Risalah dalam Teologi dan Politik
رسالة في اللاهوت والسياسة
Genre-genre
الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية1
مقدمة المترجم1
رسالة في اللاهوت والسياسة1
مقدمة المؤلف
1 - النبوة
2 - الأنبياء
3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا عليهم؟
4 - القانون الإلهي
5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص
Halaman tidak diketahui
6 - المعجزات
7 - تفسير الكتاب
8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة
9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟
10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها
11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء
12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا
13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة
14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
15 - اللاهوت ليس خادما للعقل
Halaman tidak diketahui
16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3
17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا
18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها
19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية
20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة
الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية1
مقدمة المترجم1
رسالة في اللاهوت والسياسة1
مقدمة المؤلف
Halaman tidak diketahui
1 - النبوة
2 - الأنبياء
3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا عليهم؟
4 - القانون الإلهي
5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص
6 - المعجزات
7 - تفسير الكتاب
8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة
9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟
10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها
Halaman tidak diketahui
11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء
12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا
13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة
14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
15 - اللاهوت ليس خادما للعقل
16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3
17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا
18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها
19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية
20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة
Halaman tidak diketahui
رسالة في اللاهوت والسياسة
رسالة في اللاهوت والسياسة
تأليف
باروخ سبينوزا
ترجمة
حسن حنفي
مراجعة
فؤاد زكريا
الإهداء
إلى من ينظرون إلى الكتب المقدسة نظرة علمية ...
Halaman tidak diketahui
المترجم
مقدمة الطبعة الثانية1
«رسالة في اللاهوت والسياسة» أوسع النصوص الفلسفية العربية انتشارا. تقرأ في معظم الجامعات العربية؛ لأنها تعبر عن الوضع الحالي للفكر العربي وعما يصبو إليه من نهضة وتقدم. وما زالت قادرة على المساهمة في التأسيس الفلسفي للربيع العربي الذي انطلق من خضم التجربة الحية، وأتون القهر والفقر والتهميش والضياع والبطالة والفساد على النحو الآتي: (1)
التمييز بين التوحيد والعقائد الكلامية؛ فالتوحيد فطري في النفس يقوم على التنزيه دون التشبيه أو التجسيم، ينبع من الأخلاق والعمل الصالح، وهو معنى حديث «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» أو «الدين المعاملة». والعقائد تصورات إنسانية لما لا يمكن تصوره، تخفي وراءها صراع الفرق، وهو صراع سياسي على السلطة تتبناها الكنيسة، وتدافع عن إحداها ضد الصياغات الأخرى للفرق الضالة الخارجة عن الرحمة الإلهية. (2)
يقوم على العقل، ويثبت بالبرهان، أما العقائد فإنها تقوم على الخيال والصور الفنية والتشبيهات الإنسانية،
ليس كمثله شيء . أما العقائد فأمثال وصور وخيالات تؤدي إلى السحر والخرافة، وتبعث على الوهم والخوف أو الطمع والجشع. يتعامل العقل مع المعاني والدلالات والعبر، في حين يؤدي الخيال إلى قصص الأنبياء ومعجزاتهم والتي تتضخم جيلا وراء جيل في الروايات الشفاهية. (3)
ويقوم على التقوى الباطنية، ولا يحتاج إلى شعائر خارجية؛ رسوم وطقوس. والتقوى الباطنية تقوم على الصدق والتطابق مع النفس وتستبعد كل ازدواجية بين الداخل والخارج، في حين أن الطقوس قد لا تنبع عن إيمان صادق. تبغي التظاهر والتفاخر وطلب المنافع والسعي وراء الرئاسة. قد تقوم على النفاق، والتناقض بين الداخل والخارج
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم . (4)
ولا ينبع من النصوص الدينية التي قد تكون محرفة، لم تحفظ تاريخيا لمرورها بمرحلة شفاهية قد تصل إلى ستة قرون مثل التوراة، يعمل فيها الخيال، وتحملها الثقافات الشعبية، وقد تؤول تأويلا حرفيا فتوقع في عكس ما تهدف إليه؛ التشبيه بدلا من التنزيه، والرأسمالية بدلا عن الاشتراكية، والعنصرية بدلا من الإنسانية ، والحرب بدلا من السلام. (5)
وتأويلها الصحيح يتفق مع العقل والواقع، مع البداهة والمصالح العامة للناس. فالقانون الإلهي لا يتعارض مع القانون العقلي والقانون الطبيعي، والمعجزات حوادث طبيعية تقع وفقا لقانون طبيعي لا نفهمه، وبتقدم العلم يمكن فهمها، فلا تصبح مصدرا للسحر والخرافة، بل واقعا لكشف القوانين الطبيعية. (6)
Halaman tidak diketahui
وتهدف «الرسالة» إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية؛ أي الكنيسة عن الدولة من أجل تأسيس مجتمع مدني تقوم السلطة السياسية فيه على الاختيار الحر، والعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم،
وأمرهم شورى بينهم ، مثلها الأعلى «مواطن حر في دولة حرة».
فهل تحقق هذا المثل؟ أين؟ ومتى؟
د. حسن حنفي
مدينة نصر، 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2011
مقدمة المترجم1
أولا: الترجمة الهادفة
إن اختيار نصوص بعينها للترجمة في حد ذاته تأليف غير مباشر، ويكون المترجم في هذه الحالة مؤلفا بطريق غير مباشر. قد يكون الدافع لاتباع هذا المنهج - التأليف من خلال الترجمة - هو حساسية الموضوع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعديا صارخا على حقوقها أو جرأة على عقلية مجتمع ما لم يبلغ بعد من التطور والتنوير ما يستطيع به تقبل الموضوع الجديد بسهولة ويسر، أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال الآخرين حتى تتحول القضية من الذاتية إلى الموضوعية. مهما يكن من شيء فالترجمة المختارة اختيارا دقيقا لما يناسب العصر واحتياجاته هي في صميمها تأليف يرتكز على التاريخ الحضاري، والترجمة الهادفة تخدم الغرض نفسه الذي يسعى إليه التأليف الواعي للداعية.
وإن من مهام المفكر في البلاد النامية التعريف بأهم التحولات الفكرية التي حدثت في الحضارات الأخرى والتي تحدث من جديد في حضارته. ولا يعني ذلك أن كل حضارة لا بد أن تمر بالنمط الحضاري الأوروبي وبمراحل تطوره، بل يعني وجود أبنية تاريخية متجانسة في حضارتين أو أكثر. فالاتجاه العقلي في القرن السابع عشر، وقيام العقل بوظيفته في تحليل التراث القديم قد يشابه كل دعوة عقلانية يقوم بها بعض المفكرين لإعادة بناء القديم، كما حدث لدينا في أوائل هذا القرن. ومن ثم، كان التعريف بهذا الاتجاه العقلي إسهاما فعالا في التيار العقلي في مجتمعنا الحالي، وتطويرا للاتجاه العقلي في تراثنا القديم، وتحقيقا لمزيد من الجرأة نحو الثقة بالعقل، أسوة بهذا النمط الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة قرون.
