(٣)
الرسالة الشافية
لأبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني
(... - ٤٧١هـ)
[عن نسخة حسين جلبي المصورة بمعهد مخطوطات الجامعة العربية]
1 / 115
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ عبد القاهر بن عبد الرحمن ﵁: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ حمدَ الشاكرينَ، وصلَواتُه على النبي محمد وآله أجمعين.
١ - اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعًا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبًا من العبارة هو بتأديته أقوم، وهو فيه أجلى، ومأخذًا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل. وإذا كان الشيء متعلقًا بغيره، ومقيسًا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام، وتقريره في النفوس، أن يوضع له مثال يكشف عن جهة ويؤنس به، ويكون زمامًا عليه يمسكه على المتفهم له والطالب علمه.
٢ - وهذه جمل من القول في بيان عجز العرب حين تحدوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائتٌ للقوى البشرية، ومتجاوزٌ للذي يتَّسع له ذرع المخلوقين وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة قد تحريت فيه االإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام حذوًا هو بعرف علماء العربية أشبه، وفي طريقهم أذهب، وإلى الأفهام جملة أقرب. وأسأل الله التوفيق للصواب والعون عليه، والإرشاد إلى كل ما يزلف لديه، إنه على ما يشاء قدير.
٣ - معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضًا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم نبع لهم، وقاصر
1 / 117
فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يدعي للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي ﷺ الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطبها لما لم يكملوا له. كيف؟ ونحن نراهم يحملون عنهم أنفسهم، ويبرأون من دعوى المداناة معهم، فضلًا عن الزيادة عليهم.
هذا خالد بن صفوان يقول: "كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم، وإنما نجرى على ما سبق إليينا من أعرافهم؟ ".
ونرى الجاحظ يدعي للعرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة، ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفه أحلامهم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشفوة وبالتهالك في العصبية، ويبطل ويطنب، ثم يقول:
"ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق، من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك، إلا في اليسير والشيء القليل". انتهى كلامه.
والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى، أو أن ينكره إلا جاهل أو معاند.
٤ - وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة، فإن علمهم العلم. فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلى عليهم القرآن وتحدوا إليه، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله، ومن التقريع بالعجز عنه، وبت الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه.
وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله،
1 / 118
ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلًا على وجه من الوجوه.
٥ - أما "الأحوال" فدلت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف، وطبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة وهم يجدون سبيلًا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم. كيف؟ وإن الشاعر أو الخطيب أو الكاتب يبلغه أن بأقصى الإقليم الذي هو فيه من يبأى بنفسه، ويدل بشعر يقوله، أو خطبة يقوم بها، أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحمية ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه، بعض العلل وبنوع من التمحل. هذا، وهو لم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض.
وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يقصر عنه، أو أنه منه أفضل.
فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مماتنته، ويحركه لمقاولته، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته.
وقد عرفت قصة جرير والفرزدق، وكل شاعرين جمعهما عصر، ثم عرض بينهما ما يهيج على المقاولة، ويدعو إلى المفاخرة والمنافرة، كيف جعل كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه ووكده، وقصر عليه دهره؟ هذا، وليس به، ولا يخشى، إلا أن يقضي لصاحبه بأنه أشعر منه، وأن خاطره أحد، وقوافيه أشرد، لا ينازعه ملكًا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقًا، ولا يلزمه به إتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة؟
1 / 119
٦ - وإذا كان هذا واجبًا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلا ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط، فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوى الأنفس الأبية والهمم العلية، والأنفة والحمية من يدعي النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة، وأنه بشير بالجنة ونذير بالنار، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته، ودين دان به الناس شرقًا وغربًا، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، إلى سائر ما صدع به ﷺ، ثم يقول: "وحجتي أن الله تعالى قد أنزل على كتابًا عربيًا مبينًا، تعرفون ألفاظه، وتفهومون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة، ولو جهدتم جهدكم، واجتمع معكم الجن والإنس" ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضه، ويبينوا سرفه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه؟
هذا، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته، ومن الذي ادعاه، حدًا تركوا معه أحلامهم الراجحة، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة، حتى واجهوه بكل قبيح، ولقوه بكل أذى ومكروه، ووقفوا له بكل طريق، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة، وأرادوهم بأنواع الشر.
