الإهداء
كفارة الحب
ميراث
يد القدر
الحب أعمى
وفاء
شاهد الملك
لله في خلقه شئون
بأعمالكم تؤجرون
الأسرة الثانية
Halaman tidak diketahui
الدين والوطن
آباء وأبناء
الإهداء
كفارة الحب
ميراث
يد القدر
الحب أعمى
وفاء
شاهد الملك
لله في خلقه شئون
Halaman tidak diketahui
بأعمالكم تؤجرون
الأسرة الثانية
الدين والوطن
آباء وأبناء
قصص مصرية
قصص مصرية
تأليف
محمد حسين هيكل
الإهداء
إلى مصر ...
Halaman tidak diketahui
وإلى «مصرية».
إليكما كان إهداء «زينب» في البدء.
ولعل من الحق أن يكون إليكما إهداء هذه المجموعة في الختام.
كفارة الحب
كانت تناهز الخامسة والثلاثين، صبوح الوجه، حلوة الابتسامة، ذكية النظرة، أدنى إلى القصر، غير بادنة وغير نحيفة. وكانت شفتاها المقدتين تزيدان ذكاء نظرتها وحيا بالكثير من المعاني. وكان أصدقاؤها لا يعرفون من أمرها إلا القليل الذي ينقله إليهم صديقنا وقريبها حمزة ... لكنهم كانوا يعنون بأنبائها لما تناقلت الألسن وتناهبت الأسماع من حديثها في الشهور الأخيرة. فالقاهرة مدينة شديدة التسامح مع عبث الهوى، شديدة الإغضاء عمن يسلمون عنانهم لدوافع تياره، لكنها شديدة الدهشة لصادق الحب، ترهف الآذان إذا حدث أحد في حي من أحيائها عن غرام صادق وعاطفة تستعذب الصحبة وتستهين بالموت. لذلك أثارت قصة زهيرة دهشة القاهريين وطلعتهم، وزاد ما في نفوس ظرفائهم من شك أصيل في صدق عاطفة الحب أو في استطاعة امرأة أن ترى في الحب خطيئة تستأهل التكفير عنها.
وكان صديقنا وقريبها حمزة يخطو إلى الأربعين بقلب مطمئن ونفس باسمة للحياة سخرا من الحياة. وكان مع ذلك شديد العناية بشئون يعتبرها كثيرون من أصحابه تافهة ويراها هو جليلة الخطر ما دامت لا تعنيه وحده، بل تعني آخرين معه. من ذلك أنه كان شديد الدقة في مواعيده حتى لكنا نضبط ساعاتنا ساعة يدق الجرس ويدخل هو علينا، ولكنا نتهمه بأنه إذا ألفى نفسه تقدم عن موعده دقيقة أو دقيقتين وقف بالباب ممسكا ساعته بيده حتى تكون الثانية المضبوطة التي يدق الجرس فيها. وكنا يومئذ ننتظره في الساعة الخامسة تماما، وقبيل هذا الموعد ببرهة دق الجرس، فأمسكنا ساعاتنا بأيدينا وتلاقت نظراتنا تتهم الساعات جميعا بتقديم بضع ثوان عن الموعد الدقيق، لكن الداخل لم يكن حمزة، وانقضت بعد الخامسة دقائق وانقضى ربع الساعة وانقضى نصف الساعة ولم يجئ. هنالك بدأ يساورنا القلق عليه وجعل كل منا يلقي ما يجول بظنه أنه سبب تأخره، قال أحدنا: لا بد أصابه مرض مفاجئ، وقال آخر: بل تعلق بأذياله في اللحظة الأخيرة صديق لحوح، وقال ثالث: ما أكثر ما يصيب الناس من حركة المرور في هذه الأيام. وبدأ كل يقص ما حمله على ظنته. وفيما نحن كذلك دق الجرس ودخل حمزة فحيا وجلس مطرقا، وخلع طربوشه ووضعه إلى جانبه، ثم طلب فنجالا من القهوة، وسألنا عما كنا نتحدث فيه. فلما ذكرنا له ما كان من مخاوفنا بسبب تأخيره، بدت على وجهه أمارات تردد حاول بعدها أن يعدل بالحديث إلى غير هذا الموضوع. لكن أحدنا ألح به يسأله عن علة تأخره. ورأينا نحن على قسمات حمزة ما دلنا على أن في الأمر سرا لا يأبى هو أن يبوح به، ولنا في الاستماع إليه لذة أي لذة. فشاركنا صاحبنا في إلحاحه، وبدرت من أحدنا هذه الكلمة: لعل شيئا يتصل بزهيرة كان سبب تأخرك. فاندفع حمزة قائلا: نعم. نعم بسبب زهيرة تأخرت، لقد قضيت عندها هذا النهار منذ صباحه، ولقد رأيتها اليوم غيرها في سابق أيامها. لقد كانت دائما ساكنة سكون أبي الهول برغم ما تعرف من تناول الناس حديثها، بل لقد كانت تبتسم إشفاقا على هؤلاء الذين يتهمونها بأخس التهم، ازدراء إياهم وعبثا بحمقهم وجهلهم الحياة وإسراعهم إلى القضاء في أدق شئونها، شئون العواطف. أما اليوم فكانت ساكنة سكون أبي الهول، كانت ساكنة سكون القبر. فلما اطمأن مقامي عندها وبدأت أبادلها الحديث، قالت إنها فكرت طويلا فيما يقول الناس عنها، وخشيت أن يعلق بذهني منه شيء أقسو به في الحكم عليها، وأنها تريد لذلك أن تقص علي قصتها. وفي قصصها قضيت الوقت كله، وما أدري أكانت قصتها اعترافا أو وصية أم دفاعا، لكنها ختمت قصتها بقولها: أما تراني وقد قصصت عليك حديثي، كفارة الحب.
ثم إنها اعتذرت قائلة إنها تشعر بصداع، وطلبت إلى خادمتها أن تجيئها بكوب ماء صبت فيه مسحوقا أبيض من ورقة أخرجتها من حقيبتها، ثم أشارت إلي أنها بحاجة إلى الاستراحة، فاستأذنتها وجئت إلى مودعكم. ولئن كنتم قد لاحظتم علي شيئا من اضطراب النفس، فهو من أثر هذه القصة التي روت والتي جعلتني أشعر حقا بأنها كفارة لذنوب لا تقع عليها أثقل تبعاتها.
قال أحدنا: هات الوصية.
وقال الآخر: هات الدفاع.
وقال ثالث في صوت محزون: ارو ياصاح حديث كفارة الحب.
Halaman tidak diketahui
اعتدل حمزة في مقعده وإن بقي ملقيا بنظره إلى الأرض في إطراقة المهموم، وأمسك جبينه بيده كأنما يحاول أن يستحضر الألفاظ التي سمعها، ثم قال: أخشى أن تخونني الذاكرة، فأقع فيما يقع فيه غيري من الناس من سوء تصوير العواطف وما تجري به الأقدار في شأنها، فأسيء إلى زهيرة حين أريد أن أقف من الأمر عند رواية حديثها. على أني سأحاول جهدي رجاء أن لا أضيع شيئا من ألفاظها حين جلست في مقعدها الطويل جلسة المطمئن، وقالت في سكينة الحازم الذي اعتزم أمره: تذكر يا صاح زواجي بعد وفاة أمي ونوالي إجازاتي المدرسية. كنت قد بلغت الثالثة والعشرين، وقد رفضت أكثر من خاطب وأمللت بهذا الرفض المتكرر أبي. ثم انقضى عام بتمامه وما يذكرني خاطب حتى خيل لأبي أنني قد قضيت بزائف كبريائي على حظي، وأنني سأبقى من بعد عانسا ما حييت، وكم دفع عمتي لتحدثني في هذا الأمر ولترد إلى رأسي عقلي كما كانت تقول. وبلغ من إلحاحها إجابة لأمره أنني شعرت بنفسي عالة في البيت وعبئا على كواهل أبي، وفكرت أن أشتغل بالتعليم وأمتهن أي عمل يريح أهلي مني، وأفضيت إلى عمتي بذات نفسي. ولا تسل عن الثورة التي ثارها أبي وعن اتهامه إياي بالعقوق وبمخالفة إرادته وهو لا يريد إلا الخير. وهل خير عنده لامرأة في غير الزواج وتدبير مملكة المنزل وإنجاب البنين وتربيتهم ليكونوا لنا في الحياة عونا وبعد الحياة ذكرا وللعالم عمرانا؟! أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم فلم يكن عنده إلا ضلالا عن طريق الطبيعة والحق وثورة على أمر الله وما خلقنا له. وانقضت الأيام وعدلت عما كنت فكرت فيه وهدأت ثورة أبي ونالني من عطفه ما لم يحرمني منه قط. ثم جاء يخطبني ذلك الذي أصبحت من بعد له زوجا، وأبلغتني عمتي النبأ مصحوبا برغبة أبي في أن يتم الزواج. ماذا عساي أصنع؟ أأرفض فأثير ثائرة جديدة وأصبح البنت العاقة الثائرة على أمر الله الضالة عن طريق الطبيعة والحق؟ أأقبل وأنا أعرف أن هذا الرجل قليل البضاعة من العلم وإن يكن ذا سعة من المال، وأعرف أنه يكبرني بعشرين سنة، وهو إلى ذلك ليس بالجميل ولا هو ذا وفرة من الذكاء أو خفة الروح؟ ورأت عمتي ترددي، فامتعضت ونبهتني إلى ما في ذلك من إغضاب أبي الذي يريد لي الخير والذي يعرف من شئون الحياة في رأيها ما لا أعرف. ونادى أبي أخته باسمها بصوت ممتلئ قوة وعزيمة، ففت ذلك في قواي وأضعف ترددي ولم أجد ما أقول لعمتي إلا أنني أسلمت الأمر إليهم والتبعة في سعادتي وشقائي من بعد عليهم. وقبلتني عمتي فرحة متهللة وخرجت تهرول ملبية النداء. أما أنا فانهملت من عيني دمعة يأس واستسلام وتوجهت بقلبي لله أشكو إليه غدر القدر.
وزففت إلى زوجي فلم يك إلا أيام حتى رأيته يبدي لي من صنوف المودة ويغدق علي من نفيس الحلي والثياب ما جعلني كلما أقبل علي أبي أقبل يده قبلة شكر وأعترف بسابغ جميله. ومضت الأشهر وبدأت الحلي والثياب تكثر، وبدأت أمل هذا النوع من مظاهر الحب وأطمع من زوجي في شيء آخر. أطمع منه في جمال نفسه يغمرني فيزيد في حياتي، وأطمع منه في أن يبادلني النظرة للوجود وما فيه من حسن واتساق فني، وأطمع منه فيه هو لا في هداياه ولا في ماله. أطمع فيه جديدا كل يوم، مختلفا كل يوم جماله عن اليوم الذي قبله، مبدعا في وجوده ووجودي ما يزيد الحياة أمامنا فسحة وانبساطا ورقة وجمالا. ولم أقف بمطمعي هذا عند الرجاء، بل حاولت أن أبعث إلى نفسه من وجودي ومن حياتي ومن قلبي ومن عاطفتي ومن هواي ومن عقلي، ما يحركه إلى ما أحب. وكأنما شعر المسكين بما تصبو إليه نفسي، فحاول ولكن هيهات. فما كنا نكاد نبدأ تبادل عاطفة حتى ينقلب في لحظة حيوانا، فإذا أجبته إلى حيوانيته رأيته بعدها هامدا باردا منطفئ النظرة لا تلمع عيناه بمعنى ولا يحس لي وجودا. وما كنا نكاد نتبادل حديثا غير حديث مزارعه وأمواله حتى يتثاءب ويعجز عن كتم ملاله. وإذا رآني يوما أعجب بجمال فني: في صورة أتأمل، أو في كتاب أقرؤه، أو في منظر الطبيعة يوحي إلي بجمال الحياة الدائم الجدة؛ وقف مبهوتا، وشعرت أنا به بعيدا وكأن بيني وبينه عوالم وعوالم. فإذا تعلق الأمر بشخصه أو بأمواله أو بشيء يهواه، لمعت حدقتاه، وتحركت في نفسه أثرة قوية لا تعرف حدودا.
بدأ الضجر من أنانيته وضعة نفسه يدس إلى نفسي سمومه. ولست أدري ما كان يصل بي الضجر إليه لولا ما شعرت به من تحرك الأمومة في أحشائي. هنالك ذكرت قول أبي عن واجب المرأة وتناسيت ما كنت أطمع فيه من زوجي، وتناسيت زوجي هو الآخر.
