من الخطأ الاعتقاد بأن الثروة من الصفات الشخصية التي ترفع أو تخفض قدر الإنسان، فقيمة الشيء في ذاته لا في الغلاف الذي يحتويه، والعاقل من لا يخلط بين ما يملكه وبين شخصه؛ لأن الفصل بين الاثنين سهل وممكن في كل الأوقات، والجوهر النفيس لا تقل قيمته أو تكثر بتغير ما يحفظ فيه، فالمتكبر مغرور ومخدوع، وكثيرا ما ينسى أن التملك عارض يزول، وأن الإنسان من أفراد الهيئة الاجتماعية كبر أو صغر، فيجب أن يكون كل ما يعمله موجها للصالح العام قبل أي غرض آخر.
ومن ضعف العقل تصور الغنى والثروة وسيلة للتمتع بما تشاء النفس وتجنح إليها ميولها، ولهذا نرى القليل من الخلق يعرف كيف يتربع عرش الغنى والجاه. فكم من الملوك تواتروا على عروش الأمم، ولكن النذر القليل منهم عرف كيف يحكم ويتربع العرش، وكما كان التاج شوكا في رءوس الكثيرين من الملوك، فكذلك نرى الثروة بين يدي الكثيرين من ذوي الغنى، كالقيثارة بين حافري الدابة لا يعرفون التمتع بها، كما لا يعرف الحيوان التوقيع على الآلة ليطرب.
والغني الذي يعرف أن الثروة ليست إلا وسيلة لتأدية واجباته الإنسانية، وقضاء حاجاته المعتدلة، وحاجات المجتمع الذي هو فيه هو رجل يجدر به التبجيل والاحترام؛ لأنه الإنسان الكامل. وهو عاقل لم يغتر بوسائل التغرير التي تلعب برءوس الكثيرين من أمثاله. وهو حكيم؛ لأنه لا يخلط بين قيمة ما في جيبه وبين ما في رأسه، ولأنه يقدر الناس بالصفات والأعمال لا بالجاه وكثرة الأموال. وإن هذا الرجل ليتضع بدلا من أن يشمخ؛ لأنه يعلم مقدار المسئولية التي عليه والواجبات التي يستدعيها مركزه الاجتماعي، فبدلا من أن يكون غليظا صلفا تراه وديعا لطيفا، وعوضا من أن يحتجزه الغنى عن بقية العالمين يتخذه واسطة للقرب من إخوانه، والأخذ بناصرهم متى كانوا في حاجة إلى ذلك. إن مثل هذا الرجل ليخفض من حقد الناس على الأغنياء الأغبياء الذين يثيرون على أنفسهم سخط الجمهور بما طبعوا عليه من العتو والكبر. وإن من يجتمع بمثل هذا الرجل لا يلبث أن يستصغر نفسه بجانبه، ويشعر بتفوقه عليه، وكثيرا ما يسائل نفسه عما إذا كان في استطاعته أن يعمل عمله، ويكون في وداعته ولطفه إن أتيح له أن يكون يوما ما في مركزه وجاهه.
إن الدعة والطيبة لا تنزعان الحسد من القلوب المنافسة فقط، بل تكونان واسطة أيضا لاستمالة قلوب الناس ومحبتهم، وما الذي يضر الأغنياء من حمل الغير على حبهم بدلا من إثارة البغضاء والعداء في نفوسهم؟ •••
أضر من الكبر الذي يسببه الغنى العتو الذي ينشأ عن السلطة، والمراد بالسلطة كل نفوذ يخوله المنصب سواء كان مقيدا أو بلا قيد. نعم، إنه من المحال أن يبقى العالم بلا نظام عام يفضي بمقاليد إدارته وتدبيره، وتنفيذ مقتضياته إلى أناس تتفاوت درجاتهم بتفاوت العمل المطلوب منهم. وإنما الخوف كل الخوف والخطر الداهم هما في جهل الموظفين استعمال هذا النفوذ فيما وضع له، وعلى قدر ما يسمح به النظام العام، بدون تعد على الحرية الشخصية، وبدون مس كرامة الناس بلا حق. الخوف كل الخوف من سوء استعمال السلطة وتشويه سمعتها عند الجمهور، فيقع الضرر على رءوس الحاكمين المستبدين. إن السلطة والنفوذ وإطلاق اليد بالحكم تحدث في عقل الموظف تأثيرا سيئا يختلف زيادة ونقصا باختلاف سعة العقل وضيقه، والحكيم الثابت من لا تفسد السلطة نفسه ولا تحوله عن جادة الحق.
