إن من درس أحوال الأمم وطبائع الأفراد يلاحظ أن الكسول يستعمل في حديثه العبارات المقتضبة، بخلاف الثرثار والأحمق، ويجد أن العاقل المعتدل يقتصر على الموجز الكافي، فيكون لفظ عبارته على قدر المعنى الذي وضعت له. فإذا كانت اللغات تختلف باختلاف الخصال والأمزجة، فإنها تختلف أيضا باختلاف الأزمان والعصور، حتى إن من يقارن بين لغة العصر الحاضر والزمن المنصرم لا يلبث أن يرى فرقا واضحا، وتمييزا جليا، فيتحقق أن كتاب العصر الغابر كانوا يكتبون بلغة أوجز وأبلغ، خالية من التعاقيد والحواشي التي تحرج المطالع، وتضني فكره دون تمييز الغرض منها، بعيدة عن المبالغات التي تحول بين العقل والحقيقة الكاملة. ويجد أيضا أن كتاب هذا الآن أقل إدراكا من سالفيهم وإلماما بشئون الكتابة، ويجد أن الأقلام في هذا العصر أقل ثباتا في الأيدي وأكثر شططا وتخبطا. •••
من الناس من يصفق للكاتب الذي يكتب بحماس وتطرف، ويطري ويفتخر بمن يرسل من جوف قلمه سيالا من النار، ولكنه لا يلبث أن يحترق بهذا اللسان المندلع. هذا النوع من الكتابة منتشر، وهو الخطر الذي يجب اتقاؤه، والضرر الذي يتحتم على الحكيم تحاشيه والتنكب عنه؛ لأن الشطط والغلو في الكتابة لا ينتجان غير إغراء العقول، وتضليل الأفكار، وإبعاد المطالع عن مركز الحقيقة، فتكون النهاية سوء الظن وضعف الثقة وتوتر العلائق بين الأفراد والجماعات والتشديد في المعاملة وفساد الأحكام؛ لجهل الحقائق وفقد الأمن وإخلال النظام وفساد الأخلاق. وكفى بهذه النتائج السيئة سببا للسقوط التام والموت الأدبي.
فالمصلح الحقيقي من يطلب لقومه ولإخوانه اعتدالا في الكتابة والخطابة، ونشر ما يكون علاجا للنفوس ودواء للعقول ووسيلة لرقي المجتمع الإنساني أدبيا وماديا. وليس الغرض منع الكتاب والشعراء وأرباب الفنون عن الإبداع والإجادة، وإنما العناية بما يفيد ولا يضر؛ لأن الفكرة الصالحة توافق كل المشارب، وتصلح لكل زمان ومكان، كما أن المصلحة العامة لا تكون لفرد دون الآخر ولا تختص بفريق واحد أو تنحصر في جماعة أو طائفة بذاتها.
إن ينابيع الإرشاد والموعظة والهداية عامة تستقي منها كل العقول والأفكار، فيردها البعض ويكون صالحا فيبذل للناس نصحا وهدى، ويتسمم بها البعض؛ لتسمم نفسه بالشر والخبث فلا تنطق أفواههم إلا بسخافة ولغو. والنوع الأول: روح تبعث في النفوس القوة وتدعو إلى العظمة والرقي والحياة. والنوع الثاني: طامة على العقول والنفوس وسبب للهوان والصغار والسقوط، إذا انتشرت تعاليمه وتغذت بها العقول وتشبعت بها القلوب.
فخير المحبين لبلادهم ووطنهم من يدعو ذوي الحكمة لإرشاد الناس وإبعادهم عن الشطط، وردعهم عن التطرف الوبيل، وعن التطوح في مهاب العواصف ومختلف الرياح؛ فيرتقي المجموع بارتقاء مدارك الجماعات، ويعتدل الشعب باعتدال الفرد، وتعيش الأمة هادئة مطمئنة ينشط بها العقل إلى مدارج الرقي بعيدة عن مزالق السقوط والهوان. فإن من يسير في الطريق السوي يأمن العثار، ومن يجمح في المزالق يتدهور ويتحطم. وإن زلات اللسان والقلم ليست مما يستهان به؛ فقد تودي بالفرد، بل وبالأمم برمتها، ورب كلمة كانت سببا في حرب عوان ووبال عميم!