ليس الغرض من هذه المقدمة هو عرض لفلسفة سبينوزا ككل؛ فتلك مهمة مؤرخ الفلسفة وأستاذها،
Halaman tidak diketahui
2
وليس الغرض أيضا هو تقديم للنص وذلك عن طريق شرحه والتعليق عليه وإرجاعه إلى مصادره، فتلك مهمة الشارح والمعلق وكثيرا ما تحققت.
3
وليس الغرض أيضا دراسة مشكلة جزئية في موقف سبينوزا من الكتب المقدسة مثل مشكلة التفسير أو التعبير؛ فتلك مهمة المتخصصين والمحققين،
4
بل الغرض هو تطوير محاولة سبينوزا. ويتم ذلك بوسائل ثلاث:
الأولى:
تأكيد صدق تحليلات سبينوزا؛ وذلك بإعطاء تحليلات جديدة ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، والكشف عما تركه سبينوزا غامضا نظرا لظروف العصر. وقد قيل عن سبينوزا من قبل: إنه فيلسوف مقنع يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للذكاء أو للتاريخ أو للتطور الطبيعي. وعلى هذا النحو لا يعني التقديم مجرد العرض بل التطوير والتطبيق والتأييد. وهذه ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل الذي يولد بالتعامل معه أفكارا أخرى. ولا يعني ذلك الخروج على سبينوزا، أو التحمس له أكثر مما يجب، أو الوقوع في التطرف عندما يصبح الباحث سبينوزيا أكثر من سبينوزا نفسه؛ لأن هذا هو مصير الأفكار في التاريخ، عندما يفكر فيلسوف على فيلسوف سابق، فقد فكر هيجل على جدل أفلاطون وكانط، كما فكر ماركس على جدل هيجل.
الثانية:
إخراج سبينوزا من أبحاثه الخاصة وإلحاقه بالتراث الفلسفي في القرن السابع عشر بأكمله، سواء بديكارت فيما يتعلق بالمنهج، أو بريتشار سيمون وجان أوستريك فيما يتعلق بالنقد التاريخي للكتب المقدسة، ثم إخراج سبينوزا من القرن السابع عشر وإلحاقه بالتراث النقدي كله في القرون التالية؛ سواء فيما يتعلق بالنقد الفلسفي في القرن الثامن عشر، أو النقد العلمي في القرن التاسع عشر، أو النقد التاريخي ومدرسة الصور الأدبية في هذا القرن. ومن ثم يبدو سبينوزا معاصرا أشد المعاصرة، كما يبدو النقد التاريخي المعاصر وكأن له جذوره في مناهج سبينوزا النقدية.
Halaman tidak diketahui
والثالثة :
هي إسقاط المادة التي عمل عليها سبينوزا، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على المنهج نفسه؛ أعني إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، وليكن التراث الإسلامي، حتى تتضح جدة سبينوزا وأصالته فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة. وقد كان هذا المنهج متبعا عند الشراح المسلمين في شروحهم على أعمال أرسطو. فمثلا، يترك ابن رشد في شرحه للخطابة الأمثلة التي يوردها أرسطو من الخطباء والشعراء والتراجيديين اليونان، ويضع بدلها أمثلة من الخطابة والشعر والنثر العربي؛ حتى يعيد صياغة النظريات العلمية والأدبية ابتداء من مادة جديدة، وحتى يمكنه تأييد هذه النظريات وتطويرها، وإكمال ما نقص منها. وكان سبينوزا نفسه يود تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية باعتباره أحد فقهاء اللغة العبرية والتراث اليهودي القديم، بل ويعترف هو نفسه بأنه لم يستطع تحليل العهد الجديد تحليلا وافيا لنقص في معرفته باللغة اليونانية. ومع ذلك، فلقد عمم سبينوزا تحليلاته، على قدر ما استطاع، على التراث المسيحي واليوناني والروماني والإسلامي.
ومع أن صورة التراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التركي، حتى ليتحدث عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين، وهي صورة الطغيان الفكري، والتعصب الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، والوقوع في الخرافة. ومع أنه يعتبر القرآن أشعارا للقراء دون الاستفادة منها في الحياة العملية، فإن مواقف سبينوزا ومناهجه في التفسير ونظرياته عن ثنائية الحقيقة أو الحقيقة المزدوجة لها ما يشابهها في التراث الإسلامي عند الفلاسفة، خاصة عند ابن رشد. وقد كان سبينوزا على علم بها من خلال موسى بن ميمون. وليس الغرض من ذكر ذلك هو الوقوع في منهج الأثر والتأثر، وإرجاع فضل سبينوزا إلى التراث الإسلامي، أو إحياء التراث الإسلامي بآراء سبينوزا، بل القصد منه إثبات المشكلات المشتركة، والحلول المتشابهة التي قدمها سبينوزا والفلاسفة المسلمون. وهذا هو الغرض من الاستشهاد المستمر بالتراث الإسلامي، فقد تكون هناك مواقف فكرية واحدة للفكر الحر بالنسبة للدين، أو قد تكون هناك أبنية واحدة للنص الديني أيا كان، يستطيع كل مفسر أن يصل إليها.
لذلك تجنبنا الوقوع في العلمية التاريخية، وإثارة بعض المشكلات التي تدل على التعاليم أكثر مما تدل على العلم، مثل تاريخ كتابة الرسالة، وصلة فصولها بعضها بالبعض الآخر، وأيها متقدم وأيها متأخر، وتناطح الآراء حول هذه المسائل، فهي مشكلة خاصة تتعلق بتحقيق النص ونشره أكثر مما تتعلق بأفكار النص ونظرياته. وكذلك آثرنا التعامل مع الأفكار، مع إعطائها أكبر قدر من الصحة والعمومية. ولا يضير ذلك العلمية في شيء؛ إذ إن العلمية لا تعني التحقيق الميكروسكوبي، والالتصاق بالحروف، مع ذكر عشرات من المراجع، ما قرئ منها وما لم يقرأ، حتى يوحي الباحث بوفرة المعلومات، وبسعة الاطلاع، بل العلمية أن تبرز الفكرة، وأن توضع في مكانها الصحيح حتى يظهر أثرها وفعلها. ومع أن الرسالة نفسها قد كتبت بأساليب عدة، بأسلوب أدبي في بعض الفصول يبدو فيه سبينوزا أديبا ناقدا، وهي الفصول التي كتبت بدقة روحية واحدة، مثل الفصل السادس عن المعجزات، وبأسلوب علمي تحليلي محشو بالشواهد النقلية، وبالتحليلات اللغوية، يظهر فيها سبينوزا الشارح اللغوي، وهي الفصول التي كان قد جمعها من قبل ثم أدخلها في صلب الرسالة كدعامة علمية، وكأساس تاريخي لأفكاره. إلا أن الأسلوب الأدبي هو الغالب عليها، خاصة إذا قارناها بالأسلوب الفلسفي الجاف الذي كتب به سبينوزا سائر مؤلفاته. لقد كتب سبينوزا رسالته مرات عديدة، وعلى فترات متقطعة، يعبر عن حدسه أولا بأسلوب سهل يسير، وبأفكاره الشخصية ثم يدلل عليه بعد ذلك بالبرهان، وبالتحليلات التاريخية حتى يطور القديم، ويتأصل الجديد. ولكننا شئنا في هذه المقدمة اتباع الأسلوب السهل اليسير؛ فهي مكتوبة للجمهور العريض لا للصفوة المثقفة حتى يعم الانتفاع بها ما دامت مهمة المفكر الحالية هي إعطاء أكبر قدر ممكن من التنوير لأكبر عدد من الناس.