الاستبداد في ذاته نوع من الجنون النوعي يتسلط على عقول الحاكمين، وهو مرض عام لم يخل زمان من أعراضه وظواهره. والظلم كمين في النفوس تظهره القوة ويخفيه الضعف. والظالم في الحقيقة أكبر عدو للسلطة، ومن أقوى أسباب الانقلاب عليها، وكل من يأمر وينهى ويسخر الناس لمجرد التلذذ بإخضاعهم لشخصه يسيء إلى نفسه قبل أن يسيء إلى الناس؛ لأن العبرة بالعواقب لا بالأوقات القليلة التي تتمتع فيها النفس بميولها الفاسدة.
وليس من ينكر أن في كل نفس شعورا داخليا ينفرها من الحكم المطلق والإذعان لغير النظام العام. والعقل يحكم بصحة هذا الشعور واحترامه؛ لأن الناس في الحقيقة متساوون وقد خلقوا أحرارا. فليس هنالك ما يحمل زيدا على الخضوع لبكر لمجرد أنه زيد وهو بكر؛ لأن استسلام الأول يذله ويحقره في عيني نفسه وفي عيون الناس، والرضاء بالهوان دلالة على صغار النفس وانحطاطها.
وليس من يدرك الضرر الذي ينجم عن الاستبداد والصلف، مثل من عاشوا في المدارس والمعامل والجيش وإدارات الحكومة، ورأوا من قرب أكثر العلائق التي بين الرؤساء والمرؤسين. إن الاستبداد مما يزهق النفوس الحرة ويحولها إلى نفوس مستعبدة، ولكنه ينفث فيها روح الثورة والفوضى. ويظهر أن هذه النتيجة الوخيمة التي لا تلتئم مع صوالح الهيئة الاجتماعية تكون أكثر خطرا وأشد تأثيرا على النفوس، كلما خرج المستبدون المرهقون من صفوف الشعب، وتناسوا منشأهم وأثقلوا ظهر الأمة بما استطاعوا من أنواع العتو والإرهاق.
والمشاهد أن الجندي في الجيش أشد صلفا وقسوة من الضابط، وهذا أقسى وأشد على مرءوسيه من القائد على الجميع. وقد ترى في المنازل والقصور أن السيدة التي لم تنل حظا وافيا من التعليم والتربية، أو التي ينتشلها زوجها من درك منحط تكون أكثر عتوا وقسوة على الخدام من بنات البيوتات وذوات التربية العالية. •••
من خطأ الحاكمين تجاهلهم أن الواجب الأول على ذي السلطة الدعة والخشوع؛ لأن الغلظة والصلف ليستا من السلطة في شيء، بل هما تدلان على الضعف وتنشأان من الحماقة. السلطة مستمدة من النظام والقوانين، فهي للقانون والنظام وليست للأشخاص، والقانون فوق المصالح الشخصية، وفوق الناس، وفوق الرغبات والأغراض. فمن أهم واجبات الموظفين الذين يمثلون القانون أن يحترموه ويخضعوا له ويسيروا على مقتضاه؛ ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم. فإن الحكم والطاعة في ذاتهما توءمان لا يفضل أحدهما الآخر، والطاعة إن لم تكن اختيارية لشعور المرء بضرورتها طبقا للنظام العام فهي ليست بالطاعة. ولو تأمل الناقد في أسباب الفوضى والثورات، لعلم أن منشأها جهل الحاكمين بأغراض النظام، واستعمالهم السلطة والنفوذ في غير موضعهما.
Halaman tidak diketahui