وهو سمع قط بذي عقل ومسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يسفه فيها، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة، وعسر عليه المخلص؟
أم هل عرف في مجرى العادات، وفي دعواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها، ولا يجلى عن وجهها، ولا يريه الغلط فيما قال، والكذب فيما أدعى، لا، ولا يدعي أن ذلك عنده، وأنه مستطيع له، بل يجعل
1 / 120
أول جوابه له ومعارضته إياه، التسرع إليه والسفه عليه، واٌدام على قطع رحمه، وعلى الإفراط في أذاه؟
أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة، ولهم دين ونحلة، فيولب عليهم الناس، ويدبر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قتل صناديدهم وكبارهم، وسبى ذرايهم وأولادهم، وعمدته التي يجد بها السبيل إلى تالف من يتألفه، ودعاء من يدعوه، دعوى له، إذا هي أبطلت بطل أمره كله، وانتقض عليه تدبيره ثم لا يعرض له في تلك الدعوى، ولا يشتغل بإبطالها، مع إمكان ذلك، ومع أنه ليس بمتعذر ولا ممتنع؟
وهل مثل هذا إلا مثل رجل عرض له خصم من حيث لم يحتسبه، فادعى عليه دعوى إن هي سمعت كان منها على خطر في ماله ونفسه، فأحضر بينة على دعواه تلك، وعند هذا المدعي عليه ما يبطل تلك البينة أو يعارضها، وما يحول على الجملة بينه وبين تنفيذ دعواه، فيدع إظهار ذلك والاحتجاج به، ويضرب عنه جملة، ويدعه وما يريد من إحكام أمره وإتمامه، ثم يصير الحال بينهما إلى المحاربة، وإلى الإخطار بالمهج والنفوس، فيطاوله الحرب، ويقتل فيها أولاده وأعزته، وتنهج عشيرته، وتعنم أمواله، ولا يقع له في أثناء تلك الحال أن يرجع إلى القاضي الذي قضى لخصمه بديًا، ولا إلى القوم الذين سمعوا منه وتصوروه بصورة المحق فيقول: "لقد كانت عندي حين أدعي ما أدعي بينه على فساد دعوه وعلى كذب شهوده، قد تركتها تهاونًا بأمره، أو أنسيتها، أو منع مانع دون عرضها، وها هي هذه قد جئتكم بها، فانظروا فيها لتعلموا أنكم قد غررتم؟ ".
ومعلوم بالضرورة أن هذا الرجل لو كان من المجانين، لما صح أن يفعل ذلك، فكيف بقوم هم أرجح أهل زمانهم عقولًا، وأكملهم معرفة،
1 / 121
وأجزلهم رأيًا، وأثقبهم بصيرة؟ فهذه دلالة "الأحوال".
٧ - وأما "الأقوال" فكثيرة:
منها حديث ابن المغيرة، روى أنه جاء حتى أتى قريشًا فقال: إن الناس يجتمعون غدًا بالموسم، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، فهم سائلوكم عنه فماذا تردون عليهم؟ فقالوا: مجمون يخنق. فقال: يأتونه فيكلمونه فيجدونه صحيحًا فصيحًا عاقلًا، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو شاعر. قال: هم العرب، وقد رووا الشعر، وفيهم الشعراء، وقوله ليس يشبه الشعر، فيكذبونكم! قالوا نقول: هو كاهن. قال: إنهم لقوا الكهان، فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة، فيكذبونكم!
