذاك الحكم في الأمور وتمييزها بصورة لا تقبل النقد والتثريب. حتى إذا تشبعت روحه من حب جلال الحياة الحقيقية وشرف المبادئ السامية، وانصرفت إلى الحقيقة وحب العدل بقي لذلك أثر خالد في قلبه لا يزول ولا يمحى، وتكملت نفسه بسائر الصفات الممدوحة وصار للوجود مطلق السلطة والنفوذ؛ فيصغر العرض أمامه ويتلاشى فيشمل النظام أحوال الإنسان وأعماله، ويكون معتدلا بالمعنى المقصود بالاعتدال.
انظر إلى الجيش تجده قويا كلما حسن نظامه وأحكمت قيادته. والنظام قائم باحترام المرءوس للرئيس وبالقصد إلى غرض معين من طريق معروفة، فإذا ساد الخلل نزل الضعف منزلة النظام وأغار الوهن على القوة فتركها بددا.
وليس من النظام أن يخضع القائد للجندي. وهكذا يكون الحال في شئون الإنسان والهيئة الاجتماعية فينبغي أن يخضع المرءوس للرئيس بوجه عام، فحيث ترى خللا سائدا أو ثلمة في نظام الاجتماع فكن على ثقة من أن منشأها تجاوز الفرد حده وشروده عن محجة الصواب. وفي كل بقعة من الأرض نبت فيها الاعتدال ووقفت نفوس أبنائها عند حدودها وقنعت بحظوظها؛ ترى النظام تاما كاملا حقيقيا بأجلى مظاهره ومعانيه، فإذا ما عرفنا قدر الاعتدال قلنا: إن كل تعريف له قاصر عن بيان معناه تماما، وإن كل عبارة واقعة دون المرام، وكل قوى العالم وجماله وجلاله، وكل المسرات الحقيقية التي تعزي الإنسان وتقوي الأمل، وكل الحقائق التي تضيء طريق الحياة ومهاويها المخيفة؛ هي من نتائج الاعتدال، ومن أعمال المعتدلين الذين لم تستعبدهم النفس بأميالها المتعددة، فغلبوها ورموا إلى الغايات الشريفة والأغراض الوجيهة السامية، ولم يتركوا لحب الذات والزهو سبيلا إلى قلوبهم؛ لأنهم عرفوا أن الرفعة الحقيقية وقيمة الحياة في العمل الجليل والذكر الخالد.
الفكر والاعتدال
لا يكفي للإنسان أن يسعى لترتيب أموره الدنيوية وأحوال معيشته وحياته، بل يجب أن يهتم أيضا بفكره فيطهره من كل الأدران التي تشوبه وتضلله؛ لأن الفكر السخيف منشأ الاختلال والفوضى، ولما كانت طريق الحياة وعرة كثيرة العقبات والمزالق وجب أن يكون الفكر سليما صحيحا؛ ليتيسر له تمييز الغي من الرشد، واطراح كل رأي سقيم ومعتقد باطل لا يظهر الإنسان بمظهر الرجولة الصحيحة، ولا ينشط به إلى طريق الكمال والرقي.
الفكر أداة من الأدوات النافعة للمجموع، وليس من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها؛ فيجب الاهتمام به اهتماما كليا وتربيته تربية كفيلة بالتثقيف والتقوية؛ ليؤدي الوظيفة التي خلق لها، وإلا فلا فارقة تميزه من خواطر الحيوانات والهامات.
أطلق قردا في مكان أحد المصورين تجده يبتهج لمرأى الرسوم والصور وأدوات الرسم، فيتنقل بينها مسرورا، ثم يعود فيعبث بها، فيحطم اللوحات البديعة؛ لينظر ما وراءها، ويمزق الأقمشة بأنيابه الحادة؛ ليرى ما في باطن صورها، ويذوق مواد الألوان، ثم يمتعض لطعمها فينثرها في أرض الغرفة، ولا يترك شيئا في مكانه. ولا شك في أن القرد يسر بما يعمل ويلهو بهذا الإتلاف، ولكن أماكن المصورين لم تخصص للقرود، ولم تنسق ليتلفها هذا الحيوان الخبيث. فكذلك الفكر ليس مكانا للتجارب البهلوانية، ولم يخلق للهو به وإجهاده فيما لا يفيد، ومن أشد الأخطار على الإنسان أن يجعل فكره لعبة يسلو بها ويلهو، فلا يكون يوما ما فكرا راقيا يميز ويدرك.
Halaman tidak diketahui
ومن المضار المتفشية جنون الإنسان بمعرفة قدر نفسه ومنزلته بالنسبة للآخرين. وليس الضرر في فحص الضمير والقلب للتحقق من وجود الميول الصالحة والمبادئ الشريفة؛ لأن هذا الفحص مما يساعد على التقويم والتكمل. وإنما الضرر في الاغترار بالنفس، وحب الظهور بمظهر المتفوق على الغير الممتاز عنهم، وكل عامل يقضي حياته في فحص آلة عمله على تحققه صلاحها يفسدها ولا يتمم عملا. ومن أراد أن يمشي فليس في حاجة لطبيب يفحصه ويقرر قدرته على المشي، فحسبه أن يتحقق وجود قدميه، ويقوم عليهما، ويسير في طريقه محترسا من السقوط مستعملا قوته بتؤدة وحكمة؛ لكي لا تنفد قبل الوصول إلى غايته. وحسب الإنسان أن يكون على شيء من التعقل؛ ليعلم أنه خلق للعمل، لا لقتل الوقت في تأمل ذاته في المرآة. ولكن التعقل أصبح نادرا بين الأفراد كسائر الصفات الحميدة، بل أصبح من العوائد المنبوذة والصفات الخلقة، التي يستعيض عنها عشاق المدنية بسواها فيضلون سواء السبيل. ومن المحقق أن الاتصاف بالشطط والإفراط والتطرف بدلا من الارعواء والاستقامة؛ تكون نتيجته إصابة الهيئة الاجتماعية بكل أنواع المسخ والبتر والتشويه، وإبعادها عن الحكمة وأصالة الرأي.
المستحدثات طارئة تتجدد، ولكن الفكر والتعقل والتبصرة من الدعائم الأساسية التي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، فمن تجرد منها ساء مصيره، ومن حازها واحتفظ بها اعتدل وأمن شر العاقبة. وليس التعقل من الصفات الغريزية التي توجد عفوا في جميع الناس، ولكنه من الصفات التي تكتسب بعد عناء طويل وكد متواصل. وهو كنز من أثمن الكنوز وأنفسها قدرا، ولا يعرف قيمته إلا من يكون حكيما لا يرضيه الشطط والتطوح مع الأهواء. والعاقل من يستهين المتاعب، ويستقصر الزمن الذي يلزم للتكمل بهذه الصفة الحميدة، فيكون بصيرا بالأمور والعواقب حكيما سديد الرأي. إن صاحب السيف يخاف عليه من التثني والتعوج ولا يتركه طعاما للصدأ، بل يتعهده بالنظافة والعناية، فإذا كان هذا حظ قطعة الفولاذ التي لا تنفع في كل آن مع تيسر وجود عوضها، فما بالك بالعقل - وهو الجوهر الذي يستحيل إصلاحه - إذا فسد، أو الاستعاضة عنه بغيره إذا اختل؟
وليس من العقل التشبث بمذهب الرافضين؛ أي عدم التصديق والإيمان إلا بما يتحقق بالاختبار، ذلك المذهب الجامد الذي ينكر كل ما لا تشاهده العين أو تلمسه اليد؛ لأن التقيد بهذا القيد الضيق يحصر العقل في دائرة ضيقة، ويترك الفصل في الأمور للحواس المادية، فيلاشي مواهب الإدراك والتمييز وصحة الحكم. وهذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية وأشدها تعقيدا؛ لأن نشاط العقل لمعرفة الغوامض شديد الخطر؛ فهو أبدا يبحث عن تلك الأمور المتوارية في ظلام الغيب، والتائهة في دياجير المجهول، ومن المؤكد أن البحث العقلي من أشق الأعمال وأكثرها حاجة للتروي والصبر، فإن استقصاء الحقائق والعثور عليها ليس بالأمر الهين، ولكن الحاجة الماسة تدفع الإنسان إلى البحث، وتسهل له سبيل الاستدلال فيصل إلى الحقيقة. •••
إن مجرد الوجود لا يستدعي التعقل؛ لأنه سابق له وغير مرتبط بالعلم والجهل؛ إذ هو وجود حيواني لا مزية له إلا بعد التهذيب والتثقيف. وقد خلق الإنسان قبل أن يفكر وفكر بعد أن خلق ووجد، فكان وحشا قبل رقي مداركه وصار إنسانا بالمعنى الصحيح بعد أن تحلى بحلية العقل المهذب والتمييز عن معرفة، فمهد السلف سبيل الحياة للخلف، وأوجدوا أضواء الحقائق التي تنير ظلام الحياة وتكشف سبلها المتشعبة، فلم يبق على الإنسان إلا أن يتعرف ما أمامه، فيعيش آمنا ميسورا بدلا من أن يقضي كل حياته عبثا دون الانتهاء إلى نتيجة من البحث والتنقيب.
