Risalah dalam Teologi dan Politik
رسالة في اللاهوت والسياسة
Genre-genre
القضاء على السلوك الانفعالي إذن خطوة نحو العقلانية، فإذا عرفنا مدى شيوع السلوك الانفعالي في البلاد النامية، ومدى تدخل الأهواء والانفعالات في العلاقات الشخصية وفي تقدير المواقف وفي سن القوانين وتطبيقها، عرفنا أن سيادة الانفعال وغياب العقل أحد مظاهر التخلف.
ويستخدم الدين أيضا للسيطرة على الجماهير ولإبقائها تحت سيطرة السلطة، إذ يكثر الدكتاتور من مظاهر العظمة في بناء المعابد، والاحتفالات بالموالد، حتى يمكن عن طريق التأليه الخضوع لله أو للدكتاتور، والطاعة العمياء له؛ لذلك كانت الخرافة أفضل الوسائل لتسيير العامة، فيكفي للسلطات العليا الاحتفال بالموالد، وبأتقياء الله، وبعبادة الصالحين حتى تسير العامة وراءها فينظر إلى الملوك باعتبارهم آلهة، ويتم تجميل الدين بالشعائر «الطقوس» وتزيين الملوك بالقصور والتيجان. فالخرافة هي أساس النظام الملكي، باعتباره النظام التقليدي الذي يقوم على حكم الفرد المطلق الذي يبغي خداع الناس، وإرهابهم باسم الدين من أجل السيطرة عليهم، واستعبادهم، ووضع قيود على الفكر والعقيدة، في حين أن العقل لا يسود إلا في النظام الجمهوري الذي يكون فيه المواطن حرا في فكره وعقيدته، والذي يخضع فيه سلوكه لتشريع الدولة.
وهنا يبدو الهدف الثاني من رسالة سبينوزا هو دراسة الصلة بين الدين والدولة، أو كما يقول هو: بين اللاهوت والسياسة. فاللاهوت ليس نظرية في الله فقط بل ينشأ عنه نظام اجتماعي كذلك، وليس الدين عقائد فحسب، بل ينشأ عنه نظام سياسي كذلك. والحقيقة أن رسالة سبينوزا ليست دراسة للصلة بين اللاهوت والسياسة بقدر ما هي دراسة للصلة بين السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية،
14
أي إن غرض سبينوزا هو دراسة الصلة بين اللاهوت القائم بالفعل والنظم السياسية القائمة، أو إن شئنا الصلة بين السلطة اللاهوتية الممثلة في رجال الدين أو في الكنيسة وبين السلطة المدنية الممثلة في الحكم أو في رئيس الدولة، فهي دراسة واقعية للأوضاع التي عاش فيها سبينوزا من تداخل السلطتين اللاهوتية والسياسية، وكلاهما كما رأينا يقوم على الخرافة، ومنع حرية الرأي والقضاء على العقل؛ لذلك تم التواطؤ بين المعابد وأقسام الشرطة، أو يتم التمسح بالمعابد كما تحدث الزلفى للسلطات!
ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فحرية الفكر هي دعامة الرأي العام، والرأي العام هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، فإذا قضي على حرية الفكر، قضي على الرأي العام، وأصبحت الدولة بلا دعامة داخلية. يفعل الحاكم ما يشاء وتفعل أجهزة الحكم ما تريد، وبالتالي تنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن الدولة.