ثم انصرف إلى منزلة فقالوا: صبأ الوليد يعنون: أسلم، ولئن صبأ لا يبقى أحد إلا صبأ. فقال لهم ابن أخيه أبو جهل بن هشام بن المغيرة: أنا أكفيكموه. قال: فأتاه مخزونًا فقال: ما لك يا ابن أخ؟ قال: هذه قريش تجمع لك صدقة يتصدقون بها عليك، تستعين بها على كبرك وحاجتك. قال: أولست أكثر قريش مالًا؟! قال: بلى، ولكنهم يزعمون أنك صبأت لتصيب من فضل طعام محمد وأصحابه. قال: والله ما يشبعون من الطعام، فكيف يكون لهم فضول؟!
ثم أتى قريشًا فقال: أتزعمون أني صبأت؟ ولعمري ما صبأت، إنكم قلتم: محمد مجنون، وقد ولد بين أظهركم لم يغب عنكم ليلة ولا يومًا فهل رأيتموه يخنق قط؟ وقلتم: شاعر؟ وأنتم شعراء، فهل أحد منكم يقول ما يقول؟ وقلتم: كاهن، فهل حدثكم محمد في شيء يكون في غد إلا أن يقول إن شاء الله! قالوا: فكيف تقول يا أبا المغيرة؟ قال: أقول هو ساحر: فقالوا: وأي شيء السحر؟ قال: شيء يكون ببابل، من حذقه فرق بين الرجل وامرأته، والرجل وأخيه، إنا لله، أفما تعلمون أن محمدًا فرق بين
1 / 122
فلان وفلانة زوجته، وبين فلان وابنه، وبين فلان وأخيه، وبين فلان ومواليه، فلا ينفعهم ولا يلتفت إليهم ولا يأتيهم؟ قالوا: بلى. فاجتمع رأيهم على أن يقولوا إنه ساحر، وأن يردوا الناس عنه بهذا القول.
وانصرف، فمر بأصحاب النبي ﷺ منطلقًا إلى رحله، وهم جلوس في المسجد، فقالوا: هل لك يا أبا المغيرة إلى خير؟ فرجع إليهم فقال: ما ذلك الخير؟ فقال: التوحيد. قال: ما يقول صاحبكم إلا سحرًا. وما هو إلا قول البشر يرويه عن غيره. وعبس في وجوهم وبسر، ثم أدبر إلى أهله مكذبًا، واستكبر عن حديثهم الذي قالوا له وعن الإيمان، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ [المدثر: ١٨، ١٩]، الآية.
٨ - ومنه ما رواه محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدًا حليمًا قال يومًا: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه فأعرض عليه أمور لعله أن يقبل منها بعضها، فتعطيه أيها شياء؟ وذلك حين أسلم حمزة ﵁، وروا أصحاب النبي ﷺ يكثرون قالوا: بلى يا أبا الوليد! فقام إليه، وهو ﷺ جالس في المسجد وحده، فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت بين جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله ﷺ. "قل". قال: إن كنت إنما تريد المال بما جئت به من هذا القول، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد
1 / 123
شرفًا سودناك حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًا لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، أو لعل هذا الشعر شعر جاش به صدرك، فإنك لعمري بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه. حتى إذا فرغ قال له رسول الله ﷺ: "أوقد فرغت"؟ قال: نعم. قال: "فاسمع مني"، قال: قل. قال: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ " [فصلت: ١ - ٤]، ثم مضى فيها يقرؤها، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسولُ الله ﷺ إلى السجدة منها فسجد، ثم قال له: "قد سمعت ما سمعت فأنت وذاك"!
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، خلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن نصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهره على العرب به، فملكه ملككم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
٩ - ومنه ما جاء في حديث أبي ذر في سبب إسلامه: روي أنه قال: قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى مكة، فانطلق فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا [يقول] إن الله تعالى أرسله.
1 / 124
فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، ساحر، كاهن. قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء، قال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
١٠ - ومن ذلك ما روي أن الوليد [بن عقبة] أتى النبي ﷺ فقال: اقرأ. فقرأ عليه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠]، فقال: أعد فأعاد، فقال: "والله إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطُلاوةً، وإنَّ أسفله لمعرق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر".