ولولا الحقائق والخطط القويمة التي اهتدى إليها السلف ودونوها لوقفت حركة التقدم، ولما خطا العالم خطوة واحدة في سبيل الرقي والكمال؛ لأنه إذا كان كل فرد يبدأ بالعمل لنفسه، فإنه لا ينتهي من البحث والاهتداء إلى الحقائق إلا وهو في آخر مرحلة من العمر، وقدمه على حافة القبر، فتنطفئ حياته قبل أن يستفيد بما قضى العمر للحصول عليه، ويترك المجال لمخلوق جديد يعيد الكرة لينتهي إلى مثل هذه النهاية، فلا يكون هناك مجال للتمتع بلذائذ الحياة، ونعيم العيش، وتكون الدنيا دار شقاء ونصب لا دار نعيم وسعادة، وهذا ضلال مبين.
الحياة أمد قصير وزمن لا يطول ومعترك ومضمار جهاد، فمن غفل سقط قبل أن يلتفت إليه غيره؛ لاشتغال كل فرد بأمر نفسه وانصرافه لمقاومة تيار التنازع والوصول إلى شاطئ السلام، والفائز من عني للنجاة جهده. فليس على الإنسان إلا الامتثال لما هو حتم على كل نفس، ومقابلة متاعب الحياة ومقتضياتها بصبر ورضاء؛ فإن التذمر لا يجدي نفعا ولا يدفع مقدورا. ولا يتوهمن أحد أن الحالة تسوء من يوم ليوم، أو أن العصور الغابرة كانت خيرا من الحاضرة؛ لأنه ليس في الاستطاعة الحكم على أحوال الزمن القاصي حكما صحيحا، كما لا يمكن للعين التثبت من حقيقة الأشياء البعيدة تثبتا تاما. ومما لا ريب فيه أن حياة الإنسان - منذ بدء الخليقة إلى الآن كانت ولم تزل - مشوبة بما يتقزز منه ويتأفف، وإن اختلفت الأسباب والأعراض. ولم يصل الفكر ولا البصيرة في أي عصر للدرجة التي تكشف للمخلوق حجاب الغيب، فيطل منها على المستقبل ويهتدي إلى الحقائق.
فلا فارق إذن بين إنسان اليوم ورجل العصر البعيد، كما أنه لا فارق أيضا في ذلك بين المرءوس والرئيس والمتعلم والعالم والصانع، فكلهم عاجز عن إدراك أبعد غايات العقل والاستئثار بالفهم والحكم، فهم يقدرون الأمور - كل على قدر عقله - ويتوسعون في البحث والحكم - كل على قدر بصيرته وسعة مداركه - فتتجلى لهم الحقائق على مقدار ما لهم من وفرة الاختبار وقوة التمييز.
وإن ما وصل إليه العالم من العلم والتنوير واكتشاف بعض الحقائق قد أفاد المجموع فائدة مذكورة، ولكنه لم يكشف طريق المجهول، ولم يصل لحل كل مسائل الاجتماع، ولم يرفع من سبيل الحياة كل الحواجز والعقبات الحائلة دون الحقائق، ولا يزال العقل يصادف طلاسم يتخبط فيها دون أن يهتدي، ولا تزال الحكمة والفلسفة تشتط في مجاهل لا حد لها ولا غاية، ولكن من يعرف أن الظمآن يرتوي بقليل من ماء البئر يجد الحياة ممكنة باليسير الذي توفق إليه الإنسان، كما كانت ممكنة من قبل لمن جهل كل الحقائق، وكتمت عنه أسرار الوجود ونظام العالم، فالحياة ممكنة والاعتدال في الحياة غير المحال، ولا يستدعي ما لا طاقة به للإنسان، ومن اعتدل فكره اعتدل قوله وانتظم عمله.
والاعتدال في الفكر يستدعي التوكل والأمل والطيبة.
التوكل ركون واعتماد بعد ثقة، وإيمان عن اعتقاد بعد تصديق، لا عن وراثة واعتياد.
Halaman tidak diketahui
والإيمان يقوي الفكر ويقيه شر الاندفاع إلى ما وراء المعلوم، ويوقفه عند الحد الجائز، ويجعله كثير الثقة بالخالق، وبخلود العالم إلى ما شاء الله، وبحسن عناية الله بنظام الوجود وسائر الكائنات، فيرتاح خاطر الإنسان ويطمئن ويعيش هادئا آمنا، كما تعيش الأزهار والأشجار والحيوانات وسائر المخلوقات التي لا تفكر ولا تبحث في كيفية الوجود وسر الحياة.
والعقيدة الثابتة تجعل الإنسان واثقا من إشراق الصباح، وانسدال الليل، ونزول الأمطار في أوانها، وجري الأنهار والجداول إلى مصابها، ومن وجود الهواء الكافي للخلائق، وسائر الحاجات الضرورية للحياة، ودوام وجود هذه الضروريات؛ لأن كل ما كان لحاجته وحكمته يكون ويبقى ولا يتلاشى، فالتوكل من أسباب الراحة والطمأنينة، ولما كان هذا المبدأ مدعاة النشاط وحب الحياة فهو يحسن الحياة ويجملها.
الإيمان هو السر الوحيد الذي ينعش النشاط في الإنسان ويجدده ويدفعه وراء الرزق، فيسعى في مناكب الأرض ويضرب في مناحيها طلبا للعيش وضروريات الوجود، فكل ما يزعزعه يكون شرا على الحياة من السم الزعاف، كما أن من شر المصائب التي عم ضررها على الاجتماع، واشتدت الشكوى منها انتشار الفلسفة العقيمة، التي تؤدي إلى تنفير الناس من الحياة، وتحويل أنظارهم عن جلالها وحسنها، وتصويرها في أشنع الصور وأفظع الأشكال.
ولو سألت أحد أولئك الدعاة عما اكتشفوه من العلاج، وهل في الاستطاعة ملاشاة الحياة في ذاتها - ولا أقصد بذلك إزهاق النفس، بل زوال سر الحياة وحقيقة الوجود - لكان الجواب سلبا. أوليس الأجدر إذن بالناس أن يحترموا سر الوجود، ويتركوا غيرهم يتمتع بالحياة بدلا من أن ينغصوا على أنفسهم وعلى الناس العيش ويقللوا الراحة؟
وإذا كان المرء لا يأكل شيئا وثق من ضرره وعدم صلاحيته للأكل، أفليس الأخلق به أن يطرد عنه كل الأفكار السخيفة التي تؤذيه في الحياة أثمن هبات الله ومنحه للإنسان؟
لا يوجد من أولئك الفلاسفة المتشدقين بأقوالهم من أقام دليلا منطقيا يحط من قدر الحياة، وينفي سرها الإلهي العجيب؛ لأنه يجب على من يريد الدليل أن يفحص الحياة أولا، ويعرف ينبوعها وأسرارها حتى يستطيع الحكم والتعليل، وذلك ليس في استطاعة الإنسان ولا في قدرته. ومع وضوح هذه الحقيقة فكم نرى أولئك المشاغبين يتحمسون في صيحاتهم ونشر آرائهم! كأنما هم الذين خلقوا العالم وأحاطوا علما بما فيه من أسرار غامضة وعجائب مدهشة، وهذا نهاية في الحمق وغاية في الجنون، فخير للإنسان أن يغذي فكره بالآراء الصالحة، ونفسه بالحقائق الثابتة بدلا من أن يقتله بالسفسطات والأباطيل. •••
الأمل هو الثقة بالمستقبل، والحياة - في ذاتها - عبارة عن رغبة وعمل ونتيجة، وكما لها بداءة فلها نقطة اتجاه ونهاية. وكل إنسان يؤمل قبل أن ينال، وينال بعد أن أمل، وعلى قدر قوة الأمل ومقداره يكون المستقبل، فالأمل ضروري؛ لأنه لا حياة بدونه.
