وعجيب ألا يحفل الناس بأمر السرور الحقيقي، مع شدة احتياج النفس إليه؛ السرور شعور يزكي العواطف فيحييها وينشطها ويجعل للحياة في نظرها صورة حسناء تفتن، ومن يعرف كيف يسر ويهنأ في هذا الزمن المملوء بالأفكار العقيمة والمتاعب النفسية، يكون ممن لهم ميزة وتفوق غريب. ولو عني هذا البعض ببث أفكارهم بين الناس؛ لإرشادهم إلى طريق السعادة لرفعوا عن القلوب ما يثقلها، وعن الوجوه المقطبة مسحة الكآبة والكدر الدائم، ولأنعشوا الأفئدة بعد أن طال عليها الخمول والجمود، ولجعلوا للحياة وجها غير هذا الوجه الأسود. ولكن كيف يتسنى ذلك بعد أن أقفرت القلوب من الرأفة والحنو، وقصرت الأفكار عن معرفة الأسباب الوجيهة للعزاء والسلوى، حتى إن من يريد أن يخفف عن يائس وقر الشقاء ونكد العيش مجاملة ينكر عليه آلامه ويناقشه في ذلك؛ ليوهمه أنه على خطأ في معرفة مركزه الحقيقي وتقدير سوء حظه في الحياة!
ليس من يقتنع ويعرف آلام الغير وتأثيرها في النفس إلا من يعاني مثلها، ويئن من وقرها، ولهذا ترى المنكودين يتفاهمون ويرثون بعضهم لبعض، حتى إذا ما صلحت حال أحدهم وابتدأ نجمه ينتقل من برجه المنحوس نسي ما كان يقاسيه، وأنكر على غيره ما هو فيه من نكد وشقاء، مع أن المعزي اللطيف هو من يشعر بآلام المنكود شعورا حقيقيا ويرثي له رثاء صادرا عن القلب. ورب ضغطة على اليد تزيح عن قلب المتعس حملا من همومه، وتخفف عنه شيئا من بلواه متى أحس أنها عن ود وإخلاص، ورب نظرة واحدة تفضل آلافا من العبارات المنمقة المزخرفة.
من الناس من يستصحب البائس، ثم يجهد نفسه ليدهشه بمقدرته في الكلام والنكات، ويفتح له مصراعي بابه، ويدعوه - على الرحب - إلى مائدته، ويعد له من الطعام أشهاه وأفخره مختالا بما رزقه الله وحرم منه الكثيرون، وربما تصدق عليه، وهو يظن أن في ذلك عزاء وتلطيفا لحال اليائس الشقي، ولكنه عين الخطأ والغرور. فأي عزاء لمن يفاخره الإنسان بمقدرته ويكاثره بفضته وذهبه، ويجسم له حقيقة أمره أمام خدمه وحشمه، ويوقظ الحسد في نفسه بما يمنح من مال وجاه، ثم يحقره بما يعطيه صدقة من فضلات نعمه؟ وهل أصعب على النفس من أن ترى يسر الغير وعسرها وجاههم ومسكنتها وقوتهم وضعفها؟
إن من يريد أن يأخذ بيد البائس ويزيح عنه شيئا من همومه يجب أن ينكر نفسه أولا؛ لأن الأنانية تنفر منه القلوب مهما كرم أصله، ورق قلبه، وابتغى صالحا، وعملا طيبا. على أن هذه التضحية ليست إلا مظهرا؛ فإن المرء لا يتجرد من خاصة ميل النفس إلى ذاتها. والمراد بهذا التقييد كسب ثقة المنكود وفتح أذنيه لسماع كلمات العزاء والتشجيع، فيشعر بتأثر قلوب الغير لمصابه فيتقبل الإعراب عن عواطفها، ويقع منه موقعا ينسي الهموم ويبعث إلى الطمأنينة.