ثانيا: سبينوزا وديكارت
5
سبينوزا هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقا جذريا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، وأعني الكتب المقدسة والكنيسة والعقائد والتاريخ المقدس ... إلخ؛ لذلك كانت هناك محاولات لاغتياله في حين أن ديكارت كان صديقا لرجال الدين الذين كانوا يجدون في منهجه، باعتراف ديكارت نفسه، دعامة للدين، ونصرة لعقائده. ويكفي لذلك الاطلاع على إهداء التأملات لعلماء أصول الدين، وكيف أن ديكارت كان متفقا معهم في الغاية وهي إثبات العقائد، وإن اختلف معهم في الوسيلة مؤقتا. فالغاية واحدة، وهي إثبات وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس، وهي القضايا الدينية الثلاث في كل فكر ديني تقليدي. يبدو ديكارت وكأنه فيلسوف العقل الذي لا يقبل شيئا على أنه حق ما لم يكن كذلك، ولكن في الحقيقة إن الوحي والعقائد يندان عن العقل ويقتصر العقل على التبرير؛ أي إن ديكارت لا يتعدى ما كان سائدا في العصر الوسيط المتقدم أومن كي أعقل.»
6
يريد ديكارت إثبات حقائق الدين ببراهين عقلية حتى يمكن إقناع الكافرين؛ أي إنه على هذا النحو لا يفترق عن بسكال في أن كليهما يقوم بالدفاع عن العقيدة المسيحية،
7
Halaman tidak diketahui
بل إن الإيمان بالحقائق الدينية ليس فعلا للعقل بل فعل للإرادة؛
8
لذلك لا يطبق عليه مقاييس الوضوح والتميز، أكثر من ذلك أن كل الحقائق الدينية تتعدى حدود العقل، ولا يمكن الإنسان التصديق بها إلا بمعونة من السماء، وبفضل من الله؛ أي أن ديكارت يبدو هنا هادما للعقل، ومعطلا لوظائفه في فهم الحقائق الدينية.
9
ومع أن ديكارت معروف في العصور الحديثة بأنه أحد مؤسسي العلم الحديث، إلا أننا نجد أن الله هو الضامن لصدق الحقائق، وأن ديكارت بهذا المعنى يقيم العلم على وجود الله وصدقه، وأن الله هو محور مذهبه، خاصة إذا علمنا أنه الواقعة الأولى بعد الكوجيتو، وأنه هو الضامن لوجود العالم، وأن العالم لديه حركة وامتداد، أي مقولتان رياضيتان وليس عالما للفعل والسلوك.
10
أما سبينوزا، فهو الذي طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد،
11
فليس العقل فقط هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى. وإذا كانت الأفكار الواضحة والمتميزة هي المثل الأعلى لليقين فإن سبينوزا يحلل النبوة ويخرجها من نطاق الأفكار الواضحة والتصورات الغامضة، كما يرفض وضع الآيات الواضحة مع الأشياء الغامضة، ثم تفسير الآيات الواضحة تفسيرا خياليا حسب هوى المفسر، كما يستعمل الوضوح والتميز كجدل في براهينه العقلية، فما دام كل ما تعلمه بوضوح وتميز إما أن يكون معروفا بذاته، أو بغيره تعلمه بوضوح وتميز، فإن المعجزة لا تستطيع أن تدلنا على وجود الله، أو على ماهيته وطبيعته؛ لأننا لا نعلمها بوضوح وتميز. أما الله فإنه فكرة واضحة ومتميزة، ولا تحتاج إلى برهان. وإذا كان ديكارت، في مثل سلة التفاح المشهور، يري تنقية الأفكار الواضحة المتميزة من الأفكار الغامضة، فإن سبينوزا بتطبيقه هذا المنهج أيضا في النقد التاريخي للكتاب المقدس يفصل الآيات الصحيحة عن الآيات المكذوبة أو المشكوك فيها.
وسبينوزا أيضا هو الوحيد من الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدرس أنظمة الحكم، وقارن بينها، ونقد الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق، وانتهى إلى أن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة؛ فنحن نعلم أن ديكارت قد استثنى من الشك أيضا النظم السياسية، والتشريعات الوطنية، وعادات البلد؛ أي أنه أخرج الجانب الاجتماعي كله من الشك وقصره على الفكر.
Halaman tidak diketahui
12
وبذلك يكون سبينوزا سابقا على كانط وهيجل في هذا اللون من التفكير السياسي من أجل تحديد الصلة بين الفكر والواقع، أو بين الدين والدولة، أو بين مهمة المفكر ومهمة السياسي. في حين أن مالبرانش اقتصر على التبشير بالمسيحية حتى حدود الصين، وأن بسكال رضي بملكوت السموات، ورفض ملكوت الأرض كما فعل أوغسطين من قبل، وأن ليبنتز قدم مشروعا لغزو مصر باعتباره نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، أي أنها الرابطة الجوهرية
Vainculum Substantiale
التي يبحث عنها ليبنتز في حساب التفاضل والتكامل وفي حساب الاحتمالات.
لقد قيل دفاعا عن ديكارت إن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة. يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وسواء أكان هذا الدفاع عن حق أم عن حب، فإن الثورة الحقيقية في الفكر الديني والواقع السياسي قد قام بها سبينوزا. رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية والسياسية في عصره بل وفي كل عصر، وتطبيق للنور الطبيعي في مجال الدين والسياسة حتى لا يخلط الناس بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية، أو بين التصديق الساذج والإيمان الصادق، أو بين الجدل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل والخير، أو بين الفتن والمصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام الداخلي في الإنسان وفي الدولة. أراد سبينوزا البحث عن الوضوح والتميز في الواقع الديني والسياسي، وألا يقبل شيئا على أنه حق في أمور الدين أو الدنيا ما لم يكن كذلك، فإن كان ديكارت قد وجد في المنهج الاستنباطي بغيته وطريقه إلى التصديق بالرسالات السماوية، وإذا كانت مهمة ديكارت والعصر الحديث معه هي تبرير الدين، فقد كانت مهمة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع الكتاب المقدس للنقد التاريخي.
