وصدق ظنه، فقد انهارت أعصاب هذا الثري الوجيه، ولم يبق أمامه شيء يفكر فيه إلا أن ينجو برقبته من حبل المشنقة، أو ينجو من عذاب الأشغال الشاقة. فلما كان الغد، توسل إلى سجانه، ودفع إليه ورقة، طلب إليه أن يوصلها إلى المفتش الإنجليزي الذي زاره أمس.
ولم يكن في الورقة أكثر من أنه يريد هذا المفتش، فلما جاء إليه قال له: أريد أن أكون شاهد ملك، وأن أعترف بكل شيء!
وسرعان ما صدر الأمر بنقله من زنزانته إلى مستشفى السجن. وفي اليوم نفسه، بدأ المحققون يسألونه، فاعترف بكل شيء على نفسه، وعلى زملائه، وأفضى بالتفاصيل كلها. وكان المفتش الإنجليزي حاضرا هذا التحقيق، وكان ثغره يفتر عن ابتسامة الرضا كلما رأى الرجل يمعن في اعترافاته، ويدلي من التفاصيل بما لم يذكره أحد غيره من قبل!
ولما أتم المحقق استجواب الرجل، وآن له أن يغادر غرفة التحقيق، هز المفتش يده وقال: أهنئك، فستكون بهذه الاعترافات «شاهد ملك».
وصدق المفتش، فبعد أن قدمت القضية للمحكمة، وأعلن المتهمون فيها، لم يكن بينهم الثري الوجيه، بل أعلن «شاهد ملك» ثم بقي في مستشفى السجن حتى لا يتصل به أحد!
ونظرت القضية، وكان الثري الوجيه «شاهد ملك» شاهدها الأول، وشاهدها الرئيسي. أما المتهمون جميعا فقد أنكروا ما نسب إليهم، وذكر غير واحد أن بينه وبين شاهد الملك ضغائن قديمة، استشهد عليها بمن أيدوها. وترافع المحامون بعد أن ناقشوا الشهود مناقشة دقيقة، ثم حكمت المحكمة على بعض المتهمين بالإعدام، وعلى بعضهم بالأشغال الشاقة.
وأخلي سبيل من برأتهما المحكمة، كما أخلي سبيل شاهد الملك، وعين له حارسان يتبعانه كظله حتى لا يعتدي عليه أحد!
وسأل بعضهم شاهد الملك يوما عما دفعه إلى ما صنع، فكان جوابه: لأتخلص من الذين ينافسونني في الوجاهة.
احتفل الناس بمن برأتهما المحكمة، احتفالهم بأبطال منتصرين عائدين من ميدان الشرف، دعاهما أهلهما وأصدقاؤهما إلى ولائم أقيمت في قريتهما، وفي القرى المجاورة لها، واشترك فيها من المحتفلين عدد عظيم. لقد كانا قاب قوسين أو أدنى من الموت فأنجاهما الله، وكان كثيرون يؤمنون بأن لهما في الحوادث التي وقعت ضلعا، وأنهما أقدما على ما أقدما عليه، من أجل وطنهما وحريته، لا يبغيان جزاء ولا شكورا، ولا يطمعان في ثروة، ولا في جاه أو منصب، فهما من الفلاحين أصحاب الجلابيب الزرقاء، وهما من الفقراء الذين يعيشون من كدحهم وعرق جبينهم!
أما الثري الوجيه شاهد الملك، فذهب إلى بلدته يتبعه حارساه. ذهب إليها بليل، في موعد لم يعرفه أحد، فلما دخل على أهله، تلقوه في صمت، وفهم منهم أن أكبر رجائهم أن يسدل النسيان ستارا كثيفا على ما فعل، فالناس كلهم له منكرون، وكلهم يعتبرونه القاتل لمن حكم عليهم بالإعدام، والآثم في حق من حكم عليهم بأحكام أخرى!
Halaman tidak diketahui