الواجب والاعتدال
عندما تكلم الطفل في شأن لا يروقه تراه يجتهد أن يشرد بك عن الموضوع، فيلفتك إلى حمامة تطعم أفراخها، أو يشير إلى سائق يضرب جياده، أو يكثر عليك الأسئلة المملة مكرا منه فتضيق ذرعا وينفد صبرك.
يكاد يكون هذا الشأن شأن الإنسان إزاء الواجب، فيختلق من الأعذار ما يخاله مقبولا يشفع له عند التقصير، أو الإحجام عن واجب الإنسان الحي المميز. وأول سبب يتعلق به المعتذر المقصر هو التساؤل عن حقيقة الواجب. وإن الغرور الذي ملك من المقصرين نفوسهم وعقولهم، وحبس إرادتهم عن الانصراف إلى أداء الواجب يستند على أن من دعائم الواجب الحرية. وهي مسألة معقدة لم يهتد العالم إلى حلها حلا يرضي الناس جميعا، والبحث فيها يفضي بالباحث إلى التعمق في سائر الأمور، فلا يمكن الاعتداد بها ولا الاعتراف بكونها من أقوى أركان الواجب.
ومن ينظر هذا القول نظرا سطحيا يتوهمه حقيقة لا اعتراض على صحتها. ولو أن أمور الحياة نظريات عقلية فقط لما وسع الباحث أن يعنى بأمر الواجب قبل البت في مشكلة الحرية، وحل عقدتها وتعريفها تعريفا تاما. ولكن الحياة ليست نظرية لكونها حركة عملية سبقت النظريات وواضعيها. وأنى لنا أن نوقف الحياة وحركاتها الدائمة ريثما يصل الباحثون إلى حل النظريات المجهولة المختلف فيها بعين المفكرين؟ فلا يتوقف أداء الواجب على معرفة حقيقة الحرية وحدودها واعتراف الناس بها؛ لأن شأن الحرية شأن كل المسائل المعقدة التي لم تزل بين أيدي الباحثين، وتحت أنظارهم بدون أن تقف حركة العالم، فها هي الخلائق لا تزال تتعامل، والتضامن موجود فعلا بين الناس، ومسئولية البعض أمام البعض الآخر محدودة على قدر الإمكان بشكل يكفل بعض الراحة والنظام العام.
ولكن المشتغل بالعلوم النظرية لا يعتد بغير نظرياته العقلية، ولا يحفل بالحركات العملية، ولا يتعرض بتاتا لإثباتها أو لدحضها، ولا يعمل شيئا لرد خصومه في الفكر والرأي عن المنهج الذي يراه خطأ وغير قويم. فلا مبرر من تقاعده عن معرفة الواجب الإنساني وأدائه قبل معرفة كنهه وحقيقته وحدوده. فالطفل لا يعرف الأزمنة والمواقيت، ومع ذلك فهي تمر عليه، والصبي يجهل تقدير المسافات وتحديدها، ولكنه يمشيها ويقطعها، فلا مندوحة إذن عن أداء الواجب قبل معرفة كل قيوده وروابطه وسبر الأبحاث والآراء التي وضعت بشأنه؛ لأن الواجبات الأدبية عامة، وللإنسان أن يخضع لها فيكون إنسانا بالمعنى الصحيح، أو يخالفها فيسقط ويبتذل لدى العارفين بواجب الإنسان، فلا تفيده الأعذار مهما اختلق منها، وتنطلق عليه ألسنة الناقدين كل انطلاق، ولا أقل من أن يقال له: «أنت إنسان كسائر الناس لك حقوق وعليك واجبات، فكما أنك لا تتجاوز عما لك، فكذلك يتحتم أن تؤدي ما عليك، سواء لبلادك أو لأبنائك أو لذويك أو للناس عامة، والجهل وعدم استيفاء البحث والتقرير لا يشفع ولا يمنع.»
Halaman tidak diketahui