ولا وجه للمقارنة بين مقدمة التأملات التي يهدي فيها ديكارت كتابه إلى علماء أصول الدين وبين آخر فقرة في مقدمة رسالة سبينوزا التي يخضع فيها رسالته للسلطات العليا في هولندا. فديكارت يؤكد أن ليس في تأملاته ما يعارض الدين، بل إنه يحتوي على تأييد لأهم قضاياه: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس؛ أي أنه لم يأت بجديد بالنسبة لمفكري العصر الوسيط إلا من حيث الطابع الشخصي الأوغسطيني، هذا الطابع الموجود أيضا لدى سبينوزا. أما فقرة سبينوزا فإنها تدل على استعداده لمقارعة الحجة بالحجة، وهو يعلم أن نتائج بحثه في الوحي الإلهي وفي نظام الحكم ستؤدي حتما إلى انقلاب القوم عليه. فديكارت يصالح رجال الدين، ويهادن النظم الملكية، وسبينوزا يبغي المصلحة العامة ضد رجال الدين، وضد نظم الحكم القائمة، ويعلم أن الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنها من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملق للسلطة، والسعي لها.
وإذا كان ديكارت هو المسئول عن كل تبرير للعقائد في صياغة جديدة وعن وضع التعالي بدل الله، فإن سبينوزا هو المسئول عن كل دراسة علمية أي نقدية ونفسية لها، وعن وضع الله في النفس البشرية مؤمنا بالحلول الميتافيزيقي. وإذا كان ديكارت هو المسئول عن «ثنائية العصر الحديث» من قسمة الوجود إلى إله خالق وعالم مخلوق، وقسمة الإنسان إلى نفس خالدة وبدن فان، فإن سبينوزا هو المسئول عن إعادة الوحدة في الوجود، بالتوحيد بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، وفي التوحيد بين النفس والبدن، وجعل النفس فكرة البدن. فإذا كان ديكارت صاحب إصلاح جزئي بالنسبة للفكر الديني في العصر الوسيط، فإن سبينوزا هو صاحب الثورة الجذرية في الفكر الديني في العصر الحديث. وإذا كان البعض منا في أوائل هذا القرن يروج لديكارت صاحب أنصاف الحلول، فالأجدى بنا في النصف الثاني من هذا القرن البحث عن الحلول الجذرية كما فعل سبينوزا منذ أكثر من ثلاثة قرون.
13
ثالثا: موضوع الرسالة
يحدد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي يضعه بعد العنوان الأول «وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.» للرسالة إذن هدفان؛ الأول: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، أو بتعبير آخر، أن العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على سلامة الدولة، أي أن العقل أيضا هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة.
Halaman tidak diketahui
فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل. وتظهر الخرافة في إرجاع ظواهر الطبيعة إلى علل أولى، أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجن والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيبة. وإن خرجت هذه الظواهر الطبيعية عن المألوف بدت وكأنها معجزات وخوارق يمكن معرفتها، والتنبؤ بوقوعها عن طريق الكهانة والعرافة والسحر، لا عن طريق العلل المباشرة التي تفسر وجود الظواهر كما يدركها العقل.
وتنشأ الخرافة من سيادة الأهواء والانفعالات على العقل، وعلى رأسها الخوف والرجاء؛ إذ يتذبذب الشعور الديني بين الخوف والرجاء، أو بين الرهبة والرغبة. فالحوادث الحسنة فأل طيب، والحوادث السيئة تبعث على التطير والتشاؤم، ويرتبط بالخوف العجز عندما يود الشعور الديني التأثير على الطبيعة باستدعاء الأرواح، لا بالفعل المباشر، أو بطلب العون الإلهي، أو بالنذور، أو بالصلاة لدرء الكوارث، أو لاستجلاب الرزق، لدفع البركان، أو لإهطال المطر. كل أولئك مظاهر للعجز أمام الطبيعة، فلا ذرف الدمع خشية ورهبة يجدي، ولا الدعاء أملا ورجاء يفيد، ومن ثم قد يصبح أعجز الناس هو أكثرهم حكمة. فإذا كان الخوف سبب الخرافة، فإن الخوف نفسه سينشأ عن نقص في الشجاعة، وقد يكون التأليه نتيجة لهذا النقص، وهو ما لحظه برجسون أيضا على كل تفكير مثالي من أنه ضعف في الإرادة
Aeilléite ، كما قد يقوم الإيمان على الكراهية والتعصب، فبعض المؤمنين هم أكثر الناس قدرة على الكراهية، وأشدهم تعصبا حتى ليعرف قوة الإيمان بقوة غضبهم وحقدهم على البشر. وربما يقوم على الذلة والغرور، فإن كان المؤمن في حاجة إلى شيء ذل نفسه، وإن كان غنيا عن العالمين ركبه الغرور، أي أن سبينوزا يبدو وكأنه من أنصار المدرسة النفسية في تاريخ الأديان التي تدرس مظاهر التدين على أنها ظواهر نفسية أو مرضية؛ إذ إن معظمها يقوم على مواقف عزاء أو تعويض نفسي عندما يتم اللجوء إلى الله في حالة الكرب، أو عن مواقف نفاق وتغطية، كما يتستر على الغني بالتفاوت في الرزق، وبالقضاء والقدر، وكما يتستر بالدين على الإشباع الجنسي، كما يفعل الشيخ المتصابي، أو من أجل الحصول على مصلحة شخصية، كما هو واضح في الشحاذة.
والخرافة والوهم والعجز هي من أسباب الوقوع في التقديس، تقديس موجود متعال خارج الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، كما يفعل الحاكم المطلق، أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات. فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إدراكه داخل العالم، وخوف منه، وإبعاد له، خاصة إذا أصبح هذا المقدس مرادفا للسر، أو هو وقوع في الوثنية المجردة، أو الوثنية الحسية.
وأشد غرابة من ذلك أن يتميز المؤمنون في إيمانهم بعقائدهم وشعائرهم وملابسهم وألقابهم، فيظن الجمهور أن الدين هو المناصب في المعابد التي يتعيش فيها رجال الدين، أو يتعيشون عليها، حتى أصبح الكهنوت غواية الجميع، اشتاقته أشد القلوب قسوة، وحتى أصبح الشره والطمع طريق الدعوة إلى الدين وإلى الله. تحولت الكنائس إلى مسارح، وتحول رجال الدين إلى خطباء محترفين، لا يرومون تعليم الشعب بل التكسب منه، والتعيش عليه، وجل غايتهم أن يعجب الناس بهم وبما يبتدعونه في الدين. وطبيعي أن يبدأ التنافس والحسد فيما بينهم على ما اغتنموه، فلا عجب إذن إن لم يبق من الدين إلا مظهره الخارجي - أي عبادة الأوثان
Adoration
لا عبادة الله
Adulation - ومن الإيمان إلا التصديق بالأحكام السابقة، خاصة أحكام من ينزلون بالبشر إلى مستوى الحيوانات، لأنهم يمنعونهم حرية الحكم، وحرية التمييز بين الخطأ والصواب.