وانصرفت إلى أحلامي بهذه الأمومة التي كنت أزداد بها كل يوم شعورا، وأزداد بسببها نسيانا لما عداها. وأنجبت حساما وجعلت كل همي إلى العناية به. واغتبط زوجي بولده وجعل يغدق عليه بمثل ما كان يغدق علي، فتبتهج نفسي لهذه الملابس الطفلة ولهذه الألاعيب يعبث حسام بها ويحبها حبي أنا إياه. وبدأ الولد يخطو ويتكلم، وبدأت أرجو أن يناله أبوه بالعطف الأبوي الصادق، وأن يفيض عليه من ذلك الحب نورا يشب الولد في أرجاء ضيائه سعيدا بالحياة محبا إياها حبا ذكيا قوي الإدراك سريعه؛ ليكون لي من بعد الرجل الذي أرجو. لكن خيبة رجائي فيما طمعت فيه لنفسي لم تكن دون خيبة هذا الرجاء فيما طمعت فيه لطفلي. لقد كان أبوه يحبه حبا شديدا، لكنه كان حبا حيوانيا؛ هو حب الفطرة التي تدفع الدجاجة لتحنو على فراخها وتدافع عنهم. وكان حبا أنانيا لا شيء من الذكاء فيه. كان يحبه كما يحب عزبته وحصانه وأتومبيله. وليت أنانيته في حب ولده أو فيما يبدي من ميل إليه كانت أنانية مستنيرة تعرف كيف توحي إلى ما تعتقد أنه في ملكها بشيء من معنى الحياة الإنسانية يسمو به إلى ذوق جمال الحياة وإلى السمو في إدراكها، بل كانت على العكس من ذلك أنانية ضيقة الأفق كأنانية الطفل وكأنانية الدجاجة فيها كثير من الحماقة عند الغضب والسخط ومن العطف عند الرضى والانبساط.
دفعت أحوال زوجي هذه إلى نفسي شيئا من الثورة، لكني ألفيته يهز أكتافه لثورتي يحاول تهدئتها بمثل ما يحاول تهدئة طفله إذا صاح: بثوب لي، أو لعبة لطفلي، أو نزهة خلوية يخرج وإيانا إليها علها تهدئ أعصابي على حد تعبيره. والأيام والشهور تمضي ولا أجد وسلية أتغلب بها على طبع زوجي. هنالك بدأت ثورتي تسكن بالرغم مني، ورأيتني أميل إلى ناحية من الأنانية أنا الأخرى، هي ناحية التسلي عن هذه الثورة بما حولي مما أطلق الناس عليه أنه أسباب الرياضة والمتاع. فأكثرت من غشيان دور السينما والمسارح، واستكثرت من الصديقات أبادلهن الزيارات، ونزلت بآمالي ومثلي العليا إلى مستوى البيئة القاهرية، وصدفت عما كنت أصبو إليه من جمال في الحياة لا وجود له فيما حولي، ورضيت كذلك بالحاضر دون أن يغير ذلك من نظرتي إلى زوجي ومن شعوري بأن كل واحد منا بعيد عن صاحبه كل البعد وإن تسايرنا لنقطع طريق الحياة جنبا إلى جنب. وما جوار الأجسام إذا تباعدت الأرواح ولم تهتز القلوب بنبأة من تعاطف أو تفاهم.
في ذلك الحين سكن في أحد المنازل المجاورة لنا قاض كان بالأرياف، ونقل منها إلى القاهرة. ولم يمض على مجاورته إيانا زمن طويل حتى ربط التعارف بينه وبين زوجي، وحتى دعاه زوجي لتناول القهوة عندنا. وأتيح لي غير مرة أن أستمع إلى حديثه وأن أراه ، يا له من حديث كانت تفيض نبراته بالحرارة وكانت تموج عباراته بصور الحياة. كان يقص على زوجي كثيرا مما وقف عليه في مختلف بلاد الريف، فكان يفيض عطفا على أهله وتغنيا بجماله وإشفاقا على بؤس بنيه وأملا في أن ترتفع بهم الأقدار إلى حظ من الإدراك لما حولهم من حسن نادر ومن بهاء وروعة. كنت أسائل نفسي: لم لا يشتغل صاحب هذا الصوت الساحر والبيان العذب بالمحاماة؟ ولم لا يكون خطيبا ولم لا يقول الشعر؟ وتكررت زياراته وتوثقت الصداقة بينه وبين زوجي، فأذن لي بمقابلته: أية رجولة تفيض عنه؟! رجولة فيها طموح وفيها فيض دائم التجدد، رجولة إنسانية مضيئة تدرك من أسرار الحياة ما لا يدركه إلا الإنسان المهذب، تدرك جمال الوجود وما فيه من فن تستخلصه الأجيال الإنسانية وتصوره فتزيد الحياة جمالا، بل تخلق الجمال فيها خلقا. وتحدث إلى زوجي عن الموسيقى، فإذا هو يفهم من دقائقها حظا غير قليل، وجاء معه ببعض كتب في الأدب اطلعت عليها فتحركت نفسي الأولى التي خبت وخمدت تحت سجف الأنانية الجامدة الباردة التي أعداني بها زوجي. هنالك تفتحت أمامي في الحياة فرجة من أمل: لو استطعت أن أصل بولدي ليكون على مثال هذا القاضي، لكانت لي به في الحياة سعادة تنقذني مما صبوت إليه من الإمعان في التسلي بأسباب الرياضة والمتاع التافهة السخيفة التي تحيط بنا في القاهرة وتردني إلى حسن المتاع بأسمى ما في الحياة من صور الحياة.
وأفضيت يوما بذات نفسي إلى زوجي، لعله يشاركني في رجائي ويعاونني على تحقيقه. لكنه لم يلبث أن سمع ما أقول حتى حملق بي وحتى امتقع لونه. ثم عدل عن الموضوع إلى حديث آخر انصرف بعد كلمات قليلة منه: ماذا؟ أي شيء دار بخاطره. ولم أحتج إلى كبير عناء لأفهم، ولم يكتم هو ما في نفسه طويلا، فقد رأيت زيارات جارنا بدأ يتباعد ما بينها، ورأيت زوجي يعمل على زيادة تباعدها بعدم ردها. وسألته يوما وقد انقضت على آخر هذه الزيارات أيام كثيرة أن يرد إلى القاضي كتابا كان قد تركه كي أقرأه، فلم يتمالك زوجي أن انفجر قائلا: وهل يعنيك كثيرا أن يصله هذا الكتاب سريعا؟ أم تريدين بذلك أن أرد له زياراته كي أفتح له بذلك باب زيارته إيانا؟
وصمت، وامتقع لوني حين لفظت شفتا زوجي هذه الكلمات بصوت متهدج. ولم تك إلا برهة حتى انصرف مخافة أن يفيض عنه ما هو شر منها. وخلوت إلى نفسي أفكر: أي وحي مضيء هبط على زوجي. نعم أنا أحب هذا الرجل، أحب جارنا القاضي؛ فهو قريب مني بمقدار بعد زوجي عني. ولكن أي شيء في هذا وأنا زوج وفية كما تريد الزوجية أن أكون؟ ماذا على زوجي إذا أحب قلبي رجلا غيره ما دام جسمي في ملكه وما دمت أسايره في الحياة جنبا إلى جنب، وإن تنافر قلبي وقلبه وبعد ما بين فؤادي وفؤاده؟ ماذا يغضبه أو يثير أنانيته لتعبث الغيرة به كل هذا العبث؟ نعم. أنا أحب هذا القاضي وكنت أتمنى أن أكون زوجا له، لا لهذا الرجل الأجنبي عني، وإن خلط عقد الزواج بين جسمه وجسمي، وإن كان بيننا هذا الولد الذي أحب من أعماق قلبي ويحبه هو من أعماق أنانيته.
وارتسمت صورة جارنا أمامي فثار جسمي كله. ومرت الأيام والبعد يزداد بيني وبين زوجي، وإن لم تتغير معاملتي إياه ولا معاملته إياي. وخرجت يوما لأشتري من أحد الحوانيت بعض حاجتي، فإذا جارنا هو الآخر بالحانوت يشتري بعض حاجته. وما وقعت عيني عليه حتى اهتز كل جسمي وخلتني سأقع من طولي، لكني تمالكت نفسي وأهديته التحية، فتقدم إلي ومد يده وسلم علي. ولما آن أن أخرج عرض علي عربته توصلني إلى حيث أشاء، فترددت برهة ثم رأيتني بالرغم مني أدعوه ليصحبني ... إلى أين! لا أدري. ولكن الأنانية التي أنماها زوجي عندي أرخت العنان لعاطفتي فجعلتها تغلب وفائي من غير أن يزعجني لذلك ألم أو يلذعني وخز الضمير. ومن يومئذ ترعرع بنعمة الحب الصادق وجودي، وتضاعف ضياء الحياة أمام نظري، وصرت أسلس قيادا لزوجي، وشعرت في نفسي بشيء من الإشفاق عليه لم أكن أشعر به من قبل.
ونقل جارنا بعد سنة من القاهرة، فأهداني قبيل سفره صورته. ورأى زوجي هذه الصورة يوما فكاد يثور ثائره لولا ما ظهر على وجهي من غضب مفترس أرانيه مستعدة أن أنشب أظفاري فيه إذا هو حاول أن يمزقها أو يعبث بها أي عبث. وأقسمت لأضعها في إطار ولأجعلنها في غرفة خلوتي. هنالك بدا له أن يأخذني باللين لعلي أثوب إلى صوابي. وأدى به إلى ذلك أني كنت حينئذ في فترة حمل، فكنت مضطربة الأعصاب، وكان يخاف على الإجهاض إن هو أخذني بالعنف. ومن يومئذ طغت أنانيتي على رقته وعلى ملاطفته إياي وإن بقي جسمي في ملكه بمقدار ما بقي روحي جاهلا روحه.
Halaman tidak diketahui
وأنجبت ثلاثة أبناء غير ابني الأول، وانقضت سنون وكبر الأولاد وذهبوا إلى المدرسة، وعلاقتي بصاحبي القاضي لم تنقطع، وأنانيتي وأنانية زوجي متجاوران يتسايران في طريق الحياة. وفي هذه السنوات كانت أنانية زوجي تثور ما بين حين وحين: شكا أمري يوما إلى أبي، لكني كنت أخضع أنانيته دائما بما يعبد؛ بجسمي أسلس له قياده. أما أبي فلم أزد يوما حين جاء يعنفني على أن قلت له: رفضت الزواج غير مرة، ثم اخترت لي أنت على أنك أخبر مني بالحياة. وهذا الاختيار قد زج بي فيما أنا فيه. فعليك حظ من التهمة غير قليل.
ولعنني أبي فلم أحفل بلعنته. لقد بلغت بي الأنانية حد التبجح، وقد انتهى زوجي المسكين بالإذعان لحكم القدر، وظل لرحمة الله مذعنا حتى اختاره الله إلى جواره، وكان يخيل إلي طوال هذه السنين أنه انتهى كذلك إلى السعادة بإذعانه. ولقد قمت من ناحيتي بالإذعان لكل ما يشبع شهوات حيوانيته، ولكن كشفت لي الأقدار بعد وفاته عن جانب من شعوره جعلني أذرف الدمع سخينا عليه، وإن استعصى علي أن أوفق بين هذا الجانب وما كان من حرصه على كل ما في نفسه من أنانية وضيعة مفترسة. فقد عثرت بين أوراقه على مذكرات قرأت في إحداها ما يأتي: ... اليوم قابلت صديقي ... بك ... ناظر المدرسة بمكتبه لأدفع مصاريف الأولاد، وقد أبدى لي إعجابه بنجابة أصغرهم، فترقرقت في عيني عبرة بالرغم مني لم أملك معها أن أقول: أنا واثق بأن أكبر الأولاد ابني، أما الآخرون فلست من بنوتهم لي على ثقة ... ورأيت في عين ... بك نظرة إنكار كأنما يقول: «وما يكرهك على أن تمسك عليك زوجك؟» وسارعت أنا فأجبت على نظرته بقولي: «ما كان تسريحي زوجي ليخفف من بلائي وشقوتي، ولكنه كان إعلان الفضيحة والعار لها ولأبنائها ولعائلتها. لذلك آثرت أن أشقى وحدي على أن أنشر حولي كل هذا الجو من الشقاوة، ثم لا أكون بذلك أقل تعسا ولا أقل شقاء.»
تركت هذه العبارة التي عثرت عليها في أوراق زوجي بعد وفاته أثرا بالغا جعلتني أذرف الدمع عليه سخينا. وجاء صاحبي القاضي في مأتمه يعزيني، فأطلعته عليها ثم قلت له: والآن وقد أصبحت حرة لك فما عساك فاعلا؟! فنظر إلي كأنما هو دهش من سؤالي، فقلت له: ألا نتزوج متى انقضت عدتي. إن ما بيننا من حب لم تعد عليه عادية السنين جدير بأن يتوج برابطة الزواج. وكم تمنينا لو كنا ارتبطنا بها قبل أن أتزوج.
