ومن هذه النتيجة الأخيرة نستطيع أن نتفهم المعنى الحقيقي لحملة ڤاجنر على اليهودية؛ فلم تكن تلك الحملة راجعة إلى عنصريته هو، بل إلى اعتقاده بأن اليهود ذاتهم عنصريون ومتعصبون؛ فطالما ظل اليهودي يقيم حاجزا بينه وبين الدولة التي يعيش فيها، ويظل محتفظا بصفات «الأمة» اليهودية، كان على الإنسانية أن تحاربه لأنه خارج ومنشق عنها. أما صلاح اليهود فلن يكون إلا بعودتهم إلى ركاب الإنسانية وخلعهم رداء التعصب. وهكذا كان هدف ڤاجنر من هذه الحملة إنسانيا في آخر الأمر. وليس أدل على تلك النزعة الإنسانية الكامنة لديه من صداقته المتينة لكثير من اليهود، كالموسيقي العازف روبنشتين، وقائد الأوركسترا هرمان ليفي. بل إن أكثر أنصار دعوته الموسيقية الجديدة، تلك الدعوة التي أطلق عليها اسم «موسيقى المستقبل»، كانوا من اليهود، كما كان اليهود في أغلب الأحيان هم الذين يسمون أبناءهم «زيجفريد» و«زيجمند» بعد ظهور الدراما الرباعية. ولكن سخرية الأقدار تتم إذا تذكرنا ذلك الاحتمال القوي في أن يكون أبو ڤاجنر الحقيقي هو لودفيج جاير؛ إذ كان أصل ذلك الرجل، واسمه يهوديا، وكان في انحناء أنف ڤاجنر وتقوسه ما يبرر ذلك الرأي إلى حد بعيد!
وكما كان القضاء على روح اليهودية وسيلة من وسائل بعث المجتمع الحالي؛ فقد كانت الروح الألمانية عاملا قويا من عوامل النهضة الحديثة؛ إذ إن العنصر الجرماني كان أقل العناصر اختلاطا وتأثرا بالروح اليهودية. والواقع أن إيمان ڤاجنر بألمانيا كان راسخا لا يتزعزع، فهو يستمد موضوعات دراماته من الأساطير الألمانية الشعبية في العصور الوسطى؛ لأنها تعبر في نظره عن عبقرية ذلك الشعب خير تعبير، وتكشف عن تلقائيته وإبداعه. ولا شك أن أصلح الأساطير في نظره للتعبير عن المشاعر الإنسانية العامة هي الأساطير الألمانية؛ فالشعب الألماني أسطوري بطبيعته ، تسوده نزعة صوفية عميقة، وتتغلب لديه العاطفة على العقل الخالص؛ وتلك بالضبط هي شروط النهضة التي يأمل ڤاجنر أن يبعثها في الإنسانية. والواقع أن تلك النزعة العاطفية الصوفية ترتبط بالتعصب ارتباطا وثيقا؛ إذ إن الشعب المنطقي الذي يتغلب عنده جانب العقل، لا يعرف التعصب ولا يؤمن به إيمانا راسخا. أما الشعب العاطفي فيحس بنواحي السمو فيه ويؤمن بها إيمانا راسخا، ويشيد على الدوام بمزاياه الروحية الرفيعة التي تعلو في نظر أفراده على كل ما عداه من الشعوب.
ولنحاول هنا أيضا أن نفهم تعصب ڤاجنر على حقيقته؛ فلا شك في أنه لم يكن متعصبا في بداية حياته، بل كان عالمي النزعة؛ ودليل ذلك أنه كتب إلى شومان في باريس يسأله معونة المجتمع الباريسي، وأنه لما رأى نفسه قد أخفق في ألمانيا، سعى إلى اكتساب عطف الفرنسيين؛ ففي ذلك الحين كانت نظرته إلى فرنسا نظرة كلها أمل ورجاء، كذلك استمدت دراماته الأولى من أدباء أجانب؛ فمن شيكسبير اقتبس «ممنوع الحب»
Liebesverbot
ومن ليتون
B. Laytton
اقتبس «رينزي» التي يدور موضوعها كله حول شخصية رومانية في مجتمع روماني بحت. وكانت تجربته الشخصية في باريس هي العامل الأكبر الذي جعل للتعصب طابعا عنيفا لديه، وجعل حبه للألمان يقترن بكراهية غيرهم.
مثل هذه الآراء كفيلة بطبيعة الحال بأن تدمغ ڤاجنر بتهمة التعصب، ومن المؤكد أنه كان كذلك بمعنى ما. ومع ذلك فمن المؤكد أيضا أن قوميته لم تكن عدوانية؛ فحبه لألمانيا وتأكيده لأهمية الدور الذي ستلعبه في الحضارة البشرية، لم يكن يقترن بأي ميل إلى الفتح والغزو، بل كان يتملكه شعور صوفي غريب بأن لدى الشعب الألماني من العبقرية ما هو كفيل بإنقاذ البشرية وإسعاد العالم. ولا شك في أن قصر نظر الفنان يتجلى هنا أوضح ما يكون؛ فتمجيده لقوميته قد استغل فيما بعد أبشع الاستغلال في محاولة تحقيق الأحلام التوسعية العدوانية لحكام ألمانيا المستبدين. ولقد بدأت بوادر هذه النزعة التوسعية في الظهور أثناء حياته، في الحرب السبعينية التي شهدها ڤاجنر. ولا شك أن عدم قدرته على استخلاص النتائج الضرورية من هذه الحرب ترجع إلى أنها انتهت نهاية ظافرة. أما النهاية المدمرة التي انتهت إليها الحربان العالميتان الأولى والثانية فكانت دون شك كفيلة برده إلى صوابه لو كان قد شهدها!
ولعل مما يخفف عن ڤاجنر، إلى حد ما، تهمة التعصب الضيق الأفق، أنه كان يمزج على نحو غريب بين حاضر الأمة الألمانية وبين تصور أسطوري قديم لها؛ فقد كان يتمنى أن تعود هذه الأمة إلى العهد الذي تصوره أساطير الفرسان والنبلاء في العصور الوسطى، وكان يرى في هذه العودة الوسيلة الوحيدة لخلاص هذه الأمة، ومعها العالم بأسره. وفضلا عن ذلك؛ فقد أتى على ڤاجنر في شبابه وقت كانت نزعته فيه إنسانية بكل معاني هذه الكلمة، وذلك حين اشترك إيجابيا في ثورة 1848م وتعرضت حياته للخطر من أجلها؛ غير أن هذه لم تكن إلا فترة قصيرة من حياته، وربما كان الدافع إليها هو أنه لم يكن لديه ما يخسره في ذلك الحين. أما حين ارتبطت حياته فيما بعد بالملوك، فقد نسى تماما نزعته الإنسانية وإيمانه بقوى الشعب، وأصبح أرستقراطيا متعصبا. •••
ومع ذلك لم يكن ڤاجنر مفكرا سياسيا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ وإنما كانت إنتاجه كله يرمي إلى تحقيق الإصلاح بوسيلة واحدة هي الفن؛ ففي رأيه أن صياغة الأفكار الاجتماعية في قالب فني هو الذي يجعل لها تأثيرا فعالا؛ فالفن أبلغ في نظره من أية خطبة سياسية أو موعظة دينية. وكل فكرة يعبر عنها الفن تتغلغل مباشرة في أعماق النفوس، وتصبح في النهاية جزءا لا يتجزأ من الكيان الروحي للإنسان. وبالفن وحده نصل إلى الاندماج التام في العالم، ونتفهم مشاكله من الأعماق.
Halaman tidak diketahui