١١ - واعلم أنه لا يجوز أن يقال في هذا وشبهه إنه لا يكون دليلًا حتى يكون من قول المشركين بعضهم لبعض، حين خلوا بأنفسهم فتفاوضوا وتحاوروا وأفضى بعضهم بذات نفسه إلى بعض وإن كان منه من كلام المؤمنين، أو ممن قاله ثم آمن، فإنه لا يصح الاحتجاج به في حكم الجدل، من حيث يصير كأنك تحتج على الخصم برأي تراه أنت، وبقول أنت تقوله، وذلك أنه إنما يمتنع أن يدل إذا صدر القول مصدر الدعوى والشيء يدفعه الخصم وينكره، فأما ما كان مخرجه مخرج التنبيه على أمر يعرفه ذوو الخبرة، وأطلقه قائله إطلاق الواثق بأنه معلوم للجمع، وأنه ليس من بصير يعرف مقادير الفضل والنقص إلا وهو يحوج إلى تسليمه والاعتراف به شاء أم أبي فهو دليل بكل حال، ومن قول كل قائل، وحجة من غير مثنوية، ومن غير أن ينظر إلى قائله أموافق أم مخالف، ذاك لأن الدلالة ليست من نفس القول وذاك الصفة، بل في مصدرهما، وفي أن أخرجها مخرج
1 / 125
الإخبار عن أمر هو كالشيء البادي للعون، لا يعمل أحد بصره إلا رآه.
١٢ - وإذا رأينا "الأحوال" و"الأقوال" منهم قد شهدت، كالذي بان، باستسلامهم للعجز وعلمهم بالعظيم من الفضل والبائن من المزية، الذي إذا قيس إلى ما يستطيعونه ويقدرون عليه في ضروب النظم وأنواع التصرف، فإنه الفوت الذي لا ينال، وارتقى إلى حيث لا تطمع إلهي الآمال، فقد وجب القطع بأنه معجز.
ذلك لأنه ليس إلا أحد الأمرين: فإما أن يكونوا قد علموا المزية التي ذكرنا أنهم علموها على الصحة وإما أن يكونوا قد توهموها في نظم القرآن، وليست هي فيه لغلط دخل عليهم. ودعوى الثاني من الأمرين سخف، فإن ذلك لو ظن بالواحد منهم لبعد، ذلك لأنه لا يتصور أن يتوهم العاقل في نظم كلام، جل مناه ومنى أصحابه أن يستطيع معارضته، وأن يقدر على إسكات خصمه المباهي به، أنه قد بلغ في المزية هذا المبلغ العظيم غلطًا وسهوًا، فكيف بأن يشمل هذا الغلط كلهم، ويدخل على كافتهم؟ وأي عقل يرضى من صاحبه بأن يتوهم عليهم مثل هذا من الغلط، وهم من إذا ذاق الكلام عرف قائله من قبل أن يذكر، ويسمع أحدهم البيت قد استرفده الشاعر فأدخله في أثناء شعر له، فيعرف موضعه وبنيه عليه، كما قال الفرزدق لذي الرمة أهذا شعرك؟ هذا شعر لاكه أشد لحيين منك إلى ضروب من دقيق المعرفة يقل هذا في جنبها؟ وإذا لم يصح الغلط عليهم، ولم يجز أن يدعي أنه كان معهم في زمانهم من كان بالأمر أعلم، وبالذي وقع التحدي إليه أقوم، فما زالت الشبهة في كونه معجزًا له.