أما الدين كما يتصوره الصوفية، فهو مجموعة من الخرافات والخزعبلات والأوهام، حتى أصبح الدين احتقارا للعقل، وبعدا عن الذهن الذي قيل عنه إنه فاسد بالطبع، مع أنهم لو كانوا قد اهتدوا إليه بالنور الفطري لما أصابهم الغرور، ولما وقعوا في الكذب، ولعبدوا الله حبا فيه، لا كراهية للناس، ولما اضطهدوا مخالفيهم في الرأي، ولعطفوا عليهم، ولحرصوا على سلامة الآخرين كما يحرصون على سلامتهم، ولما أعجبوا بأسرار الكتاب التي لا تتعدى بعض التأملات الأفلاطونية الأرسطية، أو التوفيق بينها وبين الكتاب؛ حتى لا يتهمهم الناس باتباع فلسفة الوثنيين، وحتى لا يقعوا في أخطاء اليونان، جعلوا الأنبياء يهذون. فضلا عن ذلك، فإنهم لم يشكوا مطلقا في المصدر الإلهي للكتاب المقدس، وكلما شعروا فيه بالأسرار أطاعوه طاعة عمياء، مع أن إثبات المصدر الإلهي للكتاب لا بد أن يكون نتيجة للبحث العلمي لمحتواه.
الدين إذن على ما يقول فويرباخ موقف مغترب، أي إنه موقف غير طبيعي، والموقف العقلي العلمي هو الموقف الطبيعي. التدين والنور الفطري نقيضان؛ إذ يعتبر المتدين النور الفطري مصدرا للاتدين وللإلحاد وللبدع، مع أن التدين نفسه قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية. فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين القائم على الأوهام والخرافات وثنية حسية؛ أي إلحاد صحيح. ومن ثم كان اللاتدين شرط العلم وكان رفض التأليه شرط إدراك الطبيعة، فالإنسان موجود في عالم واحد وهو العالم الطبيعي وليس في عالمين؛ لأن الفكر تحليل للطبيعة.
Halaman tidak diketahui
القضاء على السلوك الانفعالي إذن خطوة نحو العقلانية، فإذا عرفنا مدى شيوع السلوك الانفعالي في البلاد النامية، ومدى تدخل الأهواء والانفعالات في العلاقات الشخصية وفي تقدير المواقف وفي سن القوانين وتطبيقها، عرفنا أن سيادة الانفعال وغياب العقل أحد مظاهر التخلف.
ويستخدم الدين أيضا للسيطرة على الجماهير ولإبقائها تحت سيطرة السلطة، إذ يكثر الدكتاتور من مظاهر العظمة في بناء المعابد، والاحتفالات بالموالد، حتى يمكن عن طريق التأليه الخضوع لله أو للدكتاتور، والطاعة العمياء له؛ لذلك كانت الخرافة أفضل الوسائل لتسيير العامة، فيكفي للسلطات العليا الاحتفال بالموالد، وبأتقياء الله، وبعبادة الصالحين حتى تسير العامة وراءها فينظر إلى الملوك باعتبارهم آلهة، ويتم تجميل الدين بالشعائر «الطقوس» وتزيين الملوك بالقصور والتيجان. فالخرافة هي أساس النظام الملكي، باعتباره النظام التقليدي الذي يقوم على حكم الفرد المطلق الذي يبغي خداع الناس، وإرهابهم باسم الدين من أجل السيطرة عليهم، واستعبادهم، ووضع قيود على الفكر والعقيدة، في حين أن العقل لا يسود إلا في النظام الجمهوري الذي يكون فيه المواطن حرا في فكره وعقيدته، والذي يخضع فيه سلوكه لتشريع الدولة.
وهنا يبدو الهدف الثاني من رسالة سبينوزا هو دراسة الصلة بين الدين والدولة، أو كما يقول هو: بين اللاهوت والسياسة. فاللاهوت ليس نظرية في الله فقط بل ينشأ عنه نظام اجتماعي كذلك، وليس الدين عقائد فحسب، بل ينشأ عنه نظام سياسي كذلك. والحقيقة أن رسالة سبينوزا ليست دراسة للصلة بين اللاهوت والسياسة بقدر ما هي دراسة للصلة بين السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية،
14
أي إن غرض سبينوزا هو دراسة الصلة بين اللاهوت القائم بالفعل والنظم السياسية القائمة، أو إن شئنا الصلة بين السلطة اللاهوتية الممثلة في رجال الدين أو في الكنيسة وبين السلطة المدنية الممثلة في الحكم أو في رئيس الدولة، فهي دراسة واقعية للأوضاع التي عاش فيها سبينوزا من تداخل السلطتين اللاهوتية والسياسية، وكلاهما كما رأينا يقوم على الخرافة، ومنع حرية الرأي والقضاء على العقل؛ لذلك تم التواطؤ بين المعابد وأقسام الشرطة، أو يتم التمسح بالمعابد كما تحدث الزلفى للسلطات!
ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فحرية الفكر هي دعامة الرأي العام، والرأي العام هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، فإذا قضي على حرية الفكر، قضي على الرأي العام، وأصبحت الدولة بلا دعامة داخلية. يفعل الحاكم ما يشاء وتفعل أجهزة الحكم ما تريد، وبالتالي تنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن الدولة.
لذلك يجب على السلطات العامة ألا تتدخل في الحريات الفردية، وإلا لتعرض أمن الدولة للخطر. فهذا هو الحق الطبيعي للفرد، كل فرد حر بطبيعته، وكل فرد هو الضامن لحريته. وتنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية، وتنتصر لبعض العقائد، وتعادي البعض الآخر، ولن تتوقف الفتن إلا إذا وضعت الدولة الأفعال وحدها، دون الأقوال، تحت القانون؛ حتى يستطيع كل مواطن أن يعبد الله كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، بدل أن تقطع الرقاب من أجل أقوال كلها ظنية. لا احتكار للفكر ولا حكر عليه، وليس من حق الدولة التدخل في حرية المفكر أو في الرقابة عليه. وكيف تنتصر الدولة لرأي على رأي سواء في اللاهوت أم في السياسة، وليس هناك تفسير واحد صحيح للدين والباقي خطأ؟ لكل إنسان الحق في فهم الوحي وتأويله كما يشاء، وإن التسلط والتحزب لرأي دون رأي ليؤدي حتما إلى ضياع الإيمان. حرية الرأي إذن يجب أن تكون مكفولة للمواطنين جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، وليست القاضية عليها. فلا ينبغي أن تكون الدولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع. حرية الرأي إذن ضرورة اجتماعية حتى يعم الأمن والسلام في الدولة، وإن الحاكم الذي يظن أن تثبيت قواعد حكمه إنما يكون بالقهر والطغيان، وبالقضاء على حرية الفكر، ينتهي لا محالة إلى غير ما قصد إليه؛ لأن في القضاء على حرية الفكر قضاء على الدولة، بل إن القانون الإلهي نفسه يمنح هذه الحرية لجميع الناس، ولا يبدو ذلك غريبا لأن الدولة نفسها قد نشأت بعقد اجتماعي بين الأفراد يفوض سلطتهم إلى الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، فسلطة الدولة ممثلة لسلطة الأفراد؛ لذلك لا يجوز للسلطات العليا، وهي الممثلة للشعب، أن تعمل ضده، أو أن تقضي على حريته التي فوضها لها بإرادة حرة. تنشأ النظم الدكتاتورية عندما تفعل السلطات العليا ما تريد، بغض النظر عما فوضه الأفراد لها من حقوق.
