وظل الميتادور يجري بضعة أمتار ويتوقف ليتلقى تحية الجزء المقابل من محيط الدائرة، ثم يعود يجري بضعة أمتار ليختصر الزمن ويتلقى تحية الجزء التالي، حتى وصل إلى ذلك الجزء من الدائرة الرملية الذي يواجه مقاعدنا. وحين رفع رأسه بعد انحناءة التحية لم أكد أصدق عيني؛ كان هو بعينه صديقي الذي منذ أن تاه عني مع الميتادورات في الساحة والقلق يجتاحني في صمت من أجله. ودون أن أحس وجدت نفسي أصفق بحماس زائد وكأني ألقاه بعد غيبة طويلة في أدغال خطرة مجهولة، وأتمنى لو كان باستطاعتي أن أقفز إليه وأعانقه وأضمه - ذلك الابن الضال - إلى صدري، وأتأكد بنفسي أنه حقيقة خرج سليما ومعافى، قبل أن ينفجر إحساسي بخيلاء الأب لأنه لم يخرج معافى فقط، وإنما خرج بطلا أيضا.
وما كان أروعه وأنا أسمعه يلقي إلى الميتادور خلفه بأمر هامس ولكن في لهجة حاسمة، لهجة قائد لا يزال بريق انتصاره يخطف البصر! كان وجهه القمحي قد ابيض تماما، ولكن الأمر يختلط عليك هذه المرة، وتمنع نفسك أن تجزم إن كان هذا البياض شحوبا شديدا سببه تعاظم الرهبة أم تعاظم الفرحة، أم الاثنان معا.
وألقى جاري الإسباني إلى الساحة - خلافا للقانون - بالمخدة الجلدية التي تستأجر بقروش لتلين من صلابة الأسمنت المسلح، وانتزعت جارتي عقدا من الفل كان حول رقبتها وقبلته وألقته إلى الساحة، ومن بين مئات الأشياء التي ألقيت إليه والتي كان يترك مهمة جمعها لمساعديه وجدته يلحظ صاحبة العقد الفل، وبعد أن كان قد استدار ليكمل الدورة وقف وانحنى والتقط الأزهار والجزء الذي انفرط منها وقبلها، ورفع يده مشيرا بها إلى الفتاة. وهاج الجمهور في المدرجات وخاصة في ذلك الجزء الذي يجاورنا، وانطلقت صفافير وصيحات هتاف واستحسان، بينما الأبصار كلها مضت تحاول أن تشق طريقها بصعوبة بين الأجساد. مئات الأجساد المتشابهة المتلاصقة لتستطيع أن تميز الفتاة التي اختارها الميتادور ليرد تحيتها.
وكنت أسعد الجميع حظا وليس علي لكي أراها إلا أن ألتفت.
والتفت.
كانت الفتاة قد تجمدت في مكانها تماما حتى خيل إلي أنها كفت عن التنفس، وبعدما أرسل قلبها كل ما استطاع إرساله من الدم إلى وجهها حتى كادت خدودها تنزف من تلقاء نفسها، توقف عن النبض. وكانت عيناها تنظران إلى أسفل مفتوحتين، ولكن، وكأن غطاء داخليا أغلقهما، وسد أذنيها، وقطع كل صلة بين حواسها وبين هدير البحر البشري الصاخب المحيط بها.
وكنت أعتقد أنها مفاجأة لن تلبث أن تزول، ولكن، حتى بعد أن انتهى الميتادور من تلقي التحيات وغادر الساحة، حتى بعد أن انتهت نظرات الاستطلاع الثانية التي تريد أن تعيد تفحصها، حتى بعد أن كاد الناس ينسون الواقعة ويندمجون في المصارعة التالية التي كانت قد بدأت، ظلت هي بنفس وضعها ولونها وتوقفت حركتها كأن الحادثة قد حنطتها على آخر وضع كانت فيه، وهبطت عليها فترينة زجاجية عزلتها عن الدنيا.
أما جاري الإسباني الآخر فقد كان يبرطم ويحادث جيرانه ويحتج، ولم أعرف ما الذي كان يثيره، ولكني استطعت أن أخمن أن الطريقة التي تم بها تبادل الإعجاب لم تخضع تماما للقواعد والأصول، وما لبث أن أخرج كتاب مصارعة الثيران وراح يقرأ، وتولى ترجمته سائح أمريكي لا أعرف ما الذي جعله يجيد الإسبانية إلا أن يكون إسباني الجدود. راح جاري يقول بصوته الجهوري المزعج: لا يصح للميتادور أن يبدي إعجابه بهذه الطريقة. إن له الحق فقط في إهداء عملية قتله للثور إلى الحسناء التي يختارها، ولكن هذا لا يصح إلا بعد مرحلة الميوليتا حين تحين لحظة القتل؛ إذ له حينئذ - وأخذ يقرأ من الكتاب - أن يقف في مواجهة السيدة، ويرفع قبضته بالتحية، ثم يستدير إلى الثور ويبدأ عمله.
ولكن إسبانيا آخر تصدى له باعتراض، وبدأ نقاش فني على مستوى عال لم يلبث أن أخمد، ليعود يظهر على هيئة همس متقطع مصر، حين دخل الثور الثاني إلى الحلبة.
وعجبت حين صدر من الجمهور على أثر دخوله مواء. قطع الجار المناقشة ليفسر لنا سببه؛ إذ يبدو أن الجمهور استصغر سن الثور وحجمه. إن أصول اللعبة تحتم أن يكون الثور - «التورو» بالإسبانية (ومنها ترى أنها قريبة جدا من الاسم العربي، بل إن الإسبان أنفسهم يقولون إن العرب هم الذين ابتكروا مصارعة الثيران وعنهم أخذها الإسبان، وهم أيضا الذين وضعوا لها تقاليدها الأول وأصولها، ولا تزال بعض التعبيرات العربية باقية إلى الآن مثل «أوليه»، وهي نفس كلمة الله التي نقولها دهشة أو إعجابا) - تحتم أن يكون الثور من سلالة الثيران المتوحشة المسماة «أورو»، حيث يختار أفرادها بعناية، ويقدم لها غذاء خاص وتربى من أجل المصارعة فقط، ويجب ألا يقل عمر الثور منها عن خمسة أعوام. وقد بدا ذلك الثور الذي دخل أقل من ذلك، أو أنه ليس بالقوة المطلوبة، ومن هنا جاء مواء الاحتجاج. ولكن الثور نفسه ما لبث أن تولى الرد على كل هذه الاعتراضات، فما إن رأى تلويحة «الكابا» الحمراء من بعيد حتى انقلب إلى زوبعة وحشية أسكتت كل الأصوات.
Halaman tidak diketahui