لم يكن ثمة - في رأيه - ما يدعو إلى هذه العجلة ما دام أحد منهما لن يذهب إلى الحمام قبل عودة الأب منه. لم يعد من اليسير استعمال حمام الدور الأول منذ قضى التنظيم الجديد للبيت - منذ خمسة أعوام - بنقل الحجرات إلى الدور الأعلى فيما عدا حجرة الاستقبال والصالة المتصلة بها التي فرشت بأثاث بسيط باعتبارها مدخلا لها، ومع أن ياسين وكمال لم يرحبا - قط - بالإقامة مع الأب في دور واحد، إلا أنهما لم يجدا بدا من احترام الرغبة في مقاطعة الدور الأول الذي لم تعد تدخله قدم إلا حين يلم بالبيت زائر. أغمض ياسين عينيه، ولكنه لم ينم، لا لأن معاودة النوم كانت عبثا فحسب، ولكن لأن صورة انبعثت في خياله فأشعلت إحساسه ... وجه مستدير، تتوسط صفحته العاجية عينان سوداوان. مريم! فاستجاب لداعي الأحلام ... واستسلم لتخدير ألذ من تخدير المنام.
قبل أشهر معدودات، لم تكن بالنسبة إليه موجودة قط، وكأنها لم تكن، حتى سمع أم حنفي تتحدث - ذات مساء - إلى امرأة أبيه، فتقول: «أما سمعت بالخبر يا ستي؟ ... ست مريم طلقت من زوجها وعادت إلى أمها.» هنالك عاوده ذكر مريم، وفهمي، والجندي الإنجليزي صديق كمال وإن غاب عنه اسمه، ثم ذكر بالتالي اهتمامه القديم بشخصيتها الذي جاش بها صدره عقب ذيوع الفضيحة، وما يدري إلا وقد أضاءت فجأة في نفسه لوحة معبرة، كما تضيء الإعلانات الكهربائية في الليل، سطر عليها «مريم ... جارتك ... الجدار لصق الجدار ... مطلقة ... ذات تاريخ، وأي تاريخ ... أبشر.» ولكنه ما لبث أن جفل من نفسه؛ لأن اقترانها بذكرى فهمي صده وآلمه وأهاب به أن يغلق هذا الباب وأن يحكم إغلاقه، وأن يندم - إن كان ثمة ندم - على فكرة خفية عابرة. صادفها بعد ذلك في الموسكي مع أمها، فالتقت الأعين على سهوة، ولكن سرعان ما لاح فيها العرفان، ونمت بسمات لا تكاد ترى بالعين المجردة عن عرفانها، فتحرك قلبه، تحرك للعرفان - فحسب - أول الأمر، ثم للطيف الأثر الذي خلفه وجه عاجي مكحول العينين، وجسم نابض بالفتوة والحيوية، ذكره بزينب في إبانها ... فمضى إلى طيته متفكرا هائجا. غير أنه بعد خطوات، أو حال هبوطه إلى قهوة أحمد عبده، هفت عليه ذكرى محزنة بعثت في قلبه الشجن، بعث فهمي في خياله بشتى ذكرياته: صورته وأماراته، وأسلوبه في الحديث والحركة؛ ففتر وجده وباخ، وغشيه حزن غليظ. يجب أن ينتهي كل شيء ... لم؟
عاد يتساءل بعد ساعة، أو بعد أيام، فكان الجواب: فهمي ... أية علاقة بين الاثنين؟ ود يوما أن يخطبها، ولم لم يفعل؟ ... أبوك لم يوافق. فقط؟ ... هذا في الأقل أصل المسألة. ثم؟ جاءت فضيحة الإنجليزي، فمحت ما بقي من أثر باهت ... أثر باهت؟ ... أجل؛ لأنه على الأرجح كان نسي، إذن نسي أولا، ونبذ أخيرا؟ نعم، فأية علاقة هنالك؟ ... لا علاقة. ولكن! ... أعني شعور الأخوة، هل يمكن أن يرقى شك إلى شعورك؟ ... كلا، وألف مرة كلا. الفتاة تستحق ...؟ ... نعم، وجها وجسما؟ ... وجها وجسما فما انتظارك؟
في النافذة كان يلمحها حينا بعد حين، ثم فوق السطح ... فوق السطح مرات، ومرات.
لم طلقت؟ ... لسوء في خلق زوجها، فيكون الطلاق من حسن حظها. أو لسوء في خلقها، فيكون الطلاق من حسن حظك أنت. - قم وإلا غلبك النوم.
فتثاءب وهو يتخلل شعره الملهوج بأصابعه الغلاظ، ثم قال: يا بختك بعطلتك المدرسية الطويلة. - ألم أستيقظ قبلك؟ - ولكن بوسعك أن تواصل النوم إذا شئت. - لا أشاء كما ترى.
ضحك ياسين ضحكة لا معنى لها، ثم تساءل: ما اسم الجندي الإنجليزي صديقك القديم؟ - أوه ... جوليون! - أجل جوليون! - ما الذي دعاك إلى السؤال عنه؟ - لا شيء!
لا شيء؟ ما أسخف لساننا! أليس ياسين خيرا من جوليون؟ في الأقل جوليون عابر وياسين مقيم، في وجهها شيء يبتسم إليك دواما، ألم تلاحظ مثابرتك على الظهور فوق السطح؟ بلى، وذكر جوليون، ليست ممن يفوتهن معنى، ردت تحيتك. أول مرة أدارت رأسها باسمة، في المرة الثانية ضحكت. ما أجمل ضحكتها! في الثالثة أشارت إلى أسطح البيوت محذرة، سأعود بعد الغروب، هكذا قلت في جرأة، ألم يرسل جوليون إشارته من الطريق العام؟ - لشد ما أحببت الإنجليز في صغري، انظر كيف أمقتهم الآن مقتا. - سعد بطلك سافر ينشد صداقتهم.
هتف كمال بحدة: والله لأبغضنهم ولو وحدي.
وتبادلا نظرة أسى صامتة، تناهى إليهما وقع قبقاب السيد وهو راجع إلى حجرته مبسملا محوقلا، فانزلق ياسين إلى الأرض، وغادر الحجرة وهو يتثاءب.
Halaman tidak diketahui