والحقيقة أن موضوع رسالة سبينوزا ليس هو اللاهوت فحسب، أو السياسة فحسب، أو حتى الصلة بينهما، بل - بتعبير أدق - الوحي في التاريخ. عندما تتحقق النبوة في فترة معينة، وعند شعب معين، يأتي الوحي للتغلب على الطبيعة السائدة في الشعب، فينجح إلى حين، ثم تنتهي الطبيعة السائدة بالتغلب على الوحي. ومن ثم فموضوع الرسالة هو فلسفة التاريخ الديني أو التاريخ المقدس على ما يقال. لقد أتى الوحي للشعب اليهودي حتى يتغلب على طبيعته الحسية المادية، وعلى تكوينه الوثني، ولكنه انتهى إلى أن سادته الوثنية، وتغلبت عليه الطبيعة الحسية، ثم أتى الوحي المسيحي داعيا للسلام، من أجل التغلب على الطبيعة الحربية الرومانية، وداعيا للطهارة الروحية، من أجل التغلب على المادية الحسية اليهودية والرومانية، ولكنه انتهى إلى أن سادته الحروب والتعصب، وتغلبت عليه المادية الحسية. ويمكن القول أيضا بأن الوحي الإسلامي جاء حتى تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإذا هي الآن مستعمرة من الخارج أو مسلوبة الثروات من الداخل؛ أي إنها انتهت إلى عكس ما قصد إليه الوحي.
رسالة سبينوزا إذن هي دراسة لمصير الوحي في التاريخ وكيف أنه ينقلب إلى الضد؛ فالمسيحية دعوة للروح وللسلام والتضحية تتحول إلى مجتمع تسوده المظهرية والتعصب والكراهية، واليهودية دعوة للطاعة تنقلب إلى مجتمع عاص، والإسلام دعوة لإقامة خير أمة أخرجت للناس ينقلب إلى مجتمع يسوده التخلف ويحكمه الاستعمار. يدرس سبينوزا هذا القلب، قلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب، والمعنى إلى حرف، والتدين إلى خرافة، والتقوى إلى طقوس وشعائر، والإيمان إلى تعصب، والحقيقة إلى بطلان، والتعاليم الإلهية إلى بدع، والنور الفطري إلى جهل، والمعابد إلى مسارح، والدين إلى وثنية، والإنسان إلى حيوان، وكأن الدافع الحيوي ينتهي بالضرورة إلى سقوط مادي، وكأن اللهب ينتهي بالضرورة إلى رماد.
15
Halaman tidak diketahui
رابعا: النقد التاريخي للكتب المقدسة
يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة، كما يعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوروبية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، قرن سبينوزا، وإخضاع الطبيعة له، فكما أن هناك نظاما للطبيعة، هناك أيضا قوانين لضبط صحة الراوية، ولا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني؛ كلاهما يخضع للعقل وقواعده. وقد حمل لواء النقد في هذا القرن ثلاثة: سبينوزا، ريتشارد سيمون، جان أوستريك.
16
فما إن وضع القرن الثامن عشر العقل في الإنسان، وحول التفكير الرياضي إلى التفكير الإنساني، حتى أصبح كبار النقاد هم كبار الإنسانيين، مثل فولتير ولسبخ وهردر. وكان النقد باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية.
وما إن تحولت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى فلسفة للعلم في القرن التاسع عشر، حتى تحول النقد أيضا من النقد الفلسفي باسم الإنسان إلى النقد العلمي القائم على تحقيق النصوص، والمقارنة بينها، والاعتماد على فقه اللغة، وعلم الأساطير المقارنة، وتم وضع قواعد المنهج التاريخي بعد كشف «الشعور التاريخي» عند دلتاي، وتقدم العلوم الإنسانية. وقد كانت فلسفة هيجل أحد المصادر التي خرجت منها المدرسة الأسطورية في النقد، عند شتراوس وباور، فكما وصف هيجل تطور الروح وصف نقاد المدرسة الأسطورية، وهم من اليساريين، تطور العقيدة الموازي لتطور النص واعتبروا كليهما من فعل الروح ومن وضعها.
ويعتبر النقد التاريخي أهم الأسباب في نشأة حركة التجديد الديني في الفكر المعاصر،
17
فقد قام البعد الشعوري في النص الديني، وأصبح النص يعبر عن التجارب الحية للجماعة الدينية الأولى التي نشأ النص منها، ومن ثم كان لا بد من وضع النص في الحياة
Sitz im Leben
ودراسة المكونات النفسية للشعور الجماعي الأول، مثل واقعة الانتظار، أو خيبة الأمل، أو الشعور بالاضطهاد. وأصبحت رسائل الحواريين تعبر عن تجارب شخصية لهم، بل وعن عقدهم النفسية ورغباتهم. عاشت الجماعة الأولى أفكارها، ثم عبرت عنها بالنصوص بعد ذلك، وهي التي جمعت في مجموعات صغيرة، ثم في مجموعات كبيرة، حتى تكونت الأناجيل في القرن الثاني التي كانت تعد بالعشرات، ثم اختارت الكنيسة أربعة منها، ما يتفق مع عقائدها وقننتها في القرن الرابع،
Halaman tidak diketahui
18
وأصبح منهج التفسير - كما وضعه بولنمان - هو إرجاع النص إلى التحليل الوجودي للإنسان، بعد أن تتبع نشأته، ونشأة الأسطورة التي يعبر النص عنها.
ولكن الذي يميز نقد سبينوزا هو جمعه بين كل أنواع النقد هذه التي ظهرت في القرون الثلاثة الماضية، فهو نقد عقلي يقوم على استعمال العقل الرياضي الهندسي، كما هو الحال في كتاب «الأخلاق»، وهو نقد إنساني يقوم على استعمال النور الفطري كنور طبيعي في الإنسان، ويهدف إلى تحليل القوى الإنسانية من إدراك وتخيل وانفعال، وهو أيضا نقد علمي يدرس النص الديني كما تدرس الظاهرة الطبيعية ويحاول إخضاعه لقواعد ثابتة، والوصول إلى قوانين لتطور الراوية كما يخضع العالم الظاهرة الطبيعية لقواعد المنهج العلمي، ويصل إلى قوانين تحكم الظواهر، فالناقد كالعالم سواء بسواء، كلاهما يدرس الظاهرة التي أمامه، ويحاول الوصول إلى قوانينها التي تحكمها. وقد كان نقد سبينوزا سببا في نشأة حركة التنوير في اليهودية قبل أن تبدأ، وما زال أحد دعائم التجديد الديني على الإطلاق.