والقدرة التي خلقت النفس وأوجدتها بعثت فيها الأمل، وحثتها على التطلع والطموح، وإلا فلا معنى للخضوع للشرائع السماوية، ولانتظار الأجر والثواب في الدار الأخيرة والنعيم المؤمل. وكل حوادث الحاضر تدل دلالة واضحة على أنه لا يتم شيء في الوجود بغير الأمل؛ فالعابد يعبد الله أملا في خير الجزاء، والصانع يجهد نفسه ويعمل أملا في الأجر، والتاجر يخاطر بأمواله ويكد ويكدح أملا في الربح. فلولا الأمل لما كانت عبادة ولا صناعة ولا تجارة ولا حرفة ولا مهنة. ولولا الأمل لما كان الوجود. والتاريخ أكبر شاهد على أن الأمل وحده هو الذي نشط بالخلائق إلى مراقي الفلاح وذروات المجد والسؤدد، ولولاه لما فاز العالم بهذا النصيب الوافر من الإثراء والرقي الأدبي والعلمي. الأمل يخفف الأحمال الثقيلة ويلطف الآلام، ويساعد العاثر على النهوض والمعدم على تحمل أرزاء الفقر والعوز، ويحول بينه وبين اليأس الوبيل. الأمل أكبر عزاء للمنكوب، وأقوى أساس لنظام العالم.
ولو قيد الإنسان فكره بالحقائق الواضحة، ولم يقتنع بغير الأدلة العقلية، والحجج المنطقية لاستنتج أن الموت هو النهاية الوحيدة لكل الكائنات الحية، وأنه السيف المسلول الذي يهدد الحياة في كل لحظة؛ فيشتغل به الفكر رهبة منه، وينظر إلى الحياة من وجهها الأسود فيتلاشى الأمل ويقل نشاط العاملين، وتقف حركة العالم ويتطرق الخلل والجمود إلى هذا المجتمع العامل النشيط. ولكن الأمل - والحمد لله - باق وله النفوذ الأقوى في نفوس الخلائق وأفكارها، وهو المنشط الوحيد الذي يجعلها تتعلق بالحياة ومتاع الدنيا فتعمل وتجد.
فحتم على العاقل ألا يحقر طموح النفس وتطلعها إلى المستقبل، بل يجب عليه احترام هذا الأمل أينما كان، وعلى أي صورة وجد، سواء تمثل له في رأس الطائر الذي يجمع القش لبناء عش لفراخه، أو في نفس الحيوان الطاحن المجروح، الذي يقع ويقوم في كل خطوة من خطواته ساعيا وراء رزقه، أو باحثا عن ظل ظليل يرقد فيه ليستريح، وسواء في قلب الفلاح الذي يقضي نهاره في الحقل عاريا يحرث ويفلح الأرض ويبذر أو يروي أو يحصد.
Halaman tidak diketahui
لنحترم الأمل ونحيه، ولو كان في الخرافات والقصص أو في الأغاني والأناشيد العامية؛ لأنه عماد القوة والمنشط الوحيد للعالم، وعليه مدار النظام والترقي. ولكن مما يؤسف له أن إنسان اليوم أكثر الخلائق خوفا من المستقبل، وأقلها أملا؛ فهو يخشى سقوط الرجوم واصطدام الأرض بأحد الكواكب أو المذنبات،
1
ويرقب - في كل لحظة - نهاية العالم ودنو الساعة الأخيرة، ويزيد هذا الخوف تكهن بعض علماء الفلك بأمثال هذه الأمور والهذيان بالنبوات المخيفة؛ لتتناقل الصحف أسماءهم، ولكي يطيرها البرق إلى أنحاء المعمورة، فيصدع بها الآذان ويملأ القلوب خوفا والأفواه شقشقة وأفكا.
فالحكيم من يثق بقدرة الخالق على تدبير ما خلق، وبأن من أوجد النظام الإلهي العجيب ليس بعاجز عن ضبطه وإحكامه، وبأن من خلق هذا العالم البديع لا يتركه للفناء والزوال بغير إرادته ومشيئته، فلا تكون النهاية على ذلك الشكل الخرافي الذي تختلقه وتتوهمه العقول السخيفة. والعقول البشرية مهما ارتقت قاصرة عن إدراك كنه الكون وأسراره العجيبة، وما وقف عليه الإنسان من المعلومات تافه في جانب الحقائق المجهولة والمبهمات الغامضة الخفية. فيجب على المخلوق أن يعترف بالقصور، وأن يكل نظام الكون لخالقه، ويشتغل بأموره الدنيوية، وأحواله الاجتماعية، ويقوي الأمل ما استطاع، ويسد المنافذ في وجه اليأس؛ لأنه من العوامل القاضية على الشجاعة وحب العمل.
ولماذا يتطرق اليأس ما دامت الشمس لم تنقطع عن الإشراق والأرض عن الإنبات؟ لماذا نيأس والحياة لم تزل كما هي؟ فالعصفور يغرد وهو مهتم بصنع وكره وجلب الطعام لأفراخه، والأم لم تزل تبسم لطفلها، والوالد يسعى في طلب الرزق ليعول امرأته وأولاده. لم نيأس ما دامت النجوم ترصع السماء، والقمر يطل بوجهه الفضي على جيوش الظلام فتتبدد وتمحى؟ لماذا نيأس من رحمة الله ونضعف نشاطنا بأمثال هذه الأوهام والأباطيل؟ الأمل الأمل؛ فهو سبيل الفوز والنجاح، وحذار من اليأس؛ فهو مدعاة الفشل والحبوط. •••
الطيبة من لوازم الرجولة، ولست من القائلين: إن الكمال غريزي في الإنسان؛ المعتقدين أن منشأ الفساد العشرة أو البيئة الفاسدتان. ولكنني ممن تسوءهم العادات السيئة، وجلها موروث. ولو قابل الإنسان أصحاب هذه السيئات بما يستحقه المسيء المؤذي لما بقي في العالم نزر من خلق الله. ولا أظن في الوجود من ينكر البغضاء والفساد والتعدي على الغير والاسترقاق، وأشباه هذه الرذائل التي تأباها النفوس ولا تتحملها إلا مكرهة مغلوبة على أمرها. وليس من يشك في أنها من أكبر الوسائل التي توتر القلوب وتملؤها بالأحقاد والضغائن، وتسوق الإنسان سوقا في طريق الانتقام من الظالم بأية وسيلة ومن أي طريق. فلولا الطيبة واستسلام الإنسان لقدرة الخالق وعدله الإلهي لفسدت الأرض وشربت الدماء.
الطيبة ينبوع ماء حي يروي النفوس ويطفئ فيها نار الخصومة، وهي من منح الله التي تحفظ النظام، وتلطف شرور العالم وفجور الإنسان. وهي أبدية لا تزول، وجدت من ابتداء الخليقة وستبقى إلى ما شاء الله، على وفرة ما يناقضها، ويشوه جلالها، ويعمل على محوها من القلب، فإن لها فيه خصوما عدة؛ منها: القسوة، والخبث، وحب السلطة، والأنانية، والكفران بالنعمة . وأقل هذه الرذائل ينزل بالإنسان إلى أحط منازل الحياة وأسفل دركات الشقاء، ويطوح به إلى بؤرة الرذيلة ويسوقه إلى التعدي على مال الغير وحياته، ولكن المألوف انتصار الطيبة على كل هذه النقائص وفوزها عليها جمعاء. وما أكثر الحوادث التي تغلبت فيها الطيبة على كل ضروب القسوة والتوحش، وأخضعتها فدانت لها وصغرت.
الطيبة تصلح ذات البين وتعزي المنكوب وتلطف آلام الشقي وتكمل صاحبها وتجمله، ومن خاصياتها التواضع والصبر على الضيم. الطيبة بلسم الجراح تمسح الدموع، وتقوي الفقير على احتمال الفاقة، وتضمد القلوب المكلومة، وتساعد على السماح والغفران. وهي الصفة الرئيسية التي يحتاجها النوع البشري ويفتقر إليها في كل أدوار الحياة. •••
فمن رام أن يكون على شيء من الاعتدال - بالمعنى الصحيح - فعليه بالتوكل والأمل والطيبة. وإنني لا أريد تخوير عزائم المتطرفين ولا تخدير نشاطهم، كما أنني لا أبغي ردع المولعين بكشف سر المجهول، ولا زجر الباحثين عما وراء الغيب، والمتعمقين في المباحث الفلسفية أو العلمية. وإنما أروم الركون إلى الحقائق بدلا من التشبث بما لا يفيد، والكد وراء ما لا يدرك ولا ينال. فإن من أسرار الحياة والمسائل الاجتماعية ما يتساوى في معرفته والوقوف على غوامضه العالم المفكر والجاهل الغبي؛ لأنها فوق قدرة الاثنين، وليست في متناول العقل والإدراك، فمن أراد الله به خيرا وعى هذه الحقيقة بلا جدل، وكف عن الضلال، وارعوى عن الغي، واعتدل في حياته وفكره.
