تقلب كمال على جنبه ثم استلقى على ظهره مسترخيا، وثنى ساعديه شابكا راحتيه تحت رأسه، ومضى ينظر فيما أمامه بعينين لا تريان شيئا ... لتسعد بك رأس البر، لم تخلق بشرتك الملائكية لتصلى حر القاهرة، فلتطب بموطئ قدميك الرمال، وليهنأ بمشهدك الماء والهواء. سوف تشيدين بالمصيف، وعيناك تنطقان بالمسرة والحنين، فأتطلع إليهما بقلب مشوق وعين تسائل الغيب - في حسرة - عن المكان الذي استهواك فاستحق عن جدارة رضاك ... ولكن متى تعودين؟ ومتى ينسكب في أذني تغريدك المسحور؟ كيف المصيف؟ ليتني أدري ... قيل إنه حرية كالهواء، ولقاء بين أحضان الماء، وأهواء بعدد حبات الرمال ... وخلق كثيرون يحظون بمحياك ... أما أنا ... أنا الذي خفقات قلبه تئن لشكاتها الجدران؛ فأتلظى في سعير الانتظار. هيهات! أن تنسي وجهك المنطلق بالبشر وأنت تغمغمين: «سنسافر غدا ... ما أجمل رأس البر!» ولا اكتئابي وأنا أتلقى نذير الفراق من ثغر يومض بسنا السرور، كمن يتلقى السم مدسوسا في طاقة من الزهر الفواح، ولا غيرتي من الجهاد الذي قدر على إسعادك حين عجزت، وحظي بمودتك حين حرمت. ألم تلحظي حين الوداع اكتئابي؟ كلا، لم تلحظي شيئا، لا لأني كنت واحدا بين كثيرين، ولكن لأنك يا حبيبة لا تلحظين ... كأنما كنت شيئا لا يسترعي انتباهك ... أو كأنما أنت مخلوق بديع غريب، استوى فوق الحياة يطالعنا من عل بعينين هائمتين في ملكوت لا ندريه. هكذا وقفنا وجها لوجه ... أنت شعلة من سعادة سادرة، وأنا رماد من وجوم وكآبة ... تحظين بحرية مطلقة أو تذعنين لسنن فوق مداركنا. وأنا أدور في فلكك مجذوبا بقوة هائلة ... كأنك الشمس، وكأنني الأرض، هل وجدت عند الشاطئ حرية لم تنعمي بها في مغاني العباسية؟ كلا، وحق قدرك عندي ... لست كالأخريات ... في حديقة القصر والطريق، آثار عاطرات لقدميك ... وفي قلب كل صديق ذكريات وآمال ... آنسة سهلة ممتنعة، تطوف بنا على غير مثال، كأن الشرق قد استوهبها الغرب في ليلة القدر ... أي جديد من الجود ترى تهبين إذا امتد الشاطئ، وترامى الأفق، واكتظ الساحل بالمعجبين؟ أي جديد يا أملي وحسرتي؟ القاهرة في غيبتك خواء تنضح كآبة ووحشة، كأنها عكارة الحياة والأحياء ... ثمة مناظر ومعالم، ولكنها لا تخاطب وجدا، ولا تحرك قلبا، كأنها عاديات الدنيا وذكرياتها في قبر فرعوني لم يفض ... ما من مكان بها يعدني بعزاء أو تسلية أو مسرة. إخالني حينا مختنقا، وحينا سجينا، وحينا مفقودا ضالا غير مفتقد. يا عجبا! أكان وجودك ينيل أملا أفقدنيه البعاد؟ كلا يا قضائي وقدري، ولكنك كالأمنية؛ الاستظلال بجناحها برد وسلام وإن اعتصمت بالمحال، هل يغني المشتاق المتطلع إلى ظلمة السماء معرفته. إن البدر يسطع فوق المكان الآخر من الأرض؟ ... كلا، وإن لم يدر للبدر امتلاكا، إنما أطمع إلى الحياة في صميمها ونشوتها ولو بفادح الألم. بل أنت حالة فيما خفق الفؤاد، والفضل لهذا المخلوق السحري: الذاكرة، عن إعجازها غفلت حتى عرفتك، اليوم أو غدا أو بعد دهر في العباسية، أو رأس البر، أو في أقصى الأرض لن تبرح مخيلتي عيناك السوداوان الساجيتان، وحاجباك المقرونان، وأنفك السوي اللطيف، ووجهك البدري الخمري، وجيدك الطويل، وقامتك الهيفاء، وما شئت من سحر يكتنفك مزريا بكل وصف، مسكرا كعرف الفل والياسمين، لأملكن هذه الصورة ما ملكت الحياة، وبعد الحياة لتقوضن عوائق وموانع فيكون المصير إلي ... إلي وحدي بما أحببت هذا الحب كله ... وإلا فخبريني عن معنى لهذه الحياة ينشد، أو عن طعم للخلود يرام. لا تزعم أنك سبرت جوهر الحياة إلا أن تحب، السمع والبصر والذوق والجد واللهو والمودة والظفر مسرات تهوى عند من فعم الحب قلبه، من أول نظرة يا قلبي. ما ارتدت عنها عيناي حتى آمنت بأنها زيارة مقيم لا زيارة عابر، لحظة خاطفة حاسمة، ولكن في مثلها تخلق الأرواح في الأرحام، وتزلزل الأرض ... رباه لم أعد أنا ... قلبي تلاطمه جدران الأضلع، أسرار السحر تنفث معانيها، العقل يتمادى حتى يمس الجنون، اللذة تسطع حتى تعانق الألم، أوتار الوجود والنفس تجود بالنغم المكنون، دمي يصرخ مستغيثا لا يدري مم يستغيث، الأعمى يبصر، والكسيح يسير، والميت يحيا، حلفتك بكل عزيز ألا تذهبي أبدا، أنت يا إلهي في السماء، وهي في الأرض. آمنت بأن ما مضى من حياتي كان تمهيدا لبشارة الحب، لم أمت صغيرا، ولم ألحق بمدرسة غير فؤاد الأول، ولم أصادق أول ما صادقت من تلاميذها إلا حسين ولم ... ولم ... كل أولئك كي أدعى يوما إلى قصر آل شداد، يا للذكرى! يكاد القلب من وقعها يقتلع، كنت وحسين وإسماعيل وحسن منهمكين في شتى الأحاديث حين ورد مسامعنا صوت رخيم محييا، التفت وأنا من الذهول في غاية ... من تكون القادمة؟ ... كيف لفتاة أن تقتحم على غرباء مجلسهم؟ ... ثم سرعان ما انقطعت عن التساؤل ... وتناسيت التقاليد جميعا ... وجدتني حيال مخلوق لا يمكن أن يكون من هذه الأرض جاء، بدت وكأنها صديقة للجميع إلاي، فقال حسين يعارف بيننا: «صديقي كمال، أختي عايدة»، ليلتئذ عرفت لم خلقت ... لم لم أمت ... لم دفعتني المقادير إلى العباسية، وحسين، وقصر آل شداد. متى كان ذلك؟ كان الزمان نسيا منسيا، وا أسفاه! إلا اليوم، كان يوم الأحد ... عطلة مدرستها الفرنسية الذي صادف عطلة رسمية لعلها مولد النبي، وعلى اليقين كانت مولدي أنا، ما قيمة التاريخ؟ سحر التقويم أنه يوهمنا بأن الذكرى تبعث حية وتعود، ولو أن شيئا لا يعود، لن تفتأ تجد في البحث عن التاريخ، ولن تفتأ تردد: مطلع السنة الثانية بالمدرسة ... أكتوبر، نوفمبر، حين زيارة سعد للصعيد، وقبل نفيه للمرة الثانية ... مستخبرا الذاكرة والشواهد والأحداث، وليس إلا أنك تتشبث تشبث اليائس باستعادة سعادة مفقودة وعهد مضى إلى الأبد. لو مددت يدك عند التعارف كما كدت لصافحتك فعرفت مسها، وهو ما تتخيله حينا بعد حين بشعور ملؤه الشك والهيام، كأنما هي مخلوق غير جسماني لا مس له ... وهكذا ضاعت فرصة كالحلم كما ضاع الزمان، ثم أقبلت على صديقيك تحادثهما ويحادثانها - بغير كلفة - وأنت قابع في مقعدك تحت الكشك تكابد حيرة المتشبع بتقاليد حي الحسين، حتى عدت تتساءل: ترى أهي تقاليد خاصة بالقصور، أم نفحة من باريس التي نشأ المعبود بين أحضانها؟ ... ثم تستغرق في رخامة الصوت، وتستطعم نبراته، وتنتشي بتغريده، وتمتلئ بكل حرف يند عنه، ولعلك - يا مسكين - لم تدرك وقتها أنك تولد من جديد، وأنك كالوليد سوف تستقبل دنياك الجديدة بالارتياع والدموع. وقالت ذات الصوت الرخيم: «سنذهب هذا المساء لمشاهدة الغندورة.» فسألها إسماعيل باسما: «أتحبين منيرة المهدية؟» فترددت كما ينبغي لآنسة نصف باريسية، ثم أجابت: «ماما تحبها»، ثم اشترك حسين وإسماعيل وحسن في حديث عن منيرة وسيد درويش وصالح وعبد اللطيف البنا، ثم ما أدري إلا والصوت الرخيم يسأل: «وأنت يا كمال، ألا تحب منيرة؟» أتذكر ذلك النداء الذي نزل على غير انتظار؟ أعني أتذكر النغمة الطبيعية التي تجسمها؟ لم يكن قولا، ولكن نغما وسحرا استقر في الأعماق كي يغرد دوما بصوت غير مسموع، ينصب فؤادك إليه في سعادة سماوية لا يدريها أحد سواك، كم روعك وأنت تتلقاه، كأن هاتفا من السماء اصطفاك فردد اسمك، سقيت المجد كله، والسعادة كلها، والامتنان كله في نهلة واحدة، وددت بعدها لو تهتف مستنجدا: «زملوني ... دثروني»، ثم أجبت وإن كنت لا أذكر بماذا أجبت، لبثت دقائق ثم ودعتنا ومضت، في عينيها السوداوين نظرة أنيقة، تنم إلى جمالها الفاتن عن صراحة محببة وجرأة مصدرها الثقة - لا الاستهتار أو القحة - وترفع مروع، كأنما تجذبك وتدفعك معا ... جمالها فتنة لا أدرك له كنها ولا أدري له شبها، وكان يخيل إلي كثيرا أنه ليس إلا ظلا لسحر أعظم يكمن في شخصها ... من أجل أي هذين أحبها؟ ... كلاهما لغز، ولغز ثالث هو حبي. يتراجع ذلك اليوم كل يوم يوما إلا أن ذكرياته ناشبة في قلبي أبدا. لبناتها مكان وزمان وأسماء وصحاب وأحاديث، يتقلب القلب في جنباتها نشوان حتى يخال أنها الحياة جميعا، فيتساءل فيما يشبه الشك: هل كانت ثمة وراء ذلك حياة؟ ... هل حقا مضى زمن قبلها خلا من الحب قلبي، وأقفرت من تلك الصورة الإلهية نفسي؟ ربما أسكرتك السعادة حتى تحزن على ما ضاع من ماض جديب، وربما لسعك الألم حتى تذوب حسرات على السلام الذي ولى، وبين هذا وذاك لا يجد قلبك إلى الاستقرار سبيلا، فيمضي ملتمسا الشفاء في شتى العقاقير الروحية، يستمدها من الطبيعة آنا، ومن العلم آنا، ومن الفن حينا ، وفي العبادة أحيانا كثيرة ... قلب استيقظ فانطلقت من صميمه شهوة مولعة بالمسرات الإلهية ... أيها الناس، حبوا أو موتوا ... لسان حالك وأنت تسير مزهوا فخورا بما تحمل بين جنبيك من نور الحب وأسراره ... يزدهيك علو فوق الحياة والأحياء، ويصل أسبابك بالسموات جسر مفروش بورود السعادة، وأنت أنت الذي تخلو حينا آخر إلى نفسك فتطغى عليك حساسية أليمة مريضة بإحصاء النقائص وتقصيها بلا رحمة في كائنك الصغير، ودنياك المتواضعة، وهناتك الآدمية ... رباه، كيف تخلق نفسك من جديد؟ هذا الحب طاغية يتيه فوق كافة القيم، وفي ركابه يتألق معبودك، لا تكمله الفضائل، ولا تنقصه المثالب، النقيصة تلوح في تاجه الدري حسنا يشغلك إعجابا، هل أزرى بها في نظرك أن تخرج على التقاليد المرعية؟ كلا، بل إن خروجها بالتقاليد المرعية أزرى، يطيب لك أحيانا أن تسأل نفسك: ماذا تروم من حبها؟ أجب بكل بساطة: أن أحبها، أيجوز أن تنبثق في النفس هذه الحياة كلها ثم يتساءل عن غاية وراءها؟ لا شيء وراءها، العادة هي التي ربطت بين لفظي الحب والزواج، ليست فوارق السن والطبقة هي وحدها التي تجعل من الزواج غاية مستحيلة في مثل حالي، ولكنه الزواج نفسه، بما يستنزل الحب من سمائه إلى أرض العقود والعرق ... ويسألك الذي يأبى إلا أن يحاسبك، بم جادت عليك لقاء التهالك في حبها؟ أجبه بلا تردد: ابتسامة فاتنة، و«يا كمال» الغالية، وزيارتها للحديقة في الأوقات السعيدة النادرة، وترائيها مع الصباح الندي، وسيارة المدرسة تمضي بها، ومعابثتها الخيال في سبحات اليقظة وتهويم الأحلام، ثم تسألك النفس الطماعة المجنونة: «أمن المحال أن يكون المعبود مشغولا بأمر عابده؟ ... أجبها غير مستسلم لإغراء الآمال الكواذب: حسن أن يذكر عند العودة اسمنا ...» - بسرعة إلى الحمام، هل تأخرت؟
مالت عينا كمال - وقد لاح فيهما رجع المفاجأة - إلى ياسين الذي عاد إلى الحجرة وهو ينشف رأسه بالفوطة، ثم وثب إلى الأرض فبدا فرعه الطويل نحيفا، وألقى نظرة طويلة على المرآة كأنما يتفحص رأسه الضخم، وجبينه البارز، وأنفه الذي تراءى لكبره وقوته كأنه منحوت من الجرانيت، ثم تناول فوطته من على شباك السرير ومضى إلى الحمام.
وكان السيد أحمد قد فرغ من الصلاة، فعلا صوته الغليظ بالدعاء المعتاد للأولاد ولنفسه، سائلا الله الهداية والستر في الدارين ... وفي أثناء ذلك كانت أمينة تعد المائدة، ثم ذهبت إلى حجرة السيد، فدعته - بصوتها الوديع - إلى تناول الفطور، واتجهت إلى حجرة ياسين وكمال فكررت الدعوة.
