والواجب ألا تكون التربية وقفا على رغبات الوالدين ولا جريا مع ميول الطفل وأهوائه؛ لأنه لم يخلق متاعا لأبويه، ولا للتطوح مع أهواء النفس، وإنما خلق للحياة فيجب أن يربى وفقا لمقتضيات الحياة.
والغرض من التربية صيرورة الطفل عضوا عاملا في الهيئة الاجتماعية، متشبعا بالإنسانية وحب الإخاء والحرية ونفع الغير، وكل تربية لا ترمي ولا توصل إلى هذه النتائج تكون عقيمة فاسدة، لا تصلح لغير خلق المشاكل والاضطرابات وتقويض أركان الراحة والسلام. •••
إن الحظوظ كلها وكل ما يمر على الطفل من نشأته إلى شيخوخته يمكن إجمالها في كلمة: المستقبل. تلك كلمة مفردة، ولكنها الشغل الشاغل للأفراد والجماعات والشعوب وكل العالم، وينطوي تحتها كل ما مر من الآلام، وما سيجيء منها، وما يبذل من الجهد في الحاضر، وما تتعلق به النفس مع الآمال والأماني. والطفل في الصغر قاصر عن إدراك معاني هذه الكلمة وأهميتها وتأثيرها في حياته؛ لأنه قليل الإدراك، وحيث إنه ينشأ تحت رحمة وكفالة ذويه، فهم المكلفون بتوجيهه إلى المنهج الذي يحسن اتباعه، وبإرشاده إلى ما يزيح عن عينيه غشاوة الجهل؛ ليرى الغرض الحقيقي من الحياة.
وكل من فكر قليلا يرى أن تأثير التربية ليس قاصرا على الطفل والعائلة، وإنما هو واقع على مجموع الأمة وكل الهيئة الاجتماعية، وعلى كل المنافع والمصالح العمومية، فيجب دائما تمثل الطفل في دوره الجدي وحياته القابلة؛ لتكون العناية بتربيته موجهة دائما إلى المنفعتين؛ الشخصية والاجتماعية.
وقد يتبادر للذهن لأول وهلة تباين المصلحتين وتناقض الأمرين واستحالة الجمع بينهما؛ لأن من خصائص المنفعة الشخصية حب الذات، ومن خصائص المنفعة العامة نكرانها، مع أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين؛ لالتحامهما وشدة تقاربهما. ومن المحال أن يحفظ الإنسان عهد الإخاء، ويضحي لذاته الخاصة بغير أن يكون حكيما، ولعقله السلطان المطلق والنفوذ التام على القلب والنفس. والأنانية وحب الذات تطرد مع هذا السلطان اطرادا عكسيا، إن ضعف قويت، وإن اشتد ضعفت أو زالت. ولا يتأتى تحكم العقل وتسلطه على النفس والعواطف إلا بالتجاوز عن المرائي الظاهرية، وسبر غور حقيقة الوجود والغرض منه، وتمثل الروابط الكثيرة التي تربط الإنسان بالإنسان، وترفقه به في كل غاية وسبيل.
ولا يكفل تحقيق هذه الغاية إلا العناية بالطفل، ودرء كل مؤثرات الفساد وعدم النظام؛ لأن الإنسان معرض لفساد الأخلاق من تأثير المؤثرات الخارجية والعدوى الأخلاقية، ومن استسلام النفس للميول وتغلب الأهواء على العقل. والضرر الخارجي الذي ينشأ من استبداد المربين، وسوء تصرفهم عظيم الخطر، وليس من ينكر فساد مبدأ تسلط القوة على الضعف لمجرد أنها قوة وهو ضعف، فالتربية الحقة ما كانت على غير هذا المبدأ، وقامت على إنكار الذات، وكل ميول النفس الخبيثة التي تسبب النفور والكراهية والعداء.
التربية الحقة ما قوت الروح وأخضعت الجسد وحاجاته، فكان العمل بإرادة العقل لا بحكم الجسد أو هوى النفس. وإن الحدة والنزق ليكونان على أشد حالاتهما في بدء الحياة والشباب، فإن لم يكن هنالك قوة من الإرادة تكفل كبح ذلك الجماح اختل توازن المرء، وظهر ضعف تربيته وسوء خلقه. فمهمة التربية قائمة تقريبا على تعهد الإرادة وتقويتها في نفس الطفل، وتطهيرها من كل ميل فاسد ونزوع أناني؛ ليدخر من القوة في نفسه ما لا ينفد، بل يزيد مع طول العمر بغير شذوذ، فيكون العمل إذ ذاك نتيجة الإرادة والعقل، لا طوعا لإرادة أخرى أو استسلاما لسلطة خارجية، وهذه هي الحرية التي يتطلبها الناس من غير الوجهة الصحيحة.
والسلطة المطلقة التي في يد الآباء والمعلمين والمربين، يكون تأثيرها في الطفل تأثير العوسج الذي يخيم على النبات فيذبله ويميته. وأما السلطة التي تستمد قوتها من الحكمة والحقائق، وتتجرد من الأنانية ويكون غرضها تقويم اعوجاج الطفل وتطهير نفسه من كل الميول والنزعات المرذولة، فإنها له كالحرارة والهواء الطلق للنبات، ولهذه السلطة من قوة الحق ما يغذي الروح غذاء يقويها ويصلحها، فالتربية بغيرها نوع من الشطط والحمق. ومن خصائصها مراقبة السلوك، وتكييف الطباع، ومقاومة الميول الفاسدة واستئصالها. وهذه هي واجبات المربي الحقيقي، فلا يكون في نظر الصبي كالحاجز الموضوع صورة حول الحدائق، لا يمنع الطارق ولا يقف في وجه العابث يجتازه بوثبة ويحطمه بدفعة، بل يكون كالسور الشاهق يحفظ المتاع ويدفع شر العوادي.
والنفس في بدء النشأة لم تتشبع بالشرور، كما أنها لم تتهذب ولم تصقل، فيسهل إصلاحها وإظهارها على الصورة التي يريدها المربي. فإن كان خبيرا بمهنته الدقيقة غرس فيها المبادئ العالية، وعلمها التمسك بما لها من الحقوق، واحترام وتأدية ما عليها من الواجبات، وأوقفها على حقيقة الحياة وما لها من القيود والمزايا، فتشب على احترام الحقائق وتقديسها واحتقار ما عداها، وعلى معرفة حقوق الذات والناس، وعلى أداء الواجبات مع التواضع.
ويمكن تلخيص التربية الصحيحة في أنها هي التي تخرج رجالا أحرارا، يعرفون معنى الحياة، ويطالبون بما لهم ويؤدون ما عليهم، ويحبون غيرهم مع احترام أنفسهم. •••
Halaman tidak diketahui