ورب معترض يزعم أن التوكل من النظريات الدينية التي تثبط الهمم، وتهمد العزائم، وتمنع المخلوق من السعي والدأب على العمل، فيحسن الرد عليه بأن الدين نفسه فرض على الإنسان العمل والسعي في طلب الرزق، فقد جاء في الإنجيل: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» وجاء في القرآن:
Halaman tidak diketahui
فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه .
وليس بين كل الأديان دين يدعو إلى الخمول والكسل انتظارا لفيض نعم الله وبركاته، وإنما كلها تدعو إلى العمل والاجتهاد، مع التوكل والاعتماد عليه تعالى.
ولو سأل سائل عن أحسن الأديان لما استطاع حكيم الإجابة على هذا بغير تفكر طويل ومخاطرة؛ لأن الأديان جميعا تدعو إلى الفضائل، وتحرض على اجتناب الرذائل. والعقل يتحاشى الجزم برأي معين عند ولوج مثل هذا المبحث؛ لأنه لا يستطيع تفضيل شريعة على الأخرى بغير تحامل وتحيز، وبغير إثارة سخط البعض على حكمه، مع أن الحقيقة لا بد وأن ترضي الجميع، ولا يقوم دليل على غير صحتها.
فخير ما يفعل العاقل أن يضع السؤال على صورة أخرى، ويسأل عن ماهية الدين القويم الصالح للدنيا وللآخرة، فيكون الجواب أن الدين القويم هو الذي ينير البصائر، ويرفع قدر الحياة، ويحض على العمل مع التوكل والأمل والطيبة. الدين القويم هو الذي ينتصر للخير والفضيلة، ويخذل الشر والرذيلة، وينشط الإنسان، ويدفعه إلى التكمل بالفضائل والصفات الحميدة، وإلى اكتساب كل خلال الرجولة الحقة. الدين القويم هو الذي يعين على احتمال الآلام بصبر وقبول، ويدعو إلى احترام الغير ومراعاة حقوقهم، ويساعد على التسامح، ويقلل من الكبرياء والعتو، ويحث على عمل الواجب.
فالدين الذي تكون هذه تعاليمه هو الدين الصحيح، وشريعته هي الشريعة السمحاء التي تقرب الإنسان إلى الله، وتجعله من عباده المتقين.
وكل دين تزين تعاليمه الخيلاء والكبر والأفضلية على سائر المخلوقات البشرية، وتدعو إلى النزاع والشقاق، وتدفع إلى التغلب على الغير والاستئثار بإرادتهم وحريتهم، أو ترمي إلى انقياد الإنسان نفسه للصغار، فما تعاليم مثل ذلك الدين إلا باطلة وفاسدة، لا ترضي الخالق ولا المخلوق، بعيدة عن محجة العقل والصراط المستقيم.
فهل لا ترى في التعاليم الأولى جلالا واعتدالا، وفي الثانية صغارا وشططا؟ وهل يكون للفكر السخيف قوة على تمييز الحسن من القبيح، أم يسقط بصاحبه فيكون من الضالين الذين ساءوا منقلبا، وكانوا من المفسدين؟
ألا إن مدار الحياة ورقي الاجتماع على الفكر السليم المعتدل؛ لأنه ينبوع الحكمة وعماد النظام وأساس الرقي والكمال.
القول والاعتدال
للإعراب عن الفكر عدة وسائل، أهمها: القول؛ وهو مقياس العقل وميزانه. فالعاقل من يربأ بلسانه أن يهفو، وقلمه أن يشط ويجعل قوله حكيما كفكره، والحكيم من يفكر بروية ويتكلم بصراحة.
Halaman tidak diketahui
والثقة المتبادلة حلقة توثق بها الروابط الاجتماعية، ومدار الثقة على الأفراد أنفسهم ومبلغهم من الصدق والشرف، فإذا ضعفت هذه الخصال قلت الثقة واختل النظام وقضى على الراحة والأمن جميعا.
وما هذه النظرية إلا حقيقة مشاهدة في المعاملات المادية والأدبية، فكما يصعب التعامل مع من لا يوثق بهم، فكذلك يصعب الاهتداء إلى الحقيقة من أقوالهم. ومن البديهي أنه إذا شردت الأقوال عن محجة الصواب، وبعدت النيات عن جادة الصدق واتخذت سبيل التضليل والإغراء؛ كان ذلك سببا لتعدد مشاكل الحياة وتعقيدها واختلال نظام الأحوال. وهذا هو الواقع اليوم والمشاهد الملموس الذي لا ينكر، فالعالم مملوء بدهاة الرجال والمحتالين الذين لا هم لهم إلا اختداع الغير وتضليلهم، فوالحالة هذه لا غرو أن يشق على الناس تبين الحقائق والاهتداء إليها في بيئة مملوءة بالمفاسد والأباطيل. •••
لقد كانت وسائل التفاهم وتبادل المنافع في الماضي بسيطة ومختصرة وقليلة، وكان المرجح أن تحسنها يرقي المدنية الصحيحة، ويكون واسطة لتقريب الشعوب بعضها من بعض، وربطها بروابط المنافع المادية والأدبية، فيكون ذلك سببا من أسباب السلام وتبادل الحب والاحترام.
وكان المنتظر أن يعيش أفراد الأمة الواحدة كالأخوة فيما بينهم؛ لكثرة الأواصر التي تربطهم ووثوق العرى التي تجمعهم معا، وكان المؤمل أن يعملوا معا لتقويتها وصون المنافع المشتركة. ولذلك هللت الخلائق فرحا عند اختراع آلة الطباعة وتفاءلوا خيرا، وتضاعف السرور والاغتباط بانتشار المطبوعات، وانصراف القوم إلى التعليم والتثقيف، وانعكافهم على مطالعة الجرائد والمطبوعات الدورية؛ ظنا منهم أن الأضواء الكثيرة خير من الضوء الواحد، وأن الفوائد الجمة خير من الفائدة المفردة، واعتقادا بأن انتشار الصحف والمجلات والكتب واسطة لترقية الأفكار، وتهذيب العقول، وانتشار العلم، ورفع حجب الجهل عن الأبصار والبصائر، وتسهيل جمع وتقرير الحوادث لمن شاء من المؤرخين والكتاب. وهذه هي النتائج الصحيحة الطبيعية التي تتبادر إلى الذهن في بادئ الأمر. ولكن الأمور جرت - ويا للأسف - في غير هذا السبيل، فجاءت النتائج بعكس ما كان ينتظر.
وكأني بالناس انصرفت أنظارهم إلى الآلة وقوتها، وإلى الفائدة الوقتية المتوخاة منها. وذهلوا عن أمر العامل الذي يديرها، وعن روحه التي هي مبعث تلك القوة وعلة تلك الفائدة؛ فاغتنم السفسطائيون والأفاكون وذوو الأقلام المرة والألسنة الذربة فرصة الذهول هذه، وبادروا إلى تسميم العقول، وتضليل الألباب بما باتوا ينشرونه من المبادئ الفاسدة والأباطيل والأضاليل، بحيث أصبح الوقوف على الحقائق والمبادئ الأولية ضربا من المحال.
ولئن وجد بين المطبوعات كتاب أو صحيفة تنشر الحقائق مجردة من الغايات السافلة، وتعمل بنزاهة لربط أواصر الصداقة بين الشعوب والأمم، فهناك آلاف سواها - ومن نوعها - تفتري الكذب وتؤيد الزور؛ لتعبث بهذه الثقة المتبادلة وتحل العرى الموثوقة، وتبذر بذور الشقاق والبغضاء بما تنشره من التهم الباطلة، وتقرره من الأكاذيب الملفقة، وتحدثه من اللجب والضوضاء بلا داع ولا سبب. وسواء في ذلك ما يختص بالأحوال الداخلية أو الخارجية وما يتعلق بسائر الشئون العمومية من تجارية وصناعية وزراعية إلى غيرها. فمن العسير، بل من المحال الوقوف على الحقائق مجردة من الفذلكات والتلفيقات، وخالية من الطلاء الكاذب. وقد بات يصح القول: إنه كلما كثر الاطلاع على المطبوعات والجرائد زاد الناس ضلالا على ضلالهم. وكثيرا ما تململ المطالع من كثرة خداع الكتاب، فمزق ما بيده من الصحف وتيقن أن العالم صار خلوا من ذوي الذمم الطاهرة، اللهم إلا نزرا قليلا مجهولا لا يمكن الاستدلال عليه لضياعه بين هذا المجموع الفاسد. ثم يعود فيسيء الظن حتى بهذا النزر اليسير أيضا؛ لما يراه من تحرش المحررين بعضهم ببعض وافترائهم السوء والقبيح للحط من كرامة أنفسهم، فيحوقل آسفا على ما وصل إليه المجتمع من الفساد والسقوط الأدبي.