اتخذ الثلاثة أماكنهم حول الصينية، وبسمل الأب وهو يتناول رغيفا معلنا بدء الأكل، فتبعه ياسين ثم كمال، على حين وقفت الأم وقفتها التقليدية إلى جانب صينية القلل. كان مظهر الأخوين يدل على الأدب والخشوع، ولكن خلا قلباهما - أو كادا - من الخوف الذي كان يركبهما - قديما - في حضرة الأب، ياسين: لأن بلوغه الثامنة والعشرين منحه امتيازا من امتيازات الرجولة، وضمانا ضد الإهانات الجارحة والاعتداءات التعيسة. وكمال: لأن بلوغه السابعة عشرة، وتقدمه في الدراسة وهباه نوعا من الضمان أيضا إلا يكن بقوة ضمان ياسين، فإنه لم يخل من العفو والتسامح على الأقل في الهفوات التافهة، إلى أنه آنس من أبيه في السنوات الأخيرة أسلوبا من المعاملة تخفف من البطش والإرهاب بدرجة محسوسة. ولم يكن من النادر أن يدور حديث مقتضب بين الآكلين بعد أن كان الصمت يتحكم في مجلسهم تحكما مخيفا، إلا أن يسأل الأب أحدهم فيجيب بعجلة ولهوجة ولو بفم ممتلئ بالطعام، أجل لم يعد غريبا أن يخاطب ياسين أباه، فيقول مثلا: «زرت أمس رضوان في بيت جده، وهو يقرئكم السلام ويقبل يدكم.» فلا يعد السيد الخطاب جرأة غير محمودة، ولكنه يقول له ببساطة: «ربنا يحفظه ويرعاه.» ... ولا يبعد عند ذلك أن يتساءل كمال بأدب، محدثا بذلك تطورا خطيرا في علاقته التاريخية بأبيه: «متى يستحق رضوان شرعا لأبيه يا بابا؟» فيجيبه السيد: «عندما يبلغ السابعة.» بدلا من أن يصيح به: «اخرس يا ابن الكلب.» طاب لكمال يوما أن يتعرف على تاريخ آخر شتمة تلقاها من أبيه، حتى تذكر أنه كان ذلك قبل عامين على وجه التقريب أو بعد حبه - الذي غدا يؤرخ به - بعام ، إذ شعر وقتذاك بأن مصادقته لشبان من طراز حسين شداد وحسن سليم وإسماعيل لطيف؛ تتطلب زيادة كبيرة في مصروفه كي يتأتى له مجاراتهم في لهوهم البريء، فشكا أمره إلى أمه راجيا إياها أن تخاطب أباه في شأن الزيادة المأمولة، ومع أن مخاطبة الأب - في مثل هذا الأمر - لم تكن يسيرة على الأم، إلا أنها هانت بعض الشيء بتغير معاملته لها عقب وفاة فهمي، فحدثته منوهة بعلاقة جديدة مشرفة لابنها بأصدقاء من «الأكابر»، وعند ذاك دعا السيد كمال، وصب عليه غضبه، حتى صاح به: «هل ظننتني تحت أمرك أو أمر أصحابك؟ ... ملعون أبوك وأبوهم.» فغادره كمال خائب الرجاء، وقد ظن أن الأمر انتهى عند ذاك ... ولكنه ما يدري إلا والرجل يسأله عن هوية أصدقائه على مائدة إفطار اليوم التالي، وما إن سمع اسم حسين عبد الحميد شداد، حتى سأله باهتمام: «من العباسية صاحبك؟» فأجاب كمال بالإيجاب، وقلبه يخفق. فقال السيد: «كنت أعرف جده شداد بك، وأعرف أيضا أن أباه عبد الحميد بك كان مبعدا في الخارج لسابق علاقته بالخديو عباس ... أليس كذلك؟» فأجاب كمال بالإيجاب مرة أخرى، وهو يغالب وجده الذي أهاجه الحديث عن والد معبودته، وذكر لتوه ما علم عن الأعوام التي قضتها الأسرة في باريس، حيث ترعرعت معبودته في نور مدينة النور. فما تمالك أن شعر نحو أبيه بإجلال وإكبار جديدين ومودة مضاعفة، وعد معرفته لجد معبودته رقية سحرية تنسبه - ولو من بعيد - إلى منزل الوحي ومبعث السنا، ثم ما لبثت أمه أن زفت إليه بشرى موافقة والده على مضاعفة مصروفه.