١٣ - وإن قالوا: فإن ههنا أمرًا آخر، وهو ما علمنا من تقديمهم شعراء
1 / 126
الجاهلية على أنفسهم، وإقرارهم لهم بالفضل، وإجماعهم في امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى أنهم أشعر العرب. وإذا كان ذلك كذلك، فمن أين لنا أن نعلم أنهم لم يكونوا بحيث لو تحدوا إلى معارضة القرآن لقاموا بها واستطاعوها؟
قيل لهم: هذا الفصل على ما فيه لا يقدح في موضع الحجة، وذلك أنهم كانوا، كما لا يخفى، يروون أشعار الجاهليين وخطبهم، ويعرفون مقاديرهم في الفصاحة معرفة من لا تشكيل جهات الفضل عليه، فلو كانوا يرون فيما رووا وحفظوا مزية على القرآن، أو رأوه قريبًا منه، أو بحيث يجوز أن يعارض بمثله، أو يقع لهم إذا قاسموا وازنوا أن هذا الذي تحدوا إلى معارضته لو تحدى إليه من قبلهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله، لكانوا يدعون ذلك ويذكرون، ولو ذكروه لذكر عنهم. ومحال إذا رجعنا إلى أنفسنا واستشففنا حال الناس فيما جبلوا عليه أن يكونوا قد عرفوا لما تحدوا إليه وفرعوا بالعجز عنه شبهًا ونظمًا، ثم يتلى عليهم: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨]، فلا يزيدون في جوابه على الصمت، ولا يقولون: "لقد روينا لمن تقدم ما علمت وعلمنا أنه لا يقصر [عما] أتيت به، فمن أين استجزت أن تدعي هذه الدعوى"؟
فإذا كان من المعلوم ضرورة أنهم لم يقولوا ذلك، ولا رأوا أن يقولوا، ولو على سبيل الدفع والتلبيس والتشعب بالباطل، بل كانوا بين أمرين: إما أن يخبروا عن أنفسهم بالعجز والقصور، وذلك حين يخلو بعضهم ببعض، وكان الحال حال تصادق وإما أن
1 / 127
يتعلقوا بما لا يتعلق به إلا من أعوزته الحيلة، ومن فل بالحجة، من نسبته إلى السحر تارة، وإلى أنه مأخوذ من فلان وفلان أخرى، يسمون أقوامًا مجهولين لا يعرفون بعلم، ولا يظن بهم أن عندهم علمًا ليس عند غيرهم ثبت أنهم قد كانوا علموا أن صورة أولئك الأوائل صورتهم، وأن التقدير فيهم أنهم لو كانوا في زمان النبي ﷺ، ثم تحدوا إلى معارضته، في مثل حال هؤلاء الكائنين في زمانه حالهم. وإذا كان هذا هكذا، فقد انتفى الشك، وحصل اليقين الذي تسكن معه النفس، ويطمئن عنده القلب، أنه معجز ناقض للعادة، وأنه في معنى قلب العصا حية، وإحياء الموتى، في ظهور الحجة به على الخلق كافة، وبان أن قد سعد المؤمنون وتحسر المبطلون. والحمد لله رب العالمين على أن هدانا لدينه، وأنار قلوبنا ببرهانه ودليله، وإباه جل وعز نسأل التثبيت على ما هدى له، وإتمام النعمة بإدامة ما خوله، بفضله ومنه.
فصل:
١٤ - واعلم أن ههنا بابًا من التلبيس أنت تجده يدور في أنس قوم من الأشقياء، وتراهم يومئون إليه، ويهمسون به، ويستهوون الغر الغبي بذكره، وهو قولهم: "قد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى ليقع الإجماع منهم أنه الفرد
1 / 128
الذي لا ينازع. ثم يذكرون أمرأ القيس والشعراء الذين قدموا على من كان معهم من أعصارهم، ومما ذكروا الجاحظ وكل مذكور بأنه كان أفضل من كان في عصره، ولهم في هذا الباب خبط وتخليط لا إلى غاية. وهي نفثة نفثها الشيطان فيهم، وإنما أتوا من سوء تدبرهم لما يسمعون، وتسرعهم إلى الاعتراض قبل تمام العلم بالدليل. وذلك أن الشرط في المزية الناقضة للعادة، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث المداناة، وحتى لا تحدث نفس صاحبها بأن يتصدى، ولا يجول في خلد أن الإتيان بمثله يمكن، وحتى يكون يأسهم منه وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه، مثل ذلك في كله.
