وهكذا كان ڤاجنر من القائلين، على طريقته الخاصة، بارتباط الفن بالحياة، وبأن للفن وظيفة اجتماعية هي الإصلاح؛ غير أن الصفة المميزة لرأيه في هذا الصدد هي أنه رأى الفن سلاحا «وحيدا» في هذا الميدان، قادرا وحده على تحطيم الفساد وإنقاذ البشر، ولم يتصور أن يكون الفن مجرد واحد من الأسلحة العديدة التي يسعى بها الناس إلى إنهاض مجتمعهم ، أو أن يكون النضال الحقيقي في سبيل الإصلاح مركزا في ميادين أخرى أقدر من الفن على بعث نهضة إنسانية شاملة. وهكذا كانت أنانيته الفنية دافعا له إلى تجاهل كل ميادين الإصلاح الأخرى، فكان من الطبيعي أن يدرجه دعاة الإصلاح الاجتماعي الحقيقي ضمن أعدائهم الألداء.
الفن المتكامل
تطورت الموسيقى الخالصة في العصر الحديث، حتى بلغت القمة في عهد السيمفونيات الذي بدأ منذ هايدن وتقدم على يد موتسارت ووصل إلى عصره الذهبي عند بيتهوفن. ولقد سارت الموسيقى خلال ذلك التطور من الشكلية إلى العينية؛ فبينما كانت في أوائل عهدها، وفي معظم فترات القرن الثامن عشر، فنا شكليا إلى حد بعيد، وبينما كنا نعجز عن أن نستمد أية عاطفة واضحة المعالم من سيمفونيات هايدن وموتسارت - باستثناء العاطفة الدينية في موسيقاهما الكنسية - رأيناها تتخذ عند بيتهوفن، وخاصة منذ سيمفونيته الثالثة، صورة عينية واضحة؛ فهي تعكس عواطف ومشاعر عديدة، وتزداد تغلغلا في عالم الروح الباطن ... ولكن هذا الاتجاه نحو العينية لا يكفي في رأي ڤاجنر، فما زالت العواطف التي تعبر عنها الموسيقى عامة إلى حد بعيد، بحيث نعجز عن أن نحددها ونحصرها. ومهما بلغت الموسيقى الخالصة من تقدم في باب التعبير، فلن تصل إلى أكثر مما وصلت إليه على يد بيتهوفن؛ أي إلى التعبير عن مشاعر عامة مبهمة لا تحرك نفوسنا في اتجاه محدد بعين، بل تثير فينا أحاسيس غامضة وتترك لكل منا حق تفسيرها كما يشاء.
كذلك ظهر عجز مشابه في الشعر؛ فالشعر الحديث قد اتخذ لنفسه طريق «الرواية» وابتعد عن العالم الباطن ليصف وقائع وحوادث خارجية عديدة، وقل تعمقه في النفس الإنسانية بقدر ما اهتم بوصف بيئتها الخارجية. والفرق هائل بين ما انتهت إليه هذه الصورة الأدبية في العصر الحديث، وبين ما كانت عليه عند اليونان، حين كان الشعر يصاغ في قالب «الدراما» التي تتعمق في نفس فرد واحد، لتصف مشاعره العامة التي يشترك فيها مع الإنسانية جمعاء أدق وصف وتحللها أصدق تحليل؛ فبعد الشعر الحديث عن صورة الدراما هو علة قصوره وعجزه عن الوصول إلى أعماق النفس البشرية.
ولقد حاول العصر الحديث أن يسد هذا النقص، فأتى بفن جديد يجمع بين الموسيقى والشعر معا؛ هو الأوبرا. ولكن هذا الجمع كان سطحيا إلى حد بعيد، والتصقت الموسيقى بجانب الشعر دون أن يقوم بينهما أي امتزاج حقيقي؛ إذ إن دور الموسيقى يطغى على دور الشعر فيها حتى لا يعود هناك مجال للمقارنة بينهما، وتصبح مهمة الشاعر هي تقديم أساس كلامي يبني عليه الموسيقي بناءه الذي يستأثر بكل اهتمامنا. ومن جهة أخرى، قد يحدث أن يجبر الشاعر الموسيقي على أن يلحن أجزاء لا تصلح في أصلها للتلحين، ومن هنا رأينا الأوبرا حتى عهد موتسارت تتألف من فقرات غنائية بينها فواصل كلامية لا تلحن إلا تلحينا بسيطا، ثم رأينا الموسيقيين التالين يحاولون ملء ذلك الفراغ بألحان لا يمكن أن تتناسب مع طبيعة الموضوع الشعري. وهكذا انعدمت الرابطة بين الشعر والموسيقى في الأوبرا، وسار كل منهما في اتجاه مستقل عن اتجاه الآخر، وإن كان يجمع بينهما تلاصق سطحي لا يسمح لنا بأن نعد الأوبرا فنا متكاملا.