وإذا كان الإنسان يتناسى في أوقات السرور كل متاعبه الشخصية وهمومه التي تشقيه وتشغله، فأولى به أن ينسى في ساعة العزاء والمواساة مركزه الاجتماعي وجاهه وحوله، ويتجرد من كل القيود التي تكم الأفواه وتحول بين الإنسان وفطرة الصبي الساذج؛ ليضحك ضحك الأطفال، وهم أقل الناس إدراكا للهموم، وأكثرهم سرورا وسعادة. ألا إن هذا التناسي ليفيد كثيرا، ويصلح حال الاجتماع، ويزيل ما بين النفوس والقلوب من الموانع والحواجز، ويكون واسطة قوية لتبادل الحب والنفع. •••
من الظن الشائع أن الممرض لا ينفع لغير التمريض، والمدرس لغير التعليم، والقس لغير الوعظ وبقية مقتضيات عمله الديني، فتكون النتيجة أن كل المتفرغين للأعمال الجدية مكرسون لهذه الأعمال، لا يتزحزحون عنه قيد أصبع، كأن شأنهم في العمل شأن الدابة فيما خصص لها من العمل. وعلى هذا الزعم يكون العجزة والمفلسون وكل المنكوبين - على سائر أنواعهم واختلاف مصائبهم - من المحكوم عليهم بالتجرد من عاطفة السرور، كأنهم خلقوا للضراء والهموم، فلا يقابلون بغير الوجوه المقطبة، ولا يسمعون غير الأخبار المحزنة المكدرة. وكما أن ذلك الظن يستدعي - بطبيعة الحال - أن يمسخ الزائر وجهه إن عاد مريضا أو منكوبا، وأن يختلق من الأحاديث ما يضيق الصدور ويسئم الأسماع والنفوس، وألا يدنو من تعس إلا ليردد على سمعه أخبار البؤس والشقاء، ولا من مريض إلا ليزف إليه شتاتا من أحاديث الأمراض والعاهات والآلام والموت. ألا إن هذا هو منتهى البربرية والتوحش، وأخلق بالعقول أن تتجرد من مثل هذه الظنون السخيفة.
فإذا ما لقي الإنسان رجالا أو نسوة كرسوا أنفسهم للأعمال الشاقة، أو انقطعوا للتمريض والتعليل، فليتذكر أنهم من الآدميين يعوزهم ما يعوز سائر الأحياء من الراحة ونسيان الهموم والفرح، وأن السرور لا يرد أولئك التعساء عن مهنتهم المحزنة، وإنما يجدد قواهم وينشطها لممارسة العمل بهمة وصبر.
وإذا ما صادفت عائلة حط عليها الشقاء بهمومه وأحزانه فلا تفر منها فرار الجبان من الموت، ولا تحذر من مقاربتها حذر من يتخطى النطاق الصحي المضروب على الموبوئين، فإن الإنسانية تحتم على الإنسان مقابلتهم بثغر باسم وصدر منشرح، مع احترام عاطفة الحزن التي بسطت أجنحتها على ذلك المكان وأفراده؛ حتى يشعر التعساء بحنان القلوب وعطفها عليهم، فيتجدد فيهم الأمل ويتعلقون بأهداب الحياة، فينشطوا لتحسين حالهم فيتحسن شطر من الهيئة الاجتماعية.
إن العالم مملوء بالتعساء الذين قضى عليهم نكد الطالع بالشقاء، وأولئك يكفيهم وميض من السرور في سماء حياتهم المتلبدة بغيوم الهم وسحب الأحزان، وتقنعهم عطفة قلب حساس وابتسامة ثغر باسم، فمن السهل مواساة هذا النفر، لو أتيح للناس أن يتعرفوهم أو يتفكروا فيهم.
لقد آن أن تماط عن العيون العوينات التي تمنعها رؤية متاعب هذا الفريق المنكود، فتسهل مساعدة من هم في حاجة إلى العزاء والمواساة، ويتأتى تعهدهم بشيء من العناية التي تخفف عنهم وقر الهموم وأعباء العمل الشاق، وتعيد لهم شيئا من الابتهاج. إن من يسير بجانب ذي الحمل الثقيل لتأخذه عليه الشفقة، فيحمله عنه - ولو لحظة قصيرة - مجاملة وإشفاقا، فتعيد تلك اللحظة من الراحة إلى المتعوب قوته وتشرح صدره. فهل بين الناس من ينكر هذا العمل الإنساني؟
Halaman tidak diketahui