إذن لم يبلغوا شأو ما بلغ، ولم يدر لهم من ضروع القول ما در، ولو أن طباعًا لم تشرب من مائهم، ولم تغذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي قاح من روائحهم، حال النحل التي تغتذى بأريح الأنوار وطيب الأزهار، وتملأ أجوافها من تلك اللطائف، ثم تمجها أربًا وتقذفها ماديًا، إذن لكان الجاحظ وغير الجاحظ في عداد عامة زمانهم الذين لم يروا، ولم يحفظوا، ولم يتتبعوا كلام الأولين، من لدن ظهر الشعر وكان الخطابة إلى وقتهم الذي هم فيه، ولم يعرفوا إلا ما يتكلم به آباؤهم وإخوانهم ومساكنوهم في الدار والمحلة، أو كانوا لا يزيدون عليهم إن زادوا بمقدار معلوم. فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة، أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة، وأن يعد معد المعجز.
٢٥ - فمثل هذه الطبقة إذن مع الصدر الأول، وقياس هؤلاء الخلف مع أولئك السلف، ما جرى بين ابن ميادة وعقال، قال ابن ميادة:
فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيهِ ذو الروايةِ يَسْبَحُ
وما الشعرُ إِلاّ شعرُ قيسٍ وخندف ... وقول سواهم كلفة وتملح
فقال عقال بجيبه:
ألا أبلغ الرَّمَّاحَ نقْضَ مقالةٍ ... بها خَطِلَ الرَّمَّاحُ أو كان يَمْزَحُ
لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تستقي وهي طفح
وقد عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهمْ أَعْرَبوا هذا الكلام وأوضحوا
1 / 136