وليست هذه الحيرة بمحصورة في أفراد الشعب المعبر عنهم بالعامة أو الجمهور، بل يشاركهم فيها الخاصة أيضا، والمتعلم والفيلسوف والمتأدب وأرباب السياسة وأساطين العلم وعشاق الفنون ورجال الدين؛ لأن الفساد شمل كل الطبقات حتى هال الناس كثرة انتشار الكذب والرياء والخداع، ولم تعد العين تميز الغث من السمين، ولا بقي في استطاعة العقول الوقوف على الحقائق بين الترهات والأباطيل المنتشرة، فبات الجميع في غرور وضلال، واستوى الخادع والمخدوع والمحتال والأبله الغافل؛ لأن نفس المرائي المخاتل لا بد له من الاعتماد على الغير، والاتكال عليه فيكرع من الكأس التي يقدمها لغيره فيتسرب إليه السم الذي يدسه هو لسواه؛ ولذا فالنتيجة العمومية هي فساد الذمم وعدم تبادل الثقة. •••
إن المرائي والمخادع، وسائر أنواع هذه الفصيلة المفسدة من أكثر الناس اعتدادا بسوء الظن وضعف الثقة بالآخرين؛ لما يعرفونه من أنفسهم من خبث النيات وفساد الضمائر، ولما يأتونه من ضروب الحيل وأنواع الخداع والتغرير. ولذلك هم أكثر الخلق عذابا وشقاء؛ لأن إيمانهم ضعيف، ومبدأهم سافل، وغايتهم الوحيدة المنفعة الشخصية. فهم يصوغون القول الصيغة الملائمة لما يعود عليهم بالنفع، وسيان لديهم طابقت الحقيقة أم خالفتها تمام المخالفة.
هذا دأبهم في المعاملة وهم يتوقعون مثله من غيرهم؛ فلذلك هم في شك دائم يضني الأفكار ويأكل القلوب، وهو السبب الأقوى لعدم تبادل الثقة ولسوء الظن بالآخرين، وهو الداء الذي يتأفف منه أولو الألباب والكتاب والخطباء والمعلمون ويحتقره ويمقته كل الناس عامة.
وليس أشد على نفس الحر الشريف من الوقوف على خداع كاتب يزخرف العبارات، وينمق السطور؛ ليخفي بينها الأباطيل الخداعة ووسائل الإغراء. فليس من الشرف أن يخدع الكاتب جمهورا ساذجا مملوءا بالثقة وحسن الظن، ولا من الشهامة أن يقتل المحرر بسموم قلمه هذه الثقة، ولولاها ما عاش ولا اكتسب رزقه وقوت عائلته. ولا من المروءة تضليل المعتمدين على الذمم الطاهرة والإخلاص والصدق.
Halaman tidak diketahui
إن الكاذب المنافق ليؤذي نفسه على تمادي الأيام؛ لأن اليوم الذي يظهر فيه دليل الخداع والكذب سيجيء حتما فتتجلى إذ ذاك حقيقة أمره للعيون، وتزول الثقة فيه فتنفض من حوله القلوب، وتنفر منه الناس. ذلك هو يوم سقوطه من حالق، وتدهوره إلى الحضيض، وضياع كل أمل له في الحياة؛ لأنه لا شيء أشد من سخط الجمهور على المنافق الذي يخدعه ويغرر به، ولا أصعب على الإنسان من توقي هياج الشعب الساخط عند هياجه. إن الأوراق اليابسة لا تقاوم الريح الصرصر، وكذلك المنافق لا يقوى على مناهضة الأمة في اندفاعها عليه لتثأر منه. وإن اليوم الذي يتضح فيه الخداع والنفاق لهو اليوم الذي توصد فيه الأبواب في وجوه المنافقين، وتسد الآذان عن سماع المكر والرياء، بل وعن سماع النصح الصادق والإرشاد الحق، وهذه هي الطامة الكبرى والجناية التي لا تغتفر للذين يخدعون الناس، ويضيعون الثقة بالكتاب والمرشدين.
وإذا كانت القوانين تعتبر مزيفي النقود جناة مجرمين؛ لأنهم يغشون المتعاملين في منافعهم المادية، فما قولك بمن يفسد العقول والضمائر ويزيف النفوس، ويسممها بالكتابات المنتشرة والأقوال المتداولة؟
إن الضرب على أيدي هذا النوع من الكتاب والخطباء واجب تقضي به الإنسانية ونظام الاجتماع؛ لأنهم يعدمون الثقة، ويميتون العقول، ويزعزعون أقوى أركان السلام، ويفسدون نظام العالم، ويشوهون جمال الحقائق وجلالها.
فمن المهم الجدير بالاعتبار العناية باللسان والقلم وتقييدهما إلا عن نشر الحقائق والأفكار السديدة المعقولة. والاعتدال في القول خير من التهور المرذول. ولا شيء في الكتابة أقبح من استعمال العبارات المبتذلة، والكلمات ذات المعاني المتعددة التي تحتمل الحسن والقبيح. ولا هنالك أشرف من ذكر الحقيقة مجردة من الغاية والمصلحة الشخصية، وكل ما خالف هذا فهو خداع ممقوت مضر بالجمهور، وحطة في قدر الكاتب، ووصمة على الخطيب، والرجل الكامل من كان له فكر ثابت وقول حق صريح، فإن الصدق - وإن ثقلت خطواته - أسرع من الباطل وأضمن للفوز وتحقيق الآمال.
وليس الغرض الحط من شأن الكتابة في ذاتها، أو منع الكتاب من استعمال الغلو والإغراق وسائر المحسنات اللفظية، أو حض الناس على إهمالها، فإن النفس لتتوق إلى هذه المحسنات، وتعترف بما لها من التأثير في إبداع القول. والعقل يؤكد أنها الوسيلة الفعالة ذات التأثير الشديد في ترقية الكتابة وتخريج المجيدين من الكتاب والشعراء، ولكن من المعروف أيضا أن أحسن المواضيع وأجودها هو ما لا يحتاج إلى عناء في صوغ عباراته وتنسيق كلمه؛ لأن الموضوع الجليل مجموعة أفكار عالية تؤثر بطبيعتها فيشعر بجلالها العقل والنفس. وقد تكفي أبسط الكلمات وأسهل اللغات لصوغها في قالب سهل مفهوم، بدلا من قتل الوقت وإجهاد الفكر في انتخاب الكلمات ورصف العبارات التي كثيرا ما ترغم الكاتب على إفساد المعنى وتشويه الفكر إذا انصرف عن جلالهما إلى تزويق الألفاظ. والأفكار العالية لا تحتاج إلى الطلاء الغريب لتظهر في سماء رفعتها وأفق جمالها؛ لأن قوتها في ذاتها وسموها في رجحانها وأصالتها.
وليس كل من يحسن التوشية ورصف الكلمات بالكاتب المجيد، أو الخطيب المفوه، ولكن هذا اللقب من حق كل مفكر يجمع شتات المعاني الراقية، والأفكار السديدة في القالب اللغوي الفصيح. ولا شيء أبلغ من السهولة عند التعبير والإقناع بالأدلة المعقولة الخالية من التعقيد المضني والركاكة المملة.
إن نظرة واحدة في بعض الأحايين، أو إشارة لطيفة في بعض الأحوال لتعرب عن انفعال نفساني، أو ألم شديد، أو إخلاص، أو سرور، أو حزن إعرابا لا تؤديه أبلغ العبارات في كل لغات العالم. ولا يتأتى للإنسان التعبير عن حقيقة عواطفه وشعوره إلا بأبسط العبارات وأسهلها؛ حتى لا تضيع الفائدة المقصودة والتأثير المراد من شرح أسرار القلوب وخفايا الصدور. ولا تتأتى المحاجة إلا بالحقائق واللغة السلسة والاعتدال في القول - عند الشرح - أكثر إقناعا من العبارات المعقدة، والتهوس في الجدل المطول الممل؛ لأن الاعتدال في القول أكثر فائدة للقائل من الشطط والحدة، وصالح لكل الأزمان، ومحمود في كل المواقف.
ولا شيء أنجح من الصدق في الرواية والإيجاز في الإعراب عن اعتقاد راسخ، أو عند شرح العواطف والإحساسات النفسية، سواء كان ذلك في المواقف العمومية أو في المفاوضات الخصوصية. وليس أوقع في نفس المطالع أو السامع من الكلمات القليلة التي تصدر حقيقة من القلب لتصل إلى القلب، أما الكلمات المنتقاة للتوشية والتحسين اللفظي فإنها كالزخارف المادية، التي تساوم بالمال الكثير، ولا تؤدي فائدة جزيلة لمن يبتاعها. ولما كان الغرض من القول أو الكتابة الإعراب عما في الفكر؛ كان من الواجب تأدية ذلك بما لا يزيد عن المعنى خوفا من ملل السامع أو المطالع.
