وسما ففاق خورنقا وسديرا
فقال الولي: «يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك في كل دار»، ولم يكن بعد دعوته إلا أيام يسيرة حتى «نهبت ذخائرها، وعم الخراب سائرها.»
وهاك أثر جميل من ذاك الخراب، في تلك الردهة الأوربية الفرش والبناء، على حيطانها الأربعة، زنار من البلاط الزليجي منقوش فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله على نعمة الإسلام ...» وكذلك نتف من الشعر مفككة الألفاظ، مقطعة المعنى.
سألني الشيخ قراءتها وترجمتها، ففعلت طاقتي، فهز رأسه أن قال تمام، وسر جدا ثم قال: وعندي أثر آخر يدهشك، وحمل القنديل الذي كان على الرف، وخرج من البيت يتقدمنا إلى زقاق خارج الدار، وهناك، في حيط ظاهره قديم، حجر منقوش فيه «رشد» وقد كاد يمحو تلك الأحرف الزمان، فقرأتها مدهوشا، فهز الشيخ رأسه وقال: لا شك عندي أن هذا بيت آفروس - أي: ابن رشد - الذي كان يعلم الفلسفة في كلية قرطبة.
والأغلب أن بيت الفيلسوف - مثل سائر بيوت كبار المسلمين قديما - أصيب بما أصيبت به قصور السلاطين، فتبعثرت حجارته، ورست في ذا الجدار بعضها، ولكني لم أحاول أن أزعزع رأي سيدي الشيخ أو أفسد ظنا له فيه فخر وسرور، فقلت: وهل هذه الدار قديمة، فقال: الغرفة التي تنام فيها هي أقدم ما في الدار بناء، وهذا الحائط من حيطانها.
عدت إلى غرفتي وأنا لا أدري أني درت مع الشيخ حولها، فدخلتها والدهشة تملك نفسي، والهواجس تتجاذب الفكر مني والخيال، نعم، إن ما شاهدته لتافه جدا بالنسبة إلى الفخامة والعظمة في قصور إشبيليا وغرناطة، ولكن العين لا ترى ما تراه النفس، وقلما تحسب للرؤيا حسابا، إن حجرا منقوشة فيه ثلاثة أحرف عربية لشبه نافذة في غرفة صغيرة أرتني بل قربت مني ذلك العهد القديم المجيد.
وما المانع أن يكون هذا البيت بيت ابن رشد؟ أو هو - على الأقل - في الحي الذي أقام فيه، بل في مركز بيته الأصلي بالذات، وما المانع أن تكون هذه الغرفة - وهندستها عربية - غرفة ابن رشد الخصوصية؟ أصغاث أحلام. قد يكون الحجر من حجارة قبر ابن رشد، فالإفرنجة هدموا وبعثروا حتى قبور المسلمين! اعترتني الرعشة من ذي الذكرى، فاستعذت منها بغيرها، قد يكون هذا الأثر من الكلية التي كان يعلم فيها، حسن، وقد يكون من نصب أقيم له بعد موته، هذا أحسن، وإن كان لا يثبته التاريخ.
في كل حال وجدت نفسي تلك الليلة في دار لم تزل الروح العربية حية فيها، تلك الروح الخالدة في الشعر وفي العلم وفي الفنون، تلك الروح الحافلة بمصابيح من النور كابن رشد، والإدريسي، وابن العوام أبي ذكريا، والخلف أبي القاسم، وابن زيدون، وابن الخطيب، وأصحاب الموشحات وغيرهم من نوابغ الأندلس.
وها إن آثارهم أمست في كل دار من دور أعدائهم الفرنجة، وهم أو أبناؤهم اليوم من أشد المعجبين بهم. ففي قلب الأندلس روح العرب خالدة، ولكن ملكا شيدوه أمسى أثرا من الآثار، ومجدا أقاموه استحال طللا من الأطلال، ومعاهد علم أسسوها لم يبق منها حجر على حجر، إلا ما استقر، بعد انفجار بركان التعصب، في حائط جديد، أو في بيت حقير مجهول.
فما السبب يا ترى في سقوط ذلك الملك الذي شعت أنواره في ظلمات أوروبا كنجوم البادية في الدجى؟ وما السبب في اضمحلال أركانه وأصوله؟ ما السبب في زوال مجده، وفي قصر أمله وعهده؟
Halaman tidak diketahui