١٥ - وليت شعري، من هذا الذي سلم لهم أنه كان في وقت من الأوقات من بلغ أمره في المزية وفي العلو على أهل زمانه هذا المبلغ، وانتهى إلى هذا الحد؟ إن قيل: "امرؤ القيس"، فقد كان في وقته من يباريه ويماتنه، بل لا يتحاشى من أن يدعي الفضل عليه. فقد عرفنا حديث "علقمة الفحل"، وأنه لما قال امرؤ القيس، وقد تناشدا: "أينا أشعر؟ "، قال: "أنا"، غير مترث ولا مبال، حتى قال امرؤ القيس: "فقل وانعت فرسك وناقتك، وأقول وأنعت فرسي وناقتي" فقال علقمة: "إني فاعل، والحكم بيني وبينك المرأة من ورائك"، يعني أم جندب امرأة آمرئ القيس، فقال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقال علقمة:
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقًا كل هذا التجنب
1 / 129
وتحاكما إلى المرأة، ففضلت علقمة.
١٦ - وجرى بين امرئ القيس والحارث اليشكرى في تتميمه أنصاف الأبيات التي أولها:
أحار أريك برقًا هب وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارًا
ما هو مشهور، حتى قالوا امرؤ القيس: لا أماتنك بعد هذا.
١٧ - ثم وجدنا الخبار تدل على خلاف لم يزم بين الناس فيه وفي غيره، أي أشعر؟ وعلى أي لم يستقر الأمر في تقديمه قرارًا برفع الشك. رووا أن أمير المؤمنين عليًا، رضوان الله عليه، كان يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم فأقل، وأوجز فأبلغ. قال: فاختصم الناس ليلة في أشعر الناس، حتى ارتفعت أصواتهم، فقال رضوان الله عليه لأبي الأسود الدؤلي: قل يا أبا الأسود. وكان يتعصب لأبي دؤاد، فقال: أشعرهم الذي يقول:
ولقد اعتدى يدافع ركنى ... أحوذى ذو ميعة إضريج
مخلط مزيل مكر مفر ... منفح مطرح سبوح خروج
سَلهبٌ شَرْجبٌ كأنَّ رِماحًا ... حَمَلتْهُ، وَفِي السَّراةِ دموج
فأقبل أمير المؤمنين -رضوان الله عليه- على الناس فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم، زمان واحد وغاية ومذب واحد في القول، لعلمنا
1 / 130
أيهم أسبق إلى ذلك، وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه، وإن يكن أحدهم أفضل، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة: امرؤ القيس بن حجر، كان أصحهم بادرة، وأجودهم نادرة.
١٨ - وعن ابن عباس أنه سأل الخطيئة: من أشعر الناس؟ قال: أمن الماضين أم من الباقين؟ فقال: إذن من الماضين، فهو الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وما الذي يقول:
ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
بدون ذلك، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولًا يعني نفسه والله يا آبن عباس لولا الجشع والطمع لكنت أشعر الماضيين، فأما الباقون فلا أشك أني أشعرهم.
١٩ - وقالوا: كان الأوائل لا يفضلون على زهير أحدًا في الشعر ويقولون: "قد ظلمه حقه من جعله كالنابغة". قالوا: "وعامة أهل الحجاز على ذلك". وعن ابن عباس أنه قال: سامرت عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- ذات ليلة فقال: أنشدني لشاعر الشعراء. فقلت: ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير. قلت:
يا أمير المؤمنين، ولم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يتتبع وحشى الكلام في شعره، ولا يعاظل بين القول.
٢٠ - وروى عن أبي عبيدة أنه قال: أشعر الناس ثلاثة: امرؤ القيس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، ثم اختلفوا فيهم: فزورت
1 / 131
اليمانية تقديمًا لصاحبهم أخبارًا رفعوها إلى رسول الله ﷺ. وروى عن يحيى بن سليمان الكاتب أنه قال: بعثني المنصور إلى حماد الرواية أسأله عن أشعر الناس، فأتيته وقلت: إن أمير المؤمنين يسألك عن أشعر الناس. فقال: ذاك الأعشى صناجها.