منذ ذلك اليوم لم يتعرض لشتمة جديدة، إما لأنه لم يرتكب ما يستوجبها، وإما لأن أباه رأى أن يعفيه من الشتم إطلاقا ... وقف كمال إلى جانب أمه في المشربية يشاهدان السيد أحمد في الطريق، وهو يردد - في وقار ولطف - تحيات عم حسنين الحلاق، والحاج درويش بائع الفول، والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، وأبو سريع صاحب المقلى، ثم رجع إلى الحجرة حيث وجد ياسين واقفا أمام المرآة يتأنق في عناية وصبر، جلس على كنبة بين السريرين، وراح يتأمل جسم أخيه الطويل البدين، ووجهه المورد المكتنز بنظرة باسمة غامضة، كان يكن له حبا أخويا صادقا، بيد أنه لم يكن يستطيع - كلما أنعم فيه الفكر أو النظر - أن يقاوم شعورا خفيا بأنه حيال «حيوان أليف جميل» على رغم أنه أول من هز أوتار أذنيه بأنغام الشعر ونفثات القصص، ربما تساءل، تساؤل من يرى في الحب جوهر الحياة والروح، أمن الممكن أن يتصور ياسين عاشقا؟ فيتمثل الجواب ضحكة باطنية أو منطلقة، أجل ما للحب وهذه الكرش المترعة! ما للحب وهذا الجسم اللحيم! ما للحب وهذه النظرة الشهوانية الساخرة! ثم لا يتمالك أن يجد نحوه إحساسا بالازدراء الملطف بالعطف والود، وإن لم يخل أحيانا - خاصة في الأوقات التي تعتري حبه فيها نوبة من نوبات الألم والهبوط - من عاطفة إعجاب بل حسد. كذلك بدا ياسين لعينيه أبعد ما يكون عن عرش الثقافة، الذي بوأه إياه قديما حينما كان يظنه عالما ساحرا مالكا لفنون الشعر والقصص، تكشف له قارئا سطحيا يقنع من وقت مجلس القهوة ببضع ساعة يتنقل فيها بلا جهد أو عناء بين الحماسة وقصة من القصص قبل انطلاقه إلى قهوة أحمد عبده، حياة عاطلة من بهاء الحب وأشواق المعرفة الحقيقية، وإن كن لصاحبها حبا أخويا لا تشوبه شائبة ... لم يكن كذلك فهمي، كان مثله الأعلى في الحب والعقل، ولكنه بدا أخيرا كالمتخلف بعض الشيء عما يطمح إليه، أجل ساوره شك يقارب اليقين في أن فتاة كمريم يمكن أن تبعث في النفس حبا حقيقيا كالحب الذي يضيء به نفسه. كما ارتاب في أن تضاهي الثقافة القانونية التي نزع إليها أخوه الراحل المعرفة الإنسانية التي يتشوقها بكل قوة نفسه. كان يتأمل من حوله بعين تنفتح على التأمل والنقد، وذهب في ذلك كل مذهب، إلا أنه وقف عند عتبة أبيه لا يجرؤ على أن يرفع قدما، لاح الرجل لعينيه شيئا هائلا يتربع على عرشه فوق النقد. - أنت اليوم عريس، اليوم عيد من أعيادك الظافرة. أليس كذلك؟ لولا نحافتك ما وجدت ما أؤاخذك عليه.
قال كمال مبتسما: إني راض عنها.
ألقى ياسين على صورته نظرة أخيرة، ثم وضع الطربوش على رأسه وأماله يمنة بعناية حتى أوشك أن يمس حاجبه، ثم قال وهو يتجشأ: أنت حمار كبير يحمل البكالوريا، تمتع بالطعام والراحة فهذه هي العطلة، كيف تسول لك نفسك أن تقرأ في العطلة أضعاف ما تقرأ في عامك الدراسي؟! اللهم إني بريء من النحافة وأصحابها.
ثم وهو يغادر الغرفة والمنشة العاجية في يده: لا تنس أن تختار لي قصة جيدة، مثل: «باردليان» و«فوستا»، هه؟ مضى زمن كنت تستجديني فصلا من رواية، هاك زمنا أغبر أشحذك فيه القصص.
ارتاح إلى الوحدة التي يخلو فيها إلى نفسه، فنهض وهو يغمغم: من أين له بالبدانة والقلب لا ينام؟ لم تكن تحلو له الصلاة إلا خاليا، صلاة بالجهاد أشبه، ويشترك فيها القلب والعقل والروح، جهاد من لا يضن بجهد للفوز بالضمير الطاهر النقي، ولو لاحق نفسه بالحساب تلو الحساب على الهفوة والخاطرة ... أما الدعاء في أعقاب الصلاة، فلها، لها وحدها.
3
Halaman tidak diketahui