فهذا التلويح الأول بالعباءة للثور، ذلك الذي يجعله يتفجر جريا وبحثا عما يمزقه بقرنيه، في تلك المرحلة يراقب المصارع خصمه ليعرف كيف يجري والسرعة التي يتوقف بها ويستدير، ومبلغ شجاعته، ومقياس الشجاعة أن لا يتردد الثور في مهاجمة كل ما يعترضه.
ثم تبدأ المرحلة الثانية مرحلة الفرس أو «سيوريت دي فاراس»، حيث ينفخ في النفير ويدخل راكبا الخيل «البيكادورز»، وحين يلمحهما الثور يندفع بلا تردد لمهاجمة أقرب الحصانين، وتبلغ قوته حينئذ حد أن يستطيع رفع الحصان وراكبه وإلقاءه خارج الحلقة. وحين يندفع لمهاجمة الحصان ينتهز الفارس الفرصة ويغرس في كتف الثور حربة سميكة تصنع جرحا غائرا ينزف منه الدم، والغرض من إحداث الجرح هو إضعاف الثور والحد من قدرته الهائلة على المهاجمة والحركة.
بعد هذا تبدأ مرحلة الباندريللاس أو الأعلام، حيث يقوم الباندريلوس أو غارس الأعلام برشق ثلاثة أزواج من الأعلام في ظهر الثور. مهمة لا تقل خطورة عن مصارعة الثور نفسها! فعلى الراشق أن يستفز الثور إلى درجة يقبل عليه بسرعة هائلة، وفي نفس اللحظة التي يتحرك فيها الثور مهاجما ينطلق الفارس مسرعا على نفس الخط القادم منه الثور. وفي الومضة الأخيرة وهما يوشكان أن يلتقيا وتوشك قرون الثور على اختراق جسد الرجل، في آخر لحظة ينحرف الفارس بساقيه فقط عن الخط، بينما يظل نصفه الأعلى ويداه الممسكتان بالعلمين في نفس الاتجاه بحيث حين يمر الثور يرشق الفارس علميه، وبعد هذا تبدأ مرحلة الصراع أو الميوليتا وهي المرحلة التي يحاور فيها المصارع الثور باستعمال العباءة الحمراء، وفيها أيضا يمتاز المصارع على المصارع؛ إذ هي المرحلة التي تتبدى فيها ألوان وأشكال من الحيل والطرق.
وتنتهي تلك المرحلة حين يكون الصراع قد هد كيان الثور إلى حد بعيد، بحيث لم يعد يهاجم من تلقاء نفسه، ولا بد من استفزازه كثيرا لدفعه للهجوم. حينئذ يستبدل المصارع العباءة بأخرى داكنة في لون الدم، ويستبدل العصاة المعدنية بسيف، ويستعمل السيف وسيلة لفرد العباءة في سلسلة محاورات أخرى ومداورات، إلى أن يحين الحين، وبنفس الطريقة التي يغرس بها الباندريلوس علمه، يغرز بها المصارع سيفه إلى المقبض في الجزء المقابل للقلب من ظهر الثور، كل ما في الأمر أن الغرس يتم والثور شبه واقف، ولكن خطورتها على المصارع أن يستعمل يدا واحدة للطعن، بينما الأخرى تمسك بالعباءة، وأنه يضطر للاقتراب كثيرا من جسد الثور بحيث إن أي خطأ صغير في حساب المسافة يجعل منه غنيمة سهلة للقرون التي طال تعطشها إلى الفتك .
الفصل السادس
وهكذا لم أفق من استغراقي في الانتباه ومحاولة التفهم إلا على الميتادور الأول وهو يستفز الثور الذي كان قد تبلد وفقد الكثير من طاقته على الحركة والمهاجمة. الثور الذي نزف كمية هائلة من الدم، وأنهكه الجري المجنون المتواصل، وأصبح يلهث بصوت يبلغ ارتفاعه أنه كان يصلنا ونحن في أماكننا بالمدرجات بعيدا عن الساحة.
الثور الذي أصبح مهما لوح أمامه بالعباءة الحمراء لا يأبه كثيرا لها، وبرغم تعبه كان الجبار لا يقوى على كبت رغبته المجنونة في الاستجابة للتلويح الأحمر، فما تكاد تتكون لديه أول دفعة قوة وأول قدرة على الحركة، حتى ينطلق مهاجما ويعاود الكرة بضع مرات يكون قد استنفد خلالها دفعة طاقته، فيعود يرغم على الوقوف. هذه الفترة عرفت فيما بعد أنها أنسب وقت «لقتل» الثور وهو في وهنه، وقبل أن يستريح بدرجة تكفي ليعاود الهجوم مرة أخرى.