٢١ - فقد علمنا أن امرأ القيس كان أشعرهم عندهم، وأن تفضيلهم غيره عليه إنما كان على سبيل المبالغة، وعلى جهة الاستحسان للشيء يتمثل به في الوقت ويقع في النفس، وما أشبه ذلك م نالأسباب التي يعطي بها الشاعر أكثر مما يستحق. أليس فيه أنه مما لا يبعد في القياس، وأنه مما يتسع له الاحتمال، وأنه ليس بالقول الذي يعاب، والحكم الذي يزرى بصاحبه، وأنه فضله عليهم لم يكون بالفضل الذي يمنع أن يكونوا أكفاء له ونظراء، يسوغ للواحد منهم، ويسوغ هو لنفسه، دعوه مساواته والتصدي لمباراته؟
هذا، وفي حاجة المنصور إلى أن يسأل عن أشعر الشعراء، وقد مضى الدهر بعد الدهر، دليل [على] أن لم يكن الذي روى من تفضيله قولًا مجمعًا عليه من أصله وفي أول ما قيل، وأنه كان كالرأي يراه قوم وينكره آخرون، وأن الصورة كانت كالصورة مع جرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري. ذاك لأنه لو كان القول بأنه أشعر الناس قولًا صدر مصدر الإجماع في أوله، وحكمًا أطبق عليه الكافة حين حكم به، حتى لم يوجد مخالف، ثم استمر كذلك إلى زمان المنصور، لكان يكون محالًا أن يخفى عليه حتى يحتاج فيه إلى سؤال حماد وكان يكون كذلك بعيدًا من حماد أن يبعث إليه مثل المنصور، في هيبته وسلطانه ودقة نظره وشدة مؤاخذته، يسأله فيجازف له في الجواب، ويقول قولًا لم يقله أحد، ثم يطلقه إطلاق الشيء الموثوق بصحته، المتقدم في شهرته، فتدبر ذلك.
1 / 132
٢٢ - ويزيد الأمر بيانًا أن رأيناهم حين طبقوا الشعراء جعلوا امرأ القيس وزهيرًا والنابغة والأعشى في طبقة، فأعلموا بذلك أنهم أكفاء ونظراء، وأن فضلًا أن كان لواحد منهم، فليس بالذي يوئس الباقين من مداناته، ومن أن يستطيعوا التعق به والجرى في ميدانه، ويمنعهم أن يدعوا لأنفسهم أو يدعي لهم أنهم ساووه في كثير مما قالوه أو دنوا منه، وأنهم جروا إلى غياته أو كادوا. وإذا كان هذه صورة الأمر، كان من العمى التعلق به، ومن الخسار الوقوع في الشبهة بسببه.
٢٣ - وطريقة أخرى في ذلك، وتقرير له على ترتيب آخر، وهو أن الفضل يجب والتقديم، إما لمعنى غريب يسبق إليه الشاعر فيستخرجه، أو استعارة بعيدة يفطن لها، أو لطريقة في النظم يخترعها. ومعلوم أن المعول في دليل الإعجاز على النظم، ومعلوم كذلك أن ليس الدليل في المجيء ينظم لم يوجد من قبل فقط، بل في ذلك مضمومًا إلى أن يبين ذلك "النظم" من سائر ما عرف ويعرف من ضروب "النظم"، وما يعرف أهل العصر من أنفسهم أنهم يستطيعونه، البينونة التي لا يعرض معها شك لواحد منهم أنه لا يستطيعه، ولا يهتدي لكنه أمره، حتى يكونوا في استشعار اليأس من أن يقدروا على مثله، وما يجري مجرى المثل له، على صورة واحدة، وحتى كان قلوبهم في ذلك أفرغت في قالب واحد. وإذا كان الأمر كذلك لم يصح لهم تعلق بشأن امرئ القيس حتى يدعوا أنه سبق إلى نظم بان من كل نظم عرف لمن قبله ولمن كان معه في زمانه، البينونة التي ذكرنا أمرها.