والنقد التاريخي سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس، وهو الضامن لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تحتوي على الوحي الإلهي، وتحتاج إلى تحقيق تاريخي مضبوط. يرفض سبينوزا وجهة النظر المحافظة التي تثبت المصدر الإلهي للكتاب قبل تطبيق قواعد المنهج التاريخي، وتكون مهمة النقد في هذه الحالة تبرير محتوى الكتاب، بما فيه من خلق جماعي، وأساطير دخيلة من البيئات المجاورة؛ لذلك أصر بعض النقاد على أن الناقد يجب أن يترك إيمانه جانبا، بل اشترط البعض الآخر أن الناقد لا بد أن يكون لا إيمان له حتى لا يتدخل إيمانه في تزييف البحث التاريخي.
19
يدرك سبينوزا أهمية هذا العلم الجديد، هذا العلم الذي جهله القدماء أو الذي ضاع منه جزء كبير لم يصلنا منه شيء. مهمة العصر الحديث إذن هي وضع قواعد هذا العلم وتكملتها ورفض الزائف منها، مع أن ذلك يبدو متأخرا للغاية، إذ لم يعد الناس يتقبلون بسهولة تحكيم العقل في الكتاب وتطبيق قواعد المنهج التاريخي على الروايات.
ويحلل سبينوزا أسفار التوراة سفرا سفرا، مبينا نصيب كل منها من الصحة التاريخية. فالأسفار الخمسة
لم يكتبها موسى، بالرغم من تأكيد الفريسيين ذلك، حتى أن ابن عزرا، وهو العالم الناقد الحر، لم يجرؤ على الجهار بذلك. كتب الأسفار الخمسة إنسان آخر، عاش بعد موسى بمدة طويلة، وذلك لبعض الأسباب التي يذكرها ابن عزرا مثل: (أ)
لم يكتب موسى مقدمة سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن. (ب)
كان سفر موسى مكتوبا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر حجرا، أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن. (ج)
Halaman tidak diketahui
قيل في سفر التثنية: «وقد كتب موسى التوراة.» ولا يمكن أن يقول موسى ذلك إن كان هو كاتبها. (د)
في سفر التكوين، يعلق الكاتب قائلا: «وكان الكنعانيون في هذه الأرض.» مما يدل على أن الوضع قد تغير وقت تدوين الكاتب هذا السفر، أي بعد موت موسى وطرد الكنعانيين، وبذلك لا يكون موسى هو الراوي. (ه)
في سفر التكوين سمي «جبل موريا» جبل الله، ولم يسم بهذا الاسم إلا بعد بناء المعبد، وهو ما تم بعد عصر موسى. (و)
في سفر التثنية، وضعت بعض الآيات في قصة أوج، توحي بأن الرواية كتبت بعد موت موسى بمدة طويلة؛ إذ يروي المؤلف أشياء حدثت منذ زمن بعيد.
ثم يضيف سبينوزا على ملحوظات ابن عزرا هذه ملحوظات أخرى: (أ)
كتابة الأسفار بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلم . (ب)
مقارنة موت موسى ولحده والحزن عليه بموت الأنبياء التالين له. (ج)
تسمية بعض الأماكن بأسماء مختلفة عما كانت عليها في عصر موسى. (د)
استمرار الرواية في الزمان حتى بعد موت موسى.
20
Halaman tidak diketahui
وقد كان موسى يقرأ «سفر العهد» على الشعب، وهو السفر الذي أملاه الله عليه في جلسة قصيرة، مما يدل على أن ما كتبه موسى أقل بكثير مما لدينا الآن، ثم شرح هذا السفر الأول، ودون شرحه في سفر «شريعة الله»، ثم أضاف عليه يشوع شرحا آخر. وقد ضاع هذا السفر الذي يجمع بين سفر موسى وسفر يشوع، أما السفر الأصلي، فقد أدخل في الأسفار الخمسة التي لدينا الآن، ولا يمكن التمييز بينهما.
ولم يكتب يشوع السفر المسمى باسمه، بل كتبه إنسان آخر، أراد كتابة سيرته، وإثبات فضله وشهرته، وتمت الرواية إلى ما بعد موته بقرون عدة، ويوجد جزء من هذه الرواية في سفر القضاة، مما يدل على أنه كانت هناك روايات من قبل ضمت إلى العهد القديم، باعتباره تاريخا وطنيا لبني إسرائيل، أو سجلا قوميا لهم.
21
ولا يظن أحد ذو عقل سليم أن القضاة أنفسهم هم الذين كتبوا سفرهم؛ لأن مقدمة الإصحاح الحادي والعشرين تدل على أن كاتبا واحدا قد كتبه، ويعلن هذا الكاتب أنه في زمانه، لم يكن هناك أي ملك من ملوك بني إسرائيل، مما يدل على أنه لم يكتب بعد أن استولى الملوك على السلطة.
22
ولم يكتب صموئيل سفره؛ لأن الرواية تمتد إلى ما بعد موته بقرون عديدة.
23
ولم يكتب الملوك أنفسهم سفر الملوك، بل أخذ، باعتراف الملوك أنفسهم، من كتب حكم سليمان، وأخبار ملوك يهوذا، وأخبار ملوك إسرائيل، والتي تروي قصصا قديمة سابقة على عصر كاتب السفر.
24
وقد كتب هذه الأسفار كلها مؤلف واحد، أراد أن يقص تاريخ العبرانيين منذ نشأتهم حتى تخريب المدينة الأول، ويتضح هذا من تتابع الروايات، والربط بينها، وتحديد غاية معينة له، جعلت الأسفار تتميز بخصائص ثلاث: وحدة الغرض، وارتباط الروايات، وتدوينها المتأخر بعد الحوادث بعدة قرون. ويظن سبينوزا أنه عزرا
Halaman tidak diketahui
Esdras ؛ لأن الروايات كلها تنتهي قبله، ويذكر الكتاب أن عزرا قد أعمل كل جهده في البحث في الشريعة وفي عرضها، ويذكر عزرا في السفر الذي يحمل اسمه بالشهادة نفسها، بأنه قد وهب حياته لتنقية الشريعة وعرضها، وهذا ما يفسر لنا سر الإضافات على سفر التثنية كما لاحظ ابن عزرا ذلك واختلاف صيغة الوصايا العشر في التثنية عنها في الخروج، وكذلك التغييرات التي طرأت على النص الأصلي. وقد سميت الأسفار بأسماء الأنبياء لأن النبي هو الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السفر كله، فالأسفار الخمسة تدور حول موسى، ثم نسبت إليه، والسفر السادس يدور حول يشوع فنسب إليه، والسابع حول القضاة فسمي سفر القضاة، والثامن حول روث فسمي سفر روث والتاسع والعاشر حول صموئيل فسميا سفر صموئيل الأول والثاني، والحادي عشر والثاني عشر حول الملوك فسميا سفر الملوك الأول والثاني.
