أما الغرفة الداخلية ففيها الفكرة والعاطفة واللفظ والمعنى والصورة والظلال، والموسيقى والانسجام والإيقاع؛ أي إنها «المطبخ» التي تطهى فيه التجربة لتخرج ناضجة.
وأهم ما في التجربة قيمتها الإنسانية، وأهم ما في المطبخ الانسجام والتوازن والسبك، وأهم ما في الباب الخارجي سهولة التوصيل ويسر التفاهم، وكيفية الإقناع والتأثير، وبث الإحساس بالقيم التي أوحت بها إلينا التجربة، وكشف مواضع الجمال والأهمية في الحياة والوجود، وقد يكون للشعر طبخ غير النثر، وللنثر طبخ غير الغناء أو الموسيقى، ولكنها في اختلاف النسب والمقادير بينما تبقى الأصول على حالها من حيث التوازن والانسجام.
فالعمل الفني يجب أن يحدد في عين الناقد بمقدار الشعور الإنساني المنبت فيه، والتوازن الجاري بين المتناقضات من عقل وعاطفة وفكرة ومعنى.
وأخيرا، هل أفاد هذا العمل اتصالا؟ فما قيمته وما أثره في الأدب الحاضر والمجتمع الحاضر؟ وما قيمته وأثره بالنسبة للتراث الأدبي العام، هذا هو نقد المستقبل أو مستقبل النقد والسلام.
رسالة السياسة
إن اعتبار السلوك السياسي على أنه مسألة عقل وتدبير قد أصبح على ضوء علم النفس الحديث اعتبارا عتيقا، وبعد قليل سيصير خرافة. فقد ثبت أن السلوك السياسي أبعد وأعمق من أن يكون مجرد عقل أو دهاء. وأقصد بالسلوك السياسي: ذلك السلوك الذي يساس به الناس بواسطة الحكام أو الساسة، ومصدر هذا التغير في الاعتبار هو بروز مسألة «الغريزة» والعودة إلى التحدث بشأنها في علم النفس الاجتماعي، وفي السلوك الاجتماعي على الإطلاق بشكل يدعو إلى التأمل العميق. لا ندعي من ذلك أن علم النفس ذلك العلم الذي لا يزال ناشئا، يمكن أن يطبق تطبيقا عاما في كل مسألة، أو أنه يمكن تطبيقه جزافا.
على أننا إذا لم ننتظر منه فائدة مباشرة، فإنه مما لا جدال فيه أن الميدان الأخير هو له في غير جدال، ولقد ذكر «ريفرز» في كتابه الأخير عن السيكولوجية والسياسة أنه كان يضع برنامج المحاضرات والامتحانات في الجامعة مدة 8 سنوات متتابعة في المدة الأخيرة، وأثار العجب في نفسه أنه في هذه السنوات كلها لم يذكر كلمة الغريزة، وها هو قد عاد إليها بحماس وقوة، ليقيم دعائم السلام عليها، وعلى ما تبين له من دراستها، على أنه ينكر المقارنة بين العقل والغريزة، ويقول: إن هذا عبث، ويعتبر العقل غريزة متطورة، وينكر نسبة السلوك إلى العقل، ويعرف الغريزة تعريفا جديدا ألا وهو: «أن الغريزة اتجاه موروث نحو السلوك»، ويقول: إن من صفات الغريزة عموميتها، وكثيرا ما ننخدع بشكل من أشكال الغريزة، اتخذ زيا جديدا على الأيام، وأخذ يبدو كأنه لون من ألوان العقل والذكاء، فإذا أخذنا نحقق وجدنا أنه غريزة تشكلت من جديد بحسب ظروف جديدة، وأهم هذه الظروف الكبت أو الاستعلاء، ثم يعود فيقول: إن العقل في نظره عبارة عن «لجام» يمسك بالغريزة، ويكبح جماحها ويقودها وفي يده عنانها، ويؤكد كذلك أن هذا الموجه لا يوجه نفسه، وإنما يوجه «النواحي العاطفية للغريزة»، على أن النقطة التي نريد أن نبدأ بها هي هذه: هل يمكن الاعتماد على علم النفس الاجتماعي فقط ليقود خطانا إلى ما نرجوه من السلامة؟
لقد حاول أكثر العلماء مزج علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع معا، على فكرة أنهما يلتقيان في أن الأول استنتاجي والثاني استقرائي؛ أي إننا ندون ملاحظاتنا بواسطة الثاني ونستخلص النتائج بواسطة الأول، ولكن رأى «جراهام والاس» في أن هناك ما يسمى «الميراث الاجتماعي
Social Heritage » وهو «ميراث غير غريزي
Non Instinctive » خارج عن السلوك الغريزي، جعل هذا المزج مستحيلا؛ فهناك من السلوك المتوقف على الميراث الاجتماعي ما لا يقوم على قواعد «سيكولوجية»، ولكنه يفيدنا فائدة كبرى في الناحية السيكولوجية، ولما كان السلوك السياسي وهو جزء من السلوك الاجتماعي العام فإن الملاحظات والمقارنات والإحصائيات سيكون لها أثر بالغ في توجيه السياسة وجهة نفسية، وعندنا أمثلة كثيرة على ذلك، أمثلة هامة جدا، وأول هذه الأمثلة ما جاء في كتاب «وستر مارك» المشهور عن عاطفة الانتقام، فهو قد قرر تقريرا سيكولوجيا مؤداه أن عاطفة الانتقام أصيلة في النفس الإنسانية، وهذا مبدأ خطير جدا معناه أن استقرار السلام في العالم غير مستطاع، فجاء «ريفرز» وغيره يبحثون هذه الطبيعة طبيعة الانتقام في سلوك القبائل، وفي الإنسان الأول وفي مختلف الطبقات، فانتهوا إلى نتيجة مخالفة لرأي «وستر مارك» مخالفة تامة، معنى هذا أنه لكي ننتهي إلى رأي صحيح يجب أن يسير كل علم في طريقه، على أن يسير العلمان على محاذاة وعلى اتصال.
Halaman tidak diketahui