واستمهلني ليفكر، فأثار ذلك دهشتي. لكني لم أر أن ألح وما يزال في الوقت متسع. ولم يدر قط بخاطري أنه منته إلى غير ما دعوته إليه. فما تبادلنا خلال هذه السنين من عواطف وما عرف من صدق وفائي له لا يجعله يختار علي أحدا. وما تغنى به طوال هذه السنين من الإعجاب بي بل من عبادتي، كفيل بأن يزيل من نفسه أي أثر للتردد، ولو كان الدافع للتردد رغبته إطلاقا عن الزواج. واقتنعت أنا بهذه الحجج، فخفف ذلك من الحزن الذي يدسه إلى نفوسنا موت يقع بأعيننا ولو نزل بشخص ضعيفة رابطته بنا. وإني يوما لأنظر لمستقبلي خيرا إذ دق التليفون وتحدث صاحبي إلي يدعوني لأوافيه إلى السكن الذي ألفنا كل سنوات حبنا، فأجبته على الفور: كيف تدعوني الآن إلى هناك ؟ ولم لا تحضر أنت إلى هنا؟ - خير أن نكون بمنجاة من الأعين. - ومم تخاف الآن وقد أصبحت مالك نفسي إلى أن أدخل في ملكك؟
لكنه ألح وبالغ في الإلحاح، فلم أر بدا من إجابته إلى ما طلب. وذهبت فألفيته قد نثر ما أحب من أطايب الزهر في كل أرجاء المكان وهيأه كعادته ليكون قدسا للحب. فلما جلست جاء إلي وجثا على قدمي وبدأ ينشر من شعر الحب ما كان يسكرني من قبل ساعة. لكني نظرت إليه في دهش وقلت له: أحسب هذا الدور قد انتهى وأحسبنا سنصبح زوجين نتبادل حبا من نوع آخر، ولعل سعد الطالع هو الذي هيأ لنا فرصة هذا التغيير ليكون حبنا دائما جديدا. - إن هيامي بهذا الحب في ذلك الوكر يجعلني لا أرضى به بديلا، فلنكن دائما كما كنا من قبل. - ولكن لنخدع من يا صديقي وقد مات زوجي؟ - تزوجي من شئت. لقد فكرت طويلا فآثرت أن أستمر في هذا الدور. - هذا الدور! ولم لا تتزوجني أنت؟ أفكنت هذه السنين كلها تلعب دورا، فأنت تخشى إذا تزوجتني أن يلعبه غيرك على حسابك؟
أطرق إلى الأرض إطراقة تبينت فيها هاتين الكلمتين الصغيرتين البشعتين: ولم لا؟! فصعد الدم إلى رأسي وكررت السؤال، فلم يزد على إطراقته. ثم شعرت كأنما حاول أن يمس قدمي أو يخلع حذائي، لا أدري. هنالك انتفضت واقفة وقلت له كرة أخرى: وهل يعجبك كثيرا أن تلعب دور الخائن لأصدقائه في أزواجهم؟!
ووقف هو بدوره وحاول أن يحملق في. كلا! ليس هذا قاضيا، بل ليس هذا رجلا، بل ليس هذا مخلوقا إنسانيا. هذا وغد دنيء أبى على امرأة شريفة أضلتها الأقدار فأحبته - حين لم تكن تستطيع أكثر من أن تحبه - أن تكون زوجه وأن تحمل اسمه. وهذا الفن الذي يعرف، وهذه الموسيقى التي لها يطرب، وهذه الثقافة التي بها يزدان، ليست إلا حبالات لغرض حيواني خسيس، وليست إلا قشورا تخفي أنانية «أحط صنفا» من أنانية زوجي الذي خدع.
أمام ثورتي الجامحة بدأ يتوسل إلي لأجلس كيما نتفاهم، لكن قلبي كان قد تحطم من ساعة دخلت الوكر ورأيت إلام يريد أن يستدرجني، وتحطم أضعاف ذلك حين أعلن إلي في نذالة أنه لا يرضاني أنا التي استهنت بأقدس الواجبات، واستهنت بنظرات الناس وبأحاديثهم وبما كانت تسلقني ألسنتهم في سبيل حبي إياه حبا صادقا، أنا التي وهبته نفسي وذكائي وسعادتي وقلبي ووهبته حياتي لأني أحببته! وحدقت فيه فإذا بي أراه وكأنه مسخ خلقا آخر؛ مسخ قردا أو خنزيرا أو ما دون ذلك من أخس الحيوانات وأدناها. وحاول غير مرة أن يتكلم، لكنني في كل مرة كنت أهجم عليه بالأوصاف التي كنت أراها مرتسمة على وجهه، فينكص على عقبيه متراجعا هزيما ... وأخيرا انتهز فترة كنت لا أتمالك فيها أن أتحدث لشدة انفعالي وقال: ألا ينهض لي عذرا أن لا أقدم على التزوج من أم ذات أربعة أبناء؟!
وا ولداه! يا للوغد! أم ذات أربعة أبناء! لم أتمالك نفسي لدى سماع هاته الكلمة، وصحت به في صوت ارتعد له: وأنت الذي تقولها؟! ألا تعرف أن لك أكثر من ابن؟ ألم تقرأ تلك الكلمة التي تركها البائس المسكين زوجي؟ أقسم لو أنك تراميت على أقدامي اليوم لأكون لك زوجا، لرفستك كما أرفس أخس الحيوانات. وكيف أرضى أن تكون مثالا لأبنائي ينسجون نسجك فيكونون مثلك غدرا وخيانة ونذالة؟!
أجهدتني هذه الثورة فشعرت برأسي يدور، وخشيت أن يصيبني الإغماء. ومخلوق هذه نفسه قدير في أثناء إغمائي أن يرتكب أخس الجرائم؛ لذلك تمالكت نفسي وارتميت إلى مقعد وأشرت إليه بيدي قائلة: ابتعد عني ودعني وحدي، أنا بحاجة إلى لحظة سكون لا سبيل إليها وأنت أمامي، انصرف فما لي بك حاجة ... قلت هذه الكلمات في لهجة أمر وحزم لم يستطع معها دون أن يخرج وأن يتركني وإن بقي في غرفة قريبة. وقمت مجهودة حتى بلغت الباب فأوثقت رتاجه، ثم عدت إلى مقعدي، وما كدت أجلس حتى رأيتني انهملت دموعي وانخرطت في بكاء خشيت أن يسمع النذل نشيجي به فيتشفى. وانقضت برهة أعادت إلي شيئا من هدوئي، فأجلت بصري في جوانب الغرفة حولي، لقد كان كل شيء في هذه الغرف يحدثني حديث الحب وأقدس صوره في آخر مرة احتوتني، فما لها الساعة وكل شيء فيها بغيض كريه يحدثني عن جرائم وجرائم توالت سنين طويلة وأنا بها مغتبطة، وعلى النهل من وردها الأثيم حريصة، وأية جرائم؟! أحط الجرائم وأدناها؟ إهدار طهارة العفة على مذبح الشهوة البهيمية الدنيئة، وخيانة قدس الزوجية في أحضان دنسة قذرة. أينا أكبر جريمة؟ هذا الرجل الذي طردت من حضرتي، أم أنا؟ هذا الوغد الذي لا أراني الآن دونه سفالة وحطة. ألا إن لهذا الرجل عذره أن لا يتزوجني، وكيف يفعل وقد امتهن كلانا ...! حرمة الزواج، وامتهنها لا في زلة لحظة، ولكن في جرائم سنين. كلا ... ليس هو أكبر مني جرما ولا أكثر مني انحطاطا.
Halaman tidak diketahui
كم أقمت كذلك؟! خمس دقائق! عشر! ساعة كاملة! لا أدري، ثم قمت فتقدمت إلى الباب ففتحته معتزمة أن أنحدر مسرعة إلى الخارج ... لكني وجدته أمامي كأنه ينتظرني، فلما رآني حدق بوجهي وقال: أتبكين؟!
فأشرت إليه بيدي وقلت: وداعا. ثم تركته ونزلت فناديت عربة حملتني إلى بيتي.
دخلت إلى البيت والشمس موشكة أن تنحدر إلى مغيبها، فإذا أبنائي يلقونني وما يزال في نفس أكبرهم من الحزن لفقد أبيه ما أذهب عنه شيئا من مرح الطفولة المتقدمة إلى الصبا. ونظرت إليهم جميعا فازددت هما على همي. أيهم ابن لمن يعرف الناس أنه أبوه؟ وأيهم ابن الجريمة التي اشتركت مع ذلك الوغد في ارتكابها؟ عرتني هزة تناولت كل جسمي من مفرقي إلى أخمصي، وأحسست كأن الحمى تلبسني، فجلست على مقعد وأخبرتهم أني متعبة وأني لذلك غير قادرة على تناول طعام العشاء معهم. وذهبت ما تكاد تحملني رجلاي من فرط الإعياء إلى غرفة زينتي، ألقيت بها ملابسي. والحمى في أثناء ذلك تزداد وأشعر بدوار يكاد يغمى علي معه. وجاءت الخادم تعاونني على خلع ملابسي وتسألني ما بي؟ وماذا كان بي. حمى دوار، اضطراب في الأعصاب؟ ربما كان بي هذا كله. وبينما ألبس قميص نومي ارتميت على صدر الخادم مغشيا علي، ولم أفق حتى كنت ممدة في سريري.
تذكر يا صاح ذلك المرض الذي أصابني وألزمني الفراش أسابيع عدة، والذي كنت ترعاني في أثنائه بزيارتك وجميل عطفك، هو هذا الذي أعقب ما رويت لك، وقضيت الأيام الطوال ما يكاد يعرف النوم إلى جفني سبيلا؛ لأنني كنت كلما أغمضت عيني ارتسمت أمام بصيرتي أشباح مزعجة لجرائم مروعة تقع كلها بين جدران ذلك الوكر الذي قضيت فيه لبانات حبي سنوات متعاقبة، والذي أصبح من بعد مقابلة الوغد الأخيرة فيه مملوءا أفاعي وعقارب تنفث سموما قاتلة. لقد كانت هذه الأفاعي والعقارب تنفث سمومها منذ اليوم الأول الذي عرفت فيه هذا الوكر، لكني كنت في ضلال العماية فلم أرها، بل حسبتها بدائع فن منثورة في المكان، وحسبت فحيحها أناشيد الحب ونجوى الغرام. ويدخل الحين بعد الحين أحد أبنائي يرمقني في عيونه البريئة الطاهرة بعين العطف، فتغمد نظرته في صدري خنجرا ... إذ تجعلني أسأل نفسي: أي الرجلين أبوه؟ وتجعل الطعنة أشد وقعا إذا رأيته ثمرة غرام غير مشروع. كانت هذه الآلام النفسية أشد قسوة من كل آلام المرض، وكنت أحسبها تنتهي بمعاونة المرض على البلوغ بي إلى خاتمة ما كان أشهاها إلى نفسي: إلى الموت. لكنني أحسست بنفسي أتماثل إلى الشفاء، فأيقنت أن الله يريد أن أذوق من عذاب الضمير ما أكفر به عن ثورتي عليه وخيانتي لأقدس الروابط. ابتهلت وأطلت الابتهال، دعوت الله أن يغفر لامرأة ضعيفة خاطئة كي تقوم على تربية أبنائها بكل ما وهبها الله القادر من ذكاء وحسن رعاية، لكن هؤلاء الأبناء أنفسهم كانوا بعض العذاب الذي أعد الله لي، فرجوت أن أنقطع إلى خلوة أديم فيها العبادة أكفر بها عن ذنبي، لكني سمعت من أعماق نفسي صوتا يناديني: إن ذنبك لا كفارة عنه إلى أن يفني الألم هذا الجسم الذي استعذب حلاوة القبلات الآثمة حين نسيت أنت أن لله عينا لا تنام. وفيما أنا في هذا العذاب أقاسي أهواله اتصل بي ما يقول الناس عني فابتسمت إشفاقا: أي شيء من كل ما يستطيعون أن يقولوا يوازي برهة مما أعاني؟! وأسأل نفسي: أيشعر الوغد بشيء مما أشعر به؟ أم هو فخور بما جنى مغتبط بأن يلبس وسامه ويجلس ليقضي بين الناس زاعما أنه يقيم العدل على الأرض وقد كان معي أفحش الظالمين؟ ولكني ما لي وشعوره، إنه رجل ... وأنانيته لا تعرف مثل عذابي لأنه لا يرى آثار جريمته تلاحقه أينما ذهب كما تلاحقني. ثم أنظر إليهم بعطف ومحبة وإعزاز، لا يرى هؤلاء الأبناء الذين لا يقول أحد إنهم أبناؤه، ولكن الناس جميعا يعرفون أنهم أبنائي.