كم من الخطباء غرضهم الوحيد من الخطابة الوقوف بين الجماهير؛ لسماع تصفيقهم الحاد بعد ملء الآذان بكثير من العبارات المنتخبة؟ وكم من السامعين يكتفون بالسماع فقط وبالتلذذ ببلاغة المقول، فإذا ما اجتازوا باب المكان نسوا ما سمعوه وأعجبوا به والتهوا بالمشاهد الجديدة عن حديث ذلك المهذار الصداح؟ ولو كان هذا مبلغ تأثير ما يقال ويكتب في النفوس والعقول، لكانت نتائج التفكير والتحبير مجموعة من الخطابات المنمقة والكتابات المزخرفة، وخليطا من القطع التمثيلية وضعت كلها للهو والتلذذ بها حينا من الوقت، ووقفت فائدتها عند هذا الحد كأن مهمة العقل مقصورة على ذلك، بغير محاولة اكتساب الفوائد الجمة التي تمحصها العقول وتبحث عنها في شتات الحوادث وبين صنوف الأباطيل.
إن ارتفاع صوت العاطلين الذين لا هم لهم إلا الصياح والضوضاء؛ بغية الشهرة والظهور يغري الجمهور ويضلله وينسيه أن العامل المفيد أكثر الناس هدوءا وأقلهم جلبة، وينسيه أن كثرة الإعلان تدل على عكس المعلن عنه. فلولا فراغ جوف الطبل لما أزعج صوته الفضاء. فالصمت خير من القول الهراء، والسكون أفضل من الجلبة، والقوة التي لا تستنفد في التهوس تدخر للعمل المفيد وتكون ربحا من غير عناء ولا خسارة. ألا ترى أن الباخرة التي تستنفد بخارها في الصفير وإزعاج الكون بصراخها لا تجد في مستودعها قوة لمواصلة السير والوصول إلى غايتها؟
Halaman tidak diketahui
إن من درس أحوال الأمم وطبائع الأفراد يلاحظ أن الكسول يستعمل في حديثه العبارات المقتضبة، بخلاف الثرثار والأحمق، ويجد أن العاقل المعتدل يقتصر على الموجز الكافي، فيكون لفظ عبارته على قدر المعنى الذي وضعت له. فإذا كانت اللغات تختلف باختلاف الخصال والأمزجة، فإنها تختلف أيضا باختلاف الأزمان والعصور، حتى إن من يقارن بين لغة العصر الحاضر والزمن المنصرم لا يلبث أن يرى فرقا واضحا، وتمييزا جليا، فيتحقق أن كتاب العصر الغابر كانوا يكتبون بلغة أوجز وأبلغ، خالية من التعاقيد والحواشي التي تحرج المطالع، وتضني فكره دون تمييز الغرض منها، بعيدة عن المبالغات التي تحول بين العقل والحقيقة الكاملة. ويجد أيضا أن كتاب هذا الآن أقل إدراكا من سالفيهم وإلماما بشئون الكتابة، ويجد أن الأقلام في هذا العصر أقل ثباتا في الأيدي وأكثر شططا وتخبطا. •••
من الناس من يصفق للكاتب الذي يكتب بحماس وتطرف، ويطري ويفتخر بمن يرسل من جوف قلمه سيالا من النار، ولكنه لا يلبث أن يحترق بهذا اللسان المندلع. هذا النوع من الكتابة منتشر، وهو الخطر الذي يجب اتقاؤه، والضرر الذي يتحتم على الحكيم تحاشيه والتنكب عنه؛ لأن الشطط والغلو في الكتابة لا ينتجان غير إغراء العقول، وتضليل الأفكار، وإبعاد المطالع عن مركز الحقيقة، فتكون النهاية سوء الظن وضعف الثقة وتوتر العلائق بين الأفراد والجماعات والتشديد في المعاملة وفساد الأحكام؛ لجهل الحقائق وفقد الأمن وإخلال النظام وفساد الأخلاق. وكفى بهذه النتائج السيئة سببا للسقوط التام والموت الأدبي.
فالمصلح الحقيقي من يطلب لقومه ولإخوانه اعتدالا في الكتابة والخطابة، ونشر ما يكون علاجا للنفوس ودواء للعقول ووسيلة لرقي المجتمع الإنساني أدبيا وماديا. وليس الغرض منع الكتاب والشعراء وأرباب الفنون عن الإبداع والإجادة، وإنما العناية بما يفيد ولا يضر؛ لأن الفكرة الصالحة توافق كل المشارب، وتصلح لكل زمان ومكان، كما أن المصلحة العامة لا تكون لفرد دون الآخر ولا تختص بفريق واحد أو تنحصر في جماعة أو طائفة بذاتها.
إن ينابيع الإرشاد والموعظة والهداية عامة تستقي منها كل العقول والأفكار، فيردها البعض ويكون صالحا فيبذل للناس نصحا وهدى، ويتسمم بها البعض؛ لتسمم نفسه بالشر والخبث فلا تنطق أفواههم إلا بسخافة ولغو. والنوع الأول: روح تبعث في النفوس القوة وتدعو إلى العظمة والرقي والحياة. والنوع الثاني: طامة على العقول والنفوس وسبب للهوان والصغار والسقوط، إذا انتشرت تعاليمه وتغذت بها العقول وتشبعت بها القلوب.
فخير المحبين لبلادهم ووطنهم من يدعو ذوي الحكمة لإرشاد الناس وإبعادهم عن الشطط، وردعهم عن التطرف الوبيل، وعن التطوح في مهاب العواصف ومختلف الرياح؛ فيرتقي المجموع بارتقاء مدارك الجماعات، ويعتدل الشعب باعتدال الفرد، وتعيش الأمة هادئة مطمئنة ينشط بها العقل إلى مدارج الرقي بعيدة عن مزالق السقوط والهوان. فإن من يسير في الطريق السوي يأمن العثار، ومن يجمح في المزالق يتدهور ويتحطم. وإن زلات اللسان والقلم ليست مما يستهان به؛ فقد تودي بالفرد، بل وبالأمم برمتها، ورب كلمة كانت سببا في حرب عوان ووبال عميم!
الواجب والاعتدال
عندما تكلم الطفل في شأن لا يروقه تراه يجتهد أن يشرد بك عن الموضوع، فيلفتك إلى حمامة تطعم أفراخها، أو يشير إلى سائق يضرب جياده، أو يكثر عليك الأسئلة المملة مكرا منه فتضيق ذرعا وينفد صبرك.
يكاد يكون هذا الشأن شأن الإنسان إزاء الواجب، فيختلق من الأعذار ما يخاله مقبولا يشفع له عند التقصير، أو الإحجام عن واجب الإنسان الحي المميز. وأول سبب يتعلق به المعتذر المقصر هو التساؤل عن حقيقة الواجب. وإن الغرور الذي ملك من المقصرين نفوسهم وعقولهم، وحبس إرادتهم عن الانصراف إلى أداء الواجب يستند على أن من دعائم الواجب الحرية. وهي مسألة معقدة لم يهتد العالم إلى حلها حلا يرضي الناس جميعا، والبحث فيها يفضي بالباحث إلى التعمق في سائر الأمور، فلا يمكن الاعتداد بها ولا الاعتراف بكونها من أقوى أركان الواجب.
ومن ينظر هذا القول نظرا سطحيا يتوهمه حقيقة لا اعتراض على صحتها. ولو أن أمور الحياة نظريات عقلية فقط لما وسع الباحث أن يعنى بأمر الواجب قبل البت في مشكلة الحرية، وحل عقدتها وتعريفها تعريفا تاما. ولكن الحياة ليست نظرية لكونها حركة عملية سبقت النظريات وواضعيها. وأنى لنا أن نوقف الحياة وحركاتها الدائمة ريثما يصل الباحثون إلى حل النظريات المجهولة المختلف فيها بعين المفكرين؟ فلا يتوقف أداء الواجب على معرفة حقيقة الحرية وحدودها واعتراف الناس بها؛ لأن شأن الحرية شأن كل المسائل المعقدة التي لم تزل بين أيدي الباحثين، وتحت أنظارهم بدون أن تقف حركة العالم، فها هي الخلائق لا تزال تتعامل، والتضامن موجود فعلا بين الناس، ومسئولية البعض أمام البعض الآخر محدودة على قدر الإمكان بشكل يكفل بعض الراحة والنظام العام.
