ولم تذكر لابنتها ما دار بخاطرها، لكن ما ارتسم على محياها ساعة تنفست هذه الطفلة الثانية ريح الوجود، لم يعبر عن شيء من الغبطة، وإن دفعها حنانها الطبيعي للعناية بالطفلة أشد العناية!
وبعد سنتين كذلك، أنجبت هيفاء طفلة ثالثة، روع مولدها قلب جدتها، حتى تمنت لو لم تولد. وبلغ روع الجدة حد الثورة حين أنجبت هيفاء بنتا رابعة بعد سنتين أخريين، فأنحت باللائمة على ابنتها، وألقت عليها وزر ما حدث، وكأن للأم الخيار في إنجاب البنت أو الولد.
وبكت هيفاء، ثم قالت تعاتب أمها: «هذه خيرة الله يا أماه، وأنا لم أبلغ بعد الثلاثين، ورحمة الله واسعة ...»
وحملت هيفاء للمرة الخامسة، وإنها لتعاني سقم الحمل؛ إذ مرض زوجها مرضا لم يمهله أياما حتى اختطفه الموت من بين أحضانها. وحزنت الشابة عليه أشد الحزن، وذكرت يتم بناتها، ونظرت إلى مستقبلها ومستقبلهن، بعين لا ترقأ لها دمعة. أما أمها فأفزعتها هذه الوفاة، لا حزنا على الزوج الذي مات، بل إشفاقا أن تلد ابنتها بنتا خامسة، فلا يكون لهاتيك الصغيرات من وقف عاكف بك نصيب، ولا يكاد ما ورثته أمهن عن أبيها يكفيهن عيش الكفاف.
وزاد في فزعها وانزعاجها ما ترامى إلى سمعها من أن سلائف ابنتها يبذلن النذور لأولياء الله الصالحين أن تلد هيفاء بنتا ليعود الوقف إلى أزواجهن، وليستمتعوا بإيراده الوفير!
ماذا عسى أن يكون مصير هيفاء وبناتها إذا استجاب الأولياء لنذور هؤلاء الأقارب؟ وهل تدع هذه الجدة الأمور للأقدار والرزاق هو الله؟ أم أن عليها لهيفاء وبناتها واجبا أن تنقذهن من مصير مظلم بأية وسيلة ممكنة؟!
والوسيلة لإنقاذهن أن تلد هيفاء ولدا يحفظ الوقف له ولها ولأخواته البنات. لا بد إذن من أن تلد هيفاء ولدا. والعلم لم يصل بعد إلى تعيين النسل، فالأمر لا يزال في يد القدر. أولا تستطيع هذه الجدة أن تكفل لابنتها ما لا يكفله العلم، فيكون مولودها ذكرا بأية حال؟ هنالك تنازعها عاملان: الوازع الديني، الذي يجعل معاندة القدر ذنبا يجزى مجترحه في الحياة الآخرة، وقد ينال عنه جزاء قاسيا في الدنيا. ووازع المحافظة على نعمة الحياة لهاتيك القوارير الناعمات، اللاتي لم يعرفن خشونة العيش قط. وانتهى هذا التنازع إلى غلبة الوازع الدنيوي، فلا بد أن تلد هيفاء ولدا ذكرا بأية حال! •••
وولدت هيفاء ولدا ذكرا، فتصايح أقارب زوجها بأن أمها دست في فراش الوضع غلاما، وذهب بعضهم إلى أن الأم الشابة لم تلد، بل لم تحمل، وأن هذا الطفل الغلام دسته أمها في فراشها للاستيلاء على الوقف وريعه!
ورفع هؤلاء الأقارب الأمر إلى القضاء ليحكم بأن الطفل ليس ابنا لعبده عاكف، فلا حق لبناته في وقف جدهن؛ إذ ليس لهن أخ يعصبهن ويعصمهن من فقر مدقع!
وسمع القضاء الدعوى، فلم يأذن بما طلبه أقارب الزوج المتوفى، من تحليل دم الغلام الطفل، وتحليل دم أخواته البنات، والمقارنة بين هذه التحاليل. وسبب رفضه هذا الطلب بأن تكوين الدم قد تتغير طبيعته على السنين بتغير أحوال الصحة والمرض، وبتقدم السن. وعلى ذلك قضى بأن الولد للفراش، وأن «عمر» - فكذلك سمت هيفاء ابنها - ابن شرعي لعبده عاكف!
Halaman tidak diketahui