وبرئت من سقمي وعادت إلي قوتي، فحاولت أن أشغل نفسي لعل ذلك يقوم حجابا بيني وبين هذا الماضي الذي يجثم على صدري. وبرغم محاولاتي لم أنجح ولم يسكت صوت ضميري، وكان ما أتظاهر به أمام الناس من سكينة أرد بها عني نظرات الشامتين أشد إلحاحا في تعذيبي من كل شماتة بي. وما أزال حتى اليوم أفكر، وما أزال أضرع إلى الله أن يخفف عني العذاب بعد أن قضيت الشهور تلو الشهور أكفر عن خطيئتي، ثم أراها بعد ذلك كله ماثلة أمامي في صورة هذه الأفاعي والعقارب التي تملأ الوكر وتنفث سمومها فيه وتملأ بفحيحها جوه.
سكتت زهيرة عن هذا الحديث برهة أمسكت على أثرها برأسها ثم قالت: أشعر بصداع. ودقت الجرس لخادمها وطلبت إليها كوب ماء.
فلما خرجت الخادم لتلبي طلبها نظرت إلي وقالت: ألا تراني وذلك شأني، كفارة الحب؟!
ووضعت في الماء المسحوق الأبيض الذي أخرجته من حقيبتها، ثم اعتذرت بحاجتها إلى الراحة، فاستأذنتها وجئت إليكم. وهأنذا الآن قد قصصت حديثها عليكم. •••
أصاح الأصدقاء لحديث زهيرة وكلهم آذان، فلما فرغ حمزة من قصصه جعلنا - وكلنا مأخوذ حزين - نتبادل العبارات في غدر القدر وضعف الإنسان وباطل كبريائه. وقضينا في ذلك وقتا غير قليل قص بعضنا في أثنائه قصصا، وتحدث البعض بأحاديث. وإنا لفي سمرنا إذ دق التليفون وسأل المتكلم فيه عن حمزة، وتناول حمزة السماعة وأجاب السائل ... ثم سمع له وأساريره تنقبض شيئا ووجهه يتجهم من الهم أضعاف ما رأينا عليه ساعة جاء إلينا. فلما أعاد السماعة إلى مكانها سألناه: ماذا؟ وأي أمر عساه؟ فترقرقت في عينه دمعة لم تبد ولم تنحدر، ثم أجاب: انتهى! ماتت كفارة الحب!
ووجم برهة سادنا جميعا في أثنائها صمت مجاملة، أو صمت وجل من الموت وذكره ... وعاد حمزة إلى ملك نفسه، ثم قال: مسكينة هي البائسة التي قضت نحبها بإرادتها كفارة لذنوب لم تكن عليها أثقل تبعتها. لقد كان هذا المسحوق الأبيض الذي وضعته في الماء سما. وهذه خادمتها تخبرني أنها لم تلبث طويلا بعد أن غادرتها لموعدكم هنا حتى بدأت تتلوى من فرط الألم وترفض مع ذلك استدعاء طبيب بدعوى أنه مغص سرعان ما يزول! ولما لم يبق لها باحتمال الألم طاقة نودي الطبيب من غير علمها، فلما بصرت به داخلا عليها يسألها عن حالها، قالت له في لهجة المنتصر: لا فائدة يا سيدي الطبيب، لم يبق بي إلى علاج من حاجة. إنني أرى الخاتمة تدنو، وإذا استغرق ما بقي علي أن أعاني من ألم سويعة أو بعضها حتى يتم السم الذي تناولت واجبه، فهجرة الناس جميعا هي الراحة الكبرى، وهي أكبر انتصار لي عليهم وعلى الحياة.
Halaman tidak diketahui
وأمسك حمزة طربوشة بيده وأردف: والآن أستاذنكم لأداء الواجبات الأخيرة لهذه الضحية التعسة. لقد انتصرت حقا على الناس وعلى الحياة، لكنها لم تنتصر على أبنائها.
وغادرنا منصرفا إلى واجبه المقدس ونحن نرمقه بعيون ذاهلة ملأها حديث زهيرة وما أعقبه من موتها هما وألما.
ميراث
كان مشرع ذلك العهد في مصر يجيز الوقف الأهلي، وكان فقهاؤه يقررون أن شرط الواقف كنص الشارع. فكان كثيرون يتخذون من نظام هذا الوقف وسيلة للتخلص من أحكام الميراث الثابتة في القرآن الكريم. يحرمون به ورثتهم من يريدون حرمانه، ويتخطون به أحكام الوصية؛ إذ كانت لا تجيزها لوارث إلا إذا أقرها سائر الورثة، ولا تجيز الوصية لغير وارث في أكثر من الثلث، لقوله عليه السلام: «الثلث، والثلث كثير؛ لأن تترك أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس.»
وشاعت في ذلك العهد عند ذوي اليسار، وعند المتوسطين كذلك، فكرة حرمان البنات من التركة، أو جعلهن تبعا لإخوتهن الذكور، ينلن منهم نفقة تكفيهن العيش المتواضع. ذلك أنهم كانوا يعتبرون أن البنات يخرجن من الأسرة يتزوجن، والملك ملك الأسرة، فلا يجوز أن يأخذ أزواج البنات. أما والشرع يجيز حرمان البنات بالوقف، فلا وزر عليهم في حرمانهن. وأزواجهن ملزمون شرعا بالإنفاق عليهن، فإن لم يتزوجن، فلهن على إخوتهن الذكور نفقة تكفل الكفاف!
وكان عاكف بك من المؤمنين بحرمان البنات إيمانا عميقا؛ لذلك رأى أن يقف أملاكه الواسعة على الذكور من ذريته. فلما كان في المحكمة الشرعية لتحرير وقفيته، مس قلبه شيء من الرحمة، فنص فيها على أن يكون للإناث من الذرية نفقة يدفعها لهن إخوتهن الذكور. ولم يرد بخاطره أن يورد نصا على ما يجري إذا كان الورثة كلهم إناثا، اقتناعا منه بأن ذلك لا يمكن أن يحدث في أسرته، أو نسيانا منه لهذا الاحتمال!
وتوراث ذريته هذا الوقف جيلا بعد جيل، ولم يحدث بالفعل أن خلا الورثة في الأجيال الأولى من واحد أو أكثر من الأولاد الذكور يعيش أخواته البنات في كنفهم، ويتمتعن برعايتهم وعطفهم. وتكاثرت فروع الأسرة على الأجيال، وحدث أن مات الذكور جميعا قبل الإناث في أحد فروعها، فاختصم الذكور - من فرع آخر - هاتيك الإناث، يطلبون الانفراد بريع الوقف كله، نزولا على شرط الواقف. وأقر القضاء وجهة نظر هؤلاء الذكور، ولم ينل الإناث الباقيات من الفرع الذي مات ذكوره كبير ضرر؛ فقد كن في عصمة رجال ذوي يسار، فلم يزعجهن هذا الحكم، وإن أزعج أزواجهن بعض الإزعاج. •••
وتعاقبت الأجيال كرة أخرى، ثم أخذت تنقرض شيئا فشيئا، حتى آل معظم الوقف إلى الشاب المهذب الرقيق «عبده عاكف». وكان طبيعيا أن يعيش هذا الشاب عن سعة، وألا يعني نفسه بأمر غده، وله من إيراد الوقف ما يغنيه عن عمل وكل عناء. وطمعت كثيرات من بنات طبقته في الزواج منه، ثم وقع اختياره على «هيفاء»، مما دل على حسن ذوقه وتقديره. فقد كانت هيفاء - إلى جمالها - تعدله في كرم النسب، وإن لم تكن تعدله في سعة الثراء. صحيح أنها ورثت عن أبيها ما يكفل لها عيشا كريما، لكن ما ورثت لم يكن يكفل أكثر من هذا العيش الكريم.
وقبل أن تدور السنة أنجب الزوجان طفلة بارعة الجمال، اغتبطا بها أشد الاغتباط. ولم يدر بخاطر أيهما ذكر لوقف عاكف بك وشروطه، فهما لا يزالان في إقبال الشباب: وهما يذكران ما يجري على ألسنة النساء: «خيركن من بشرت بأنثى.» لذلك خلعت الأم على طفلتها من ألوان العناية والرعاية ما زاد الأب تعلقا بها وحبا لأمها. وأخذت الصغيرة تنمو وتكبر، وتملأ البيت على أبويها بضحكاتها ولعبها وعبثها، فتزيدهما تعلقا بها، ورعاية لها.
وبعد سنتين وضعت الأم الشابة بنتا ثانية، فلم يغير ذلك من مرح الأسرة وغبطتها. فالشباب لا يسهل أن تشوب الهموم أجواءه. إن أمامه في الحياة أملا طويلا عريضا، فما يفوته اليوم يمكن تحصيله غدا. ولم تبلغ «هيفاء» بعد الثالثة والعشرين من عمرها، ليدور بخاطرها ما قد يخبئ الغد بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة من أيام زوجيتها السعيدة الهنيئة. أما أمها فلم تلبث حين رأت الوليدة الثانية، أن ذكرت وقف عاكف بك وشروطه، وهي تستعجل الغلام الذي تطمئن به إلى أن ابنتها وحفدتها، سيكونون في رخاء من العيش، يستمتعون من رغد الحياة بخير أنعمها. ولقد جاوزت هذه الجدة الشباب إلى الكهولة، فهي حريصة على أن تطمئن في حياتها على مستقبل هؤلاء الحفدة الأعزاء!
Halaman tidak diketahui
ولم تذكر لابنتها ما دار بخاطرها، لكن ما ارتسم على محياها ساعة تنفست هذه الطفلة الثانية ريح الوجود، لم يعبر عن شيء من الغبطة، وإن دفعها حنانها الطبيعي للعناية بالطفلة أشد العناية!
وبعد سنتين كذلك، أنجبت هيفاء طفلة ثالثة، روع مولدها قلب جدتها، حتى تمنت لو لم تولد. وبلغ روع الجدة حد الثورة حين أنجبت هيفاء بنتا رابعة بعد سنتين أخريين، فأنحت باللائمة على ابنتها، وألقت عليها وزر ما حدث، وكأن للأم الخيار في إنجاب البنت أو الولد.
وبكت هيفاء، ثم قالت تعاتب أمها: «هذه خيرة الله يا أماه، وأنا لم أبلغ بعد الثلاثين، ورحمة الله واسعة ...»
وحملت هيفاء للمرة الخامسة، وإنها لتعاني سقم الحمل؛ إذ مرض زوجها مرضا لم يمهله أياما حتى اختطفه الموت من بين أحضانها. وحزنت الشابة عليه أشد الحزن، وذكرت يتم بناتها، ونظرت إلى مستقبلها ومستقبلهن، بعين لا ترقأ لها دمعة. أما أمها فأفزعتها هذه الوفاة، لا حزنا على الزوج الذي مات، بل إشفاقا أن تلد ابنتها بنتا خامسة، فلا يكون لهاتيك الصغيرات من وقف عاكف بك نصيب، ولا يكاد ما ورثته أمهن عن أبيها يكفيهن عيش الكفاف.
وزاد في فزعها وانزعاجها ما ترامى إلى سمعها من أن سلائف ابنتها يبذلن النذور لأولياء الله الصالحين أن تلد هيفاء بنتا ليعود الوقف إلى أزواجهن، وليستمتعوا بإيراده الوفير!
ماذا عسى أن يكون مصير هيفاء وبناتها إذا استجاب الأولياء لنذور هؤلاء الأقارب؟ وهل تدع هذه الجدة الأمور للأقدار والرزاق هو الله؟ أم أن عليها لهيفاء وبناتها واجبا أن تنقذهن من مصير مظلم بأية وسيلة ممكنة؟!
والوسيلة لإنقاذهن أن تلد هيفاء ولدا يحفظ الوقف له ولها ولأخواته البنات. لا بد إذن من أن تلد هيفاء ولدا. والعلم لم يصل بعد إلى تعيين النسل، فالأمر لا يزال في يد القدر. أولا تستطيع هذه الجدة أن تكفل لابنتها ما لا يكفله العلم، فيكون مولودها ذكرا بأية حال؟ هنالك تنازعها عاملان: الوازع الديني، الذي يجعل معاندة القدر ذنبا يجزى مجترحه في الحياة الآخرة، وقد ينال عنه جزاء قاسيا في الدنيا. ووازع المحافظة على نعمة الحياة لهاتيك القوارير الناعمات، اللاتي لم يعرفن خشونة العيش قط. وانتهى هذا التنازع إلى غلبة الوازع الدنيوي، فلا بد أن تلد هيفاء ولدا ذكرا بأية حال! •••
وولدت هيفاء ولدا ذكرا، فتصايح أقارب زوجها بأن أمها دست في فراش الوضع غلاما، وذهب بعضهم إلى أن الأم الشابة لم تلد، بل لم تحمل، وأن هذا الطفل الغلام دسته أمها في فراشها للاستيلاء على الوقف وريعه!
ورفع هؤلاء الأقارب الأمر إلى القضاء ليحكم بأن الطفل ليس ابنا لعبده عاكف، فلا حق لبناته في وقف جدهن؛ إذ ليس لهن أخ يعصبهن ويعصمهن من فقر مدقع!