لذلك يجب على السلطات العامة ألا تتدخل في الحريات الفردية، وإلا لتعرض أمن الدولة للخطر. فهذا هو الحق الطبيعي للفرد، كل فرد حر بطبيعته، وكل فرد هو الضامن لحريته. وتنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية، وتنتصر لبعض العقائد، وتعادي البعض الآخر، ولن تتوقف الفتن إلا إذا وضعت الدولة الأفعال وحدها، دون الأقوال، تحت القانون؛ حتى يستطيع كل مواطن أن يعبد الله كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، بدل أن تقطع الرقاب من أجل أقوال كلها ظنية. لا احتكار للفكر ولا حكر عليه، وليس من حق الدولة التدخل في حرية المفكر أو في الرقابة عليه. وكيف تنتصر الدولة لرأي على رأي سواء في اللاهوت أم في السياسة، وليس هناك تفسير واحد صحيح للدين والباقي خطأ؟ لكل إنسان الحق في فهم الوحي وتأويله كما يشاء، وإن التسلط والتحزب لرأي دون رأي ليؤدي حتما إلى ضياع الإيمان. حرية الرأي إذن يجب أن تكون مكفولة للمواطنين جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، وليست القاضية عليها. فلا ينبغي أن تكون الدولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع. حرية الرأي إذن ضرورة اجتماعية حتى يعم الأمن والسلام في الدولة، وإن الحاكم الذي يظن أن تثبيت قواعد حكمه إنما يكون بالقهر والطغيان، وبالقضاء على حرية الفكر، ينتهي لا محالة إلى غير ما قصد إليه؛ لأن في القضاء على حرية الفكر قضاء على الدولة، بل إن القانون الإلهي نفسه يمنح هذه الحرية لجميع الناس، ولا يبدو ذلك غريبا لأن الدولة نفسها قد نشأت بعقد اجتماعي بين الأفراد يفوض سلطتهم إلى الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، فسلطة الدولة ممثلة لسلطة الأفراد؛ لذلك لا يجوز للسلطات العليا، وهي الممثلة للشعب، أن تعمل ضده، أو أن تقضي على حريته التي فوضها لها بإرادة حرة. تنشأ النظم الدكتاتورية عندما تفعل السلطات العليا ما تريد، بغض النظر عما فوضه الأفراد لها من حقوق.
والحقيقة أن موضوع رسالة سبينوزا ليس هو اللاهوت فحسب، أو السياسة فحسب، أو حتى الصلة بينهما، بل - بتعبير أدق - الوحي في التاريخ. عندما تتحقق النبوة في فترة معينة، وعند شعب معين، يأتي الوحي للتغلب على الطبيعة السائدة في الشعب، فينجح إلى حين، ثم تنتهي الطبيعة السائدة بالتغلب على الوحي. ومن ثم فموضوع الرسالة هو فلسفة التاريخ الديني أو التاريخ المقدس على ما يقال. لقد أتى الوحي للشعب اليهودي حتى يتغلب على طبيعته الحسية المادية، وعلى تكوينه الوثني، ولكنه انتهى إلى أن سادته الوثنية، وتغلبت عليه الطبيعة الحسية، ثم أتى الوحي المسيحي داعيا للسلام، من أجل التغلب على الطبيعة الحربية الرومانية، وداعيا للطهارة الروحية، من أجل التغلب على المادية الحسية اليهودية والرومانية، ولكنه انتهى إلى أن سادته الحروب والتعصب، وتغلبت عليه المادية الحسية. ويمكن القول أيضا بأن الوحي الإسلامي جاء حتى تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإذا هي الآن مستعمرة من الخارج أو مسلوبة الثروات من الداخل؛ أي إنها انتهت إلى عكس ما قصد إليه الوحي.
رسالة سبينوزا إذن هي دراسة لمصير الوحي في التاريخ وكيف أنه ينقلب إلى الضد؛ فالمسيحية دعوة للروح وللسلام والتضحية تتحول إلى مجتمع تسوده المظهرية والتعصب والكراهية، واليهودية دعوة للطاعة تنقلب إلى مجتمع عاص، والإسلام دعوة لإقامة خير أمة أخرجت للناس ينقلب إلى مجتمع يسوده التخلف ويحكمه الاستعمار. يدرس سبينوزا هذا القلب، قلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب، والمعنى إلى حرف، والتدين إلى خرافة، والتقوى إلى طقوس وشعائر، والإيمان إلى تعصب، والحقيقة إلى بطلان، والتعاليم الإلهية إلى بدع، والنور الفطري إلى جهل، والمعابد إلى مسارح، والدين إلى وثنية، والإنسان إلى حيوان، وكأن الدافع الحيوي ينتهي بالضرورة إلى سقوط مادي، وكأن اللهب ينتهي بالضرورة إلى رماد.
15
Halaman tidak diketahui