فإن كانت الأوبرا الحديثة قد أخفقت في تحقيق فن جامع بين الموسيقى والشعر، فأجدر بنا أن نتطلع إلى عهد تحقق فيه ذلك المثل الأعلى في الفن إلى حد يدعو إلى الإعجاب؛ ذلك هو عهد الدراما اليونانية؛ فالدراما لم تكن في عهد اليونان عرضا يرمي إلى اللهو والترويح عن النفس فحسب، كما هو الحال في الأوبرا الحديثة، بل كانت فنا وثيق الصلة بحياة الشعب اليوناني، عميق التأثير فيها؛ إذ كانت مستمدة من أساطير ذلك الشعب؛ أي معبرة عن عبقريته التلقائية تعبيرا مباشرا، وممثلة لروحه أصدق تمثيل. ومما زاد في تأثيرها على الشعب اليوناني أنها لم تكن تخاطب جانبا واحدا من جوانب النفس البشرية، بل كانت فنا جامعا بالمعنى الصحيح؛ فهي تطرب العقل والسمع والبصر والأفئدة معا، وفيها يتحد الشعر الأسطوري بالموسيقى والرقص والحركات المسرحية في وحدة شاملة متماسكة؛ فتلك الدراما لا تدع حاسة جمالية في الإنسان إلا أثارتها، ومن هنا كانت هي المثل الذي يجب أن نقتدي به في عصرنا الحديث إن شئنا بعث نهضتنا الفنية والاجتماعية على أساس سليم. وليس معنى ذلك أن نقلد الدراما اليونانية في تفاصيلها؛ إذ إن تلك الدراما قامت في عصر يختلف عن عصرنا كل الاختلاف، ونشأت في ظل أحوال لم تتكرر بعد ذلك ؛ وإنما يكفينا أن نستمد منها فكرتها العامة، ونقتدي بها في إهابتها بالأساطير الشعبية وتأثيرها على كل جوانب النفس البشرية بفنها المتكامل.
ولقد اهتدى ڤاجنر إلى رائد له في طريقه الفني الجديد، وإن لم يكن قد سار في ذلك الطريق إلى نهايته؛ ذلك هو بيتهوفن؛ ففي الفترة الأخيرة من حياة بيتهوفن، حين أدرك أنه قد بلغ من الموسيقى الخالصة غايته، وعبر بها عن أقصى ما يمكنها التعبير عنه؛ أدرك في لحظة عيانية رائعة أن للموسيقى الخالصة حدودا لا تستطيع تجاوزها، وأنها مهما ارتقت وكملت فلن تعبر إلا عن مشاعر غامضة لا يمكن تحديدها، ولا تؤثر في النفس الإنسانية على نحو واضح، بل تترك فيها أحساسيس مبهمة فحسب؛ ولذا سعى إلى تحديدها وصبغها صبغة عيانية بفن آخر، هو الشعر. وهكذا مزج بيتهوفن في الجزء الأخير من سيمفونيته الأخيرة بين الشعر والموسيقى، وبين أنغام الآلات والصوت الإنساني، في وحدة متناسقة أسمعت الإنسانية «أنشودة الفرح» فتغلغلت في الأعماق، ونفذت إلى أغوار من الروح لم تبلغها من قبل قصيدة شعر أو لحن موسيقي. هنا ظهر الفن المتكامل لأول مرة في العصر الحديث، وكشف بيتهوفن عالما جديدا: لم يستطع ارتياد كل نواحيه أو كشف كل غوامضه، ولكنه نبه إليه وقدم إلينا صورة رائعة عنه، تنير الطريق لمن يود استطلاع هذا العالم وفتح هذه الافاق الجديدة للإنسانية.
والواقع أن نظرة ڤاجنر إلى بيتهوفن قد تأثرت بهذه الفكرة كل التأثر؛ فعبقرية بيتهوفن - في رأيه - إنما تكمن في تمهيده الطريق للدراما الموسيقية. وخير أعماله هي السيمفونيتان التاسعة والثالثة، والافتتاحيات التي لا يراها مجرد مقدمات للدراما، بل هي الدراما بأسرها في شخصياتها وحوادثها ومشاعرها. فقبل بيتهوفن، كان ما يعنى به الفنان هو الموسيقى من حيث هي موسيقى، أما هو فقد عبر بها عن أفكار خارجة عن نطاقها. ومنذ تلك اللحظة سار الفن الموسيقي في طريق يؤدي مباشرة إلى الدراما الڤاجنرية؛ أي إلى السيمفونية الغنائية بالمعنى الصحيح. وقد نرى في هذا التحليل لفن بيتهوفن بعض الصحة، ولكنه يفتقر بلا جدال إلى الروح الموضوعية المنزهة ؛ ففي وسعنا أن نقول إن بيتهوفن لم يكن يهم ڤاجنر إلا من حيث هو سلف له فحسب، وليس من العدل أن نقول إن بيتهوفن كان يرمي من الجزء الغنائي من سيمفونيته التاسعة إلى نظرية فنية مشابهة لنظرية ڤاجنر في الفن المتكامل، أو أنه أدرك حدود الموسيقى الخالصة وحاول أن يكملها بالشعر ليكون تعبيره الفني أكمل وأدق؛ وإنما الواقع أنه حاول تلحين «أنشودة الفرح» لشيلر منذ عهد مبكر، وأن تلك القطعة الشعرية كانت تستهويه في فترات مختلفة من حياته، فيلحنها في كل مرة على نحو مخالف للمرات الأخرى، حتى انتهى إلى خير تنفيذ لفكرته في النهاية، وليس من العدل كذلك أن نقول إن التعبير الدرامي كان الغاية القصوى من تطوره الفني؛ إذ كانت للموسيقى الخالصة مكانة كبرى في نفسه، وكان تقديره لرباعيته وسوناتاته - وهي الصورة الموسيقية التي يراها ڤاجنر مضادة تماما لصورة الدراما الموسيقية عنده - لا يقل عن تقديره لسيمفونياته وافتتاحياته.
