كان من المعتقدات السائدة في «رومية» أن «قيصر» سوف يتزوج من «كليوبطرا» عقيب عودته من مغزاته الكبيرة في بلاد «فارس»، وأن يعترف ببنوة الغلام الذي استولدها إياه، وراج الظن بأن «قيصر» سوف يضيف إلى السلطة المطلقة التي كان يمارسها في العالم الروماني صولجان الملك، وأنه كان يحاول أن يؤسس قيصرية مترامية الأطراف، الإسكندرية عاصمتها الأولى، ولقد أشفق الرومانيون أن تكون هذه مطامع «قيصر» وأخذهم مما روج خصومه من الإشاعات هم عميق، ولقد شعروا بأن العزة الرومانية قد خدشت في أعز ما لديها، وأن أمانيهم أخذت تنهار وأن أقدس ما تطلعوا إليه بدأ ينحل ويتبخر؛ إذ خيل إليهم أن ما طمعوا فيه من سيادة «رومية» على الدنيا، قد يتحطم وينهار في ساعة واحدة، ومما لا شك فيه أن الرومانيين إذا تصوروا أن «رومية» مهددة بالانقسام، منذرة بالخراب، فإن ذلك مما يبعث في قلوبهم أشد الحزن، ويبعث في قلوبهم أنكى حالات القسوة وحب الانتقام.
رميت «كليوبطرا» في هذه الآونة، كما رميت من قبل، بأنها مصدر الشر، ومبعث القلق، ومنبت الفساد، ولقد تضاعف في قلوب الرومان مقتها، وزادت كراهيتها، ونجح أعداؤها في ترويج الأكاذيب عنها، وبخاصة في إلقاح العقل الروماني الساذج بأن «كليوبطرا» قد قطعت على نفسها عهدا لتحكمن «رومية» يوما ما، ولما أن اعتقد الجماهير، أن الملكة الطامعة، قد امتدت مطامعها إلى «رومية» نفسها، غير مقتصرة على قيصر وحده، زاد بها الهم، وانساب في نفسها حب الانتقام، ولقد قام شغب شديد في «رومية» مرة، لما أن ظهرت في شوارعها محمولة على هودجها الملكي، وقام في أنفس الناس ميل إلى العمل على أن تضطر الدخيلة المصرية عنوة على أن تغادر بلاد الرومان، وأن تقسر على أن تعود إلى بلادها: بلاد التماسيح.
ولقد وقع في أذن «قيصر» شيء من هذه الأقاويل، فكان له من سوء الوقع في نفسه، أكثر مما كان للنقود التي وجهت إلى مسلكه وإلى أعماله، أن يجرأ الرومان على أن يمتهنوا تلك التي أحبها وعبدها وفضلها على نساء العالمين! أن يتفوه الرومان عنها بكلمات يعوزها الاحترام والتقديس! ذلك ما لا يستطيع «قيصر» أن يتسمح فيه، أو يهمل النظر في أمره، ولقد أشار في درج كلامه مرة إلى فئة من أولاء فقال: «سوف ترون العقاب الذي ينزل بهؤلاء المناكيد المأفونين».
واستدعى المثال «طيموماخوس» توا، وكان من أشهر مكبا على إخراج تمثال للملكة مصنوع من العاج، منزل بالذهب الخالص. - «كم من الزمن تطلب للفراغ من عملك.»
فأخذ المثال يفكر، وحسب في نفسه الزمن الذي يستغرقه العمل في إنزال الذهب في جسم التمثال، ولم يكن قد بدأ به بعد، وأجاب في حذر: «أحتاج ... عشرين سنة على الأقل». - «لك ثلاثة أيام، أريد بعدها أن أرى التمثال مقاما على قواعده في معبد ڨينوس».
كان كل روماني يخشى تلك الساعات التي تهتز فيها أعصاب «قيصر» المكدودة بماض مفعم بأعظم المخاطرات، فالويل لمن يقف عند ذاك في سبيله، أو يخالف له أمرا، وأقيم التمثال في اليوم المعين باحتفال قلما رأت «رومية» أعظم منه بهاء أو أشد رواء، ولكن المقت كان في النفوس مكبوتا، نفوس رجال الدين والنبلاء والضباط والقواد على اختلاف المراتب والمنازل، إذ اضطروا أن يركعوا أمام الآلهة الجديدة التي غزت «رومية» في أعز معاقلها؛ في هياكلها ومكان العبادة فيها، عبادة الآلهة، وعبادة التقاليد، وعبادة الجمال. •••
بعد فترة من الزمان أراد «قيصر» أن يمس الرأي العام الروماني ليبلو ما فيه من قوة، وما يخبئ من ميول، أراد أن يمتحن ذلك بتجربة جديدة.
كان ذلك في عيد «لوفاركاليا»، وهو عيد «كرنڨالي» عدته بضعة أيام، اعتاد فيه فتيان النبلاء أن يظهروا في شوارع رومية نصف عرايا، يضربون المارة في رفق بسياط قصيرة من الجلد، بدعوى أن ذلك مجلبة للحظ الحسن والتوفيق، وبحكم أن قيصر كان حبر رومية الأعظم، رأس الاحتفال، فجلس في كرسي من العاج المموه بالذهب، وإلى جانبه «كليوبطرا»؛ وبعد أن اصطبغت الأرض بدماء المعزى والكلاب جريا على مألوف العادة في ذلك العيد، كان «قيصر» على وشك الانصراف، إذ تقدم إليه «مرك أنطونيوس»، مخترقا صفوف الناس، وتقدم إليه بتاج محاولا أن يضعه على رأسه.
ارتفعت من بعض الجوانب أصوات، وظهر بعض الهرج، فكان أشبه بذاك الدبيب الذي يغشى سطح البحر العميق قبيل العاصفة، غير أن «قيصر» قد أحس أن زمن هذا لم يئن، فتنحى قليلا، غير أن «أنطونيوس» عاود الكرة عليه، بتأثير «كليوبطرا» التي لا يبعد أن تكون مصدر هذه المأساة، فتقدم إليه «أنطونيوس» مرة ثانية، وبيده التاج المتوهج، ملحا في أن يقبله «قيصر»، وأن يزين به الرأس التي تنحني أمام أكبر رأس في «رومية».
ولكن الدمدمة، وكانت أشبه بدمدمة بركان يحاول أن يخرج حممه، قد قرعت أذني «قيصر» بأشد مما قرعتها أول مرة، حتى لقد خيل إلى «قيصر» أن العاصفة قد بدأت تداعب الأمواج، فما كان «لقيصر» بعد هذا إلا أن يشيح بوجهه عن التاج، ثم يلقي به بعيدا عن رأسه، هنالك شهد العالم جميعا أنه رفض أن يكون ملكا، وأنه ألقى بالتاج إلى الأرض، فهل يتهمه بعد ذلك أهل «رومية» بمطمع الملكية، أو يتهمون «كليوبطرا» بأنها توسوس له بمطامع الملك؟ •••
Halaman tidak diketahui