لقد خدع الكثيرون بهذا المنظر التمثيلي، فهبوا يصفقون بأيديهم، ويرسلون هتاف الاستحسان من حناجرهم، أما الذين هم كانوا أنفذ نظرا، وأعمق فكرة، فقد همس في وعيهم صوت مصدره العقل: «لا شك في أن «قيصر» إنما يرفض اليوم تاج الملك، ولكن ليقبله بعد أن يعود إلينا من مغزاته، رافعا ألوية الانتصار، عاقدا فوق رأسه أكاليل الفتح العظيم»، هنالك تكونت النواة الأولى من مؤامرة أخذ من ثم جيل يرويها عن جيل، وأهل ينقلها عن أهل، وفي زوايا «رومية» المظلمة كنت ترى المتآمرين مجللين بسوادين: سواد الليل، وسواد الدسيسة، ليكونوا للقدر أداة القضاء على «قيصر». •••
كان الربيع قد أخذت تبتسم براعمه الأولى، كان ذلك في منتصف شهر «مارس» الشهر الذي انتحل له اسم إله الحرب، فيه تهب على «رومية» رياح شمالية عاتية، تخضب سماءها بسحب حمر، انعكست عليها أشعة الشمس غروبا وشروقا، فتلوح من ورائها السماء كالحة الصفحة، باهتة الأديم، فيه تهتز الأشجار بعد سبات الشتاء، وتربو وريقاتها وبراعمها، وتعمر تلال «رومية » السبعة بعد انجرادها، بتلك الزهرات المخبوءة بين الحشائش التي تنبت ومقدم الربيع، في سفوح تلك التلال تنام المدينة الخالدة، حالمة في بحر من الليل الساكن، فإذا تساقطت كسف الظلام عليها، أخذت الحركة تقل في شوارعها وممراتها، شيئا بعد شيء، حتى تموت جلبة النهار في لباس الليل، تلك سويعات يعود فيها المكدودون، بعد عمل النهار، ليتقبلوا من ساعات السواد، نعمة الراحة في بيوتهم، التي يشرفون منها على حظوظ العالم المعمور، وفي تلك الساعات كنت ترى «قيصر» بعد كد النهار في الإشراف على مهيئات المغزاة الفارسية، مسرعا عجلان الخطى، ميمما شطر القصر الذي تنزله فاتنته الملكية.
تراها جالسة بمقربة من النافذة، حيث تستطيع أن تراه عائدا إليها، غارقة في أحلامها، مأخوذة بأوهامها، هنالك بعد أيام معدودات يغادران رومية للرومان، وبينما يكون «قيصر» في جوف آسيا يشن الغارات شرقي بحر «قزوين» تكون هي في مصرها على ضفاف النيل، ولقد همها الفراق وأفزعها، وأوحى إليها بأنه فراق سوف يكلفها المضض، ويوليها الصعاب، غير أنها اطمأنت للفراق، وراضت نفسها عليه، لعلمها بأنه محتوم لا مفر منه، أليس المجد للعظماء بضروري، كالخبز للدهماء والذؤبان؟ أما إذا تم لقيصر أن يصبح سيد «فارس»، فإنه ولا شك يصبح سيد الدنيا، أنه ليكون في مقدوره أن يضعها على عروش نينوة وبابلونيا وفارس، ما من قوة في الدنيا تستطيع أن تصدهما عما يريدان، فهما معا سوف يشيدان عاصمة ملكهما، أما «رومية»، تلك التي ما مرت «كليوبطرا» في ناحية منها إلا وزأرت زئير الذئاب الجائعة النهمة، فسوف تضطر إلى أن تستقبلها بالهتاف خاشعة، ودموع التوبة تجري على خديها.
على مثل هذه الخيالات القوية الصريحة، وبمثل هذه الأحلام التي هي أشبه بأحلام «سميراميس»، كانت لعنة «إيدس مارس» سوف ترسل صواعقها، وتنزل غضبها العاصف الشديد. •••
كاد الصبح يتنفس؛ وقد غادرها «قيصر» منذ ساعة واحدة، غير أنه ضمها إلى صدره ضمة أحست بها «كليوبطرا» أن ضلوعها تكاد تمزق، وأن قلبها يكاد يعتصر، لم هذا، ألأن «قيصر» يشعر بأنه سوف لن يراها!
بومضة من ومضات ذلك الوحي الغريب، بل الإلهام السماوي، الذي قد ينزل بعض الأحايين على قلوب البشر، تشبثت به «كليوبطرا» متشفعة به أن لا يفارقها. - «لم تخرج اليوم باكرا؟ لقد ذكرت أنك متعب! ظل هنا واسترح.»
ولكن لا، إن «قيصر» كان منتظرا، وحذر أن يتأخر أرسل «بروطوس» زميله «كشيوس» ليتلقاه؛ ومن غير أن يستشف «قيصر» شيئا مما خبأ له الدساس القاتل، ألقى إلى «قيصر» أن يسرع الخطى، وأن يعجل في الذهاب، ذلك بأن أمورا عظيمة لا يقطع فيها «السناتو» الروماني برأي من غير أن يستطلع رأي «قيصر».
هنالك في «السناتو» وقعت الكارثة، سمع لغط، فوقف السابلة من الخارج يستمعون متسائلين: ماذا جد؟
وبعد قليل ظهر بعض الشيوخ على الشرفة، صفر الوجوه مرتعبين، وصاح بعضهم «قتل قيصر».
وعلا الصياح وارتفع العويل من كل مكان، ولكن صوت المتآمرين كان عظيما، إذ صاحوا أجمعين والسيوف في أيديهم تلمع، وما تزال تقطر من دم قيصر: لقد أنقذنا شرف الجمهورية، وانتقمنا لها!
Halaman tidak diketahui