ومما يؤسف له تظاهر الإنسان بمظهر المتفضل على الاجتماع والدائن المطالب بما له من الحقوق، فإن صحت دعوى الجميع فعلى من تكون هذه الحقوق وتلك الواجبات؟ ومن هو المقصر في الأداء والمطالب بما عليه؟
الأمة عائلة كثيرة الأفراد، ومن الأسباب القوية في تكوين الأمم الاشتراك والتضامن ونكران الذات للمنفعة العامة، فمن الحكمة التساهل في المعاملة، وإغفال ما يمكن التجاوز عنه، فإن الشدة في المعاملة منشأ الخصومات، وليس في العالم من لا ينفر من الفظاظة والغلظة وسوء الخلق، فكلها صفات وحشية تجرد المرء من مميزات الإنسان، ولا تساعد على دوام الاحترام والحب المتبادل وهما من لوازم الاجتماع.
إن الناس لتختلف في العمل والمهن، فينظر الفرد إلى ذاته من وجهة واحدة وهي المظهر الاكتسابي، وينسى أحيانا حقيقته الطبيعية، ومركزه في الاجتماع، وعضويته في جسم الهيئة الاجتماعية، فينتج من ذلك أن الذي يشغل الإنسان ويضع له خطة العمل والسير في الحياة، هو السبب العارض الذي يفصله عن بقية الناس بالمهنة والحرفة، ويفتنه بما لا يترك مكانا في قلبه لحب الاجتماع الذي هو روح الأمم وحياة الشعوب. وينتج من ذلك أيضا بقاء الذكرى السيئة حية في الأفكار؛ لأن حب الاستئثار مناف لصالح الغير، وكل قوم غذتهم هذه الروح الخبيثة تنتشر بينهم الخصومات، ولا يمر عليهم يوم واحد بدون حوادث سيئة وعواقب وخيمة، ولا يكاد أحدهم يلمح الآخر حتى تحيا في مخيلته ذكرى الشقاق والمزاحمة والخصومة؛ ونتيجة ذلك عدم الثقة وسوء الظن والحقد.
فمن الصالح العام التساهل والتسامح ونسيان الذكرى المؤلمة، وإذا كانت المنفعة جوهرا فكل ما يضر بها عرض فاسد، والمنفعة هي غاية المساعي ومرمى الغايات. والخصومة من المؤثرات السيئة على المنفعة فهي عرض فاسد، والعاقل من يتمسك بالجوهر ويغفل العرض.
ما أجمل وأسعد الحياة لو كان التسامح هو مبدأ الوضيع والرفيع؛ لأنه بلسم القلوب المكلومة وترياق النفوس المتسممة. والذكرى السيئة أكبر محرك للعداوة والانتقام، فلو سادت روح النسيان والتسامح زالت أسباب العداء والخصومات، ونعم بال المجتمع الإنساني، وكان التساهل أقوى ضمين لتوفر أسباب السكينة والسلام.
فعلى هذا يكون لروح الاعتدال نفوذ قوي وسلطان فعال في تقويم الأخلاق، وتلطيف الأمزجة الحادة والطباع الغليظة، وفي إيجاد السلام في بيئة الأحقاد والمشاكل وبين الخصومات القائمة. وهي أيضا من أقوى مطهرات القلوب وداعية إلى تقريب الناس بعضهم من بعض، وأجلى مظاهر هذه الروح وأسماها تتضح ملموسة عندما تكون واسطة لتسوية الاختلافات والمشاكل القائمة بين الخصوم والمتنافرين، بسبب تباين المصالح والمنافع، وبسبب الرعونة والحمق، وعندما تبدل الخلاف وفاقا والعداء حبا والامتهان احتراما وإجلالا.
هذه هي أحسن رابطة اجتماعية، وبها يمكن تكوين الأمم وخلق الهيئة الاجتماعية الصحيحة على أمتن الأساس وأقوى الدعائم، وإظهارها في الشكل البديع الذي نتوهمه أملا لا يتحقق وأمنية لا تنال.
Halaman tidak diketahui