194

Rayhaniyyat

الريحانيات

Genre-genre

مربض الأسد ببيت النعيم

وسافرت إلى قرطبة، مسقط رأس ابن رشد أبي الولد، لأشاهد فيها الجامع الكبير، الذي شيد في عهد عبد الرحمن الأول مسجدا صغيرا، فنشأ والدولة نشوءا طبيعيا؛ إذ أضاف إليه خلفاء عبد الرحمن الأربعة أقساما كبيرة، زادت بفخامته وجماله، وهو اليوم كنيسة قائمة على عمد الجامع القديم، التي تتجاوز الألف عدا.

وصلت إلى قرطبة مساء، وأنا أحمد الله على خلاصي من المهرجان، لكني ما كدت أنزل من عربة السكة إلا ورب العيد والأغاريد، والكابوس العنيد ... لا، لا، هي أصداء من غرناطة لم تزل ترن في أذني. دخلت المدينة مستعوذا مستسلما، فإذا بالأصداء وقد تعاظمت، وبالأصوات وقد تضاعفت وتعددت وتجددت وترددت، لها غنات ولها هدير، غريبة الألحان والأغاني والضوضاء. وقد ملأت الفضاء وحيرت حتى السماء، فلا زئير الأسد وقد خالطها صفير البلابل يشابهها، ولا نهيق الحمير بين صياح الديوك وعجيج الثيران، ولا صدى المدافع وقد تخللها نعيق البوم وعواء الثعالب ، ولا الأبواب وقد نفخت فيها القرود، ولا الدفوف في أيدي الجنود السود، بل كلها اجتمعت في قرطبة ضجيجا، وتصاعدت عجيجا، كأنها ألحان من الجحيم، أصيبت بمغص أليم، سددت أذني مستغفرا الله مسترحما، فإذا بصوت يهمس فيها: يا هارب، يا جبان، هي نوبات المهرجان. «عيد بأية حال عدت يا عيد» ... ألا مهرب منك في بلاد الأندلس؟ ألا ملجأ للغريب فيها من نعيمك وخمرك، وطبلك وزمرك؟ وقد زاد في الطين بلة أن المنازل والفنادق بسبب هذا العيد المبارك، كانت كلها ملآنة، لا غرفة، ولا فرشة، ولا مسند فيها، لا لغريب ولا لنسيب.

فبعد أن جلنا المدينة كلها أو ما تلألأ بالأنوار منها وأجرة العربة تصعد كالزئبق في تموز، والدليل ترجماني يحرك يديه، ويهز كتفيه، شاكيا آسفا، بل خجلا من ضيق بلده في وجه الزائر الكريم، وقفنا عند بوابة كبيرة إلى جانبها مصباح صغير ضئيل، فترجل الدليل وقال كمن أنزل عليه الوحي: «انزل يا (سنيور) انزل، سآخذك إلى بيت عمي وهو بيت يليق بك.»

فنزلت والحقيبة بيدي، وكذلك قلبي، فمشيت وراءه وكان المصباح عند الباب آخر عهدي آنئذ بالنور، مشينا في زقاق ضيق، لا يمكن أن يقع السائر فيه لقرب حيطيه الواحد من الآخر - إلا إذا وقع على وجهه أو ظهره - ومنه إلى ساحة من عليها ببعض النور مصباح في شباك مفتوح، فتنفست الصعداء، ولكننا لم ندخل الساحة إلا لنخرج منها إلى شبه جادة فيها شبه قنديل ظننته لبعده بصيص الحباحب ولم نصل إليه لأتحقق ظني، بل سرنا يمينا ثم شمالا إلى زقاق آخر مظلم، وقف الدليل فيه وهلة وقال: أعطني يدك، فأنزلني درجا درجاته مثل دكات لبنان متهدمة، وهو يقول: لا تخف وصلنا، وأنا أقول في نفسي: إنه رأي غريب، في ما يليق بالغريب، أيقيم عمه تحت الأرض يا ترى؟

نزلنا الدرج دون حادث يستوجب عناية طبيب، فانبسطت أمامنا طريق شع فيها ما كنا نسيناه من حقيقة النور، فمشينا توا مسرعين، فإذا هناك مصباح لا ريب فيه فوق باب مفتوح، دخلناه كأنه باب الجنة، وسرنا في فناء الدار، وهي عامرة بالأنوار، وفيها أقفاص تغرد فيها الطيور، ومستنبتات نورت فيها أنواع الزهور، ولكن الدار خالية من الأنس، وقد كان أهلها في المدينة يعيدون، ما سوى رب البيت، وهو شيخ جليل، جاء يتأهل بالغريب وبالدليل.

تكلم الدليل فابتسم الشيخ نسيبه، وسار وهو يشير أن أتبعه، فأدخلني غرفة صغيرة، لا نافذة فيها ولا شباك، إلا أن في بابها - وهو قبالة الحوض في الفناء - ثقوبا تؤذن بتجديد الهواء، وصوت خرير الماء، وبعد المساومة - لا ضيافة في الأندلس اليوم - سألني الشيخ عن أصلي، فقلت عربي، فهش وبش، ونادى نسيبه، وهو يشير إلى قلبه ويقول: كلنا هنا عرب، إلا أنه تقاضاني أجرة الغرفة ثلاثة أضعاف إكراما للعيد، وقبض القيمة سلفا إكراما - على ما أظن - للعرب.

وبعد حديث كان الترجمان صلته، علمت أن الشيخ ممن يعجبون جدا بعرب الأندلس، وإن كان لا يعرف للضيافة معنى، ويعرف للمال ألف معنى، فهو في هذا مثل كل الإسبان بل مثل أكثر الأوروبيين اليوم، وهو من القليلين في الأندلس الذين يفرقون بين العرب والمغاربة، أو بين من جاء من بر الشام ومن جاء من إفريقية، فلا يقول: «مورو» إذا أراد أن يقول: عربي، والعكس بالعكس، وهو يفضل الأمويين على سواهم، ويعجب بما كان لقرطبة في عهدهم من الشهرة والمنزلة في العلوم والفنون. وقد أخبرني أيضا أن له ولعا في درس الآثار، وبالأخص آثار قرطبة العربية، ودلني إلى بيوت في المدينة، لا ذكر لها في كتاب الدليل حيث تشاهد فيها أمثال نادرة من البلاط الزليجي، أي المزجج المذهب.

ولم يخطر في بال الشيخ - وكان قد أطلق للسان العنان - أن قد أكون تعبا، نعسا، من السفر والضجر، فقد سر - ولا شك - بغريب الصدفة، فاسترسل في سروره، ودعاني إلى ردهة الاستقبال ليريني فيها أثرا جميلا، أثرا مدهشا، وحقا أني انتعشت حالا بما شاهدت، فتجددت في الرغبة بالسهر والحديث، كيف لا، والأثر عربي، ذكرني بما قرأته مرة عن أحد الأولياء، وكان قد مر بالزهراء، قصر المنصور، الذي :

نسي الصبيح مع الفصيح بذكره

Halaman tidak diketahui