وسمع القضاء الدعوى، فلم يأذن بما طلبه أقارب الزوج المتوفى، من تحليل دم الغلام الطفل، وتحليل دم أخواته البنات، والمقارنة بين هذه التحاليل. وسبب رفضه هذا الطلب بأن تكوين الدم قد تتغير طبيعته على السنين بتغير أحوال الصحة والمرض، وبتقدم السن. وعلى ذلك قضى بأن الولد للفراش، وأن «عمر» - فكذلك سمت هيفاء ابنها - ابن شرعي لعبده عاكف!
Halaman tidak diketahui
وقال أقارب الزوج يومئذ: إن القضاة غلبهم برهم ورحمتهم بتلك الصغيرات المحتاجات إلى الأخ العاصب؛ ليظل إيراد الوقف لهن ولأمهن.
وكذلك ثبت للبنات حقهن في العيش الرخي الكريم.
واغتبطت هيفاء، واغتبطت أمها، لهذا الحكم، وصار «عمر» موضع إعزازهما الذي لا حد له، وموضع إشفاقهما كذلك أن يصيبه مكروه يضيع على البنات الأربع مورد رزقهن. لذلك كانتا تتناوبان العناية به والسهر عليه، ولا ترضيان أن تدعاه إلى مرضع أو مربية، خشية الأقارب الذين طمعوا في الوقف، وقاضوا الأم للاستيلاء عليه ... أن يعملوا على اختفاء الطفل، أو على موته!
وبالغت هيفاء في إعزاز عمر، مبالغة تجاوزت حتى جنون الأمومة، ودهش لهذه العناية من كانوا يقسمون إنه ليس ابنها، وإن أمها دسته في فراش وضعها، وكأنما نسوا أنه لم يكن ابن أحشائها حقا، فإنه الروح والحياة لهاتيك البنات الأربع، اللاتي يصبحن لولاه في حكم المعدومات، فيعشن عيشا خشنا، لم تألفه هيفاء حياتها، ولم يدر بخاطرها في يوم من الأيام أن يكون نصيب ذريتها!
وهل تراها، لولا الرجاء في رغد الحياة ونعمائها، كانت ترضى أن تتزوج عبده عاكف؟
صحيح أنها كانت تحبه، لأنه كان مهذبا ورقيقا، لكنها تحبه كذلك ليساره، فلا تخشى خشونة عيش لها ولا لذريتها في كنفه. •••
وبدأ الغلام يكبر بعين أمه، وأكبر همها أن تجعل منه، وهو الذي يشتبه بعضهم في نسبه، رجلا جديرا باسم زوجها وبها. بل لقد طمعت حين توسمت في عينيه بريق الذكاء، في أن تراه يوما عظيما يشار إليه بالبنان؛ لذلك لم تضن لحسن تربيته بشيء: كانت تلبسه منذ صباه الباكر أحسن ملبس، فلما آن له أن يذهب إلى المدرسة اختارت له أحسن مدرسة في العاصمة، واختارت له كذلك مربية تشرف على تعليمه وتنشئته، ثم إنها عودت أخواته البنات على أن ينظرن إليه نظرة إكرام وإعزاز، طامعة أن يزيد ذلك في نفسه محبتهن، وفي نفوسهن محبته، وأن تجعل منه ومنهن أكرم أسرة تعتز بها كهولتها، ويخلد بها اسم الرجل الذي أحبته، والذي غاله الموت وهو في عنفوانه!
وكان الغلام في بوادر نشأته رقيقا؛ لأنه كان الذكر الوحيد بين إناث ست: أخواته الأربع وأمه وجدته، لكنه ما لبث حين اختلط بالتلاميذ في المدرسة أن زايلته هذه النعومة، وأن حلت محلها خشونة لا تخلو من عنف. ولم تكن أمه عنيفة ولم يكن أبوه عنيفا، وبلغ من عنفه حين بدأ يحس بقوة عضلاته أن تبدلت معاملته لأخواته، وإن لم تتغير معاملتهن له، فكان يقسو بهن، وكان يرفع يده أحيانا عليهن، وكان يضطر الأم للتدخل أحيانا بينه وبينهن.
ولم تكن هيفاء تضيق بعنف عمر، أو تزيد في تدخلها بينه وبين أخواته، على مألوف ما تبذله الأم من نصح يشوبه العطف والحنان.
وكانت تلتمس له من العذر أن يتخطى الصبا إلى الشباب إيذانا بإقبال الرجولة، فكانت تنسب إلى طيش الشباب كل ما يقع منه، وكان لها عذرها عن هذا التسامح معه. فلو أنه لم يكن ابنها الذي أنجبته من لحمها ودمها فهو ابنها الذي ضمته إلى صدرها رضيعا، ثم أنشأته من يومئذ إنشاء ربط بينه وبينها بمثل رابطة البنوة والأمومة!
Halaman tidak diketahui
ونحن نحب كل ما نربيه من أعماق نفوسنا وحبات قلوبنا. وعمر - إلى ذلك - هو وارث عبده عاكف، وهو الذي عصمها وعصم بناتها الأربع من متربة ما كان أفظع شبحها يوم توفي زوجها، ويوم خيل إليها أن الغد يخبئ لها عيلة إن تحققت ناءت بها، وأفسدت عليها كل حياتها!
ولم يقف عنف عمر وطيش شبابه عند القسوة بأخواته، بل بدأ هذا الطيش يصرفه عن دراسته، فيؤدي ذلك إلى رسوبه في امتحاناته، ويضيع على هيفاء أملها في أن تراه رجلا عظيما. لكنها بقيت مع ذلك شديدة البر والعطف عليه، ترى فيه رب البيت، والوارث لاسم أبيه، ولوقف عاكف بك.
وأخذت نزوات عمر تزداد، وتدفعه إلى ألوان من الطيش، كانت هيفاء تحتملها في صبر وسكون، وتدعو الله أن يكفي ابنها شر أولاد الحرام من الجنسين. لكنها ضاقت ذرعا بهذا الطيش، حين علمت أن عمر يجتمع بطائفة من أقارب زوجها، ويلهو معهم. ولم يكن ضيقها بما ينفقه في هذه الاجتماعات، بل كانت تخشى أن يتخذ أقارب زوجها من اجتماعهم بعمر وسيلة لإفساده عليها وعلى بناتها.
وبناتها في سن الزواج، وهن في حاجة ليتزوجن إلى عطف أخيهن ورعايته وحسن سمعته!
وفكرت هيفاء في الأمر طويلا، كما فكرت في انصراف ابنها عن دراسته، فرأت أن تبعث به إلى أوروبا، ليتم الدراسة بعيدا عن أقارب زوجها، ولتزوج هي بناتها في أثناء غيابه، وتجهزهن الجهاز الواجب لمثيلاتهن!
واغتبط الفتى بهذا السفر، لا حرصا على النجاح في دراسته، بل لما تخيله في أوروبا من ألوان المتاع التي ترضي نزق شبابه، بعيدا عن رقابة أمه. وكان أكبر همه منذ استقر في أوروبا، بالمدينة التي قبلته مدرستها، أن يحصل من أمه على أكبر قسط من المال، يرضي نزوات طيشه. أما المدرسة فكانت عنده أمرا ثانويا، كل غايته منه أنه حجة لبقائه بعيدا عن كل رقابة.
وأرخى الفتى العنان لنزغ الشيطان، وجعل ينفق عن سعة في ألوان من اللهو الظاهر والخفي، ليبدو أمام زملائه وصديقاته في مظهر الغني المترف المطمئن إلى غده، المستغني عن كل عمل يحصل منه على رزقه!
وما حاجته أن يعني نفسه، للحصول على درجة علمية، وقد أنبأه أقارب أبيه بأن الوقف يكفل له عيش الترف الذي يطمع فيه. وأنه متى بلغ رشده أصبح المتصرف في هذا الوقف بما يهوى، يعطي أخواته البنات كفافهن، ويبعثر الذي يبقى بغير حسيب ولا رقيب!
ولم يبق بينه وبين سن الرشد غير سنة وبعض السنة، ثم يكون بعد ذلك السيد الذي لا يراقبه أحد، ولا يحاسبه أحد!
وإنه لسادر في ملاذه وأهوائه، إذ جاءته من مصر رسالة أزعجته عما هو فيه؛ فقد جاء فيها أن أمه تستدين على إيراد الوقف استدانة تكاد تستغرق هذا الإيراد لسنوات عدة مقبلة، وأن مستقبله يقتضيه أن يعود إلى مصر محافظة على ماله، فإن فعل وبدا له بعد ذلك أن يرجع إلى أوروبا، فالشأن شأنه. أما أن يغفل الأمر فسيجد نفسه عما قليل مستغرقا في الدين. وذكر صاحب الرسالة أنه على استعداد لمعاونته في إنقاذ الوقف جهد المستطاع!
Halaman tidak diketahui
وكان صاحب الرسالة أحد الأقارب الذين قاضوا هيفاء حين مولد عمر، منكرين نسبه لأمه، فلا حق له من ثم في الوقف. ولم يفطن عمر إلى ما لعل صاحب الرسالة يريده من انتقام من هيفاء؛ لأن جزع الفتى على ألا يجد المال الذي يرضي أهواء شبابه، أنساه التفكير في كل شيء، غير المال وما يتجه له من متاع!
وكتب إلى أمه يريد العودة إلى مصر، فلم تلبث حين تلقت خطابه أن بعثت إليه بنفقة العودة، مغتبطة بها، ظنا منها أن عمر سئم أوروبا لأنه لم ينجح في دارسته، واقتناعا منها بأنه متى عاد استطاعت توجيهه في الحياة، توجيها ينفعه وينفع الأسرة كلها! •••
لم يلبث عمر - حين بلغ القاهرة - أن ذكر لأمه أنه يريد أن يتولى إدارة الوقف بنفسه، وأن يعرف حساب الوقف وما له وما عليه. ودهشت الأم لما طلب، وخيل إليها أنها تستطيع برقتها وحنانها أن ترده إلى حمى البنوة المطواع. وأغدقت عليه من هذا الحنان وهذه الرقة ما يمتلئ به صدرها الذي لا ينضب معين عطفه. لكنه أصر على أنها إن لم تجبه إلى طلبه استعان عليها بأقارب أبيه، وذكرها بأنه قارب سن الرشد، وبأنه صاحب الوقف والمتصرف المطلق في إيراده، فإن لم تنزل على إرادته اليوم، فستنزل عليها بحكم القانون عما قليل، ويومئذ يفقد أخواته البنات عطفه عليهن بسببها، ويحاسبها الحساب العسير عن إدارة الوقف كل هذه السنين.
سمعت الأم المسكينة هذا الكلام فأفزعها، وعادت بذاكرتها إلى يوم زهوها بأنها أنجبت هذا الغلام، وكفلت بمولده مستقبل بناتها، ونشرت أمام بصيرتها ما احتملت عشرين عاما حسوما، منذ مولده إلى اليوم الذي وجه فيه هذا الإنذار! ذكرت مقاضاة أقارب أبيه إياها وهو ما يزال في قماطه، وما كانت نفسها تضطرب به إذ ذاك من مخاوف لم تكن خسارة الدعوى أيسرها. فلو أن القضاء لم يحكم ببنوة عمر لعبده عاكف، لتعرضت من قالة الناس لأضعاف ما تعرضت له، ولتعرضت أكثر من ذلك لبأس قانون العقوبات وصرامته. ثم ذكرت حدبها عليه، ورعايتها إياه طفلا، بأكثر مما ترعى أي أم ابنها؛ لأنها كانت ترعى فيه أخواته البنات كذلك. وذكرت ليالي سهرها إلى جانب سريره مريضا، وهي في حيرة وقلق تأخذ المخاوف بخناقها، إشفاقا عليه وعلى أخواته. وذكرت من دقائق ما احتملت في سبيل تربيته وتعليمه طوال هذه السنوات العشرين، ما أثار دهشتها!