ولنتأمل دور الموسيقى في الدراما الشعرية الغنائية كما يتصورها ڤاجنر، فنجده يتجاوز بكثير دورها في الألحان المجردة، فليس للموسيقى أن تكتفي «بالإيعاز» و«التلميح» المبهم كما كانت تفعل في السيمفونيات؛ وإنما عليها أن تقترب من العينية بقدر طاقتها؛ حتى تستطيع عبور الهوة التي تفصلها عن الشعر؛ فعلى الموسيقار أن يتوغل في عالم العاطفة والشعور، ويجعل لأنغامه «محتوى» على الدوام، ولا يدعها تدور في نطاق الصورية الخالصة؛ إذ إن الموسيقى المجردة وحدها لا تكفي - في رأي ڤاجنر - لإعطاء صورة جمالية كاملة. ولا بد أن يكون للأوركسترا دوره الخاص في هذه النظرة الجديدة إلى الموسيقى؛ فبينما كان في الأوبرا التقليدية يعين اللحن الصوتي بعزف إيقاع مساعد له، أو يعزف بدون الأصوات البشرية موسيقى خالصة لا تمت إلى المشاعر الدرامية بصلة، أصبح على الفرقة الموسيقية أن تعبر عن الأحاسيس الخفية لشخصيات الدراما، وأن ترسم لنا من بعيد التيارات الخفية لمشاعرها، وفي وسع الفرقة الموسيقية أن تؤدي هذا الغرض بفضل الطبيعة الغامضة للتعبير الموسيقي، الذي يرسم مشاعر عامة لا يمكن إعطاؤها صورة متحددة إلا على يد الشعر المصاحب لها ؛ ولذا كان على الفرقة الموسيقية أن تختفي عن الأنظار، حتى لا يبدو منها إلا تأثيرها في النفوس فحسب، وحتى تمثل التيارات المختلفة التي تنتاب روح أبطال الدراما خير تمثيل، في اختفائها وإبهامها وغموضها.
وهنا نرى لزاما علينا أن نجري مقارنة بين فكرة ڤاجنر عن الموسيقى كما عرضناها، وبين الدور الذي أولاه إياها شوبنهور في فلسفته؛ فعلى الرغم من اقتداء ڤاجنر بشوبنهور وتأثره الواضح بآرائه الفلسفية، وعلى الرغم من إعجابه التام بفكرته عن الموسيقى من حيث هي معبرة عن الماهية العميقة للعالم، نجد بينهما اختلافا دقيقا في الرأي حول مقدرة الموسيقى والمدى الذي يمكنها الوصول إليه؛ فقد رأينا ڤاجنر لا يرى الموسيقى الخالصة قادرة على بلوغ المستوى التعبيري الكامل الذي ينشده؛ وإنما يؤكد ضرورة إكمالها بفن آخر هو الشعر الذي يكسب تعبيراتها دقة وتحددا. أما شوبنهور فجعل للموسيقى الخالصة مكانة تسمو على الموسيقى الغنائية إلى أبعد حد، وأكد أن تلك الموسيقى المجردة على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، متحددة متميزة إلى أدق حدود التحدد والتميز، وجعل لهاتين الصفتين في الموسيقى طبيعة خاصة تقربها من طبيعة الأشكال الرياضية؛ ففي كتابه الأكبر «العالم إرادة وتمثلا» يصفها بقوله: «إن الموسيقى من حيث هي تعبير عن العالم، هي لغة عامة إلى أبعد حد ... ولكن عموميتها ليست خاوية ناشئة عن التجريد؛ وإنما هي من نوع يختلف عن ذلك تماما؛ فهي متحددة متميزة كل التميز. وهي في ذلك الجمع بين العمومية والتميز تشبه الأشكال الهندسية والأعداد، التي هي أشكال عامة لكل الموضوعات الممكنة للتجربة ... ولكنها مع ذلك ليست مجردة؛ وإنما عينية ومتحددة كل التحدد؛ فكل المشاعر والنوازع والعواطف التي تنتاب الإرادة، وكل ما يجري في باطن الإنسان مما يطلق عليه العقل سلبيا اسم «الشعور
Halaman tidak diketahui