وهم إذا فعلوا ذلك، ورطوا أنفسهم في أعظم ما يكون من الجهالةن من حيث أن يفضي بهم إلى أن أن يدعوا على من كان في زمان النبي ﷺ من الشعراء والبلغاء
1 / 133
قاطبة الجهل بمقادير البلاغة، والنقصان في علمها، ولأنفسهم الزيادة عليهم، وأن يكونوا قد استدركوا في نظم امرئ القيس مزية لم تعلمها قريش والعرب قاطبة، ذلك لما مضى آنفًا من أن محالًا أن يكون معهم وبين أيديهم نظم يعرفون من حاله أنه مساو في الشرف نظم القرآن، ثم لا يذكرونه ولا يحتجون به على النبي ﷺ، وهو يخبرهم أن الذي أتى به خارج عن طوق البشر ويتجاوز قواهم.
هذا، ومن يسلم بأن امرأ القيس زاد في البلاغة وشرف النظم على نظم من كان قبله، ما إذا اعتبر كان في مزية قدر القرآن على نظم من كان في عصر النبي ﷺ أن من أين لهم هذه الدعوى؟ ألشيء علموه هم في شعره، بان لهم عند قياسه إلى شعر من كان قبله كأبي دواد والأفوه الأودي وغيرهما؟ أم لخبر أتاهم؟ فليرونا مكانه، وليس لهم إلى ذلك سبيل، بل قد أتى الخبر بما يجهلهم في هذه الدعوى ويكذبهم، وهو الذي تقدم من قول أبي الأسود وتفضيله أبا دواد بحضرة أمير المؤمنين على رضوان الله عليه، ويعد أن قال له: "قل يا أبا الأسود"، أفيكون أن يكونوا قد عرفوا لامرئ القيس المزية التي ذكروها، وكان فضله على من تقدمه الفضل الذي قالوه، ثم يقول أمير المؤمنين لأبي الأسود: "قل"، بحضرة العرب، وبعقب أن تشاجروا في أشعر الناس، فيؤخره ويقدم أبا دؤاد، ثم لا يسمع نكيرًا، كالذي يجب فيمن قال الشيء الظاهر بطلانه، وذهب مذهبًا لا مساغ له! وليست تذكر أمثال هذه الزيادة، ويتكلف الجواب عنها، أنها تأخذ موضعًا من قلب ذي لب، ولكن الاحتياط بذكر ما يتوهم أن يستروح إليه الغوى، ويغالط به الجاهل.
وإذا كانت الشبهة في أصل الدين، كانت كالداء الذي يخشى منه
1 / 134
على الروح، ويخاف منه على النفس، فلا يستقل قليله، ولا يتهاون باليسير منه، ولا يتوهم مكان حركة له إلا استقصى النظر فيه، وأعيد الكي على نواحيه، وكالحيوان ذي السم يعاد الحجر على رأسه، ما دام يرى به حس وإن قل.
والله ولي العصمة، والمسئول أن يجعل كل ما نعيد ونبدئ فيه لوجهه، بفضله ومنه.
٢٤ - فاعلم أنهم إذا ذكروا في تعلقهم بلتوابع، ومحاولتهم أن يمنعوا من الاستدلال، مع تسليم عجز العرب عن معارضة القرآن من تراخي زمانه عن زمان النبي ﷺ، كالجاحظ وأشباهه، كانوا في ذلك أجهل، وكان النقض عليهم أسهل. وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها، وأن يظهر على مدعي النبوة ما لم يستطيعه مملوك قط.
وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقد واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أن واحدًا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم، أو أحذقهم في صنعة، وأبهرهم في عمل من الأعمال. وليس ذلك من الإعجاز في شيء، إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو فوق علومهم، إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم. وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وانهم فجروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلًا في البلاغة افحتذروا،
1 / 135