كيف سولت له نفسه، بعد هذا كله أن يخاطبها باللهجة التي خاطبها بها؟ ولو أن وقف عاكف بك لم يضع في يده كل هذا السلطان، لرعى في حقها حرمة الأمومة، أو حرمة التربية على الأقل! •••
استدار العام وبلغ عمر رشده، فلم يبطئ أن رفع الدعوى على أمه يطلب تسلم الوقف، وتقديمها الحساب عن سني إدارتها. وتسلمت هيفاء إعلان الدعوى، فتولتها الحيرة أي موقف تقفه منها: أتستسلم وتسلم الوقف لابنها مقابل إقراره حسابها؟ ولكن هبه رفض بتأثير أقارب أبيه، وذكر في المحكمة ما عرضته عليه، أفلا يضعف ذلك مركزها أمام القضاء؟ وهبه قبل وتسلم الوقف، واستولى على إيراده، ثم لم يعطها ولم يعط أخواته ما يكفل لهن العيش الكريم، أفتقاضيه يومئذ؟
وأدت بها هذه الحيرة إلى ثورة نفسية، قالت على أثرها فيما بينها وبين نفسها: وما لي لا أقف منه اليوم ما وقفت من أقارب أبيه بالأمس ... فأناضل عن بناتي، وهن أشد اليوم حاجة إلى نضالي عنهن بالأمس، والقدر الذي أنصفني بالأمس سينصفني إلى شاء الله غدا ، وسينصرني على هذا العاق، الذي جحد كل حق للحنان، وللعطف وللتربية، وللأمومة؟
واستشارت محاميها، فأقرها على رأيها. فلما كان موعد نظر الدعوى، طلب إلى المحكمة أن تأمر بضم دعوى النسب التي رفعت على هيفاء، فأنكر بعضهم فيها نسب عمر إلى أبيه. وأجاب القضاء هذا الطلب، وقدمت هيفاء الحساب عما أنفقت على عمر وعلى أخواته طوال هذه السنين. ودهش القضاة حينما اطلعوا على ملف دعوى النسب، وتساءلوا فيما بينهم: أكان عمر يقف من هيفاء هذا الموقف لو أنه كان ابنها حقا؟ لكن القضاء حكم من قبل بثبوت نسبه لأبيه حكما لا سبيل إلى إعادة النظر فيه. وهيفاء قد بذلت من حنانها وروحها، لهذا الذي جحد فضلها، وكفر بنعمتها، ما يجعلها جديرة بكل عطف. لكن لعمر في الوقف حقا لا يستطيع أحد إنكاره، والقضاة يستطيعون اعتماد الحساب الذي قدمته أمه، فأما إن تسلم الوقف وأساء معاملة أخواته، فماذا يكون مآلهن؟
ازداد القضاة حيرة حين علموا أن عمر هجر بيت أمه، من يوم أن بلغ رشده، ووقف منها موقف خصومة عنيفة، أعانه عليها أقارب أبيه، الذين أنكروا من قبل بنوته.
فماذا يفعل هؤلاء القضاة ليكون حكمهم عدلا بين الجميع، محققا مصلحة الجميع؟
Halaman tidak diketahui
وتحدث الناس وقتئذ إلى أن المشرع يعتزم إلغاء الوقف الأهلي، ليمنع عبث العابثين بأحكام الشرع في الميراث والوصية. ورأى القضاة فيما سمعوا متنفسا لهم، فأجلوا دعوى عمر ثم أجلوها، حتى صدر قانون بإلغاء الوقف الأهلي. وعند ذلك أصدروا حكمهم، باعتبار ما آل من الوقوف إلى عبده عاكف تركة تقسم بين أولاده جميعا، وترثه فيها زوجته. أصدروا هذا الحكم وكانوا يودون لو استطاعوا حرمان هذا العاق أمه من كل التركة، لكن الحكم الأول بثبوت نسبه جعل ذلك مستحيلا.
واغتبطت هيفاء بهذا الحكم، واطمأنت به على مستقبل بناتها، لكنها بقيت حاقدة على هذا الابن، الذي نسي كل برها وحنانها، وحاول أن يستأثر دون أخواته بوقف حرم ما أحل الله، ونقض ما أثبت كتاب الله!
ولم تكن هيفاء تأبى حين يجري حديث حياتها مع عمر أن تقول: «إني أكرهه، ولكن العرق دساس!»
عرق من؟! وهل كرهت أم ابنها من أجل بناتها؟! أم «إن من ... وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.»
يد القدر
كانت هند في العشرين من سنها، حين زوجها أبوها من موظف صغير في الدرجة السابعة الكتابية، ولم تعرف هند زوجها عباس فضل، حتى اجتمعت معه تحت سقف واحد، ومع ذلك اغتبطت بهذا الزواج وفاضت بها المسرة؛ لأن الزواج في نظرها غاية كل فتاة، كما أن الموت غاية كل حي، ولأن أمها توفيت، قبل عدة سنوات، فتزوج أبوها وأنجب من زوجته الثانية بنين وبنات، اختصهم بكل عطفه ... ولم يأب على زوجته أن تتخذ هند معاونة لها في خدمة البيت، تطهو طعامه، وتتولى نظافته، وترعى أخواتها الأطفال، وتنفق ليلها ونهارها في تنفيذ أوامر زوج أبيها.
وكم تمنت اليوم الذي تهب فيه نفسها لخدمة بيتها هي، لا لخدمة زوج أبيها وعيالها؛ لذا رأت في زواجها منقذا لها من هذه الحياة الشاقة التي كانت تحياها، دون أن تجد من العطف والحنان، ما يعوضها عن قسوتها وشدتها.
وأعطت هند زوجها كل قلبها، منذ اليوم الأول، ولم يكن ذلك لأنه وقع من نفسها ساعة رأته فعشقته لأول نظرة، بل لأنها رأت فيه يد القدر، التي انتشلتها من بأسائها، وفتحت به أمامها باب الأمل فيما يسمونه السعادة.
ولم يزعجها أن كان عباس موظفا صغيرا، وأن مرتبه الضئيل كان لا يكاد يكفيها العيش الخشن؛ فالصغير يكبر، وضيق العيش طارئ يزول بالجد والاجتهاد. فإذا هي جعلت من نفسها ومن بيتها جنة نعيم لهذا الموظف الصغير، فسيمكنه هذا من الجد في عمله، ومن إرضاء رؤسائه، ومن الترقي درجة بعد درجة. ويومئذ ينفرج الضيق وتعيش في بيتها أكثر رخاء مما كانت في بيت أبيها، بل إن هذا الرخاء المادي، الذي تعتقده اليوم فلا تجده، لأيسر شأنا عندها من طمأنينتها في قلب زوجها.
وبادلها زوجها منذ اشتركا في الحياة، حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص، وكيف لا يفعل وقد أتاحت له بمرتبه الضئيل ألوانا من النعمة لم يكن يحلم بمثلها قبل زواجه، وجعلت من بيته سكنا هانئا، يغنيه بعد الفراغ من عمله عن كل ما سواه؟
Halaman tidak diketahui
ومكنه بطبيعة الحال من التوفر على عمله في وظيفته، بما أرضى رؤساءه، وجعله بعد عام، أو أقل من عام، يطمع في الترقية إلى الدرجة السادسة! •••
وتتابعت الشهور، وهند تزداد كل يوم متاعا بهذه الحياة الراضية المتواضعة، على أن سحابة من القلق بدأت تندس إلى نفسها حين قارب العام أن يستدير، ثم لم يتحقق رجاء أنوثتها! فقد كانت تتوقع أن يبشرها شهر من أشهر هذا العام بأمومة يطمئن لها زوجها، وتشعر معها بأن هذا البيت الصغير ستضيئه أنوار الطفولة البريئة، وتجعل منه مقر أسرة، وتسعد هي، ويسعد زوجها. فلما خذل تعاقب الشهور رجاءها، بدأ مرحها يخبو ضياؤه، وبدأ يرتسم على جبينها الجميل أثر القلق الذي ساورها.
ولاحظ زوجها همها وحدس سببه، فلما أفضى به إليها، انحدرت من عينها دمعة، تولاه الألم لمسيلها، فربت على كتفها بيد كلها الحنان والحب، وقال لها: فيم تستعجلين يا عزيزتي؟ إنك تعلمين أن مرتبي لا يكاد يكفينا لولا حسن تدبيرك وما تبذلين من جهد لتبعثي إلى حياتنا ما نشعر به من نعمة ورضا، ولعل رحمة الله بنا هي التي أرادت ما أثار قلقك، وإني لأطمع في ترقية قريبة، تعاوننا إذا رزقنا الله الخلف الذي ترتقبين، على العناية به وحسن تربيته، وأنت لا تزالين بعد في شبابك الباكر، فلا تجزعي واصبري، إن الله مع الصابرين.
وازداد عباس بعد هذا اليوم عطفا على زوجته، مما أنساها قلق أنوثتها. وجاءت الترقية التي كان يطمع فيها، وأتاحت للزوجين شيئا من سعة العيش، جعلت بيتهما الصغير أكثر ابتساما، وجعلت عباسا أكثر حرصا على أن يؤنس وحدة هند فيه، ودفعته إلى مزيد من العناية بعمله في ديوانه، مما ضاعف رضا رؤسائه عنه، وتقريبهم إياه، ومما زادهم ثقة به، وزاده ثقة بنفسه.
وكان عباس يشعر في أعماقه شعورا قويا، بأن هندا صاحبة الفضل في هذا، ومما طوع له تكريس كل وقته لعمله، وللبلوغ من إتقانه مبلغا غبطه عليه كل زملائه. •••
وانقضت على ترقية عباس سنوات أربع، يئست فيها هند من أن تحمل وتلد، فاكتفت بما بينها وبين زوجها من حب لم تكن الأيام تزيده إلا عمقا وإخلاصا، وفي ختام السنوات الأربع رقي عباس إلى الدرجة الخامسة، ونقل من الكادر الكتابي إلى الكادر الفني، وأصبح منظورا إليه نظرة تقدير خاص. فلما صدر قانون إنصاف الموظفين، وزيدت لهم علاوة غلاء المعيشة، قفز مرتبه قفزة واسعة، مكنته من الانتقال إلى بيت أحسن من البيت الذي تزوج فيه، ومكنت هندا من تأثيث البيت الجديد أثاثا زاد الزوجين طمأنينة إلى الحياة ومتاعا بها!
وخيل إلى هند، وقد أصبحت في هذا الحال، أن من حقها لنفسها، ومن حق زوجها عليها، أن تعود إلى التفكير في أمر عقمها؛ فقد عرفت من زميلاتها من بقيت مثلها سنوات عدة لم تحمل، ثم رزقها الله قرة عين بل قرة أعين، وفي مقدورها اليوم ما لم يكن في مقدورها بالأمس، في مقدورها أن تعرض نفسها على طبيب، وأن تنفق على العلاج، أفلا يجمل بها والحالة هذه أن تفاتح زوجها في الأمر، وهو لا ريب سيقرها، بل سيشجعها عليه!
وبعد تردد طال أمده، أفضت إلى عباس بخوالج نفسها، فكان جوابه: ربما كان العيب مني، ولست أريد أن أعرض نفسي على طبيب لمثل هذا الأمر المخجل، فلنترك أنفسنا لمشيئة الله، وهو - جلت قدرته - قد وسع علينا في الرزق من حيث لم نكن نحتسب، وقد يكون في علمه أن يرزقنا من بعد ذلك البنين، فإن يكن ذلك فالشكر له والثناء عليه، وإلا يكن فالشكر له مرة أخرى، أن رفعني في أعين الناس إلى ما وصلت إليه، وأن جعلك بين النساء محمودة على ما أنت فيه من رخاء ونعمته!
أمسكت هند بعد هذا الجواب عن مفاتحة زوجها في الموضوع كرة أخرى، لكن عبارته «أن أي عيب قد يكون من جانبه» جعلت تتردد في نفسها الحين بعد الحين، أولو كان هذا صحيحا، أفلا يجب عليه - لنفسه ولها - أن يعالج نفسه؟ أم تراه عالج نفسه في سر منها فلم ينجح معه علاج؟!
وهبه لم يكن قد عرض نفسه على طبيب، أو أنه عرض نفسه على طبيب فتبين أن العيب لم يكن من جانبه، أفلا ينبغي أن تفكر هي في أمرها؟!
Halaman tidak diketahui
لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئا في سر منه، فما لها لا تعيد الكرة عليه وقد تنتهي إلى إقناعه بما تريد؟
وأعادت الكرة، وألحت مستعطفة مستشفعة إياه بحبها وإخلاصها، إلى أن قال لها: «استئذني أباك، فإن أذن كنت عند ما تريدين!»
وذهبت هند إلى بيت أبيها تستأذنه، فألفت لدى بابه إخوتها الأطفال يمرحون، هنالك رفعت رأسها إلى السماء تشكو إليها قسوة القدر، فلما دخلت ورأتها زوجة أبيها، سألتها في دهشة عما جاء بها!
ثم نادت أطفالها وأدارت عليهم البخور من خوف حسدها! فلما رأت هند ما فعلت، ترددت دون المضي فيما جاءت فيه، وأرادت أن تعود أدراجها إلى منزلها، لكن أباها حضر قبل أن تنفذ عزمها، فذكرت له أن زوجها يريد أن يحدثه في شأن لم يفض به إليها، ورغبت إليه أن يحضر عندها غداة ذلك اليوم!
وخيل إلى زوج أبيها أن خلافا دب بين هند وعباس، فابتسمت عن رضا، ثم أومأت إلى زوجها قائلة: اذهب إليها لعل الله أن يهديهما وإلا فبيتك بيتها، ونحن جميعا في خدمتها! •••
وذهب الأب في الغداة إلى بيت ابنته، قبل حضور زوجها من عمله، فلما رأته أفضت إليه بما دار بينها وبين زوجها في شأن حملها، فأجابها في حزم: وما لي أنا وذاك؟ ذلك شأنكما، تصرفا فيه بما تشاءان.