وهكذا ظل الميتادور الأول يستفز الثور للحركة حتى تحرك وأقبل ناحية العباءة بأقصى ما في قدرته من سرعة، ورغم أني رأيت كل شيء إلا أني لم أدر ما حدث بدقة، ولا يكفي أن ترى لكي تدرك! أقبل الثور مسرعا وحدثت بضعة أشياء في وقت واحد؛ أبعد الميتادور العباءة وتنحى عن طريق القرون والرأس بنصفه الأسفل، ومن سرعة الحركة وخفتها لم ألمح السيف وهو يغمد، وحين انتهت الحركة رأيت مقبضه فقط هو البادي منه إلى يسار السلسلة الفقرية.
ويا للبساطة! ما كادت تمضي ثانية واحدة حتى وجدت الثور كالحائط القديم المائل يسقط هكذا فجأة وكأنه ممثل مسرح يؤدي دور الموت، وتحسبه لا يجيد التمثيل للسرعة التي يسقط بها نفسه ويموت. حقيقة وواقع يحدثان أمامك ولا تكاد تملك القدرة على تصديقها. لا يمكنك أبدا أن تصدق أن نفس هذا الكائن الذي كان يثير بحركته وجبروته الرعب حتى في الهواء وذرات الحصى، يرقد بعد أقل من عشر دقائق في نفس الساحة التي كان يحيلها بركانا من الحياة والحركة جثة يعف عليها الذباب. نفس الجسد بنفس العضلات والقرون، بنفس القدرة والطاقة وقد أصبح فاقدا كل القدرة وانتهت حركته إلى الأبد. ولماذا؟ لأن قطعة معدن صغيرة دخلت جوفه فاختل نظام الحياة داخله وتوقف. أجل نظام الحياة. إنه لشيء مضحك حقا أن تعرف أن تلك الطاقة الحيوية الهائلة التي كانت تبدو على هيئة فوضى كاملة تريد أن تعيث فسادا في كل شيء، وتخل نظام كل شيء، وتحيل كل شيء إلى مزق. هذه الطاقة الحيوية المتفجرة لتشيع الفوضى في كل ما حولها مصدرها نظام بالغ الروعة دقيق، لولاه ما استطاع أن يحرك ذيلا أو ينش ذبابا أو يأخذ شهيقا، نظام يكفي أن تخدشه بقطعة معدن أو دبوس لكي - من شدة إتقانه - يختل وينتهي كنظام حياة ليبدأ يعمل فيه نظام آخر. نظام الموت والتحلل والفناء.
ولا بد أننا نكره هذا النظام الآخر - نظام الموت - إلى درجة مقيتة، إلى درجة أننا نأسى لو حل حتى بأعدائنا؛ فما تمنيت شيئا وأنا أرى الثور يعصف هادرا ممزقا غارسا قرنيه بوحشية في كل شيء. ما تمنيت أكثر من أن ينجح الميتادور في الإجهاز عليه ويريحنا ويريح الدنيا منه، ولكن، ولكنني حين رأيت السيف مغمدا إلى حد مقبضه في صدر الثور، ثم رأيته على أثر الطعنة المصوبة بخبرة ودقة وشجاعة يسقط ميتا رافعا ساقيه؛ شعرت رغما عني - ولماذا أختار هذا الشعور لأقول رغما عني؟ ومشاعرنا دائما لا تتحرك بإرادتنا وإنما رغما عنا - شعرت بأسى، وأحسست أنا الواحد من الثلاثين ألفا الذين كان يشيع في قلوبهم الرعب من دقائق، أحسست أني أشفق عليه شفقة حقيقية صادقة، وأنه صعب علي. وليس في قدرتي أن أجد لهذا أوهى تفسير، فليفسره علماء النفس إذا استطاعوا. وحتى لم أتبين بالضبط من الميتادور الذي كان يصارعه والذي قتله؛ فكلهم يرتدون نفس الزي ولهم تقريبا نفس القامة. لم أعرفه إلا حين تهاوى الثور وسط حلقة الميتادورات التي تلتف حوله في تلك اللحظات وكأنما تحاصره حتى تتأكد من خمود أنفاسه مخافة أن يقدم في لحظة الموت واليأس الأخيرة على قتل الميتادور الذي صرعه. من وسط هذه الحلقة وجدت واحدا منهم يتلفت وينحني ردا على تصفيق الجماهير الذي تعالى، ثم حين تأتي الأحصنة الأربعة المخصصة لجر الثور الميت وتخرجه من الحلقة مشيعا بالتصفيق الشديد والهتاف، وإخراج المناديل والتلويح بها علامة الاستحسان الكبير للطريقة والشجاعة والشرف التي تمت بها المصارعة، وللميتة المتقنة التي صرع بها الثور بغير عذاب أو ألم. حين حدث هذا وجدت الميتادور يدور حول الحلقة يرد على تحيات الجمهور، وخلفه اثنان من زملائه يجمعان الزهور والسيجار والسجائر والشيكولاتة التي تلقى له إعجابا وتقديرا.
Halaman tidak diketahui