ولكن المشتغل بالعلوم النظرية لا يعتد بغير نظرياته العقلية، ولا يحفل بالحركات العملية، ولا يتعرض بتاتا لإثباتها أو لدحضها، ولا يعمل شيئا لرد خصومه في الفكر والرأي عن المنهج الذي يراه خطأ وغير قويم. فلا مبرر من تقاعده عن معرفة الواجب الإنساني وأدائه قبل معرفة كنهه وحقيقته وحدوده. فالطفل لا يعرف الأزمنة والمواقيت، ومع ذلك فهي تمر عليه، والصبي يجهل تقدير المسافات وتحديدها، ولكنه يمشيها ويقطعها، فلا مندوحة إذن عن أداء الواجب قبل معرفة كل قيوده وروابطه وسبر الأبحاث والآراء التي وضعت بشأنه؛ لأن الواجبات الأدبية عامة، وللإنسان أن يخضع لها فيكون إنسانا بالمعنى الصحيح، أو يخالفها فيسقط ويبتذل لدى العارفين بواجب الإنسان، فلا تفيده الأعذار مهما اختلق منها، وتنطلق عليه ألسنة الناقدين كل انطلاق، ولا أقل من أن يقال له: «أنت إنسان كسائر الناس لك حقوق وعليك واجبات، فكما أنك لا تتجاوز عما لك، فكذلك يتحتم أن تؤدي ما عليك، سواء لبلادك أو لأبنائك أو لذويك أو للناس عامة، والجهل وعدم استيفاء البحث والتقرير لا يشفع ولا يمنع.»
Halaman tidak diketahui
وليس الغرض حمل الناس على ترك الأبحاث الفلسفية والاستقراءات الدقيقة لمعرفة الحقائق الأدبية، واستجلاء غوامض المسائل الأخلاقية التي استعصى حلها حتى الآن. فكل سعي في هذه السبيل ممدوح ومحمود، ولكن المراد عدم توقف الباحث عن أداء الواجب الإنساني قبل أن ينتهي من أبحاثه. والعاقل من يتذكر دائما كونه خلق قبل أن توضع هذه النظريات، وقبل أن تخلق هذه المشكلات. وقد خلق الواجب مع الإنسان فهو سابق لها، فالرجل الحقيق بهذا اللقب من يؤدي واجبات الرجولة.
والخبير بضمائر الناس وخفايا القلوب لا يشك في كثرة الاعتراضات التي يعترض بها على ما مر، ولكن من تسول له نفسه الفرار من واجب الإنسان، لا يخجل طبعا من انتحال الأسباب المبررة للسقوط الأدبي. •••
من الصعب أن يتخبط الرجل في طريق الواجب المجهول، وأن يتلمس في الظلام طريق الهدى والسبيل القويم، وعسير عليه أن يهتدي بين المتناقضات والاختلافات العديدة التي تدور حول الواجب وفروض الإنسانية. وقد يكون الواجب في بعض الأحايين فوق الطاقة وفي غير وسع المرء، ولكن من المؤكد ندرة هذه الأحوال الحرجة التي تستدعيها بعض الاضطرابات الاستثنائية. وخير ما يعمل الإنسان في تلك المواقف أن يلزم الأناة والحذر؛ لأن الذي يقبل عذر من يكبو في الطريق المظلم المجهول، ويشفق على المحارب أن يقهر بين نارين، لا يتردد في الرفق بمن يقصر عن ضعف، أو يسقط رغما عنه سقوطا أدبيا ما دامت القوى التي تغالبه فوق طاقته.
وليس السقوط الإجباري عابا على الساقط، ولا يجوز توجيه الانتقاد والعذل إلى المقصر المرغم على التقصير، ولا يصح أن يقصر الكلام على ذلك الواجب المتعذر أو المستحيل أداؤه، بل يجب أن يتناول السهل الذي يتسنى لكل إنسان القيام به بدون إجهاد النفس، ولا استنفاد القوة ولا تبذير المتاع، إن المهم إنما هو أداء الواجب الممكن؛ فتعدد القائمين به بين الأفراد يخفف ويلات المجتمع الإنساني ويلطف الحال.
وليس العار على من يقصر في القيام بأعباء الواجبات الثقيلة، بل العار كل العار على من يحجم عن تأدية الممكن السهل منها إهمالا وتقصيرا.
ولو أن واحدا من ذوي اليسار والمراكز السامية يتخلى عن عرش نعيمه ويطوف خلال صفوف الناس؛ ليخفف ويلاتهم ويمد للمنكودين منهم يد المساعدة والمعونة، فلا يلبث أن يرى في هذه البيئة ما لا يحصى من أنواع الشقاء الذي لم يترك دارا إلا دخلها، ولا عائلة إلا حط بين أفرادها، فيقف على كثير من أنواع الآلام النفسية والجسدية التي يعانيها القوم، ويئنون منها في كل لحظة. وكلما اختلط بأولئك الأفراد ودقق النظر في حالتهم المعيشية اكتشف من أنواع البؤس ونكد العيش ما يهوله ويقصر همته؛ حتى ليتصور أن تخفيف هذه الكوارث وتلطيف حال أولئك المتعسين البائسين ليس في طاقة أحد من الناس، مهما أوتي من حب الخير والسعة التي تخوله الأخذ بأيدي المعوزين والبؤساء؛ لوفرة عدد المنكودين، واتساع الدائرة التي يخيم على من فيها الشقاء ويحكم فيها البؤس. ومع ميل الكرام إلى بذل ما في الوسع من المساعدة ترى الحيرة تأخذهم أمام هذا المشهد المخيف، فيتساءلون عن فائدة ما يقدم من المساعدة ويعمل من الطيبات، وهو لا يشفي الغلة ولا يدفع الغائلة. ومنهم من يروعه اليأس فيكف عن المبرات، مع أن قلبه يتقطع إشفاقا وحنوا على ذلك الفريق المنكود. وهذا هو عين الخطأ ومنتهى الخطل؛ لأن مساعدة المنكوب واجبة على أخيه الإنسان القادر على قدر ما يستطيع، فليس حتما عليه أن ينقذ العالم من مخالب الشقاء، ويدفع عن كل المنكوبين عاديات الدهر وصروف الزمان، ويترك هذه الأرض سماء، فما كلف الله نفسا فوق طاقتها.
فالعاقل من يرشد هذا الفريق اليائس إلى محجة الصواب، ويهديهم إلى عمل الخير المستطاع؛ لأن الكف عن المساعدة - وإن قلت - يعد ضررا واسع الأذى. والواجب في مثل حالتنا الاجتماعية أن يساعد الإنسان أخاه بما في استطاعته، وأن يتخذ من البؤساء والمتعسين إخوانا يواسيهم ويلطف آلامهم، وإن كانت هذه المساعدة غير محسة في جانب المصائب التي تحوط جزءا عظيما من النوع الإنساني، فإن فائدتها محققة، وأقل من ينالها فرد من أبناء هذا النوع. وربما اقتدى بالكريم غيره، فيكثر عدد العاملين على نصرة الضعفاء والمنكودين، وتحسن الحال بعض الشيء، وتخف على تلك البيئة وطأة الفاقة، فتجف جذور الحقد في قلوب البائسين الذين يسخطون على الكون ومن فيه، وتقوى الرابطة الإنسانية بين سائر الطوائف، فيقل الشر، ويجد الخير سبيلا ممهدة وأرضا خصبة. وكلما زاد العاملون قل الشقاء وتقطعت أوصال البؤس.
وإذا انفرد الجواد بصنع الخير فإن القلوب تعطف على عمله والألسنة تحمد صنيعه، ولا ينكر المكابرون ما بذل من الحسنات لأداء الواجب الإنساني. وماذا يريد المرء بعد أن يرضى ضميره عن عمله المبرور، ويعترف الناس باستقامته وقيامه بما تستدعيه المروءة والإنسانية؟ ليعرف الناس أن الطمع ذلك الداء الذي يوسع دائرة الأحلام والأوهام ويغرر بالناس، لم يصل بصاحبه يوما إلى ما يؤمل، مع ما يعانيه من المشاق، وما يبذله من المجهودات للحصول على أماني النفس الجشعة. وإلى العاقل كل حوادث الماضي والحاضر، فمن المحال أن يجد فيها إلا ما يؤيد هذا القول. •••
سر النجاح المؤكد في حسن التفكير ودقة العمل وطول الأناة والتعقل والاهتمام بكل شيء، حتى بالأمور الطفيفة الحقيرة؛ لكونها دعامة الفوز، وواسطة للحصول على النتائج المنشودة. ولكن الناس يهملون هذا الأمر ويتناسون هذه الحقيقة، فليتذكر الغافل أن الغريق لينجو من لجة البحر الهائج على قطعة من لوح أو مجذاف مكسور. وما أشبه الحياة بلجة البحر والمنكوب بالغريق! فليتمسكن جهده بما يستهين به؛ فربما كان ذلك الشيء الحقير سفينة الخلاص وفلك النجاة والسلامة. ألا إن احتقار الصغائر لسيئ العاقبة؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر، وإن الثروة الطائلة تجمع درهما فدرهما.