ولكن هل الكاتب عزرا هو من أعطى الروايات صيغتها النهائية؟ لم يكن عزرا هو من أعطى هذه الأسفار صيغتها النهائية، بل اقتصر عمله على جمع الروايات من كتب أخرى، ونسخها، ونقلها دون ترتيب أو تحقيق، مما يفسر وجود الروايات نفسها بألفاظ مختلفة في عدد من الأسفار، كما تثبت ألفاظ الرواية أنها كانت مكتوبة بعد أن حدثت الوقائع بزمن طويل. هذا الاضطراب الزماني
Anachronisme
هو الوسيلة التي يتبعها سبينوزا وكل النقاد في التعرف على زمن كتابة الرواية، والشك في نسبتها إلى مؤلفها المعروف.
25
ولقد نقل عزرا هذه الروايات في نصه دون تحقيق، وكثير من الروايات مستقاة من كتب المؤرخين، وهذا يفسر اختلافاتها فيما بينها، فمثلا نجد في الأسفار الخمسة خلطا بين الروايات والوصايا بلا ترتيب، كما نجد الاضطراب الزماني، وتكرار القصص نفسها مع اختلافات جوهرية في الألفاظ، مما يؤكد أننا أمام مجموعة من النصوص المجموعة بلا فحص أو ترتيب. وهذا موجود أيضا في الأسفار السبعة التالية حتى هدم المدينة؛ لذلك جاءت النصوص منقوصة ومتعارضة؛ لأنها مأخوذة من مصادر متعددة، ولم ينجح الأحبار في محاولاتهم للتوفيق بينها. لقد جهل العبرانيون الأوائل لغتهم، ولم يعرفوا كيفية وضع نظام في الرواية، ولم يكن هناك منهج أو قاعدة تتبع في تفسير الكتاب، وكان كل راو أو كاتب يفسر حسب هواه، ولم تحفظ الأجيال الماضية هذه الأسفار حتى تسربت الأخطاء إليها، فلقد لاحظ النساخ الأوائل صيغا مشكوكا فيها، وفقرات ساقطة دون أن يحصوها كلها. ولا توجد أخطاء كثيرة في النصوص التي تحتوي على التعاليم الخلقية، أو هناك أخطاء ولكن لا تؤثر في جوهر هذه التعاليم، واتفاق الروايات مع بعضها البعض. وفيما عدا ذلك، هناك أخطاء كثيرة يدعي المفسرون المتحذلقون أنها أسرار إلهية، أبقاها الله في الكتاب بعناية، فيؤولون النقاط والحروف والعلامات، حتى المسافات البيضاء التي يتركها النساخ، وهذا كله ادعاء كاذب، ويناقض العقل، فلا توجد أية أسرار في الكتاب، كما تدعي القبالة. أما التعليقات الهامشية، فهي صيغ مشكوك فيها، أراد الناسخ وضعها في الهامش لقراءات محتملة إذا التبست عليه الحروف - ولم يضعه الأنبيا أو الرواة كما يدعي الفريسيون - حتى يختار القراء إحداها، وقد تكون أخطاء عن غير عمد، لم يشأ الناسخ تركها؛ لأنها جزء من الوحي، والحقيقة أن قراءات الهامش تحتوي على بعض الكلمات القديمة التي لم تعد تستعمل أو بعض الكلمات المكشوفة التي تحرج الناسخ من وضعها في النص، ومع ذلك، فهي صيغ مشكوك فيها بالرغم من اتفاق بعضها مع قواعد اللغة العبرية أكثر من اتفاق النص الأصلي معها؛ لذلك رفضها الماسوريون. ويوجد أكثر من صيغة، ولكنها لم تصل إلينا. ومما لا شك فيه، أنه كانت هناك صيغتان على الأقل للنص، بسبب استبدال الحروف، ولأن الناسخ لم تكن لديه إلا نسخ قليلة، نسختان أو ثلاث على الأكثر، ولم يكتب عزرا نفسه شيئا من هذه القراءات، ولم يشأ النساخ تغييرها بدافع من الورع الديني.
خلاصة القول إن أسفار الكتاب المقدس لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد، بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لجماهير مختلفة في المزاج والتكوين، ويمتد التدوين إلى ألفي عام وربما أكثر من ذلك.
26
فإذا فحصنا باقي أسفار الكتاب سفرا سفرا، وجدنا أن سفر أخبار الأيام قد كتب بعد موت عزرا بمدة طويلة ، وربما بعد إعادة بناء المعبد، ونجهل مؤلفه ومقدار سلطته، وفائدته، وعقيدته، بل إننا لنعجب من إدخال هذا السفر في الكتاب المقدس، واستبعاد سفر الحكمة، وسفر طوبيا، وغيرها من الأسفار التي يقال عنها أنها منتحلة.
27
Halaman tidak diketahui
وقد جمع سفر المزامير، وقسم إلى خمسة أجزاء بعد بناء المعبد.
28
كذلك جمعت الأمثال في الوقت نفسه، وقد أراد بعض الأحبار استبعاده مع سفر الجامعة من الكتاب المقدس، والإبقاء على الأسفار الأخرى التي تنقصنا، والتي لا نعلم عنها شيئا، فضلا عن أن هناك شكا في نقلها لنا نقلا حرفيا.
29
وهذا يدل على أن التقنين لم يخضع لمناهج النقد التاريخي، بل لاختيار البشر. فقد اختار الفريسيون، وهم حفظة التراث، ما شاءوا واستبعدوا ما شاءوا، بناء على ما يتفق وعقائدهم، كما رفض الصدوقيون الأسفار التي تتحدث عن حشر الأجساد؛ لذلك لا بد من إثبات سلطة كل كتاب على حدة، إذ لا يكفي إثبات المصدر الإلهي للكتاب ككل حتى تثبت سلطة الأسفار كل على حدة.
أما أسفار الأنبياء، فإنها قد أخذت من كتب أخرى، وهي تتبع ترتيبا مخالفا للترتيب الزمني لظهور الأنبياء أو الترتيب الزمني لظهور كلامهم وكتاباتهم، كما أنها لا تحتوي على جميع الأنبياء بل على بعض منهم، وجد هنا وهناك، ولا يحتوي كل سفر على كل النبوة، بل على أجزاء منها فقط.
30
بدأ أشعيا نبوته واستمرت حتى بعد انتهاء السفر، ومع أن هذا السفر أسطورة إلا أنه ناقص.
31
وسفر إرميا مجموعة مأخوذة من كتب أخرى متعددة، ويكون خليطا من نصوص بلا ترتيب، ودون مراعاة للأزمنة، وبعض الإصحاحات مستمد من سفر باروخ، وذلك يدل على أنه لم يكن هناك فصل حاد بين أسفار الأنبياء، كما يدل على وجود مصادر أخرى تشمل روايات توضع في هذا السفر أو في ذاك، وهو ما يفسر تكرار النصوص في الأسفار المختلفة، كما هو الحال في الأناجيل المتقابلة (متى، مرقص، لوقا).
Halaman tidak diketahui