وأدركت هند أنه لا يريد أن يصرح بالإذن لها، مخافة أن يطالبه زوجها بالاشتراك في نفقة علاجها، فأخذت تداوره، تريد أن تستدرجه إلى إذن صريح، وإنها لكذلك إذ أقبل زوجها، فبادره أبوها بعد التحية بقوله: ما حرصك على إذن مني في أمر هو من شأنكما وحدكما؟ قال عباس: «ذلك أنني اليوم راض بإرادة الله فينا، سواء كان العيب منها أو مني، وأخشى إن قرر الطب العيب مني أن تتنازعني نفسي إلى من يخلفني، برغم محبتي هندا أصدق الحب، ووفائي لها أصدق الوفاء، واعترافي الصريح بفضلها فيما بلغناه من رخاء ومكانة.»
وأسرعت هند حين سمعت هذا الكلام، فقالت: أشكر لك يا عزيزي رقة عواطفك، وأعدك صادقة أنه إن كان العيب منك فلن أتحول عن التفاني في محبتك، والعيش ما حييت سعيدة بعطفك وحمايتك، وإن كان العيب مني فأنت وما تشاء، ولا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد اسمك!
قال عباس: «أنت إذن وما تشائين، ولن أضن عليك في سبيل ما تريدين بما أطيق من نفقة!»
وانصرف الأب مطمئنا إلى أنه لن يحمل في هذا الأمر عبئا ما أحوج صغاره إليه!
Halaman tidak diketahui
وأثبت الطب أن عباسا لا عيب من جانبه، وأن هندا تحتاج إلى طويل الأمد. وأذعنت هند لهذا القضاء، وأخذت تتردد على الطبيب فإذا انقضى شهر بعد شهر ولم تحمل، تولاها الضيق، وكاد يتولاها اليأس، برغم ما كان عباس يبذله من لطف بها، وتهوين للأمر على نفسها!
وكان عباس من جانبه يرجو أن ينجح العلاج، وأن يرزقه الله من يرثه، بعد أن أثبت الطب أن لا عيب من جانبه. وانقضى عامان كان تعاقب شهورهما يزيد عباسا شعورا بعبء ما ينفق في هذا السبيل، فكانت نفسه تهفو إلى نهاية هذه النفقة نهاية سعيدة، بحمل يطمئنه ويطمئن هندا معه. فلما لم يحقق الطب رجاءه، بعد أن تولاه الحرص على عقب يخلفه، دعا إليه حماه وقال له وهند حاضرة: أنت تذكر يا عماه حديثنا منذ أكثر من عامين في أمر الخلف، وتذكر ما قلته وما قالته هند، ومن يومئذ نزلت على إرادتها، وبذلت كل ما وسعته طاقتي لتحقيق رجائها، لكن الطب عجز؛ لأن الله لم يشأ أن يكون لي عقب منها، ونحن الآن متزوجان من أكثر من عشر سنين، وأنا أحس - مع تقدم السن - بشدة الحاجة إلى من يعينني في شيخوختي، ومن يرثني يوم يختارني الله إليه ... وأنا ما أزال أحب هندا من أعماق نفسي، وقد صبرت هذه السنين الأخيرة ، وأنفقت ما أنفقت، طمعا في أن يكون لي منها غلام، تقر به عينها، وتقر به عيني، أما ولم يحقق الله رجائي، فقد رأيت أن تشير علي في هذا الأمر بحضرة هند!
ولم تنتظر هند جواب أبيها، بل قالت في صوت تخنقه عبرة تحاول المسكينة التغلب عليها: ألم أقل لك منذ سنتين إنه لا تثريب عليك إن هفت نفسك إلى من يخلد به اسمك؟ لقد كنت أطمع أن أكون أما لهذا الغلام، أما وقد أبت مشيئة الله علي هذه السعادة فأنت وما بدا لك! ولن أتحول من التفاني في محبتك، والعيش ما حييت في كنف عطفك وحمايتك، والآن أدعك مع أبي، والرأي ما تريان!
وانصرفت الشابة إلى مخدعها، كي تترك العنان لدموعها تخفف عنها هم يأسها، وأي يأس وأي حزن؟ فهذا زوجها يريد أن يتزوج فتكون لها ضرة مرجوة الخلف، إذ هي عاقر عقيم! هذا هو الستار الأسود الذي يحجب عن ناظرها، وعن أملها، كل رجاء في النعيم!
وماذا يريد عباس أن يقول لأبيها؟ أبلغ من أمره أنه يريد تطليقها؟! تلك إذن الطامة الكبرى، والنازلة القاضية على حياتها قضاء مبرما، أوليس معنى هذا أن تعود إلى بيت أبيها أمة رق لزوجته، تسومها الخسف، وتذيقها الهوان ألوانا؟
ذلك أمر لا شبهة عندها فيه، أما إن بقيت مع زوجها على ضرة فقد تكون ضرتها عاقرا مثلها، فيجمع الهم المشترك بينهما، وقد لا تستطيع - وإن ولدت - أن تكسب قلب عباس كما كسبته هي، فيظل لها من المكانة عنده ما يقيها السعير المحتوم في بيت أبيها.
ألم تدر زوجة أبيها البخور على رأس أبنائها لتفسد حسد هند إياهم؟! فإن يكن ذلك رأيها فيها، ولها زوج يحميها وبيت يقيها المذلة، أفتتحرج عن اتهامها بكل منقصة يوم لا يكون لها رجاء إلا في عطف أبيها، وقد أخذت هذه الزوج عليه مسالك قلبه وأمسكت بيدها خلجات فؤاده؟!
وإن ذلك كله ليدور بخاطرها، إذ ناداها أبوها وقال لها: لقد أقررت عباسا على أن يتزوج، وقد ترك لك الخيار، إن شئت بقيت على ذمته، أو شئت سرحك سراحا جميلا!
وقالت هند في غير تردد: الأمر في ذلك له، فإن سرحني بقيت على الوفاء له ما حييت، ولن أحب رجلا غيره، وإن أمسكني شكرت له نبيل عاطفته وسمو نفسه، فهو يعلم أن الذنب ليس ذنبي، وأن عواطفي معه من كل قلبي!
قال عباس: «وأنت يا هند على عيني ورأسي! وعصمتك من اليوم في يدك وليست في يدي ... ولن أنسى ما حييت أنك سبب هنائي ومفتاح فضل الله علي وعنايته بي!»
Halaman tidak diketahui
وانصرف الأب، وتزوج عباس زوجته الثانية بعد أيام، ولم تبطئ هذه الزوجة الجديدة أن حملت، وفي الأشهر من حملها، شاءت ثقة الرؤساء بعباس ندبه إلى بلد ناء ليعالج أمرا عجز غيره عن علاجه.
وخشيت الزوجة الجديدة على نفسها وعلى حملها أن تصحبه في سفره، فاصطحب هندا وقضيا في هذا الندب عدة أشهر. فلما عادا إلى منزلهما، كانت الزوجة الجديدة وشيكة الوضع، وكان أكبر ما يرجوه عباس أن تضع غلاما يعينه في شيخوخته ويرثه حين وفاته. فلما علمت هند أن ضرتها وضعت بنتا، رفعت كفيها إلى السماء، شكرا لله أن لم يبلغ خذلان القدر إياها مداه فيمتع عباسا من غيرها بما يحقق له أملا أبى القدر عليها هي أن تكون مصدره. •••
وبعد أشهر، حملت الزوجة الثانية مرة أخرى! ثم ذكرت لعباس أن البيت أصبح لا يتسع له ولها ولأبنائها ... ولهند معهم! فإما أن ينتقل بها، وإما أن ينتقل بهند، إلى بيت جديد. ولا يستطيع عباس أن يعتذر عن عدم إجابة طلبها بضيق ذات اليد، فهو اليوم في الدرجة الرابعة، وهو مرشح للدرجة الثالثة، وقد استطاع أن يشتري مما اقتصده بعض أفدنة زادت إيراده!
دعا إليه هندا، وأفضى إليها برغبة أم ولده، وقال لها: الرأي الآن لك، وأنت تقدرين أنني مطالب اليوم، وقد أصبحت أبا، بأن أقتصد احتياطا لمستقبل أولادي.
وبكت هند لما سمعت، ولم تحر جوابا، فاستطرد عباس يقول: أدعو أباك وأدع له الحكم بعد أن أشرح له موقفي، وسأنفذ حكمه على أية حال!
وجاء أبوها، وشرح له عباس ما تحتمه زوجه الجديدة، وأنه لا مفر من النزول على إرادتها، فنظر الرجل إلى ابنته مغضبا وقال لها: كيف ترضين هذا الحكم أيتها الحمقاء؟ إن بيت أبيك يسعك ويسع عشرات معك، وقد ترك عباس أمرك إليك، وهو لا يأبى أن يسرحك إن شئت، فما بقاؤك في بيت لم يبق لك مكان فيه؟!
وانخرطت الشابة في البكاء، وقالت وكأنها لا تعي ما تقول: كلا يا أبي، فنار عباس ولا جنة زوجتك!
واستشاط الأب غضبا حين سمع عبارتها، ورفع يده يريد أن يضربها، فحال عباس بينه وبينها، وخرج الأب الغاضب يلعن ابنته وقلة أدبها، وينسب ذلك إلى ما ورثته من أمها ويقسم إنه لن يرى من بعد وجهها!
وأشفق عباس على هذه المسكينة، التي ظلمها القدر، وظلمها أبوها، وأخذ يتلطف بها، ويطيب خاطرها، حتى هدأت ثائرتها. ثم قال لها: ماذا عليك أن تقيمي في بيت بعيد عن ضرتك وأن تنسي وجودها، إنني لن أنسى أنك كنت عتبة سعد لي، ولن أكون معك إلا على ما يرضيك.
وانتقلت هند إلى بيت آخر متواضع، وكان زوجها يمر بها بين الحين والحين، وكان انتظارها إياه يطول أحيانا، فتأخذ بخناقها الوساوس، وكان أشد ما يفزعها إشفاقها من أن تضع ضرتها ولدا يحقق رجاء أبيه، فلا يبقى لها مكان من نفسه، ولا مكان من بيته، فينتهي إلى تطليقها، وتضطر إلى الرجوع إلى بيت أبيها، والخضوع لتحكم زوجته فيها، وذلك عندها هو الجحيم والعذاب المقيم!
Halaman tidak diketahui
كانت هذه الفكرة تتحكم في أعصابها أحيانا، فتذرف الدمع سخينا، وترفع عينيها النجلاوين إلى السماء تناجيها: أي ذنب جنت ليكون ذلك جزاءها؟ وتذكر وهي في همها وجزعها قريبات وزميلات لسن أجمل منها ... بسم لهن الحظ بعد عبوس، ورضي عنهن القدر بعد قسوة!
تلك ابنة خالتها ... تزوجت من كهل يكبرها ثلاثين سنة، ومع ذلك أنجبت منه، وهي سعيدة كل السعادة! وتلك زميلتها في المدرسة، التي تزوجت كهلا هي الأخرى، وبقيت معه أكثر من عشر سنوات، توفي بعدها فورثته، وتزوجت شابا أنجبت منه البنات والبنين، فهي في رخاء وطمأنينة ورضا، وثالثة، ورابعة، وخامسة ... كلهن يعشن ناعمات راضيات، وليس فيهن من تفوقها جمالا وذكاء. أما كفاها موت أمها وهي لا تزال في نعومة صباها، وزواج أبيها للمرة الثانية، وقسوة زوجة أبيها بها؟! أما كان عدلا أن تجزى عن ذلك كله بشيء من السكينة إلى الحياة ... سكينة تعوضها عن أحزانها وآلامها، لكل هذا الذي أصابها؟! أم أن عدالة السماء لا تعبأ بمثيلاتها، وإن لم يجترحن ذنبا ولم تكن لهن في الحياة جريرة؟!
إنها اليوم بين نارين: نار ضرتها، ونار زوج أبيها، وزوجها وأبوها لا يستطيعان شيئا، وقد استبد حب الخلف بالأول، واستبدت كثرة الخلف بالثاني، وبذلك تمكنت ضرتها وزوج أبيها من الرجلين تتحكمان في تصرفاتهما بما تشاءان، ثم يحسب كل رجل منهما أنه صاحب اليد العليا والكلمة النافذة في بيته!
وألح هذا التفكير على هند، وجعل يساورها ليلها ونهارها، كلما أخذت الوحدة بخناقها، فأظلمت الدنيا في وجهها، وفيما كانت أشهر الحمل تتقدم بضرتها، كان هذا التفكير يحطم صحتها ويذبل نضرتها، فإذا تصورت أن ضرتها ولدت غلاما، ركبت القشعريرة كل جسدها واضطرب قلبها وحنانها، وبلغت من ذلك أن ركبتها حمى، حار الأطباء في تشخيصها، وحاروا لذلك في تصوير علاجها، وكانت هذه الحمى تزداد على الأيام شدة، حتى لقد خشي الطبيب المعالج على حياة هند، بعد كل الذي بذله من عناية فائقة بها! •••
وإنها لتعاني بأساء المرض وضراءه، إذ دخل عليها يوما متجهما والدمع يكاد يطفر من عينيه، وسألته عما به، فلما لم يجب قالت: لعل الله رزقك بنتا ثانية؟!