إن عبر الدهر كثيرة وصروف الزمن جمة عديدة، وقد يحدث أن يخسر المرء ماله وتنزل به الفاقة، أو يفقد عزيزا عليه، أو تضيع أمام عينيه ثمرة جهد شديد وعمل شاق وصبر طويل، فيعجزه استرداد الثروة وإحياء الميت واستعادة الضائع والتعوض من المفقود؛ فتتلاشى قوة المنكوب وهمته، ويقف مكتوف اليدين، خائر العزيمة أمام هذه الكوارث النازلة. ثم يتراخى في شئون حياته الخاصة، ولا يعود يهتم لحاجات بيته وتنقطع عنايته بأطفاله.
Halaman tidak diketahui
هذه هي النتائج المعروفة التي نشاهدها إثر المصائب العديدة، التي تنتاب الناس وتنزل عليهم بهموم النفس وآلام القلب. وهذا خطأ مغفور، ولكنه خطر شديد وخيم العاقبة، ينتقل بالمنكوب من حال سيئة إلى أخرى أسوأ منها. فجدير بمن خسر أن يجمع القليل الباقي، ويفرغ جهده في الحرص عليه والسعي في إنمائه واستثماره؛ لعله يدرك بعد قليل ما يعزيه وينسيه ألم الضائع المفقود. فالسعي والعمل يخففان من لوعة المصاب، والاستسلام والاستكانة يزيدان الألم ويدميان القلب المقروح، والتعلق بالقليل الباقي أسلم عاقبة من اليأس الذي يلاشي حتى البقية الباقية، والتشدد في مقاومة الكوارث، والتصبر في احتمال الآلام خير من الاندحار والسقوط تحت أعباء الهموم النفسية. والوقوف في وجه النازلة ومقابلة الخطر خير من الهرب والفرار؛ لأن المقدور صائر لا محالة.
وليتذكر الغافل أن نفرا قليلا من الناس عمروا الأرض بعد الطوفان، بعد دمارها، ومن نسلهم ظهرت هذه الملايين العديدة التي تضيق بهم المسكونة. وأن اليسر لا بد وأن يعقب العسر وأن الفرج لا يأتي إلا حين تشتد الأزمات. وكم حياة ضاعت لأوهن الأسباب! وكم منكوب عز بعد ذل وكرم بعد هوان وامتهان!
كل حوادث التاريخ تؤيد هذا القول وتؤكد للباحث أن المصائب العظيمة والرفعة والسمو قد تأتي عن أحقر الأسباب شأنا؛ فليس من الحكمة إهمال الصغائر. وعلى الإنسان الثبات والصبر ومعاودة الكرة عقب الفشل فإنها سبيل الفوز وسر النجاح. •••
من الغريب أن شيئا من الوهن أو الإهمال يغشى أبصار الخلائق وبصائرهم، فيمنعهم من معرفة الواجب وتقديره وأدائه، فينظرون إليه ممسوخا أو من جانب واحد، مع أنهم ينشطون ويتشددون لاكتشاف الغوامض البعيدة على نظر الإنسان، ويتشوقون إلى معرفة ما لا يضر ولا ينفع، فيقضون على جزء عظيم من الإرادة والقوة بالتعلق بأمثال هذه الأوهام. وأي فائدة تعود على الإنسانية من ترديد عبارات الإشفاق والحنو والاهتمام للخير العام والعطف على المجهولين، الذين أخنى عليهم الدهر بخطوبه، وهم في أنحاء الأرض القاصية بعيدين عن الآذان والأبصار؟ ماذا تفيد هذه الظواهر؟ وماذا ينفع التشدق بدعوة الناس إلى عمل الخير في مجاهل هذه السبل، مع كون الآذان تكاد تصم من أصوات البائسين القريبين منا، والقلوب في الصدور منفطرة مكسورة من جراء ما تسمع من أنين المنكوبين الذين تراهم أعيننا وتلمسهم أيدينا، ونعثر بهم في كل خطوة من خطواتنا؟
أوليس من الخطأ الفاحش أن يتجشم الرجل أهوال الأسفار؛ ليعرف ضروب النوع البشري، ويرحل الرحلات العديدة لهذا الغرض، بينما هو يجهل كل الجهل أبناء بلده، كأنما هم من غير الآدميين الذين يفتش عن أنواعهم، ويبحث عن ماهيتهم. فلا يحفل بمعرفتهم ولا يحدث نفسه بحاجتهم إلى التعليم والتربية، كأنه يظن أنه لا يعنيه شيء من شئون معيشتهم وراحتهم أو شقائهم، ولا ينظر في أمر حكومتهم ومعاملتها لهم. بل لقد تراه لا يسعى حتى في معرفة الذين يظلهم وإياه سقف واحد، ولو كانوا مجهدين أنفسهم في خدمته واكتساب رضائه. وقد يجهل أيضا أو يتجاهل حال العمال الذين يعدون له معدات النعيم والرفاه، ولا يعبأ بشأن سائر الخلائق الذين تربطه بهم عدة روابط اجتماعية لا غنى لامرئ عنها.
ولست لأدري هل ذلك جهل بالأمور وسوء تصرف غير مقصود، أم هو إهمال عن احتقار واستهانة بهذا الخليط الآدمي؟ وهنالك ما هو أفظع من ذلك؛ فإن بعض النساء لا يعرفن عن أزواجهن شيئا كأنهم غرباء عنهن، وكذلك الأزواج تراهم على جهل بنسائهم كأنهن في غير عصمة الرجال. وكم يجهل الكثيرون شأن أولادهم والوسائل المتبعة في تربيتهم وتهذيبهم، ولا يعرفون أفكارهم ونياتهم، ولا يهتمون لشيء من الأخطار التي تتهددهم أو الآمال التي تملأ قلوبهم، كأن هذه الأمور تافهة حقيرة أو كأنها لا تعنيهم قط. وكما ترى الآباء لا يعرفون كثيرا عن أبنائهم، فكذلك ترى الأبناء لا يعرفون شيئا عن والديهم، فهم يجهلون ما يصيبهم من شقاء أو ينالون من نعيم وسعادة.
ولست أعني بمن ذكرت القبائل الهمجية التي لا تكاد توجد علاقة بين بطونها وأفخاذها، حتى ولا بين أفراد العائلة الواحدة منها. ولكنني أعني الهيئات الراقية من كل أمة، والتي هي عنوان كمال الشعوب ورقي البلاد، أولئك السراة الذين ألهاهم ما هم فيه حتى عن أعز الناس لديهم وأقربهم منهم، فصرفوا أنظارهم إلى ما وراء الأفق، فلم يعودوا يبصرون ما أمامهم ولا ما تحت أرجلهم؛ حتى داسوا أقدس ما يجب على الرجل نحو ذويه وعائلته ومواطنيه. وأعماهم التطلع إلى الشهرة من وراء التظاهر بعمل الواجبات العظيمة الخطيرة؛ عن أداء الواجب المعتدل السهل المفروض أداؤه نحو من يعولون من الأبناء، أو من يتصل بهم من الأقرباء. فإن قام بها ومد يده لنصرة الغير كان فضلا منه، وإن أهملها وتطلع إلى ما يبغي به الشهرة والظهور عيب عليه النقص، وكان ما يبنيه على غير أساس يدكه الكلم ويمحوه القدح القليل والذم من الناس.
فليكن الرجل حكيما قبل كل شيء يقوم بما عليه لنفسه، فأفراد عائلته، فأبناء بلدته، فمواطنيه، فإذا كان في وسعه فوق ذلك وعمل خيرا شكر وأثيب.
إن من لا يرتب عمله يلهو بما لا يفيد ولا ينفع عما يفيد وينفع، وكل من يشتغل بما لا يعنيه مقصر فيما فرض عليه، وآت بدليل على حمقه وجهله وغباوته. وهذه هي أقوى الأسباب التي تربك الهيئة الاجتماعية وتجعل الخلل يتطرق إليها ويشوش مجرى الأمور.
ومن الناس من يقول: إن المرء مسئول عن إصلاح ما أفسد، وهذا حق لا غبار عليه، ولكنه من باب الصالح قولا لا فعلا، ونتيجة الاعتداد بهذه الدعوى هي ترك الفاسد فاسدا حتى يوجد المفسد فيكلف إصلاح ما أتلف. ولست أدري كيف يصلح الفاسد إذا لم يوجد المتلف، أو إذا هو وجد وأبى الإصلاح أو لم يقدر عليه؟
Halaman tidak diketahui