وتنهد عباس، وهز رأسه في حسرة ثم قال: «نعم!»
هنالك أشرقت أسارير هند، وإن لم تتفوه بكلمة، ومن يومئذ بدأ الطبيب يطمئن شيئا فشيئا إلى تقدمها نحو العافية!
وبرئت المسكينة، ثم تعافت واستردت كل صحتها!
وأعجب من مرضها، ومن إشرافها على الموت، ومن برئها ... أن هذا المرض كان علاجا لها فيما عجز الأطباء عن علاجه، فقبل أن تقضي ضرتها أسابيع نفاسها، كانت هند قد حملت، فلما اطمأنت إلى حملها، أشرق وجهها، وعادت إليها نضارتها، وفرح عباس من كل قلبه لحملها، وأخذ يعودها كل يوم يسأل عن صحتها، فلما تمت أشهرها وضعت غلاما، طار عباس فرحا به وفاضت المسرة بهند منذ وضعته وأنستها ابتسامته كل عتابها للقدر وكل شكواها إلى السماء!
وجلس عباس يوما إلى جانبها وهي جالسة ترضع طفلها، فنظرت إليه بعينين ملئتا حبا وقالت: ترى لو أنك لم تتزوج ضرتي، ولم يبلغ الحرص مني أن أوقفني على حافة الموت، أفكان الله يهب لي هذا الغلام الجميل؟
Halaman tidak diketahui
وابتسم عباس لهذه العبارة، ثم قال: إن لله في خلقه شئونا، وهو وحده الذي يعلم الغيب، وهو أعدل العادلين وأرحم الراحمين!
وبعد هنيهة، التقت شفاههما على يد الغلام البريء الطفل تقبلانه، وقد أضاء قلبيهما نور البشر والسعادة!
الحب أعمى
كان عارف مرحا بطبعه، لا تفارق الابتسامة ثغره، ولا تفوته فرصة مسرة إلا ألقى بنفسه بين أحضانها. كذلك عرفه أصحابه قبل زواجه، وكذلك عرفوه منذ تزوج. وكان جيرانه أكثر اغتباطا بمرحه؛ فقد كان إذا دخل عليهم بيتهم ملأه حبورا وبهجة، فكانوا يقضون الساعات معه يضحكون ملء أشداقهم، فإذا آن له أن يتركهم تعلقوا به يستبقونه، إبقاء على متاعهم بالمسرة التي يفيضها وجوده على كل من حوله!
وكثيرا ما كان يبقى في مجالسه هذه إلى منتصف الليل وما بعده، فإذا غادرها قام الحاضرون جميعا يودعونه إلى باب المنزل، ثم لا تغيب الابتسامة عن ثغورهم حتى يغيب هو عن أنظارهم!
لكنه انقلب منذ أسابيع شخصا غير الذي ألفوا، علته سحابة من الكآبة، فلم يعد ثغره يعرف الابتسام، ولم تعد ضحكته تجلجل في المجالس فتعدي سامعيها فلا يملك أحدهم أن يمسك نفسه فلا يضحك. وفي أثناء هذه الأسابيع انقطع عن زيارة جيرانه حتى حسبوه أول الأمر مريضا، فلما سألوا عنه وقيل لهم إن به هما يشجيه، أشفقوا لما أصابه، وتمنوا لو استطاعوا تسلية همه!
وفيما هم جلوس يوما، وعندهم صديقتهم «طيبة» إذ دخل عارف عليهم ساهما، تكاد الكآبة تقتله . فلما جلس إليهم سألوه عما به في رفق وتلطف. وكأنما كان الشاب يريد أن ينفض ما في نفسه، لعله يتخفف منه، فأخذ يقص عليهم قصته، وفيما هو يروي وقائع هذه القصة، كانت «طيبة» تلقي إليه بكل سمعها، بل بكل وجودها، وكان وجهها الباش تغادره بشاشته شيئا فشيئا. فلما أتم عارف قصته انفجرت باكية، وكأنما طعنها حديثه بخنجر في قلبها!
أشفق الحاضرون لبكائها، وأشفق عارف معهم، وأخذ يعتذر لطيبة أن أثارت قصته أساها إلى هذا الحد.
قالت طيبة: «لا تعجب يا سيدي، فقصتك قصتي، وما أشبه ما أصابك بما أصابني. وأنا لست مرحة بطبعي كما كنت أنت مرحا، لذلك أثارت قصتك شجوني، وجسمت أمامي فجيعتي، فلم أملك دموعي، فاعذرني يا سيدي، وليعذرني أصحابنا جميعا!»
والواقع أن قصة عارف كانت تثير العجب بقدر ما تثير الشجن. وروايته لها كانت أشد فعلا في نفوس سامعيها، وأعمق أثرا عندهم مما لو قصها إنسان سواه.
Halaman tidak diketahui
قال عارف: كان عمي يزوج ابنته، منذ سبعة عشر عاما، وقد أقام أهل العروس أكثر من شهر، يحيون لهذه المناسبة ليالي تفريح وأنس، لم تكن إحداها تفوتني، وكانت تشترك في إحياء هذه الليالي فتاة عرفها أصدقاؤنا من بعد بأنها زوجتي. وكانت هذه الفتاة بارعة الجمال، رشيقة القد، حلوة النظرات، تتقن الرقص كأحسن ما تتقنه راقصة صناع محترفة، وقد جذبتني نظراتها إليها، كما جذبني هذا الجسم اللدن، الذي يميس حين رقصها، في خفة حركة ودقة نظام، حتى يكاد يذهب باللب. وكنت إذ ذاك طالبا بالجامعة، وكان أهلي يعلقون على نجاحي وحصولي على درجاتها أعظم الأماني. وكنت أقدر هذا، وأطمع في إرضائهم، فكنت شديد الإكباب على دارستي، حريصا على اتصال نجاحي، فلما عرفت هذه الفتاة، وكانت تحضر مع أمها، بدأت أشعر بأن في الحياة شيئا غير الدراسة، وغير الجامعة، وغير الدرجات العلمية، شيئا يمس القلب، بل يعبث به. وشجعني ذلك على الاتصال بالفتاة، ثم على رفع الكلفة معها، كما شجعني عليه ما كان أهلي يذكرونه عن أصلها وأنها من منبت وضيع. لذلك كنت ألقاها كل مساء قبيل حضورها إلى حفلة عمي، ثم كنت أحرص على أن أصحبها وأمها إلى منزلهما المتواضع إذا انتهت الحفلة بعد منتصف الليل.
وكانت الفتاة تصب في قلبي من نظراتها، ومن ابتساماتها، ومن حديثها، ما يزيدني إعجابا بها، وبحركات جسمها حين ترقص، وبرشاقتها في مشيتها، حتى لقد كنت أتصور هذه الحركات وهذه المشية أنغاما كأنغام الموسيقى، أو أكثر حلاوة وحياة من أنغام الموسيقى، لذلك وقع حبها في قلبي، فأنستني كل ما سواها، وخيل إلي من نظراتها ومن حديثها يومئذ، أن لي مكانا في قلبها كالمكان الذي لها في قلبي.
وكيف أشك في ذلك، وهي تبدي لي من صادق الحب ما أشعر به في أعماق وجودي، وما يهتز له كل عصب من أعصاب فؤادي؟!
ولم يزعزع هذا الإيمان بحبها في نفسي ما كنت ألاحظه عليها أحيانا من التلطف مع قريب لي، كان حريصا على حضور هذه الليالي في بيت عمي، مثل حرصي على حضورها، بل لم أصدق ما روته لي أختي من أنها سمعتها تقول لقريبي هذا: لو كان عندك من المال ما عنده لأصفيتك ودي دونه، فأنت أحب إلي منه، لكنك لا تستطيع الإنفاق كما ينفق، فلا تزعجني بإلحاحك، ولا فائدة لي منك!
صدق هذا الكلام، وحسبت أن أختي تذكره بإيعاز من والدتها، بعد أن لاحظت انصرافي عن دروسي، ولاحظت تأخري في العودة إلى المنزل إلى ما بعد منتصف الليل في كثير من الأحيان.
واطمأنت الفتاة إلى هيامي بها، فجعلت تسكب من عواطفها في قلبي ما يزيد حبي لها ضراما، لكنني لاحظت بعد حين، أنها بدأت تتحفظ معي حين انفرادنا، فإذا حاولت أن أقبلها، أبت وقالت: أنت تعلم أن أهلك لن يقبلوا أن نتزوج، فأنتم تنظرون إلينا على أننا من طبقة دون طبقتكم، ولا تتصورون أن الحب يزيل الفوارق بين الطبقات، إنني أحبك، بل أعبدك، وأعتقد أنك تبادلني مثل هذه العاطفة، وأنت لا ترضى لمن تحبها أن تفقد شرفها، والقبلة مقدمة للزواج أو للضياع. فهبني قبلتك وقبلتني فماذا يكون بعد ذلك؟ إنني فتاة شريفة، وأنا لا أحيي حفلات للرقص كما قد تتوهم، ولولا مودتنا مع بيت عمك، ولطفهم ورقتهم معنا، ما رأيتني قط أرقص. فلنقف بحبنا عند نهاية هذه الحفلات، وأرجو الله لك ما يرجوه لك أهلك من التوفيق والنجاح!
زادني تحفظها هياما بها، وألهب عواطفي نحوها، فأخذت أسأل نفسي: «ولم لا أتزوجها؟» لقد أبدع الله في تكوينها، فوهبها بذلك هبة لا تقل قدرا عن المال وعن الجاه، وحباها من الرشاقة والرقة وخفة الروح ما يرفعها إلى أكرم الطبقات. إنها قطعة فنية، لا تقوم بمال، ولا تدانيها في الاعتبار هبة يهبها الله للناس. إن النظرة إليها تدفع صاحب المال ليلقي بماله تحت قدميها، وصاحب الجاه ليضع جاهه تحت تصرفها. فلم لا أتزوجها وهي تحبني وأنا أحبها، هذا الحب الذي سما بنا كلينا فوق المال والجاه، وفوق كل اعتبار؟!
فلما خلوت إليها الغداة، قبيل ذهابها إلى الحفلة في بيت عمي، قلت لها: اسمعي، إنني لم يبق لي بتحفظك طاقة، وقد فكرت في كلامك معي أمس، فصممت على أن نتزوج، فأنت منذ الآن خطيبتي، وإن شئت فأنت منذ الآن زوجتي. ولن أخبر أهلي بشيء من ذلك حتى يصبح أمرا واقعا. وتحقيق هذا الأمر بيدك أنت ورهن مشيئتك. فأنا منذ الساعة ملكك، تتصرفين بي كما تشائين. هذا كلام شرف، أقوله لك عهدا مقطوعا أمام الله ... فما تقولين؟
لم أقل هذا الكلام بلساني وكفى، بل كان كل وجودي يعبر عنه أدق تعبير وأعمقه. كانت عيناي تنطقان به، وكان قلبي يخفق لكل لفظ منه، وكان وجهي ينم عن كل معانيه، ولاحظت الفتاة ذلك فألقت بنفسها بين ذارعي، وقالت: الآن ... أنا لك، فتصرف أنت كما تشاء، على أن يكون زواجنا، بعد أن تتزوج ابنة عمك!
من تلك الساعة، لم يبق للزمن وجود أمامي، بل لم يبق في الوجود كله إلا فتاتي البارعة المعبودة. لم تكن عيني ترى سواها، ولم تكن أذني تسمع غير حديثها، ولم يكن في الجو المحيط بي شيء إلا هي، كان هذا الجو معطرا بريحها وروحها وريحانها. وضممت الفتاة تلك اللحظة إلى قلبي، وقبلت جبينها وصدغها وثغرها، وشعرت بها أصبحت بضعة مني، وأن وجودها غاب في وجودي، وأننا كما يقولون: روح في جسدين. فلما أفقت من هذا الحلم السعيد الجميل، نظرت في ساعتي، فإذا هي قد تأخرت عن الموعد الذي ألف الناس في بيت عمي أن يروها تدخل عليهم فيه. لذا أسرعت بها إلى هناك، ولم أدخل البيت معها اتقاء المظنة. وبعد برهة دخلت، فألفيت القوم بدءوا ليلتهم، وبدءوا مرحهم، وألفيتها انسحبت من بينهم تستعد للرقص وتظاهرت بالسؤال عنها، وعن سبب تأخرها، فقيل لي: إنها سترقص بعد هنيهة!
Halaman tidak diketahui